القانون الفلسطيني العام هو الرثاء والنّحيب والمباكي ، لا تنتهي من رثاء إلى لتدخل في رثاء ، ولا تجفّف دمعاً ، إلا لتذرف آخر ، ولا تنتهي من ذكر محاسن الراحلين القدامى ، إلا لتبدأ في استذكار مآثر الراحلين الجدد ، يبدو أن حظنا وحدنا في هذه القسمة كان كبيراً.

التفريعات على هذا القانون أيضاً خاصة وكثيرة ، فمن رثاء المدن والقرى ، إلى رثاء البشر ، والأفكار ، والأيام والليالي ، نحن لدينا خصوصية كبيرة في هذا الشأن ، صحيح أن أبا البقاء الرندي أخانا الأندلسي سبقنا إلى رثاء الأندلس ، لكننا تفوقنا عليه في رثاء الأندلس ورثاء ما تبعها جميعاً...

ربما علينا أن نؤجّل رثاءنا ، أو ربّما علينا أن نقول قصيدة ترثينا كلنا ، من هو راحل ومن هو منتظر ، لم تعد الأمور في الواقع تحتاج كثيراً من جهد لنختار أيهما نتبنى.

المصيبة أن علينا أن نرثي فيما نرثي وحدتنا ، وفرقتنا ، وأن نرثي ما بينها ، فنحن نعيش على هامش ما هو متاح من انتظار ، انتظار في كلِّ شيء....

كل سيرثي ، وكل راثٍ في فلسطين عليه أن يعد رثاءه أيضاً لنفسه ، فليس مالك بن الريب وحده في هذا الفن ، ربما علينا أن نتخذه إماماً ، فنحن شعب مالك بن الريب حقاً ، سواء فطنا إلى هذا أم لم نفطن.

وأنت يا صديقي محمود ، لن تكون آخر الراحلين ، ولن تكون آخر الذين يرثون ، فلعلّك إن صبرت علينا ، جمعنا برثائك رثاء آخر...

حقاً إننا حالة خاصة ، وحقاً إننا لو أنصفتنا الدراسات تالياً ، لنلنا ميدالية فريدة في المراثي وفي الشكاة ، والأنين ، والوجع ، ليس بلغة الضاد فقط ، بل بكل اللغات وكل الشعريات والنثريات أيضاً.

سيرثيك يا صديقي كل بطريقته ، وسيرثيك كلٌ باجتهاده ، وسيرثيك كلٌ بما أحسّ في فقدانك ، وبما استشعر في غيابك ، سواء أكانت فجعة الغيبة متوقعة أم كانت مفاجئة ، سواء أكانت على أرض الوطن الحبيب ، أم في براثن الغربة والمنافي ، نعم .. براثن مزدوجة تلك التي في خارج فلسطين ، براثن الغربة وبراثن الموت ، وما أقساه من مزدوج ....

من مفرداتك وقاموسك الدرويشي الخاص ، سيختار الراثون كلماتهم ، ومما كنت تعنيه سيقولون عنك ، ومما تظلّه كلماتك الخالدة سيغرفون ، وأنت الوحيد الذي لن يكون لك من حق الاعتراض أو حق التصحيح ، أو حتى حقّ الدفاع إن شئت.

ما سيبقى رغم كلِّ ذلك شيء واحد لا يستطيع الوقت أن يغيّره ، هو تلك النصوص التي طاردتها وطاردتك ، فجعلتك إلى الأبد عنوانها الدائم.

أحببت فلسطين على طريقتك ، ونظمت لها على طريقتك ، وسرت مع خطواتها على طريقتك ، فبادلتك حباً بحب ، سرت في مسائل السياسة بنظرة خاصة بك ، وضعت بعضها في بعض النصوص ، فاعترض من اعترض ، ليس على شعرية النص ، ولا على قامة صاحبه الفنية ، ولا حتى على موضوعة الرؤية ، وإنما على سحب ما استجد في الرؤية على باقي الأثر ، وعلى ما كان من موضع وصفة هذا الأثر كله وما استحق من تسمية ، شعر المقاومة وشاعر المقاومة ، وأن تكون هذه الرؤية الجديدة منازعة ما سبق فيما استجد ، أما منشأ ذلك فلا بد هو من المحبة منبعث لكليكما ، للنص ولمحمود ، وليس بخارج عن أيها.

