خاص بواتا
أتمنى أن أقرأ رأياً بهذا الموضوع قبل نشرة في الصحف، والمواقع
"جلعاد شليط" أذرف معك الدموع!!
د. فايز صلاح أبو شمالة
صديقي "جلعاد شليط" أنت لم تسمع عن السجينة "قاهرة السعدي" المحكوم عليها بثلاثة مؤبدات، وهي تردد: 'أتمنى أن أرى أولادي!! فقط أن أقول لهم: 'يا أمه'؛ أريد أن تتلمس أصابعي شعر أولادي!! أن أضمهم إلى صدري'، هذا ما تتمناه السجينة الفلسطينية، وهي تتساءل: أين هم أولادي الآن؟ كيف حالهم؟ كيف يصبحون وكيف يمسون؟ سبع سنوات لم أطبق عيني على أولادي، لم أتشمم رائحتهم، لم أمسح وجوههم بالقبلات، سبع سنوات لم يبكِ أيُّ واحدٍ منهم على صدري، لم أهدهدهم، لم أنطق كلمة 'يا أمه' ، نفسي أسمعها منهم، نفسي أقولها، نفسي أن ألامس بأصابعي وجه أولادي، وأن أتلمس دموعهم، أن أتحسس شعرهم، أن أنظر في عيونهم، أن احتضنهم!! نفسي أقول: 'يا أمه، يا أمه، يا أمه، يا أمه، وانهمرت الدموع من العيون الباكية!
"قاهرة السعدي" من مواليد جنين سنة 1976، لها من الأولاد أربعة، ولها زوج في سجن النقب اسمه "ناصر السعدي"، وبينهما حب للوطن يملأ الصدر، زوجها 'ناصر' يتمنى أن يقول لأولاده: يا با، يا با!! ربما نسي كيف يقولون: يا با، وربما يرتجف لو لامست يده أولاده، أو يرتجف الأولاد لو نظروا في عين من يقال له: أبوهم؛ لقد مررت شخصيًا بالتجربة، وأعيشها حتى اللحظة، لقد ارتجفت عندما لامست جسد ابني محمد الذي ولد وأنا في السجن، لقد سمحوا له بأن يعبر عندي في سجن نفحة الصحراوي للمرة الأولى سنة 1991، كان عمره قد صار سبع سنوات، الطفل محمد فايز يغالب الدمع،, يحتضنني، ويحملق في الذين قالوا له: إنه أبوك! شعرت برجفة البكاء تهز جسد الطفل الصغير، وكظمت دمعتي، ولم أر دمعته الحبيسة، كلانا ارتجف من الموقف، وكلانا حبس دمعة لم تسح على الخدود حتى اليوم، حتى اليوم تتكسر حروف كلمة يا با على شفتي، لا أعرف أن أقولها، وأقول معترفًا: لقد خرجنا من السجن, ولكن السجن يطاردنا.
[يا ويلكم يا عرب]،! صرخت امرأة متنقبة ـ لم أسأل عن اسمها ـ في مؤتمر الحرية الثاني في قاعة رشاد الشوا، يوم الخميس 14/4/2004: أين أنتم يا عرب؟ يا مسلمون، شرفكم أسير بين يدي اليهود، يا ويلكم يا عرب، نساؤكم سجينات لدى اليهود، كيف تنامون على فراش المذلة، كيف تتنفسون هواء الهوان، يا عرب، يا مسلمون، صرخات امرأة فلسطينية عربية مسلمة مظلومة دوت في القاعة التي ضمت حركة فتح، وحماس، والجهاد، وباقي الفصائل, فضمّخت الجميع بالصمت، ونكس الحزن رأسه عندما قالت: زوجي محكوم عليه أربعة مؤبدات! لن يطلقوا صراح زوجي عن طريق المفاوضات، يقولون: يداه ملطختان بدم اليهود! صرخت المرأة المسلمة المظلومة: يدا زوجي مشرفتان من دم اليهود! لن تهان هذه الأمة ما دام فيها من يقبع في السجون مقاومًا.
