الضفــدع والقــــلادة


اليوم يوم أحد . لقد تعمـّد عثمان الاستيقاظ متأخرا ، لأنه ملّ من النهوض كل يوم باكرا من أجل الذهاب إلى المدرسة . جلس في فراشه ثم تثاءب ، ومط يديه إلى الأعلى . حملق حوله ثم ضغط على الزر الموضوع على طرابيزة على يمينه ، وما هي إلا دقائق معدودة حتى قرعـت الخادمة الباب قرعا خفيفا مستأذنة عـليه .
ــ ادخلي يا نعيمة .
فتحت نعيمة الباب بلطف ، ولما ولجت إلى الداخل ، وقـفت أمام سرير عثمان . وضعت يداها خلف ظهرها وبابتسامتها الحلوة سألته :
ــ ماذا يريد سيدي ؟
ــ الفطور من فضلك يا نعيمة ، قـبـل أن يرتد إليك طرفك .
ــ أمهلني بعض الوقت يا سيدي ، ريثما أقوم بتسخينه ثم سأحمله إليك في الحال .
على عجـل انصرفـت نعيمة إلى المطبخ ، وبخفتها المعهودة قامت باللازم ، ووضعت كأسيـن وإبريقي القهوة والحليب فوق الصينية ومعهما قطع من الجبن والخبز ، ومربى المشمش وحملت الجميع إلى سرير عثمان . عادته كالنصارى فهو يتناول فطوره فوق سـرير نومه . لما انتهى منه . غادر سريره وهـو ما زال يـرتدي منامته . فتح نافذة غرفة نومه التي كانت مغلقة ، ووقف يتأمل ما يقـع في الخارج . في الشارع المقابل لغرفته كانت هناك نافذة غرفة أخرى مفتوحة وكانت تطل منها فتاة آية في الحسن والجمال . رنا إليها وهـو يراقب كل حركة تصدر عنها . في المقابـل كانت الفتاة واقفة وراء النافذة ترنو إليه هي الأخرى وتراقـب حركاته. لما التقـت نظرات الاثـنيـن تبادلا ابتسامة تشي بالشيء الكـثير من المعاني . أغلقـت الفتاة النافذة ، وعـيناها سهمان مصوبان نحوه والابتسامة لا تفارق محياها .
في صباح الغد ، في طريقه إلى المدرسة أبصر عثمان أمامه فتاة البارحة حاملة فوق ظهرها محفـظتها وهي متجهة نحو المدرسة . أسرع مشيه حتى أصبح محاذيا لها فقال لها :
ــ صباح الخير يا وردة الحي .
لم تجبه ، ولم تلتـفت إليه . تابعت سيـرها وهي تسرع الخطو . لكنه لم يستسلم ولم ييأس . أسرع بدوره إلى أن التحق بها من جديد فقال لها :
ــ أنا جارك هـل نسيت ، البارحة كنت واقفة وراء النافذة
و .....
لم تتركه الفتاة يتم كلامه ، التفـتت إليه والابتسامة مرسومة على محياها فقالت له :
ــ المعذرة ظننتك ذاك الذي يضايقني في طريقي ، وعندما لا أكلمه يشبعني شتما وينصرف .
ــ أعتـقـد أنكِ متوجهة نحـو نفس الثانوية التي أدرس فيها .
ــ أنا أدرس في ثانوية الخوارزمي .
ــ وأنا أيضا . لكـني لم يسبـق لي أن رأيتك من قـبـل .
ــ أنا حديثة العهد بالمدينة والمؤسسة . لقد اضطررنا للمجيء إلى هذه المدينة بسبب عمل أبي الذي عيـن مؤخرا هنا .
ــ نسيت أن أقدم لك نفسي . أنا اسمي عثمان .
ــ وأنا ريحانة .
ــ اسم جميل ، أنت فعلا اسم على مسمى .
ــ شكرا ، هـل هذا مدح وإطراء فقط من أجـل الإغـواء ؟
ــ لا أبدا ، بـل هـو كلام صادق خارج من الأعماق ، معبر عما أحس به نحوك مـن غيـر مبالغة أو نفاق .

تابعا طريقهما نحـو المؤسسة وهما يتجاذبان أطراف الحديث بينهما . لما وصلا كان التلاميذ قد التحقوا بأقسامهم . ودع كل واحد الآخر على أمل الالتقاء غـدا في نفس المكان ، وهو ما تم بالفعل . توالت اللقاءات بين الطرفيـن وتوطدت علاقة المحبة بينهما وتواعدا بالزواج . عثمان كان يدرس في قسم الباكالوريا علمي ، وريحانة نفس الشيء لكنهما لا يدرسان في قسم واحد . في نهاية السنة نجح عثمان في الامتحان ، بينما ريحانة كان نصيبها الفـشل والحرمان . نجاح عثمان فـرض عـليه الانتقال إلى مدينة أخرى من أجـل متابعة دراسة الطب . أما ريحانة فرسوبها للمرة الثانية حتم عليها مغادرة الدراسة ولزوم البيت .

أمضى عثمان كـل سنوات الدراسة بتـفـوق ، وظلت ريحانة على عهدها تنتظره كما وعدته ، لم تتزوج ولم تـقـبل طلبات الخطبة التي عرضت عـليها . لما عاد إلى مدينته بصفة نهائية ، أقامت عائلته الأرستقراطية حفـليـن . حفل إتمام دراسته بنجاح ، وحفل اقترانه بمن أحب وأخلص لحبها . زواج عثمان دفعه إلى الاستقلال للعيش مع زوجته في إقامة خاصة أهداها إليه والده الميسور الحال . عاش عثمان مع ريحانة حياة سعيدة ، لأنها كانت مبنية على أساس الحب المتبادل بيـن الطرفـين ، رزقا خلالها ابنة أطلقا عليها اسم هبة . كبـرت هبة وأصبحت مراهقة ، وكانت تشبه إلى حد بعيد والدتها . في عامها الخامس عشر اشتد المرض على ريحانة أمها ولم يمهلها طويلا ، لقد توفـيت بسبب مضاعفات صحية ظلت تعاني منها منذ أن أنجبتها . الأم قـبل أن يأخذها الردى كانت قـد أهدت هبة القلادة التي أهداها إليها عثمان كمَهر بمناسبة زواجه بها وأوصتها أن تعـتني بها وتحافظ عـليها كـتـذكار منها .

