آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: وراء السراب قليلا 11 أ / ابراهيم درغوثي

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية ابراهيم درغوثي
    تاريخ التسجيل
    04/12/2006
    المشاركات
    1,963
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي وراء السراب قليلا 11 أ / ابراهيم درغوثي

    وراء السراب ... قليلا

    رواية

    ابراهيم درغوثي




    الفصل الرابع


    بغايا لعموم عملة شركة فسفاط قفصة

    الباب الحادي عشر / أ

    وفيه حديث عن حب" ميلود الطرهوني" ل " حسبيبة النائلية"و كيف منع رجال " القبائل " نساء الماخور عن العمال الطرابلسيين . و أعاجيب تتعلق بنبوءة عرافة التقت الطرهوني في الصحراء . و ملائكة نزلت من السماء لتواري في ثرى " المتلوي " قتلى الفتنة الطرابلسية الخ... الخ ...


    و كبرت حكاية " الشق" و جنده ، فشغلت هذه البلية الكبار و الصغار مدة طويلة إلى أن طفت على السطح أحداث الفتنة التي أشعلها " ميلود الطرهوني " بين " الطرابلسية " و " رجال القبائل " فهزت هذه الأحداث القرية هزا عنيفا و تناسى الخلق حكايات الجن .
    و لكن إلى حين...
    كان معاوني " ميلود الطرهوني " طرابلسيا غريب الأطوار. رجل يخاطر بحياته في كل الأوقات دون أن يطرف له جفن. ولكنه يفلت دائما من براثن الموت في اللحظات الأخيرة. أخرجناه ثلاث مرات من تحت الردم . قي المرة الأخيرة يئسنا من عودته إلى الحياة و بدأنا نبكيه ، لكن صديقة " صالح البوسيفي" ظل ينفخ داخل حنجرته إلى أن رمشت جفونه و حرك شفتيه. فتركناه في مكانه وعدنا نمد سكة الحديد داخل النفق و نملأ العربات الصغيرة بالتراب و نخبط البغال على أردافها و نزجرها حتى تجر العربات و تسرع في العدو. و عند نهاية الوردية عاد معنا إلى حي الطرابلسية ليشرب الشاي و يسب ككافر و يعد لسهرة الليل و لمجلس الخمر. فهو ينفق فرنكاته على النساء و الخمر. شعاره : " اللي جابه النهار يديه الليل " مبذرا ليلا ما يكسبه نهارا قائلا لمنتقديه:
    - من يضمن لي منكم أنني لن أترك مخ رأسي غدا على صخور النفق؟
    فتكفهر الوجوه و ينفض من حوله لائموه، فيشيعهم بقهقهات و شباب مشين.
    البارحة ، عندما قابلاه في الحانة ، كان على غير عادته حزينا و مهموما. عابثته و حدثته عن " حسيبة النائلية " فلم يتجاوب مع عبثي. فعرفت أن الأمر خطير فتركته لشأنه و بدأت أبتعد. لكن صوته المشحون بالفجيعة ردني إليه:
    - يعال يا " عزيز "! . ما عهدتك تضجر مني بهذه السرعة!
    فقلت له :
    - حالك البائس لم يشجعني على مواصلة الحديث معك!
    فقال :
    - أعرف أنني سأكون سبب بلاء شديد لأهلي و لكن لا راد لقضاء الله!
    فقلت له مازحا:
    - و لم ذلك يا براقش؟
    فقال :
    - منعتني جماعة من رجال " القبائل " الجزائريين من الوصول إلى " حسيبة " و هي كما تعرف أغلى عندي من روحي .
    فقلت :
    - و لماذا يمنعونها عنك و هي تعمل في الماخور و أنت تدفع ما فيه الكفاية؟
    قال :
    - رجال القبائل قرروا ذلك و انتهى الأمر.
    قلت :
    - و ماذا قرروا؟
    قال :
    - سيمنعون بناتهم على بقية الرجال في هذا المنجم بدعوى أنهن جزائريات و أن شركة الفسفاط جاءت بهن من جبال " جرجرة " للترفيه عن العمال الجزائريين فقط.
    و ضرب كفا بكف وهو يتأوه:
    - يمنعون عني "حسيبة" هؤلاء الأوباش . و الله لن يمتعني عنها أحد و سأقاتل من أجلها ملك الموت و سأقتله.