إنها السجون الإسرائيلية، أماكن تستند أركانها على تحمل الوجع، وتجرّع الحرمان، ويسقف جدرانها الصلف والطغيان، ويحرس بواباتها التجبر والعدوان، إنها السجون الإسرائيلية التي تطبق أنيابها على العربي, تقضم وتهرس عظم ذلك الإنسان الذي مزج أحلامه بطعم المرمية والزعفران، وراح يحلق في السماء رافضًا الهوان، رغم تكلس قدميه، وتكسر الحركة على جبل الحرمان.
في السجون لا يكون الحرمان من الطعام أو الشراب، أو من مباهج الدنيا ومتعها، ولا هو حالة الانغلاق على السمع والقدمين والعينين وباقي الحواس، الحرمان في السجون كل ما سبق، مضافًا إليه حالة الإبحار في أعماق الوجدان بلا أشرعة أو مراكب، عندما تعصف رياح الشوق بآلاف السجناء العرب الذين ما زالوا قابضين على الوطن، وما زال الوطن يقبض أنفاسه خلف القضبان في السجون الإسرائيلية!!
'يا با، يا أمه!' كلمات بسيطة يرددها الناس، وتعبر في فضاء الحياة بلا انتباه، فإذا اقترنت بوخز شوك الحرمان، ولسع إبره، صارت لفظة 'يا با'، ولفظة 'يا أمه'، أجنحة طير يرفرف مذبوحًا بالحنين والحنان، صارت اختناقًا للتنَفّس، واحتباسًا للدموع!
آلاف السجناء العرب الفلسطينيون انطبع وجدانهم بتجربة الأسر التي علقت في سقف حلوقهم حلاوة ومرارة؛ أما الحلاوة فهي مذاق المقاومة والصمود، والقدرة على التحمل، عندما يكتشف الإنسان أن لديه من القوة وطاقة الصبر أكثر مما قدّر، وحَسِبَ، وأبعد مما ظنّ بنفسه، عندما يكتشف الإنسان المنتمي بصدق أنه بقامة جبل تتعلق على رقبته الوحوش، وأنه بسعة بحر تذوب في مياهه الأسرار، فما أندى عذوبة الصمود لمن اقتنع بالحق الذي تمسك به، وما أحلى عذوبة ماء العطاء لمن صفت سريرته لما آمن به، فصفّقتْ له ملائكة السماء.
عند المساء يخبط طائر الحرمان بجناحيه، يرفض أن يبتعد عن السجناء، عند المساء يسقط الصمت الخاشع، يذوب في كوب الشاي الذي ينشط الذاكرة للأم والأب، وللأخ والأخت، وللابن والابنة، وللزوج والزوجة، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ كيف يكبرون؟ وكيف يشيخون؟ آنئذٍ يرفرف الخيال بأجنحة من نور، يحلق في المدى البعيد، يحتضن من اشتاق إليه السجين، يضمه في الخيال، يروي ظمأ الشوق، ثم..
يشهق السجين أنفاسه بعد غفوة الخيال العذب، لقد أخذ وأعطى؛ ولا يدرك معنى لذة العطاء إلا من جربها، من لم يعط لا يشعر بالنشوة التي أصف، فللعطاء رعشة تفوق لهفة الآخذ، وللتضحية دلالة تفوق الاستئثار، لأن ذاك يعطي ولا يهاب، وهذا يأخذ ويضطرب، وذاك يُسلّم مطمئنًا، وهذا يأخذ قلقًا، يدرك هذه الحقيقة من خبر الصمود في التحقيق بين يدي اليهود، عندما يشعر الفرد الأعزل ـ إلا مِن إرادته، وما اقتنع به ـ يشعر بقوة تفوق قوة المحققين اليهود المجتمعين على جسده، وأجهزة التعذيب التي يمتلكونها، تلك الحالة من الثقة والاعتزاز بالنفس تدخل ضمن المركب النفسي للأسير الذي يشعر أنه عبر بحر الموت الهائج دون أن يبتل، ويشعر أنه تخطى صراط الخوف من المجهول وعبودية المقدرة المحدودة، وانتقل إلى مربع التحدي المطلق، مع حرية النفس من قيودها، ونسيان كبول الجسد.
