رواية " أتصمت العصافير ؟ " - 1 -
سعيد بالانضمام إليكم ، وما زاد سروري بهذا المنتدى الجميل تخصيص قسم للرواية .
سأدخل معكم بروايتي " أتصمت العصافير ؟ " أرجو أن تشد انتباهكم
وهذا الجزء الأول :
أنا لا أتعاطى الكتابة و لست محترف كلمة ، و ما سأرويه لكم هو الذي كتبني على مر السنين ، وشم كلماته في ، فأنا أقرأها عليكم موشومة في الذاكرة و الروح بالإبر و الكحل المسحوق ، بالدم المسفوح.
لست أدري على ماذا تقبض أصابع يدي الآن ؟يختفي هذا الوجه النبيل الذي طالما تطلعت إليه مفتونا حينا وحزينا أحيانا . يطل الآن وجه غابت ملامحه ، وجه مطموس لم يبق منه سوى الإطار الذهبي للنظارة الطبية ، وشعر أبيض يطل عند الأذنين و الجبين .
تلكم هي "فطوم « الظهر المحدودب تركبني فوقه وتقف أمام الشويهات تدندن بكلام لا أذكر منه إلا النغم الحزين.
لم أنس المناوشات التي كانت بيننا ، أجذب منديلها و أنا فوق ظهرها ، فينكشف شعرها الأبيض فأغرز فيه أصابعي مقهقها ، تنزلي عن ظهرها ضاربة إياي على مؤخرتي .
-أيها الشقي ، خذ العصا و اذهب أدر تلك النعجة المجنونة .
آخذ منها العصا راكضا نحو النعجة ، وتبقى هي تصلح شعرها و منديلها . و أعود لاهثا فتقبلني على وجهي وقد أحنت لي ظهرها المحدودب لأمتطيه .
ولزمت الفراش ذات عشية فخرجت مع جدي مسعود بالغنم ، وعندما عدنا مساء كنا قد تأخرنا ، حتى إن أنوار المدينة كانت قد أوقدت فتلألأت من بعيد كالنجوم تبعث في الوحشة و الغموض .
أدخلنا الغنم إلى زريبتها ، وكان جدي مسعود ينادي عليها فلم تكن ترد عليه ، دخلنا البيت فكانت ما تزال نائمة وقد عم الظلام المكان .
أوقد جدي مصباح البترول ثم دنا منها ، وضع يده على أنفها ، ثم على معصمها .وفي صمت غطى وجهها ورفع إلي وجها شاحبا .
-لقد ماتت وحيدة .
بقيت واقفا في الركن أنظر تارة إليه و إليها تارة أخرى .لم أكن أعي تماما الذي حدث ، لكني كنت أحس أن شيئا غريبا قد حصل ،ثم رأيت جدي يجلس عند رأسها وقد وضع خديه على يديه ، ولما رفع رأسه كنت أجلس عند ركبتيه في حيرة . ربت على رأسي وقد أبصرت في عينيه دمعتين سارع إلى مسحهما .واندهشت: كيف جدي يبكي ؟!
قام في حزم فتناول إناء وخرج إلى زريبة الغنم ، ووجدت نفسي وحيدا مع جدتي ، دنوت منها وكشفت عن وجهها ، ناديتها هامسا
-جدتي ،جدتي ...
وكأن الغرفة رددت صوتي فبدا لي غريب الجرس كأنه ليس بصوتي ، ثم وضعت يدي على أنفها كما فعل جدي فكان صلبا باردا كالثلج ، رددت عليها الغطاء وعدت إلى مكاني منكمشا .
ركبني خوف غامض ، أحسست أن جدتي تحولت إلى شيء غريب لا تربطني به علاقة ...
دخل جدي و الإناء في يديه يقطر بحليب الغنم و قد شحب وجهه أكثر . قصد الموقد الغازي في أقصى الحجرة و راح يعد الحليب .كان الصمت يزيدني خوفا ، و ضوء المصباح الشاحب أحال موجودات البيت أمامي أشباحا .
قلت و أنا ألتصق بجدي :
- من الذي موت جدتي ؟
- ذهبت إلى ربها ، و كلنا يذهب يوما إلى هناك .
لم أستوعب ما قال ، كانت ما تزال ممدة في فراشها ، فكيف يقول ذهبت ؟ ولم أشأ السؤال ، كان صوته مخيفا .
ناولني كأس الحليب و كسرة خمير .
- تناول عشاءك لتقوم و تنام .
و بينما كنت أتعشى كان هو يعد لي فراشي . و قادني من يدي .
- ادخل فراشك ، سآتي بعد قليل أنام إلى جوارك .
وكنت أنظر إليه من تحت الغطاء ، فكان قابعا عند رأسها يبكي في صمت . ولا أظن أنه نام تلك الليلة ، فقد أفقت في الصباح على لغطه حيث كان يعيد ترتيب البيت .كان منهمكا في عمله فلم ينتبه إلي حين تسللت إلى الخارج ووقفت في الساحة أنظر إلى السماء ، هناك يسكن الله كما قالت لي جدتي ذات مرة . واحترت كيف تذهب إليه جدتي ؟ أي سلم عملاق ذاك الذي يبلغ السماء ؟ و قررت بيني وبين نفسي أنني لن أذهب إلى هناك، أفضل أن أبقى في الأرض .