    و صار يخبط رأسه على الحائط .فهدأت من ثورته و قلت :
    - قم بنا إلى دار بنات " أولاد نائل " فقد اشتقت أنا أيضا إلى غنائهن و رقصهن و نكاتهن البذيئة.
    فظل صامتا مدة ثم قام وهو يقول :
    -لا فائدة يا أخي.فلن تنفع وساطتك مع هؤلاء الأوباش.
    و مشينا باتجاه الماخور. حاذينا حي " السوافة " بقبابه البيضاء التي يكثر تحتها الفساد و تقل البركة و اقتربنا من الحب " الأوروبي " فلفحنا هواء منعش تفوح منه روائح الورد و الياسمين. وواصلنا المسير حتى وصلنا حي " المحطة " فرأينا القطارات جاثمة فوق سكك الحديد كأنها وحوش أسطورية خرجت من باطن الأرض. وحوش تنفث دخانا أسود و تطلق بين الحين و الآخر زعيقا و خوارا.
    رأيت نساء البدو القاطنين في المداشر القريبة يتقاتلن قرب صهاريج الماء و يتقاذفن بالسباب و السطول و الكلام البذيء و لا يهدأن إلا حين يطل ناظر المحطة بكسوته الشبيهة بلباس الجندرمة فينهرهن و يطردهن بعد أن يحكم إغلاق حنفيات الماء.
    و غير بعيد عن المحطة تسكن بنات أولاد نايل. عشر بنات جاء بهن واحد من متعهدي الانتدابات الذين أرسلتهم السلطات الفرنسية لجلب العمال من الجزائر و المغرب ، فعاد و معه هؤلاء البنات. و أعجبت الفكرة مسؤولي الشركة فأقطعتهن دارا بعيدة عن الأحياء المأهولة بالسكان المسلمين و ألزمنهن بالعمل لفائدة الشركة و بعدم الامتناع عن كل طالب لذة على أن يدفع بالحاضر و مسبقا.
    و سارت الأمور على أحسن حال مدة سنة و بعض السنة . كانت البنات فيها قرة أعين العمال العرب و الكفار من فرنسيين و طليان و روس و أسبان و مالطيين و بلغار و بولونيين و الناس أجمعين.
    تفنن متعدو الانتدابات في إحضار الجميلات من البنات إلى الميغى ، فاختاروا الطويلة و السمينة بعد أن عرفوا ميل العرب إلى البدينات . و أفرطوا في التجديد . صاروا يسفرون القديمات و يعودون بغيرهن كلما أحسوا بملل مرتادي الحي و ضيقهن من نساء الماخور.
    وكان أكثر مريدي هذه الدار من العمال الطرابلسيين . هناك يسكرون و يعربدون و لا يعودون إلى مساكنهم البائسة التي بنتها لهم الشركة إلا فجرا ، فينامون بضع ساعات يفيقون بعدها على عواء صفارة المنجم. فينتفضون كالضباع و يهرولون باتجاه القطارات التي تحملهم كل صباح قريبا من أبواب الأنفاق.
    كان الجو هادئا و نحن نقترب من الماخور . و كانت أضواء خافتة تجاهد للخروج من وراء زجاج النوافذ حين اقتربت من الباب ففاجأني صوت غليظ:
    هيه ! أنت قف مكانك !
    التفت أبحث عن صديقي الطرهوني فوجدته يقف غير بعيد مني.
    و خرج لنا من الظلام عشرة رجال مسلحين بهراوات و سكاكين ،و صار قائدهم يلوح بمسدس و يدور حولنا.
    عرف القائد ميلود الطرهوني ، فزجره :
    ـ ألم أطلب منك الابتعاد عن هذا المكان و عدم الاقتراب من هنا مرة أخرى؟
    و دفعه في صدره بجمع يده .
    حاولت الوقوف بينهما ، فانهالت على صدغي لكمة لم أعرف مصدرها . و سمعت الطرهوني يصيح :
    ـ أريد إن أقابل حسيبة يا أولاد الكلب !
    و صمت بعد أن دكّته الركلات دكا، فهوى على وجهه مغشيا عليه، فجره وجلان من رجليه و رميا به قريبا من محطة القطار ، فتحاملت على نفسي و لحقت به.
    ظللت أرشه بالماء و أضرب برفق على وجنتيه حتى أفاق و عاد إليه وعيه فصار ينهنه و يبكي بصوت خافت
    فقلت له :
    ـ كف عن هذا البكاء يا رجل، فعهدي بك رابط الجأش شجاعا!
    فرد:
