قراءة في رواية : مجرد لعبة حظ ( 1 )
لإبراهيم درغوثي

الباحثة : سمية بولقشر
الجزائر





يعد العمل الروائي تجربة مميزة يمر بها المبدع ، فهي " جنس أدبي مجرد ومدمر لسائر الأجناس ( 2 ) ، لأنها منفتحة و غير منتهية ، وشاملة تتضمن الكثير من الفنون الأدبية و القيم . لهذا لقيت أهمية بالغة من النقاد و الباحثين ، إنها جنس عاكس لنزاعات الحياة الواقعية بكل تناقضاتها ، هذه التناقضات التي لم تجد خيرا من الشخصية لتجسيدها بصفتها العنصر المهم في العمل الروائي ، فهي تؤثر في سير الأحداث وتوجهها ، من خلال تحركاتها والعلاقات القائمة بينها ، فمن خلالها يستطيع الأديب بناء عمله الفني وتطويره لإيصال رسالة معينة يسعى لتوضيحها وتطوير معالمها وأبعادها.
إنها كائن ورقي ، كائن حي فنيا فقط ، من عالم الأدب والفن والخيال. و لا يمكن أن تنتسب إلا إلى هذا العالم. والروائي هو الوحيد القادر على تجسيد صفاتها وملامحها وسماتها ليجعل لها في عالم الرواية موقعا حيا ويرسمها رسما دقيقا ليصبح لها كيانا وموقعا روائيا يحيل إلى دلالات ومعاني متعددة ومختلفة.
ينشئ الكاتب الشخصية من نسج خياله، فإن طلبنا البحث عنها في الواقع لا نعثر لها على أثر وجود . يلبسها الكاتب آراءه و أفكاره ويحملها قضاياه وتناقضات عصره . لكن لا يعني هذا أنها شخصية خيال محض ، فقد تكون شخصية مستقاة من التاريخ والواقع . في هذه الحالة يلبسها أدوارا وصفات وآراء " انطلاقا من شخوص عاشت وجود فعلي في التاريخ " 3 . فقط على المبدع أن يتصرف فيها بالزيادة والنقصان ليلائم تصوره ومذهبه وإيديولوجيته التي يريد توضيحها من خلال الشخصيات والعمل الروائي لأن طبيعة الفن تقتضي التعديل والتغيير انطلاقا من المواد المرجعية الخام.
ولما للشخصية المتخيلة من حيوية وحركية في العمل الروائي ارتأينا أن نبحث وننظر في هذا النوع من الشخصية في أعمال ابراهيم درغوثي ، و سنحاول الكشف عن هذه الشخصية من خلال رواية " مجرد لعبة حظ" . هذه الرواية الحديثة العهد بالصدور ، متوسطة الحجم ـ تبلغ حوالي مائة وخمس وخمسين صفحة ، بطبعة أنيقة جدا ،للمدينة للنشر، جاءت على شكل مذكرات شخصية أو سيرة ذاتية ، مكونة من فصول ، وكل فصل مكمل للآخر ، يتناوب على روايتهما كل من الزوجين : بثينة وفائز. كل واحد يفضي بما بداخله من أسرار ونوايا تجاه الآخر. هي عبارة عن كشف للمستور في حياة الزوجين ، كشف لخبايا شعور كل طرف ورغبة في الانتقام والتخلص من الآخر. وقد استعمل الكاتب تقنية ال" فلاش باك " أو الاسترجاع لسرد أحداث الرواية . وبهذا يكون الروائي قد خرق سنن الشكل ، وخالف المألوف في توظيف الشخصيات . فمن العادة استعمال أكثر من شخصيتين في الرواية، وهنا استعمل الروائي شخصيتين رئيسيتين فقط مع شخصية ثانوية لها دور فعال في بناء أحداث الرواية وسيرها، وهي شخصية " جميل " الحاضرة بذكراها في الرواية.
وقد اعتمد الكاتب فنيا على قصة حب قديمة بين الشاعر و العاشق " جميل بن معمر " و " بثينة " ، استلهمها من الماضي ليقول من خلالها الحاضر ، فاستعمل التخييل والتاريخ مع تحريف الأخير . وقد عرضت علينا " بثينة " – الشخصية الرئيسية في الرواية – في الصفحات الأولى خرافة ما ستسرد وتروي على أنه خلط ومحض خيال.
فاسترجع موضوع الحب العذري بين " جميل بن معمر " و " بثينة " ليحرفه ليصبح حبا في الزمن الحاضر، حبا لا عذريا بين " جميل " ( أستاذ التعليم الثانوي ) و بثينة ( الطالبة لديه ) ، حبا تشابكت فيه العلاقات بين المال و المنافع المادية فأصبح حب مصالح بين " بثينة و " فائز " ( مرسول الغرام بينها و بين جميل في الماضي ) . علاقة مبنية على المنفعة و مختومة بالخيانة والرغبة في الانتقام . حيث تؤول " بثينة " – عشيقة جميل العذري – عرافة وشوافة في الفنادق، وتصبح الحياة لديها لعبة حظ ، فيها ما تحب وما تكره، محكومة بالورق " تقمير في تقمير و أنت وسعدك "4 ، ذاك التقمير الذي أدمنت عليه.