و تحولت إلى الزريبة ، فاجتزت السياج الذي نسجه جدي بالقصب ليفصل بين الساحة و الجدول . غسلت وجهي بمائه ثم تبولت على جذع الشجرة كما يفعل كلبنا "سحاب » و عدت إلى جدي.
وجدته أنهى ترتيب البيت ، و قد غطى جدتي بإزار أبيض نظيف ، و شرع في إعداد القهوة . أشربني قهوتي و لف في مهل سيجارة أوقدها من نار الموقد ، و غرق لحظات طويلة مع القهوة و السيجارة حتى ظننت أنه هو الآخر يريد أن يذهب إلى ربه فقلت :
- جدي بماذا نصعد إلى الله ؟
فنظر في وقال كأنما يخاطب شخصا غيري:
- بيد عزرائيل.
ثم قام فجمع أدوات القهوة نظر إلي نظرته الخاصة حين يريد مني شيئا .
- سعد ، سيقصد بيتنا اليوم الناس ولا يليق بك أن تبقى هنا ، فاخرج بالغنم إلى مرج عيطر .
و أطعته :
- نعم يا جدي .
مسح على رأسي و ناولني العصا ، وسقت الغنم يتبعني كلبنا "سحاب" . و لم أفهم لماذا لا يليق بي البقاء هناك ، فرحت أرقب البيت من بعيد.
كان القوم يفدون فرادى و جماعات ، وبعض النسوة كلما دخلت إحداهن البيت ارتفع إلي النشيج و النواح . ثم رأيت بعضهم يتجه إلى المقبرة . ولما ارتفعت الشمس انتصب خط بين البيت و المقبرة لا ينقطع من رائح و غاد .
وكان شيء ما يحز في نفسي ، أحسست أن نهار اليوم له طعم خاص ، كأنه عرس وليس بعرس ، فيوم ختاني هكذا حصل لبيتنا ، حركة و ناس و نساء ، لكن مذاق اليوم كئيب ، حتى الغنم بدت عليها حال من الوجوم فكانت ترعى هادئة ، ومنها التي نامت تجتر في سكون .
حين توسطت الشمس السماء اشتد النواح في البيت ، ارتفع إلي النشيج فبلغ مسامعي متسقا منسجما كأنه هزيج ، فتحرك في أعماقي البكاء ، ورأيت القوم يخرجون يحملون شيئا يشبه السلم وضعوا عليه جدتي و قد غطوها بحائك أحمر و مشوا صوب المقبرة .
كان "سحاب " إلى جواري ينظر معي اتجاه الموكب .وحين اختفوا عن ناظري أدركت أني حرمت ركوب الظهر المحدودب إلى الأبد ، و أن جدتي ستصعد إلى السماء ، فهم حملوها على السلم لتصعد به.
عند الأصيل سقت الغنم إلى الزريبة و إحساس عميق من الحزن يقبض مجامع قلبي . وجدت القوم غادروا بيتنا إلا رجلا يبدو عليه أنه من أهل المدينة ، حاسر الرأس يمشط شعره إلى فوق ، يتحدث مع جدي و يداه تلعبان في جيبه بالنقود.
سمعت جدي يقول له :
- كثر الله خيرك يا سي السعيد سنتحدث عن هذا فيما بعد.
و كان الرجر لايصرف نظره عني . عندما استأذن و انصرف وجدت نفسي مع جدي وحيدين فوق الدكة . كنت أشعر بالجوع ، و هممت بالدخول إلى البيت ثم تذكرت أني سأجده خاليا من جدتي ففضلت البقاء إلى جوار جدي و أن أغرق معه في صمته ، غير أنه التفت إلي و همهم :
- هه، ياسعد .
- جدتي ، لماذا ذهبت إلى ربها ؟ من الذي يعد لنا الطعام ؟ من الذي يغسل لنا الثياب ؟ من الذي يحلب الغنم ؟
و أحسست بغضب مفاجئ و قد تكورت غصة كبيرة في حلقي :
- ومع من ألعب أنا ؟
و بكيت ، سالت دموعي غزيرة ، الدموع التي كانت تتجمع منذ الصبح انسكبت تلك الحظة كالأنهار .ضمني جدي إلى صدره الواسع المليء بالشعر الأبيض و ردد:
- لا تبك ، أنا الذي أعد لك الطعام و أغسل لك الثياب ، أنا الذي تلعب معه .
و بقيت لحظات أشهق في حضنه ، ولم أكن أحس بالآمان ، هيهات أن أحس ذلك ، ضاعت جدتي ، وربما أحس جدي مثلي ، فلقد كانت لحيته ترتعد فوق رأسي .
وكان المساء ظلاما في قلبي.
المفضلات