أما المرارة فهي لتلك الحالة الإنسانية من الحرمان المتولد من البعد، والذي يحضنه الشوق والتفكير بالعائلة والأسرة والأولاد، تلك اللحظات من تشقق الروح، وتقاطر الوجد على ملح السفوح، تلك اللحظات التي تتسطح فيها الذاكرة إلا عن حنين يتدافع للحبيب، ورغبة تضرب بحوافرها الأرض، وتتزاحم لاقتناص مشهد عبَر يومًا، أو لتخيل مشهد قد يعبر يومًا، حالة شوقٍ منطلقٍ كفرسٍ في البراري، تلك الحالة من الحرمان التي يتوقف معها القلب ليعاود النبض بذكر الحبيب، ويفرغ فيها صدر الأم من الأنفاس فيعاود التدفق بلبأ الحليب، عندما تتحشرج لفظة 'يا أمه' و'يا با' في الحلق ولا تجد أصداءها، عندما يتضاعف السجن قبل أن يهمس السجين بينه بين وبين نفسه سراً؛ 'يا با'.. 'يا أمه' قبل أن تضيع في زحمة الانتظار، وقبل أن يبددها زمن الترقب الجارح بمخالبه، وقبل أن تبهت دلالتها مع اللهفة، ويخبو بريقها في الزحام، قبل أن تبدأ اللفظة بالانطواء على ذاتها، والانضواء بالغياب، 'يا با، يا أمه' أمنية بعيدة المنال، كلما حاول السجين ترديدها، أو استعادة حروفها يجد أنها تبتعد، وتوغل في البعاد، حتى لتكاد أن تتلاشى، فتصير إذا اجترعها حروفًا حارقة تسبب له اللوعة والغرق.
ذات يوم في عام 1987 قلت للشهيد عمر القاسم في سجن عسقلان، وكان قد أمضى ما يقارب العشرين عامًا قبل استشهاده بقليل، قلت له: أنت يا عمر أحسن حالاً مني، أنا أفكر في أطفالي ليل نهار، بينما أنت خالٍ من هذا الهم والتفكير، تنهد عمر القاسم رحمه الله، وقال وهو يسند ظهره على الحائط الجنوبي من سجن عسقلان: يا ليت لي ولدًا يا فايز، يحمل اسمي، وأحمل همه وأنا في السجن!! لم يمض زمن طويل، استشهد عمر القاسم في السجن وهو في ريعان الشباب، وخلد ذكره بالشهادة، بينما صديقه سعيد العتبة، لم يخرج إلا في هذا العام بعد أكثر من ثلاثين عاماً، وإنها لثورة حتى النصر!!!!!!
ترى، لو أعيد السؤال على السجينة العربية الفلسطينية "منال غانم" التي ما زالت تمضي سنوات عمرها مع طفلها "نور" خلف القضبان، لو سئلت: ماذا تفضلين يا منال؛ أن يظل الطفل نور ـ ابن سنة ونصف ـ الذي ولد في السجن إلى جوارك سجينًا في الظلام، أم ينضم إلى إخوته الثلاثة في الخارج؟ ماذا كانت سترد على السجينة "قاهرة السعدي" ولو تحاورتا معًا؛ أيهن أسعد حالاً، أم أيهن أشقى!! "منال غانم" التي تربي ابنها في السجن، وإخوته الثلاثة خارج الأسوار، أم "قاهرة السعدي" التي لم ترَ لأولادها الأربعة صورة منذ سبع سنوات؟
من مفارقات اللغة العربية أن إحدى السجينات العربيات الفلسطينيات المحرومات من أطفالهن تحمل اسم 'قاهرة' ويحمل زوجها اسم 'ناصر', ولكل من قاهرة وناصر السعدي من اسمه نصيب، وللمجتمع العربي دلالة الأسماء، وصدق الوفاء، لعظة الشرفاء، وعظمة العطاء.
ولصديقي "جلعاد شليط" في سجن "حماس" أقول: دموعي التي حبستها عشر سنوات في السجون الإسرائيلية، تسيل الآن وأنا أكتب عنك وعني.
المفضلات