كلما شاهدت فيلم المومياء ازداد تقديري للمبدع الراحل شادي عبد السلام ، فأسمحوا لي أن يكون هذا المقال عن فيلم المومياء الذي يعد بحق من أبدع ما قدمت السينما المصرية.

إن اللقطة الأولي لفيلم المومياء تصدم عين المشاهد وتستفزه بما تحويه من عنف لصوص المقابر و هم ينتهكون حرمة إحدى المومياوات ويمزقون كفنها بحثا عن القلائد الذهبية التي ترتديها ؛ فتفاجئهم عين فرعونية تنظر إليهم ، بل كأنها تصرخ في وجوههم مما يدفعهم للخجل من الجريمة التي يقترفونها .


هذه اللقطة الصادمة تمثل إبداع فني وفكري من نوع خاص تميز به المخرج العظيم شادي عبد السلام (1930-1986) ، فهذه اللقطة كأنها بعثت الروح في المومياء و كأن تلك العين صرخة إستغاثة أطلقتها في وجه أحفادها اللذين لايقدرون عظمة ما تركه الأجداد ، حيث أعادت الروح لقدماء المصريين وحولتهم من مجرد تماثيل بارده نتغنى بأمجادههم عن غير وعي ، أو ندينهم عن تعصب فكري وديني أعمى ، أونتجاهلهم عن عدم معرفه ، إلي كيان نابض بالحياة .
لقد كان شادي يري أن تعاملنا مع تراث الأجداد ليختلف كثيرا عن سلوك لصوص المقابر فقد انتهكنا حرمة هذه الحضارة فنهبنا كنوزها ودمرنا أثارها وبنينا على أطلالها،والذى تبقى منها حولناه إلى مزار سياحي طمعا في المال لأنها أصبحت لا تمثل لنا سوى سلعة شاءت الصدفه التاريخية والجغرافية أن تهبها لنا

كان شادي يرى أن الحضارة المصرية القديمة هي عبارة عن تجربة إنسانية و فكرية عميقة تستحق أن تدرس وتستلهم فتكون مصدر لنهضة وتقدم حضاري عظيم

أن الرؤية السطحية لفيلم المومياء هي مجرد إستيقاظ ضمير "ونيس" ورفضه للمال الذي يأتي عن طريق سرقة الآثار ،حيث يختار التضحية بمصدر رزق أهله مقابل إنقاذ الآثار والمومياوات المهددة...... أما الهدف الخفي للفيلم فهو ليس مجرد هذه الفكرة، لكنه في الواقع عن مصر كلها التي كان شادي يتمنى لها أن تسير على خطى "ونيس" ،مما يعكس حس وطني و إنتماء قوي لمصر بحاضرها و ماضيها .
وتعبر أعمال شادي عبد السلام الفنية و أحاديثه الشخصيه عن رؤيته كفنان ومفكر للأحوال المترديه التي نعيشها و الفجوة الهائلة التي تفصلنا عن حضارتنا القديمة التي علمت الدنيا كلها وكانت منهل للحضارات الأخرى وسببا في تقدم الأمم الأخرى .

و بالطبع لم يقصد شادي العودة لتلك الحضارة من حيث المظهر واللغة والطقوس ،و لكنه كان يرمي إلى فهم تلك الحضارة فهما أعمق مما يسهم في خلق مجتمع أكثر استنارة و ذوقا و اعتدادا بالنفس . لقد حان الوقت أن نتعامل مع حضارتنا المصرية القديمة ككيان نابض بالحياة وأن نكف عن التعامل معها كما لو كانت تخص غيرنا لنحمل لواء الحضارة كما حملناه أول مرة منذ آلاف السنين .
يا من تذهب ........ ستعود
يا من تنام........سوف تنهض
يا من تمضي........سوف تبعث
فالمجد لك ....للسماء وشموخها.....للأرض و عرضها.....للبحار و عمقها.(من كتاب الموتى).....