أجراس قطار عابر

عز الدين جوهري
«أستيقظ محتارا/ لكن... ما من شاطئ/ فالقدرة وهنت والخطوة شُلّت...،/ والنظرة ضاقت وتدّنت حتى الصفر/ لا زالت تذوي.../ تتضاءل.../ تحت.../ الصـ.../فـ.../ر.../= (0)... بل/أصفارا»!!
على هذا النحو الشفّاف والمبهم في آن واحد، يختم الشاعر السعودي سعد الحميدين قصيدته «غيوم يابسة»، والتي تحمل اسم مجموعته الصادرة لدى «دار المدى». هواجس لا تنفكّ تحفر في دواخله ولواعجه صنوفاً من التيه والعراء، لكأن ثمة أمراً غامضاً أو عصيّاً... كأنها غيوم يابسة لا مطر فيها بالفعل، أو «قامات تجري دون رؤوس.../ هامات تبرك في الطرقات/ وتعطس خلف كعوب الماشين...». ذلك هو حال مشهدنا الثقافي؛ مشهد أشبه ما يكون بـ«الأرض اليباب» استعارةً من أليوت.
لكنه (الشاعر) لا يستكين ولا يهدأ ولا يستسلم لهذه الهواجس وتلك المؤرّقات، فتراه «يعجن الأحرف والكلمات، ويحرث ويزرع الأوراق» تلبية لنداء قصيّ مقبل من الأعماق ومن ثنايا الذاكرة المثقلة بسنوات مضنية وشاقة، وبترحال محموم في دنيا الثقافة والأدب.
هذه الهواجس والنداءات التي تتكرّر في أغلب القصائد، لا تأتي عبثاً، بل يستنجد بها الشاعر للوصول إلى المعنى المراد، ويستعين بها لنكتشف أين تختبئ الصرخة، وكيف يفيض الحنين، ومتى تشتعل نيران الذاكرة... ففي التقصّي والإيغال في ثنايا النفس تغدو الكلمات أحياناً عاجزة، ومكرورة كما يقول كعب بن زهير: «ما أرانا نقول إلا معاراً/ أو معاداً من قولنا مكرورا».
وفي غمرة القضايا السياسية والثقافية المثارة في العالم العربي، نجد الشاعر في واقع تتعاضم فيه المشاكل وتزداد فيه الهوّة اتساعاً، منساقاً وراء قضاياه أو قضايانا جميعاً، فيروح ينفث من أعماقه زفرات تحكي محنة فلسطين، فيكتب في قصيدة «الشهيد الجديد»: «... وبعد المجازر والسلب والنهب وهتك العروض/ نموت جميعا ًشعار الشباب/ شعار الصغار قبل الكبار لأجل الوطن/ فعيش الكرامة أبهى/ وموت الكرامة أشهى/ إلى أن يعود الوطن...».
هنا نجده (الحميدين) لا يكترث كثيراً بالبلاغة اللغوية، ولا يهتمّ بالاستعارات والصور المجازية، بل يشير إلى الجرح النازف بأكثر المفردات بساطة ويسراً، فالموت المعلن واليومي والمجاني وبشتى الأدوات والوسائل، لا يترك مجالاً للصنعة، إذ سرعان ما تخبو هذه الصنعة خلف نبرة الانفعال والعاطفة. وتتكرر هذه السمة في قصيدة «الساعة الثامنة والأربعين» التي كُتبت أيام الحرب الأميركية على العراق، والتي يشيد فيها الشاعر بعراق الحضارة والتاريخ والأدب، والذي حوَّلته الحرب إلى ساحة لا تنبعث منها إلا روائح الجثث. يقول الحميدين: «عراق/ يا بلاد الماء والنخيل والتاريخ/ بغداد يا مدينة الرشيد.../ عراق يا بلاد الأسودين/ تمر وماء.../ في الساعة الثامنة والأربعين/ تساقط الشرار والحمم.../ كما المطر/ لكنه من اللهب...». في هذه القصيدة ثمة محاكاة مؤلمة لقصيدة بدر شاكر السياب «أنشودة المطر»، لكن مطر السيّاب الذي بشّر بعراق خالٍ من الجوع، استحال هنا لهباً أحرق «أجنة الزهر»، فكأن الحميدين هنا يعارض، بعد عقود أربعة، تنبؤات السيّاب، رغم اتفاقه معه في أن المحنة لن تستمر طويلاً: «ما أصعب أن تمتلخ جذوره/ لأنها في العمق غذيت/ سقيت من قبل ومن بعد/ بالماء/ دم الجدود في الجذور/ تنمو به مدى الزمن/ مبتعد عن الخدر».
وفي سياق تلك القصائد/ الهموم غالباً ما يتكئ الشاعر على مقاطع وأبيات لشعراء عرب، فيتماهى معها، ويبني عليها قصيدته التي تتقاطع في بنيتها مع صور وأفكار سابقيه ومجايليه من الشعراء، مثل محمود درويش، وعبد الوهاب البياتي، والجواهري، وعلي محمود طه، وبدوي الجبل، ونزار قباني وسواهم.
وتصديقاً لمقولة إن الشاعر لا يرثي إلا شاعراً، ها هو الحميدين يخصص قصيدة يرثي فيها الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان بوجدانية مؤثرة تبكي زمن جميلاً لم نعد نراه إلا طيفاً عابراً، وهي أشبه برثاء للنفس وللشعراء الذين احترقوا بوهج الإبداع وناره كي يظلّ «ديوان العرب» مضيئاً. يقول في قصيدة «شاعر الشعر»: «عاش من أجل البشر/ مات من أجل البشر/ قال ما قال ليبقى/ أثراً منه هدايا للبشر/.../ سطره سفر/عبارته قصيدة...».
«غيوم يابسة» تطوّر مهم ليس في تجربة الحميدين الشعرية فحسب، بل في تجربة الحداثة الشعرية السعودية عموماً، وهو من روّادها... مع ملاحظة أن شاعرنا بات يميل إلى العبارة المكثّفة الموجزة، والموحية، دون أن يركبه وهم بأن مهمة الشعر تغيير وجه العالم، أو إحداث ثورة فيه. وها هو يستشهد في ذلك بما يقوله نزار قباني: «كل شعر ليس فيه غضب العصر نملة عرجاء... الفدائي وحده يكتب الشعر وما نقوله هراء»؛ بيد أن هذا الهراء الجميل والعذب لا بدّ من أن يكون حاضراً كي يستقيم مسار الحياة.