تستحق يا محمود أن تبكيك فلسطين ، وفلسطين التي أعلنت حداداً على شاعرها ، فلسطين خاصة ، فلسطين خاصة جداً يا محمود ، أرأيت أياً من أرض في هذا العالم تعلن حداداً رسمياً على شاعر وفي هذا الزمن الأحدب الأجرب؟ لا ... فقط فلسطين ، فلا تحزن ، فلسطين التي كنت تحب وإن تعثّر بها السير ، ستنهض وستكون حيث نحب ، فلسطين الخاصة بالفرح ، فلسطين الخاصة بالأمل ، فلسطين الخاصة بكل الحياة ، وبما تستحقه الحياة.

يعد الراثون الذين يرثونه بوعد يحبه ، ونحن نعدك أن نبقى على شعر فلسطين ، ظالمة أم مظلومة ، وأن نبقى إصراراً على الحياة ، وأن نبقى إصراراً على دورنا الحضاري ، من سير لاعبينا في أولمبياد العالم باسم فلسطين ، إلى مكتبة الطفولة باسم فلسطين ، من الصمود والبناء ، إلى المقاومة والمفاوضة ، إلى الأهم يا محمود في كل هذا ، نعدك أن نبقى فلسطينيين بكل المعاني الخالصة والخاصة ، تلك المعاني التي تكون ترجمتها السليمة ، عروبة حقة ، وإسلامية محقة ، ومسيحية شقيقة ، وحضارية منفتحة ، هذا ما نعدك به ، أن يكون قاموسنا ومعجمنا فلسطينياً ، يستمرُّ في مداعبة قاموسك الذي تركت ، وعليه سهرت ، ومن قلبك النازف كتبت ...

أخي محمود ، سأحاول أن ألا أناديك احمد الزعتر ، ولا أحمد العربي ، ولا بلاعب النرد ، ولا بأنت نفسك ، ولا بأي من هذه جميعاً ، سأحاول على طريقة مستحدثة ، أن أناديك بوقع حروفها واحداً واحداً ، بدائرتها الموسيقية والايقاعية ، برسمها الصوتي والبصري ، بعمقها وكثافة النفس فيها ، سأناديك ولن أقول وداعاً ، سأناديك ولن أكتفي بترجّل الفارس ، سأناديك ولن أكتفي برحل ، سأكون عادياً وتلقائياً ومباشراً ، ولن أستضيف اليوم شعراً ، ولن أنتخي البلاغة ولا السيطرة الفقهية اللغوية ، لا في فقه المصطلح ولا في فقه الدلالة ، ولا في أي قانون من قوانين اللغة ، أو قوانين القول ، سأكتفي بأبسط البسيط ، وأكثر ما تعني الكلمات ، سأناديك : أخي محمود...

أخي محمود ، ذهبت وبقيت نصوصك ، وبقيت محبة محبيك ، وبقي خصام خصومتك ، لكن الفروسية هي التي لا تذهب ولا أخلاقها تموت ، وحقك أن يقال فيك حقك ، وأن تجد كلماتك حقها أيضاً ، والثابت الذي يتفق عليه راثيك بكل ما في الرثاء من معنى ، وراثيك على طريقته الدبلوماسية أو طريقة "رفع العتب" ، هي أنك كنت وستبقى واحداً من أنبغ شعراء فلسطين وشعراء العربية المعاصرة ، هي أنك كنت ابناً لفلسطين ، وناطقاً باسم مراحل هامة من تاريخها ، وشاعراً لامعاً في ميدانك ، تستحق أن يقال عنك فيه كما يقال في عالم السياسة ، في عالم الشعر اليوم أيها الأخ القائد محمود درويش ....







أيمن اللبدي

نائب رئيس تحرير صحيفة «الحقائق »والمشرف العام على الحقائق الثقافية

ayman@alhaqaeq.net


8/11/2008


www.alhaqaeq.net






أيمن اللبدي
http://www.allabadi.com