الإبداع الأدبي المعاصر بالجهة الشرقية من المغرب إصدار جديد للدكتور محمد يحيى قاسمي
تقديــــــــــم بقلم الدكتور بدر مقري
لعل أهم سؤال يتبادر إلى ذهن المتلقي وهو يجيل النظر في عنوان كتاب الدكتور محمد يحيى قاسمي: (الإبداع الأدبي المعاصر بالجهة الشرقية من المغرب)، هو:
أليس الحديث عن أدب الجهة ضربا من ضروب التجريد والتعميم، إن نحن سلمنا بأن تعدد الإنتاج الأدبي يكون بقدر سعة المجال الجغرافي؟!
إن القصد من وضع هذا السؤال إنما هو التحفيز على إعمال الفكر في الإنتاج الأدبي باعتبار المجال الجغرافي. ففي ذلك ما يفضي إلى توكيل الرعاية بالتحولات المتعلقة بالثوابت المكانية والزمانية والاجتماعية للمبدعين في الأدب. وهو ما أحسن الدكتور محمد يحيى قاسمي تبيانه بتوظيفه معياري: (السيرورة) و(السيرة) في الأقسام الأربعة من كتابه هذا.
ومن العلامات الدالة في تلك الثوابت المكانية والزمانية والاجتماعية أن يكون الإنتاج الأدبي من جنسها، أي إن الإنتاج الأدبي لا بد وأن يستجيب بطرائق مختلفة لخصوصيات الفضاء في كليته الدلالية.
فالعلاقة الجدلية بين الأديب وبيئته أكثر مرونة من حصرها في أن كل بيئة تحرك خيوط الإنتاج الأدبي بطريقة أحادية وفردية آلية، لمجرد أن الأدب أداة تواصلية. وقصدي إلى أن خصوصيات الفضاء، إنما هي في جوهرها متغيرات تضمن لكل أديب فرصة وفسحة الإبداع بطريقته الخاصة، لأن كل مبدع له هويته الخاصة به في التفاعل مع المجال الجغرافي. وليس في ذلك ما يناقض منحى الدكتور محمد يحيى قاسمي في اختياره وحدتين مصطلحيتين في كتابه: (الإبداع الأدبي المعاصر) و (الجهة الشرقية من المغرب)، لأنه لا يمكن أن ننكر بأن الإبداع الأدبي يؤول – ضمن ما يؤول إليه – إلى طبع جبل عليه الإنسان، وهو التفاعل مع المكان أيا كانت حدوده: المدينة – القرية – الإقليم – الجهة – البلاد – الأمة – العالم – الكون.
ولست في حاجة إلى التذكير بأن الخيط الرابط بين الإبداع الأدبي والمجال يحيل على قضايا معرفية متشعبة أهمها: الهوية. ألم تر كيف تيقن ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس الهجري إجماع السالفين والباقين على أن ينسبوا المبدع إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات؟ فالعمدة عنده أن من هاجر إلى مجال الأندلس من سائر البلاد، فالأندلسيون أحق به، وهو منهم. ومن هاجر من مجال الأندلس إلى غيره، فلا حظ للأندلسيين فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به.
ولما كانت العبرة بمقصد توطيد أركان خصوصيات الهوية الثقافية وليس بذات المعيار الذي وظفه ابن حزم الأندلسي، لم يكن عجيبا عندنا أن يتخذ الدكتور محمد يحيى قاسمي نظاما في كتابه، أن من هاجر من مجال الجهة الشرقية من المبدعين الأدباء إلى غيرها من مجالات جهات المغرب، فللجهة الشرقية حظ فيه، والمجال الجغرافي الأصلي الذي هاجر منه إلى سائر المغرب أسعد به ومن سيما ذلك: محمد شكري الذي ولد في (بني شكير) من أحواز الناظور، أو محمد بودويك الذي ولد في (جرادة)، أو عبد الكريم برشيد الذي ولد في (بركان).
وأيا كانت الآراء متضاربة، فلعل نقطة التقاطع هي أن الفضاء عنصر فاعل في تشكيل أو إعادة تشكيل التجارب الإبداعية الأدبية . ومن يتأمل هذا العمل الذي أنجزه الدكتور محمد يحيى قاسمي، يلتقط ولا شك وجود علاقات منظمة بين سيرورة الأجناس الأدبية (الشعر – الرواية – القصة – المسرحية) وسيرة المبدعين الأدباء من خلال مجال مكاني مشترك هو: الجهة الشرقية من المغرب. والحصيلة هي تجارب إبداعية مختلفة ذات قواسم مجالية مشتركة. وبعبارة أخرى، هي: فروع متعددة ذات أصل مشترك، هو : الفضاء والمجال.
ولما كان التجزيء محيلا في تركيبه إلى كليات، فإن ما أنجزه الدكتور محمد يحيى قاسمي هو ببليوغرافيا مختصة تراد لذاتها لأن قاعدتها هي الترتيب والتكشيف والإحصاء، وتراد لموضوعها أيضا لأنها تفضي في النهاية إلى جزء لا يتجزأ من الإبداع الأدبي الإنساني.
وليس من قبيل المبالغة أن نذهب إلى أن هذه الببليوغرافيا تضارع في بعض أوجهها: (الببليولوجيا) (Bibliogie).
فجوهر (الببليوغرافيا) هو الترتيب والتشكيف، وما زاد عن ذلك تفصيلا وإضافة، فإنه يكون في صميم (الببليولوجيا). ومن دلائل ذلك النظر إلى الإنتاج الأدبي من جهة مقاييس الزمان (العقد) أو من جهة أماكن دور النشر، أو من جهة توزيع الأدباء داخل الجهة.
وها هنا يكون جديرا بنا الإشارة إلى بعد مغيب في الدراسات الببليوغرافية والببليولوجية: إنه البعد الإبستمولوجي، لأن الببليوغرافيا والببليولوجيا أداتان توظفان في تاريخ العلوم.
وإذا اقتنعنا بأن كتاب: (الإبداع الأدبي المعاصر بالجهة الشرقية من المغرب) للدكتور محمد يحيى قاسمي، هو تركيب ببليوغرافي – ببليولوجي، فإن إجالة النظر في هذا التركيب من زاوية تاريخية واجتماعية، تيسر لنا إدراك الحقيقة الآتية: (...في البدء... كان المكان) !!!
بدر المقري