تبدأ الرواية بعد الاستهلال المذكور آنفا بعرض التجربة الرومنسية العاطفية التي عاشتها " نثينة " بنت الرومية في مدينة " الحمامات" التونسية مع " جميل بن معمر " أستاذ الأدب العربي، القادم للمدينة من أجل التدريس بها . وتنتهي القصة الغرامية على غرار قصة " جميل بن معمر " العذري و " بثينة " – الحقيقية – بفراق الأحبة ، لتكمل " بثينة " دراستها في الجامعة و تتخصص في الأدب العربي مشيا على مسار عشيقها " جميل " . و تتزوج " فائز عبدالدائم الرابحي " ، الجار و الصديق القديم ومرسول الغرام أيام الوصل الذي سهل لها اللقاءات مع " جميل " ، بعدما قرر أن يردم قصة " جميل " في أخدود. " فائز " الحاصل على دكتوراه في الأرقام و الاقتصاد ( من فرنسا ) يعيش معها في منزلها وتعيله من مال تركتها ، وتتوسط له لدى وزير الصناعة فيعين مديرا لمصنع جديد يستورد الملابس قطعا ويصدرها جاهزة للخارج . و يجري المال في يده ويبهره بريق الماء والثراء فيجري وراء كسبه بطرق شرعية وغير شرعية ( تجارة المخدرات ) . أما " بثينة " فيهملها " فائز " من أول ليلة لزواجهما " فائز ( سليل بغال بني هلال ) 5 لم ينسلخ من بداوته التي سافرت معه إلى نور العالم ( فرنسا ) وظلت تعتم أعماقه ، مازال رأسه مسكونا بخرافات وأشباح الأجداد. و في ( غشاء جلد شفاف تمزقه هبة نسمة خفيفة ) 6 ، " فائز " الذي دوخته " بثينة " ( بقلبها الذي ظل يضج بحب جميل ) 7 . " فائز " الذي تعلم في الكتاب كلام الرب وحفظ عن ظهر قلب حكايات الأجداد ثم ذهب إلى المدرسة لم يستطع نسيان " جميل " رغم موته ، فعاش بينهما.
فزواج " فائز " و " بثينة " ( قد محضه صاحب النص ليكون قالبا نمطيا تصب فيه جميع مواصفات الرجل الشرقي التقليدي ) 8 ، الرجل الذي يتظاهر بالوعي والانفتاح والتمرد على تقاليد الأجداد لينتهي رجعيا معقدا تفضحه خيباته وانهزاماته ( الخيبة في الإنجاب وفي كسب قلب بثينة ) .
وتصرخ " بثينة " بأن عشيقها كان عذريا في محبته و ( لم يذق ريقي إلى أن مات مدهوسا بشاحنة ضخمة ) 9 . وما فرطت بشيء من كنوزها ، وظلت تترقب ( الفارس الهمام . ولما وصل حرن حصانه أمام أسواري ، ولم يلتفت لمائي وخبزي وتركني معلقة بين اليأس والرجاء ) 10 . رغم أنها معتادة على ممارسة الجنس من أمد بعيد وأنها ( مفضوضة البكارة منذ الأزل ) 11.
فتعيش بثينة أتعس سنين حياتها كاتمة لغيضها وآلامها وإهمالها كأنثى وزوجة ، وهي بنت الرومية التي ركع تحت قدميها أعتى الرجال ، يهملها زوجها ويهديها خياناته ، فلم يبق لديها سوى تحقيق ذاتها من خلال الإنجاب والأمومة لكنها تحرم من هذا أيضا فتغوص في تدجيلها وأوراقها والبحث عن جميل المدهوس بشاحنة والدها ،( الذي وعدتها أوراقها بلقائه) . حب الماضي الذي فقدته وفقدت معه الاستقرار والأمان والشعور بالذات والكيان في تونس " الانفتاح " ، فتحيا في جو متأزم تبحث فيه عن ذاتها وإنسانيتها في ظل جو عام يبعث على الإحباط محليا وإقليميا ، فمن خيانة " فائز " لها وتجارته بالممنوعات إلى حرب الخليج الثالثة وسقوط بغداد واجتياح الأمريكان للعراق.
وفي ظل هذا لم يجد الزوجان حلا لاستمرار الحياة سوى النية في تخلص كل واحد منهما من الآخر، فاستمرار الحياة يستلزم التضحية بأحدهما.إلا أن الرواية تنتهي ببقاء الوضع على ما هو عليه ليستمر الحال كما هو .