موت ريحانة أثر كثيرا في هبة التي أصبحت انطوائية . لقد شاهدت لحظات احتضار أمها ، تلك اللحظات التي انطبعـت في ذاكرتها ، وأصبحت كظلها لا تفارقها أبدا . أغلب أوقاتها الفارغة كانت تقـضيها داخل غرفتها في اللعب مع قطتها التي كانت تؤنسها في وحشتها . لماما ما كانت تخرج إلى حديقة المنزل للعب . فيها كانت هناك أشياء عديدة ـ الأرجوحة ، المسبح ..... ـ لها ذكريات مشتركة مع أمها . ورؤيتها كانت تحدث في نفسها كـُلوما عميقة الغور . لهذا كانت تتجنب الخروج إليها .

مـرت سنتان على رحـيل ريحانة ، خلالهما لم تغير هبة من عاداتها شيئا . لكنها في أول يوم من أيام عطلة الربيع تشجعت وخرجت إلى الحديقة وفي يديها قطتها . هذه الأخيرة كانت تموء دون انقطاع ، وتحاول الإفلات من يديها ، مما اضطرها إلى وضعها فوق الأرض لمعرفة ما ذا تريد . بمجرد ما لمست أرجل القطة الأرض ، انطلقـت مسرعة كالسهم نحو الأشجار ، واختـفت عـن الأنظار . تبعتها هبة ولما لم تعـثـر عـليها ، تابعت تجولها في الحديقة إلى أن وصلت إلى الجبّ الكائن فيها . وقـفـت بمحاذاته وبدأت تحملق بعيـنيها في كـل الاتجاهات علها ترى قـطتها . لما أيست من العثور عـليها ، جلست فـوق البناء المحيط بجوف البئر كي تستريح قـليلا ، وأطلت عـليه كي ترى ما بداخله فسقـطت فيه القلادة التي أهدتها أمها . البئر عميـقة ومملوءة بالماء ولا سبيـل لاستعادتها وانتشالها منه . أسلمت هبة أمرها لله أمام عجزها ، وبدأت تبكي نادبة حظها التعس الذي أوقعها في هذه الورطة ، وعندما كانت شاردة الذهـن تفكر في أمر القلادة سمعت صوتا يكلمها ، ويطلب منها الاقتراب من البئر . نظرت حولها فلم تر شيئا . أطلت عليه من جديد فرأت ضفدعا لا غير ، وسمعت صوتا يقـول لها :
ــ كـفكـفي دمعك وأبشري .
ــ أبشر بماذا أيها الصوت ، من يكلمني ؟
ــ أبشري بزوال الغمة ، ورجوع الهمة .
ــ لم أفهم .
ــ سوف أعيد إليك قلادتك ، لكن قـبل أن أفعـل لدي شرط .
ــ وما هــو هذا الشرط ، قله وخلصني من فضلك من هذا القنوط ؟
ــ شرطي نبيـل وبسيط ، لا أروم من ورائه إلا كسب مودتك وصداقتك .
ــ لكن أصادق من ، كـل ما أسمعه هذا الصوت الذي لم أتبين صاحبه ؟
ــ لا تتعجلي الأمور، كـل شيء بميقاته ، وفي غـرفتك سوف تفهمين ما لم تفهميه الآن .
ــ أنا موافقة شريطة استعادة القلادة التي ضاعـت مني في قاع الجب .

ما أن أكملت هبة كلامها حتى رأت القلادة موضوعة أمامها ، أخذتها بسرعة ، ورجعت هاربة إلى غرفتها وفي نيتها ألا تفي بوعدها. داخل الغرفة وجدت قـطتها ممددة فوق سريرها . حملتها وبدأت تلاعبها وتمرر يدها اليمنى فوق ظهـرها ، لكن سرعان ما بدأت القطة تموء بشكـل متوال رافضة البقاء بين يدي هبة . أمام إلحاحها ، ما كان من هبة إلا أن تركتها حرة طليقة لترى ماذا تريد . فرت القطة من الغرفة على غيـر عادتها ، تاركة إياها في حيرة من أمرها ، ومحاولة فهم ما يقع . أثناء حيرتها وسورة غضبها رأت ضفدعا بجانبها فركلته بكل ما أوتيت من قوة ظانة أنه مجرد لعبة من لعبها البلاستيك . اصطدم الضفدع بالحائط وسقـط صريعا على أرض الغرفة . لنسيان ما وقع هرعـت هبة إلى سريـرها واسترخت فوقه . لما حضر وقت العشاء انتظر عثمان مجيء ابنته للأكـل لكنها لم تفعل . قام وذهـب من أجـل دعوتها شخصيا . لما فـتح الباب انتبه إلى الحائط الذي كان ملطخا بالدماء . نادى على هبة مرات ومرات لكنها لم تجبه . لما اقترب منها ووضع يده فوق جسدها كي يوقظها بلطف ، لاحـظ جحوظ عينيها ، وعنقها المشنوق بقلادة ريحانة . حـركها عثمان بعـنف وناداها بصوت عال لكن دون طائل .



أحمد القاطي : شاعر وقاص من المغرب