العولمة: مجتمع الخطر اليوم وليس غدا


مطاع صفدي
مفكر عربي من القطر السوري - مقيم في باريس

إن مراجعة لأسس الاقتصاد الرأسمالي لن تكون في معزل عن المراجعة الشاملة لحقيقة تاريخية متكاملة بين شتى فعالياتها، وكان لها العنوان التفضليلي المفخَّم: العولمة.

فالأصل في العولمة أنها نظام اقتصادي يتمحور حول شعار مركزي قديم أطلقه أحد آباء الفكر الاقتصادي الحديث وهو آدم سميث "دعه يعمل، دعه يمر"، أي تحقيق التطابق بين حرية العمل وحرية التجارة. فكل أدلجة لهذا الشعار فيما بعد لم تخرج عن مصطلح "السوق" باعتباره هو الحيز الوحيد المنظم لكامل العملية الاقتصادية، بدون أية تدخلات غريبة عن عناصر هذه العملية؛ والمقصود هي الدولة والمجتمع معاً. كأنما هناك نوع من "يد خفية" هي السر الأعمق للسوق، والتي عليها يتوقف انتظام تلقائي، ينتهي دائماً إلى إقامة التوازن بين العرض والطلب. هذا يعني بالطبع التأكيد أن الاقتصاد لا يحتاج في أدائه السوي لغير قوانينه الذاتية التي تخصه وحده. إنه عالم مستقل وإن كان يشق مساره دائماً في الصميم من الحراك المجتمعي. حتى ماركس فقد أعطاه حق الأولوية تاريخياً وأيديولوجياً في إنتاج العملية الإجتماعية ككلٍ وهو يريد من هذا التأكيد الأيديولوجي، البرهانَ على أن كل تغيير في أنماط التكوين والتشكل الاجتماعيين، إنما يبدأ من تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية.

تلك هي مداخل تنظيرية معروفة، إلى أدبيات الفكر الاجتماعي والاقتصادي الكلاسيكي، سواء كان التوجه في مداراتها ذا منحى ماركسي أو يساريا عاما، أو ليبراليا قديما وحديثا. ونحن أتينا على ذكرها سريعاً لنخلص إلى التأكيد بدورنا أنه: إذا كان ثمة تغيير سوف يصيب المجتمع العالمي، وليس الدولاني أو الإقليمي أو القاري فحسب، فلا بد أن تكون مقدمته الضرورية، مشخصنة في هذا الزلزال المالي/ الاقتصادي. إذ ان زعزعة مؤسسة الصيرفة في النظام الرأسمالي قد تصيب جهازه العصبي بالشلل الجزئي أو الكلي، المرحلي أو الدائم، تماماً كما يحدث للجسد العضوي. وعند ذلك ينبغي الاستنجاد بالمجتمع الإنساني كله لاجتراح الحل الكوني.

فمن يقول بالتغيير الجذري لطبيعة هذه المؤسسة، كأن توضع تحت رقابة دولانية صارمة، هذا يعني أن تفقد حراكها الذاتي الناجم عن تلقائية قوانينها الخاصة بها، التي هي أشبه بالأسرار الممتنعة على غير المحترفين الممارسين لألعابها السحرية، غير القابلة للتقنين الاستباقي إزاء تحولاتها ومفاجآتها. من هنا يأتي تعارض المطالبة أو الادعاء باستقرار النظام الرأسمالي. فلا شيء أبعد عن هذا النظام كالاستقرار، أو الجمود على حال معينة. في حين أن كل رقابة اجتماعية تفترض معرفة نظامية لموضوعها، قابلة لاجتراح الحلول مقدماً أو فورياً إزاء طوارئ السوق.