    ـ لقد أبكتني مذلتي في هذه البلاد الغريبة. لو كنت في البلاد لما قدر عليّ هؤلاء الزعران يا أخي!
    عد بنا ، ليخرجن ّ الأعزّ منها الأذلّ!
    ثم اتكأ على كتفي و يممنا طريق العودة .
    وصلنا فجرا إلى حومة الطرابلسية فقصدنا المسجد الجامع .
    البناية مسقوفة بجريد النخل و سعفه ، يقوم على الخدمة فيها رجل ضرير ، مقرئ للقرآن يدرب الصبيان في الصباح على القراءة و الكتابة و حفظ بعض الآيات من قصار السور و يصلي بالمؤمنين الصلوات الخمس كل يوم . صوته العذب يقرأ يه الذكر الحكيم آناء الليل و أطراف النهار ، و يرفع به الآذان في ميقاته.
    دفع ميلود الطرهوني باب الخشب و دخل إلى المسجد . أفاق الرجل الضرير على صوت الباب و هو ينفتح فاعتدل في جلسته و أصاخ السمع . نزع الطرهوني حذاءه و مشى على الحضر التي تغطي الأرضية حتى وقف عند رأس الرجل. بقي جامدا في مكانه دون أن يتفوه بكلمة إلى أن قال الضرير:
    ـ أخيرا جئت يا ابن بهية ! إني أشم في رائحتك نذر الموت و البوار !
    فقال ميلود الطرهوني :
    ـ لقد أهان أجلاف بلاد القبائل كرامة رجال الصحراء . و لا بد من الانتصار لكرامتنا يا شيخنا!
    فقال الرجل الضرير:
    ـ أعرف أنك منذور للدم يا رجل ، و لكن سأحاول أن لا تعلو كلمتك على الحق هذه المرة يا ابن بهيجة و غلا فلن تقوم لكم قائمة بعد اليوم يا أمة الخراب.
    و تركنا واقفين و ذهب يرفع آذان الصبح بعد أن اعتلى حائطا قصيرا.
    قي الصباح ، تجمع الرجال كعادتهم في السوق . بدو جاءوا من تخوم الصحراء و رجال هاربون من الخدمة العسكرية و عياق و قتلة مازالت ثيابهم ملطخة بدم ضحاياهم ، جاءوا إلى هذه الأصقاع المنسية يخبئون جرائمهم داخل أنفاق الجبل و يموتون دون أن يعرف أحد أسماءهم الحقيقية أو البلاد التي جاءوا منها. كانوا يعملون في منجم من مناجم قفصة شهرا ليغادروه إلى منجم آخر ، فيبدلون أسماءهم و شخصياتهم و يتزوجون أو يطلقون و يدفنون ابنا أو بنتا في جبانة يستحدثونها في التو و الساعة يحفرون بضعة أشبار في الأرض الصلدة و يوارون الطفل الثرى دون أن يقرأ أحد على روحه شيئا من كلام الرب و يغادرون المكان ليخرج من ذاكرتهم بعد أن يختفوا وراء أول هضبة. و تطل الكلاب السائبة على الوليمة ، تتعارك فيما بينها ثم تنبش التراب و تتخاطف اللحم الطري و تنهش الجثة في طرفة عين ثم تعوي و تختفي داخل شعاب الجبل.
    كان ميلود الطرهوني ذاهلا وهو يكلم أبناء ملته من الطرابلسية و يحرضهم على الأخذ بالثأر من رجال القبائل . و يذكرهم بالقتلى الذين ماتوا في حضيرة العمل التي أشرف عليها حمو القبائلي و بالمهندس الفرنسي الذي طرد أكثر من عشرين عاملا من ذويهم جراء وشاية ابن عمه بوشعيب.
    و راح يعدد المظالم التي ارتكبها رجال القبائل في حق الطرابلسية وحلقة المستمعين تكبر . و الهمهمة تعلو.و اللغط يرتفع. و نذر الشر تطير في الجو و ترتفع بارتفاع حرارة النهار إلى أن صارت لا تطاق . فقال قائل :
    ــ الليلة سنذهب مرة أخرى على دار بنات أولاد نائل و سنتحدى رجال القبائل . نحن لا نطلب أكثر من حقنا في هؤلاء القحاب!
    و نسي الرجال حمو القبائلي و ابن عمه بوشعيب ليذكروا الغبن الذي لحقهم جراء غلق أبواب الماخور في وجوههم !
    و ضربوا موعدا للقاء بعد صلاة العشاء.

    التعديل الأخير تم بواسطة فايزة شرف الدين ; 30/09/2008 الساعة 07:53 PM

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •