آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: أتصمت العصافير ؟ - 4 -

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية خليف محفوظ
    تاريخ التسجيل
    19/12/2008
    المشاركات
    130
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي أتصمت العصافير ؟ - 4 -

    إهداء : إلى الصديق خلوفي عدة



    الفصل الثاني


    وحدقت في عيني جدي ذاك المساء فكان بهما الذبول ، توارت الحدة القاسية ، وخبا البريق المتوهج ، قال لي بصوت هادئ ، صوت خال مما كنت أعهده فيه من اندفاع و إصرار :
    -سأدخلك إلى المدرسة غدا .
    و هزتني المفاجأة
    -أصحيح يا جدي ؟ أدخل المدرسة و أكون مثل أولئك الأطفال ، و تكون لي محفظة و أقلام و دفاتر ؟
    كان يتأملني بنظراته الذابلة ، و كنت فرحا مثرثرا .
    أذهب إلى القرية كل صباح ! ألعب مع الأطفال ! ولكن من يرعى لك الغنم يا جدي ؟
    وأمسكني من يدي .
    - كنت أنوي ألا أدخلك المدرسة ، كنت أريد أن أكون أنا معلمك ، لكني فكرت ، قد لا يسمح العمر بذلك ، ذرية الشيب يأكلها الذيب يا ولدي ، يجب أن تدخل المدرسة يا سعد ، في المدرسة لا نلعب ، في المدرسة تتعلمون كيف تكونون رجالا .
    و قام إلى الصندوق الخشبي في زاوية البيت - الصندوق الذي كانت جدتي تضع فيه متاعها منذ زفافها إلى جدي - و أخرج محفظة سوداء ناولني إياها قائلا:
    -فيها دفاتر و أقلام ، من الغد ستبدأ حياة جديدة ، ينطلق بكم المعلم من الهمزة إلى الياء ، فاحرص على أن تكون من الواصلين .
    كان صوته هادئا و جميلا فأحدث في نفسي أبلغ الأثر ، ورسم خيالي صورة دافئة للأطفال و المعلم و المدرسة فنمت ليلتها متوسدا محفظتي .
    في المنام رأيت جدتي ، كانت واقفة عند الجدول ، اختفت حدبتها ، و امتلأ جسدها ، شدت شعرها ضفائر سوداء أرسلتها على صدرها ، تنظر إلي بعينين باسمتين و تشير لي أن : اقترب . اقتربت حتى صرت قاب قوسين أو أدنى ، فلاحت لي منها ملامح المرأة التي لقيتها عند العين ، و أطبقت علي ذراعيها فكان الملمس دافئا عذبا ، وكنت أنشج بين ذراعيها .
    في الصباح كنت بمحاذاة جدي نتسمت القرية ، وكانت صورة الحلم لا تبرح ذهني . كان جدي يحث الخطى غير ملتفت إلي ، وكنت أتعقبه أسائل نفسي : كيف بدت لي جدتي في الحلم على تلك الصورة ؟ ثم كيف انقلبت فلم تعد جدتي ؟ و تذكرت أني لم أعرف من جدي من تكون أمي فعاودني حنقي عليه.
    و دخلنا القرية فرأيت جدي يفتل شاربه الأشيب ، أمسكني من يدي و قال مشيرا إلى بناية منعزلة محاطة بالسياج تجمهر أمامها أطفال كثيرون .
    - هذه هي مدرستك ، ستأتي كل يوم إلى هنا وتعود مع الطريق الذي سلكناه.
    ودنونا من البوابة فكان هناك رجال يمسكون بأيدي أولادهم ، و نظرت إلى يد جدي الخشنة فألفيتها تقبض على على سيجارة انعقف رمادها على وشك السقوط . و كان الأطفال يتحركون في كل اتجاه يتباهون بملابسهم الجديدة ، وفي الساحة أخرجت طاولتان وقف خلفهما جماعة من الرجال بدا لي أنهم المعلمون .
    وعوى شيء مثل الذئب فسألت جدي فقال إنها المدرسة تعلن أوان الدخول . وفتح الباب فاندفع الأطفال في غير نظام ، بينما انتحى الرجال الماسكون بأيدي أولادهم ناحية وقف بي جدي فيها معهم . وجاء معلم ذو نظارات سميكة فأشار لهم أن ينتظموا في طابور أمام الطاولتين حتى يتسنى لهم تسجيل الأطفال الجدد . و كنت مع جدي آخر من في الطابور .
    كنت أتأمله فكان صامتا لا يكلم أحدا ، وبدا لي لحظتها أن ظهره قد احدودب من غير أن أنتبه إليه ، وأن وقفته المتشامخة أخذت تنكسر ، وأن طوله الفارع قد أظهر هزاله بصورة منكرة .
    وجاء دور جدي كي يسجلني فانتحى بالمعلم بعيدا عني ، وراح يهمس له بكلام لم أفهم منه غير استغراق المعلم في الإصغاء ، وغير هزة رأسه الخفيفة ، ويده التي مررها على ذقنه ، ثم النظرة الخاصة التي صوبها نحوي .
    وانصرف جدي بعد أن صافح المعلم من غير أن ينظر إلي فأحسست كأنه يسلمني إلى المعلم نهائيا ، فانقبض قلبي ووددت لو أعود معه إلى البيت .
    جاءني المعلم فمسح على رأسي و قال :
    - أنا معلمك " أحمد" و هؤلاء الأطفال زملاؤك في المدرسة و إخوانك .
    و دفعني إلى الجمع فظللت منكمشا .
    أدخلونا قاعة كبيرة صفت كراسيها و طاولاتها في أربعة صفوف متوازية ، أجلسنا فيها مثنى مثنى ، و كان الذي يجلس إلى جانبي طفلا أزرق العينين لا يكف لسانه عن الحركة ، بادرني بالسؤال عن اسمي و مسكني ، ثم راح يغني بصوت خافت عن طاكسي الغرام ، مسابق الحمام ، مقرب البعيد .
    ودخل المعلم أحمد رفقة جماعة من المعلمين فعم الصمت ، ولمحت المعلم أحمد يشير إلي بطرف خفي فانصبت علي أعين رفاقه في نظرة هي نفسها التي رمقني بها هو لما همس له جدي . وأحسست بالحرارة تصهد وجهي و أذني ، و صرخ في أعماقي السؤال " لماذا ينظرون إلي هكذا ؟ " و لم أعثر على جواب فغرست نظري في الطاولة المخربشة.
    وشرع المعلم أحمد في المناداة ، وكلما صاح على اسم أحدنا أجابه : حاضر سيدي . ولما بلغ أسمي ترددقليلا ثم ناداني
    - سعد .
    فقلت من غير أن أشعر
    - حاضر جدي .
    فضج القسم ، و ضحك المعلمون إلا أحمد فظل يرمقني بنظرته الأولى .
    ولكزني رفيقي
    - اسمك سعد فقط ؟
    ونظرت في عينيه الزرقاوين و لم أجبه ، وأردف يقول
    -لا تقل للمعلم جدي .
    و ضحك ثم عاد إلى غنائه الخافت المضطرب .
    في المساء عدت إلى البيت و قد تهشمت الصورة الجميلة التي رسمتها للمدرسة و الأطفال.
    كان "سحاب " في استقبالي مرحبا بذنبه عند الجدول ، وكنت منكسر الوجدان .