المايحدث اليوم هو أن أقوى نظام رأسمالي في العالم قد أُخذ على حين غرة، وهو في ذروة هيمنته المطلقة. وقد تلقى الصاعقة، وهو على قمة هرم القيادة العليا لأركانه، كأنما تراكم الثروات الفلكية تحت أيد قليلة ليس هو السبب الوحيد للقوة بل هو كذلك للهشاشة والانهيار. فقد اصْطُلح على توصيف مجتمع الحداثة الذي يعيش في ظل النظام الرأسمالي القابض على مفاصله، بأنه مجتمع الخطر. ولا يتأتّى الخطر فقط من تقلبات البورصة المالية وحدها، وإن كان هو الأعلى والأفعل من بين أخطار الحداثة المحتكرة لسلطة التكنولوجيا، المصادَرة بدورها لمصلحة رأس المال الكبير المعولم، إذ تبقى انهيارات الصيرفة، بالرغم من كل تلاعبات السمسرة، هي المرشحة لإحداث الصدمة (المركزية) على المستوى الكوني. ولا تقع هذه الصدمة إلا باعتبارها تمثل حصيلة ترميزية للأعطال الأخرى المهددة لمستقبل إنسانية القرن الواحد والعشرين، وأهمها ولا شك مجاعة شبه معممة، وطبيعة موشكة على الموت والانتقام من عدوها التاريخي: الإنسان الوحشي الدائم.

للرأسمالية في طور العولمة الراهنة، حروبٌٌ داخليةٌ ذاتية تشنُّها مؤسساتُها ضد بعضها. فالفاصل الوهمي المتداول اليوم بين اصطلاحيْ الاقتصاد الافتراضي، والآخر الموصوف بالواقعي والحقيقي، يُراد له أن يختزل التحليل العلمي للأزمة بأن يلقي تبعاتها على الانحراف المتفاقم من مؤسسة الإنتاج إلى مؤسسة الاستثمار الصيرفي البحت. لكن المشكلة هي أبعد بكثير عن أفق هذا التشخيص، بل ربما أمست أكثر بعداً حتى عن الاقتصاد نفسه، وبنوعيه هذين. إذ ينبعث مجدداً ذلك الهاجس الأنطولوجي القديم، الذي لا تنفك بعض العقول الكبيرة والمتنورة عن طرح أسئلته عند كل منعطف حضاري نحو المستقبل الأشد سوداوية وخطراً. إنه سؤال الأسئلة المصيرية عما يعنيه مفهوم التقدم: هل أصبح التقدم أسيرَ نموذجه الغربي. هل افتقر العقلُ إلى درجة ألاّ يرى للتقدم إلا منهجاً ونموذجاً واحداً، ألم يتقبل هذا العقل خديعة وهمية كبرى عندما قلب صيغة السؤال: فصار النموذج المنتجَ (بفتح التاء) هو البديل المتحكم في العملية الإنتاجية ككل. بعبارة أخرى هل هناك شكل آخر للاجتماع الإنساني، لا يقع بين خياريْ: إما الرأسمالية أو الفوضى. هل انحدر عجز الحضارة في مقوماتها التاريخية وتجاربها الحافلة، إلى حضيض هذا العقم البنيوي الذي يبقي عليها سجينةً إلى الأبد لأسوأ خياراتها، بما يجعلها واقعة تحت طائلة عواقب رأسمالية استنفدت حقائق نظامها التاريخي، فلجأت إلى ألاعيب الاقتصاد الافتراضي الوهمي.

كل ادعاءات التقدم المترافقة على ما يسمى بالانقلاب الصناعي، ومنذ ثلاثة قرون أو أربعة، كانت ترتكز إلى فلسفة بدهية، وهي أن الإنتاج مدفوع أصلاً بغاية حيوية شمولية، وهي تلبية الحاجات الضرورية لاستمرارية المجتمع. فالرأسمالية، بالرغم من تبعيتها لمبدأ الملكية الفردية، إلا أنها لا يمكن أن تعمل إلا بفضل انتظام متكامل لمختلف فعاليات المجتمع. لكن عندما يتم تحييد المجتمع ككل عن آلية إنتاج البضائع والثروات، ويُستعاض عنها بالرموز الورقية أو الرقمية، أي بالأسهم والسندات ومشتقاتها، يصبح الاقتصاد العالمي كله ألعاباً هوائيةُ، يُتْقِنُها بعضُ الأفراد القلة الممسكين بحركة الثروات الفكلية. هذه القلة القليلة هي التي انتهت سيادة العالم المعاصر الفعلية إلى السقوط الكامل في حواسيبها الشخصية. فالعولمة في المحصلة الأخيرة هي إعطاء صك ملكية مطلقة للعالم إلى شبكيات الشركات المتعددة الجنسية التي تعود ملكيتها إلى بضع مئات بل عشرات من غيلان المال الكوني، المعروفين بالأسماء والوجوه، وهؤلاء يتداول الإعلام أخبارهم، وكأنهم أباطرة المعمورة الفعليون، ولكنهم أباطرة، يقدمهم هذا الإعلام كأبطال ميامين ونماذج عليا للاحتذاء بهم من قبل إنسانية افتراضية أخرى تعيش عصر ما بعد الصناعي، وإن كان هذا العصر ينبغي أن تُطرد منه كل مآثر الإنسانية من مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة، أي كل الأفكار والقيم المؤسسة لثقافة التقدم الحقيقي، المعافى من اختطافات الرأسمالية، التي دأبت على توظيفها لصالحها هي، ولغير أهداف التقدم المتوازن بين جناحيه المادي والإنساني.

العصر ما بعد الصناعي ليس هو الجنة الموعودة، بقدر ما سوف يدعم نموذج الخطر بكل خصائصه المتناقضة، من بين ضلالات المتع العرضية العابرة، وتراكم المشكلات المصيرية الكبرى لتاريخ حضارة القمع، المستعصية على الأجيال المتتابعة، والمتروكة بدون حلول ناجعة. فإن انفجار الأزمة المالية يأتي بمثابة إنذار مجتمع الخطر بأن الأهوال كلها لم تعد قابلة للتزييف والقذف بها إلى مجهول المستقبل؛ مجتمع الخطر يعيش الهول الراهن ولا يتوقع له غداً إلا الأهوال الأعظم. بمعنى أن هناك شبه استحالة إجرائية، وليس نظرية، في قدرة الرأسمالية الحالية على إصلاح ذاتها بذاتها، كما تقول تلك الحكمة الغالية لدى الليبراليين كلما واجهوا حتمية التدخل الدولاني أو الاجتماعي. لن يستطيع الاقتصاد الحقيقي أن يتخلص بسهولة من تبعيته للاقتصاد الافتراضي. إذ بعد أن استبدت ظاهرة تسليع المال، أي تحويله إلى بضاعة سوقه الخاص، وإمكان تحقيق الأرباح الكبيرة بالسرعة الضوئية، بدون الحاجة إلى توسيط كل العوامل الأخرى المعقدة لعملية الإنتاج السلعي، لا يبدو أنه من السهل على أية سلطة دولة رأسمالية أن تفرض سباق السلحفاة والأرنب على الاقتصادين معاً، مع شرط السبق للسلحفاة، أي للمصنع التقليدي. فأية قوة في هذا العصر يمكنها العبث بالسوق دون التبشير بضرورة انقلاب المجتمع الرأسمالي على ذاته.

فالتوصيف للأزمة المالية سريعاً ما ينتقل إلى توصيف الطريق المسدود أو المأزق الأنطولوجي الذي تحياه تاريخانية العصر الكوني الراهن. لقد تعدى الوضع تعريف مجتمع الخطر، كما أوضحه (أولريخ بك)، أحد فلاسفة الاجتماع الألماني من مدرسة ماكس ويبر، في كتاب شهير أنتجه أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وعاد منذ أيام إلى نشر تلخيص حديث له في جريدة (لوموند) الفرنسية. فقد قال: لا يعني مجتمع الخطر حلول الكارثة، ولكنه تَوَقّعٌ لكارثة المستقبل، في الحاضر. لكنه لم يقل أن التوقع أمسى مواجهة، وأن أخطار المستقبل كادت تتحول إلى أخطار ماضي الحاضر.