إن " جميل " و " بثينة " شخصيتان مأخوذتان من تاريخ العرب ( تاريخ شبه الجزيرة العربية) ، استخدمهما درغوثي في روايته " مجرد لعبة حظ " بعدما أجرى أحداث قصة الحب في العصر الحديث ( نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي و العشرين) في تونس ، وتحديدا في مدينة الحمامات حيث تعمل " بثينة " دقازة/ بصارة على الموضة ، ويعمل " جميل " مدرس ثانوي يلقى حتفه على يد والد " بثينة " على الطريق الرابطة بين نابل و الحمامات.
إن أحداث الرواية مستمدة من واقع العصر رغم أن شخصياتها من بطون التاريخ والكتب وقد جلبت و ( غرست في بيئة غير بيئتها لأنها صارت في الوجدان العربي رموزا) 12 ، فهما الحبيبان المعذبان اللذان فرقت بينهما الظروف والقبيلة.
فهذان العلمان استحضرا ليؤديا أدوارا مناقضة لتلك التي وجدا فيها في الواقع فصار " جميلا " عاشقا لطالبته عشقا تحكمه الملذات الحسية وأمست " بثينة " ابنة لرومية غارقة في حب عشيقها ، وأخيرا زوجة على الهامش ل " فائز عبدالدائم الرابحي" وشوافة في مدينة " كرطاجولاند " ، فهما رمزان شفافان استخدما لتبليغ موقف إيديولوجي من واقع العرب اليوم ، واقع الضياع والقيم البالية . وأيضا لتبليغ موقف وجداني عاطفي أراد الكاتب تجسيده وإيصاله . فهي شخصيات كشفت عن تصور كاتب يرصد التحولات ولا سلاح له للمواجهة غير الفضح ورثاء الذات والأمة محاولا الكشف عن العقلية العربية التي ، رغم العصور والأزمان ظلت كما هي . وبرغم أن قصة جميل و بثينة بنت الرومية جرت في عصر الانفتاح و الأنترنيت إلا أن الخاتمة كانت هي نفسها كما لو أن الحال كان في عصر جميل بن معمر العذري ( عصر القبيلة ).
وباعتبار الرواية من أكثر الفنون الأدبية عمقا واتساعا في التعبير عن الإنسان وتطلعاته، فقد عمد الكاتب إلى رصد حال الضياع والتياهان الذي يعيشه هو و أمته من خلال شخوصها المتخيلة المستمدة من التاريخ العربي ، باعتبار الخيال هو القادر على تحرير الذاكرة والرؤية مجسدا من خلالها غياهب وعوالم غير موجودة ، فقط على صفحات أوراقه. و يمكن اعتبار هذا الأخذ من التراث " شكلا من أشكال الدفاع عن الذات وضربا من ضروب البحث عن خصوصية تمنع الذوبان في الآخر" 13. فبعد هزيمة 1967 وما عرفته البلاد العربية من تحولات وهزات أدت إلى تراجع المبدعين العرب عن تراث الآخر والالتفات إلى المخزون والتراث الثري العربي ، موظفينه في أعمال إبداعية محملة بروح عربية أصيلة متماشية مع مقاصدهم في الكتابة ، فكانت مزيجا بين الأصالة و المعاصرة .
ولعل النهاية المفتوحة التي آلت إليها الرواية – على غرار جل أعمال الكاتب السردية الأخرى – " تنم عن فقدان الأمل والاستقرار للذات العربية " 14 التي عاشت عصرا ذهبيا يوم ما، ملكت فيه كل شيء ثم أضاعته.
و كعادته جسد لنا ابراهيم درغوثي من خلال عمله هذا أدب الرفض ، رفض الوضع والقيد الذي يكبل الفكر والحرية .

الهوامش :

1 - ابراهيم درغوثي: مجرد لعبة حظ ( رواية ) المدينة للنشر 2004
2 - ميخائيل باختين : الجمالية ونظرية الرواية ( من مقدمة الكتاب ) 1978.ص18/19
3- حاتم الفطناسي: تعدد الأصوات وثنائية الأطراف في القصة ، مجلة المسار ، مجلة اتحاد الكتاب التونسيين ، العددان 69-70 ، ماي / جوان ، جويلية / أوت 2004 ص 81
4 - مجرد لعبة حظ ، ص 17
5 - المصدر السابق ، ص 81
6 - المصدر السابق ، ص 45
7 - المصدر السابق ، ص 106
8 - عبدالرزاق الحمامي : الشخصيات وشبكة القيم في " دروب الفرار " مجلة المسار ، العددان 69/70 ، ص 96
9 - مجرد لعبة حظ : ص 43
10 - المصدر السابق ، ص 45-46
11 - المصدر السابق ، ص 34
12 - محمد نجيب العمامي : التعامل مع التراث في نماذج من القصة القصيلرة ، مجلة المسار ، العددان 69/70 ، ص 62
13 - المصدر السابق ، ص 76
14 - شادية شقروش : الخطاب السردي في أدب ابراهيم درغوثي ، دار سحر للنشر ، دت ط ، ص 9