    هذا جدي قد أدخل الغنم زريبتها وهو قابع عند العتبة يتصاعد خيط سيجارته يرقبني قادما إليه وقد شرد ذهنه . ترى فيم يفكر ؟
    جلست جنبه ، بادرني بالسؤال :
    - هه، كيف قضيت اليوم بالمدرسة ؟
    - لم نبدأ بعد ، قضينا كل الوقت جالسين في القسم .
    -ستبدأون فلا تستعجل .
    وهز رأسه ، ثم تمتم بما لم أفهم .فقد صار كثير التمتمة كأنما هو يخاطب أشباحا لا أراها .
    -جدي ، كل الأطفال لهم اسمان في القسم إلا أنا ، لماذا ؟
    وخرج من غيبته لحظة كأنما لكز ، ثم عاد إلى هدوئه العميق قبل أن يجيبني :
    - لايهم كيف تسمى ، الذي يهم هو أن تكون الأول دائما في القسم .
    وأدركت أنه يراوغني فصمتت.
    دخلنا البيت فشربنا قهوة المساء ، فقد أحسن جدي إعدادها ذاك المساء ، إذ زكمتني رائحتها فانفتحت روحي على نشوة غامضة ،،، غسق المساء ،،، أشباح أشجار الصنوبر والسرو في الأفق ،،، أسراب الطيور الضاربة في الفضاء تسابق الظلام ،،، تكوري في الفراش و ابتهالي العميق إلى الصورة أن تجيء ثانية في المنام ، ان تجيء مرة أخرى أملأ منها عيني .
    ولم تجئ الصورة بالحلم فخرجت أفتش عنها في اليقظة .
    أكثرت من الذهاب إلى العين ، عساني ألقى التي سألتني عن أمي فأبحث في وجهها عن ملامح الصورة ، ولم أكن لألقاها قط .
    وفطن جدي الى ذهابي المنتظم كل يوم أحد إلى العين ، فلم يمنعني . صار جدي يرقبني من بعيد ، لا يأمرني ولا ينهاني ، حتى الغنم لم يعد يأمرني برعيها ، باع معضمها ، ولم يبق الا على ما نشرب لبنها ،صار يعد كل شيئ بنفسه ، ، إعداد الطعام ، رعي المتبقى من الغنم ، غسل الثياب ...
    أحسست أنه يتعمد الانسحاب من حياتي ، وأنه فعلا يسلمني الى المدرسة ، المدرسة التي لم أكف عن البحث في وجوه بناتها عن وجه يشبه الصورة التي رأيت في الحلم ، وجه فيه بعض من العينين العميقتين ، ولم يكن ، كل العيون كانت خالية من ذلك الشيء الغامض ، السحر الذي حرك وجداني لحظة الحلم فانجذبت نحو الصورة وتهت و شاع في قلبي الحنين الى ما لست أدريه .
    في الفصل كنت صموتا لا يحركني الا استجواب المعلم ، وأجيب فيعجب لجوابي ويعلق مازحا .
    -إنك تفكر تفكير الكبار يا سعد .
    وفي حصة للتربية الدينية كان يحدثنا عن منزلة الوالدين عند الله ، كان مستغرقا في شرحه ، وكنت مستغرقا في سؤالي أمي من تكون ؟
    فتلوح لي صورة الحلم ، بعض من جدتي ، وبعض من امرأة العين ، وبعض آخر لا أعرفه.
    ولم أدر كيف خرجت من صمتي .خطر في نفسي أن المعلم أحمد يعرف كل شيء فسألت :
    -سيدي، من هي أمي ؟
    والتفتت نحوي الابصار محملة بالاستغراب والاستنكار ، وصمت المعلم ، ولكزني زميلي أزرق العينين
    - كيف تسأل المعلم عن أمك؟
    احتار المعلم لحظة ثم أشرق وجهه
    -في الحقيقة نحن في هذا القسم كلنا إخوة لأن أمنا واحدة هي حواء ، وأبانا واحد هو آدم ، فأمك الحقيقية وأم كل زملائك هي حواء.
    وهمست تلميذة خلفي لزميلتها :" أمي أنا اسمها سعدية ".فأحسست نحوها بالغيرة .
    وتهامس بعض التلاميذ وضحك بعضهم فعاد المعلم يدق على مكتبه
    - صحيح أمهاتنا يختلفن ، لكن أمنا الأولى هي حواء ، ثم إننا نحن المسلمين لنا أكثر من أم واحدة ، فكل زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، وخديجة زوجة النبي عليه السلام هي أم المؤمنين الأولى .
    وراح يروي لنا في إسهاب بداية الخلق والتكوين ، تمرد إبليس وتواطأه مع الآفعى لإغواء حواء حتي تغري آدم بالأكل من الشجرة المحرمة فيحل بهما غضب الله فيطردهما من الجنة إلى الأرض ، هناك حيث تبدأ المتاعب فيقتل أخونا قابيل أخاه هابيل ، ويبدأ الإنسان مسيرته مضرجة بالدم و الخطيئة ، خطيئة ودم بلا ندم . وتوالى الأنبياء تباعاعبر الزمن عساهم يوقفون الخطيئة ، فما نجحوا إلا قليلا ، حتي جاء سيدنا محمد آخر الأنبياء ، فأرسى قواعد الخير للناس ، فكانت زوجاته أمهاتنا ، وفتح بعضنا قلبه لبعضنا ، وصرنا إخوانا لا فرق بيننا ، أبونا آدم وأمنا حواء و ربنا الله .
    كان المعلم يتحدث بصوت شجي سحر التلاميذ فسكنوا كالتماثيل ، وكنت مأخوذا بما فعل الخطأ و الدم . مستنكرا سلوك حواء وفعلة قابيل مكبرا ما عناه الأنبياء .
    في المساء عدت إلى جدي يملأني فرح غامض ، عانقت "سحاب" الذي استقبلني عند الجدول يكاد ينطق . جعلت له محفظتي في فمه فعض عليها من عروتها وسبقني إلى البيت جذلا ،كأنما أحس ما أحدثته المدرسة من تغيير في مجرى حياتنا فراح ينتظرني مشوقا كل النهار.
    ====
    في الليل كان جدي يتربع فوق حصيرة جرداء، جالسا القرفصاء ، أمامه مجمرة متوهجة فوقها إبريق الشاي ، بإحدى يديه سيجارته التي لا تكاد تغادر إصبعيه .
    كنت أحكي له ما سمعته من المعلم في المدرسة ، أحكي مسهبا ، مندفعا ، مرخيا العنان لخيالي ليجمل ما أشاء و يقبح ما أشاء ، وإني أكره حواء ، هذه التي يقول عنها المعلم إنها أمنا جميعا ، فهي مسببة الشقاء بتحالفها مع الشيطان ، مخرجتنا من الجنة إلى الأرض الخلاء .
    وأمن جدي على قولي :
    -نعم ، كان بإمكانها أن تتفطن إلى مكر إبليس ، لأنها أمكر منه ، لكن طبعها المعوج دفعها إلى أن تجر آدم الى المأزق.
    وحدثته عن الآنبياء فأنصت إلي مندهشا
    -رائع ما تقول ، لقد صرت تتحدث حديث العلماء ، أنت تكبر الآن ، خذ دخن هذه السجارة ، شاركني وحدتي قليلا .
    وجذبت نفسا تمزقت له رئتاي ، وقهقه جدي قهقهة غريبة ، قسوة و سخرية وشيء لا يفســر لمحته في العينين الذابلتين .
    - هه ، وماذا بعد ؟
    و أسمعته رواية المعلم أن زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، و أني أفضل أن تكون خديجة هي أمي ، إني أحسها قريبة مني .
    وحكيت له عن الصورة التي شاهدت في الحلم فكان ينصت إلى في استغراب ، وكان الجمر يتوهج ، و الإبريق يخور ، و "سحاب" ينبح في الخارج نباحا خشنا ، وكان قلبي ينفتح لجدي ، إذ منحني السمع فلم يعد ينهرني حين شغلت نفسي بأمور كان يعدها تافهة .
    ناولني نفسا آخر من سجارته وقال .
    -خذ نفسا، أنت كبرت ، وستكون أعظم تلميذ في المدرسة .
    وكانت السجارة التي أحرقت بعدها الآلاف.


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية قطر الندى
    تاريخ التسجيل
    22/11/2008
    العمر
    38
    المشاركات
    260
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 4 -

    ما زلنا ننتظر يا سعد عند بوابة الرواية
    (وكانت السيجارة التي أحرقت بعدها الآلاف )
    تلهو بدقائق الانتظار وتطوي أوراق المسافة
    سأنتظر عند نافذتي أسامر عزف المطر
    لنكمل الرواية
    أسجل مروري أستاذي دمت بألق


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية خليف محفوظ
    تاريخ التسجيل
    19/12/2008
    المشاركات
    130
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 4 -

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قطر الندى مشاهدة المشاركة
    ما زلنا ننتظر يا سعد عند بوابة الرواية
    (وكانت السيجارة التي أحرقت بعدها الآلاف )
    تلهو بدقائق الانتظار وتطوي أوراق المسافة
    سأنتظر عند نافذتي أسامر عزف المطر
    لنكمل الرواية
    أسجل مروري أستاذي دمت بألق

    طوبى لعصافيري بمرورك يا قطر الندى

    وها هي تغرد لك في ساعة من السمر المختلس الجزء الخامس .

    تحيتي


  4. #4
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: أتصمت العصافير ؟ - 4 -

    مع هذا الفصل لم أستطع مغالبة دموعي .. فما أشقى طفل يشعر بوحدة باحثا عن حنان الأمومة .. وأتمنى ألا يأخذ هذا الطفل في الأحداث المقبلة موقفا سلبيا من النساء ,, بعدما قيل له هذا الافتراء الذي لا يؤيده نص ديني .. أن حواء هي التي أخرجت آدم من الجنة .. وأتوقع أن يبني على هذه المقولة تغيرا في شخصية الطفل .
    لذا سأنتقل بسرعة إلى التصفح الخامس كي أشفي غليل الفضول .


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •