المقدمة

بقلم تابع المؤلفة
أنا باحثٌ، وأريد تفسيرا عن كنه الحياة على الأرض، وأودّ أن أعرف ماهية المغزى الخفي في حقيقة أنّ الإنسان يولد، ينمو من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ ماراً خلال ذلك النمو كلّ أنواع الصعوبات، يتزوّج، ينجب أطفالا أكثر إلى العالم،والذين يكبرون بدورهم أيضا ليصبحوا بالغين خلال العديد من الصعوبات، يتزوّجون أيضا، وينجبون أطفالاً كثر أيضا إلى العالم، ثمّ يبدؤون بفقدان المهارات مع تقدم العمر والذين عانوا كثيرا من مشكلة التعلّم، ومن ثم يموتون أخيرا.
سلسلة لا تنتهي، بدون بداية، وتبقى مستمرة بشكل ثابت ، أطفال يولدون يتعلّمون، يعملون بجدّ، يريدون بالكامل أن يطوّروا كلا من أجسامهم وعقولهم على حد سواء ويتدبّرون حياتهم ، لكن وبعد فترة وجيزة من الوقت ، ينتهي كل شيء - في وقت قصير نسبيا- إلى حفرة لا يزيد طولها عن ستة أقدام ومن ثم سرعان ما يصبحون علفاً للديدان.
ما هو المغزى من كل هذا ؟ هل هو الاسترسال فقط من أجل إنتاج أجيال أكثر فأكثر من البشر ؟
ومتى كانت أعمار بعض الناس لا تتجاوز أحفادهم فقط ثم يموتون وتموت معهم كذلك عمل العقول والأرواح التي كانوا يعيشون بها في وقت سابق ، فلماذاً إذاً يتقدمون في السن، بل ويأخذون مواهبهم العالية إلى القبر معهم؟
وعلى سبيل المثال، أذكر هنا بعض العظماء مثل " مايكل أنجلو، ليوناردو دافنشي ، جوردانو برونو، شكسبير، غوته ، والعديد العديد من الآخرين الذين كانوا يعتبرون من النوابغ ، إذاً لماذا ولد أولئك النوابغ؟ ، إذا كانوا في آخر المطاف سيصبحون طعاماً للديدان التي ستنخرهم والتي سُتسمِّن نفسها على حساب أجسامهم؟
لا! أنه ليس من المعقول أن تكون الحياة على الأرض خالية من المغزى والهدف ! فلا بد أن يكون وراء هذه السلسلة - التي لا تنتهي على ما يبدو من الولادة والموت - هناك مغزى أكثر عمقا، وحتى إذا بدا ذلك غير قابل للتوضيح للعقول المتأذية.
لابدّ أن يكون هناك تفسيراً مقنعاً وعقلانياً ، يمكن رؤيته من الجانب الآخر!
لكن كيف وأين أجد هذا الجانب الآخر لكلّ الأشياء التي بالتأكيد يجب أن توجد ؟
كيف وأين أجد ذلك الطريق للتعرف عليه؟
من يجب أن أسأل عن هذا الطريق؟
أين يمكن أن أجد الشخص المنتخب والذي يمكنه تلقين حلول هذا اللغز، الشخص الذي يستطيع إخبارني عن هذه الحقيقة المخفية؟
لقد كان هناك – عبر التاريخ المكتوب- ثمة أناس بارزين على الأرض والذين تحدثوا بيقين ثابت لا يتزعزع حول سرّ الحياة وحتى كانوا ممن شهدوا إدانتهم فيما كانوا يدعون إليه ، لكن أين ومن الذي كان يُلقِّن هؤلاء "المتلقنين " تلقيناتهم ؟ وإلى ماذا كانوا يدعون بتلقينهم ؟
فسقراط على سبيل المثال. على اعتبار أنه يأخذ كأس السمّ بهدوء قدسي ،ويشربه حتى آخر قطرة ، ومن ثم يتكلّم بشكل جرئ وبموضوعية، وبشكل هادئ وبسرور حول تأثير السمّ، ويذكر أحاسيسه هكذا تحت تأثير السمّ : أولا ستبرد قدميه وتموت، ومن ثم سيزحف ذلك الموت البارد بالتدريج من قدميه نحو قلبه مثل أفعى، وعلى الرغم من أنه لا يزال مدركاً بأنّه أوشك على أن يموت، يستأذن من طلابه المخلصين، ويغلق عيونه، وهو مفعم بهذا السلام الهادئ والثابت تجاه الموت ، وهذا فقط يمكن فقط أن يأتي نتيجة للمعرفة الثابتة الأكيدة ! من أين حصل سقراط على هذه المعرفة؟
زمن أين حصل المتلقنين الآخرين الذين عاشوا في الأرض في حقب مختلفة على معرفتهم حول سرّ الحياة والموت ؟
إني على يقين بأنه وحتى اليوم، لابدّ أن يكون هناك مثل هؤلاء " المتلقنين" لا يزالون يعيشون على هذه الأرض، ولابدّ أن يكون هناك ثمة طريق للحصول على "التلقين"، التلقين العظيم جدا.
لقد علمتني الحياة بأن الكتاب المقدس ليس مجرد كتاب أقاصيص الحواري، ولكنه كتب من قبل
" المتلقنين" لإرسال حقيقة مخفية إلينا مبطنة في لغة سرية. ويخبرنا الكتاب المقدس: " ابحث، وسوف تجد ما تبحث عنه، أنقر "الباب" وسوف يُفتح من أجلك ".
لقد أطعت! وبدأت البحث بإرادة، في كل مكان استطعت الوصول إليه، بحثت في الكتب، في الكتابات القديمة، بين الناس الذين اعتقدت
اعتقدت بأنهم يعرفون أدنى معلومة عن "التلقين" كما أبقيت عيوني وأذنيّ مفتوحة في جميع الأوقات وفي عمليات بحثي خلال الكتب، القديمة والجديدة، وكذلك في تعاليم الناس من الأحياء أو من الذين ماتوا ،واستمريت في المحاولة لاكتشاف الأحجار الفسيفسائية المخفية والتي بتجميعها سوف ينكشف لي سرّ "التلقين".
وقد وجدتها ! كان ذلك في بادئ الأمر - في مناسبات نادرة هنا وهناك – حيث استطعت أن أسمع بآذاني الداخلية، صوت الحقيقة تتكلّم في كتاب أو في كلمات شخص حيّ ، وقد كنت أذهب دائماً بعيداً في الاتجاه الذي يشير إليه ذلك الصوت السري الغامض،وكمثل خيط " أريادن Ariadne" كان هذا الصوت السري يرشدني على الدوام ،كنت أحيانا أعثر على شخص ما في بلدتي الخاصة والذي يمكنه أن يعطيني معلومات ثمينة جداً لبحثي ، وأحيانا أخرى كان هذا الصوت يقودني للترحال بعيداً نحو أراضٍ غريبة حيث أمكنني العثور على معلومات كانت في غالب الأحيان تتفق جداً بل وتتطابق مع الكلمات التي كنت قد سمعت في بلدي .
وهكذا، فقد قادني طريقي لأناس لديهم معرفة أوسع والذين فسّروا لي أكثر فأكثر لي حول التلقين وحول معنى الحياة.
وقد بدا لي أمر طبيعي ، أن أقابل العديد من الناس الجهلة أيضا وكذلك أناس بنصف المعرفة والذين تظاهروا بالمعرفة، لكنّي أصبحت سريع التعرف وبشكل فوري عندما تكون "الأيدي عيسوية ،في حين يكون الصوت يعقوبياً ."
يدّعي هؤلاء النصابين الفقراء، بأنهم من " المُلقَّنين" ولكنهم انكشفوا بسرعة فهم لم يكونوا حتى منسجمين مع أنفسهم وحيواتهم الخاصة،لذا كيف سيعلّموني أيّ شيء حول الحقيقة الأعمق للحياة،حول التلقين؟
وبين مثل هذه الحالات،فقد تابعت طريقي في البحث وأنا مسلّح بإرادتي عن إنسان قد توصّل إلى المعرفة الحقيقية، والتلقين الحقيقي .
وكلما وجدت شخص ما يمكنه أن يخبرني أكثر مما عرفت، أقف عنده وأبقى هناك للتعلّم بقدر ما أستطيع أن أتعلّم.
وهكذا، فقد قادتني طريقي إلى حضور امرأة عجوز تعيش في منتجع أقرب ما يكون للدير ،وقد كانت مُحاطة بعدد كبير جداً من الباحثين ، مثل قطعة السكّر التي تصطف حولها طوابير النمل في صفوف طويلة في رحلة حجّ ثابتة للحصول على الغذاء.
لقد كانت تعمل في الجمعية الروحية القريبة جدا مع رجلين صغيري السن ، واحد من الهند والآخر من الغرب، والذي كانت تدعوه تلك المرأة العجوز "ابني" .
لقد كانت المرأة العجوز طويلة القامة وذات بنية وصِلة ملوكية، لكنها كانت بسيطة جدا وطبيعية تماما في حركاتها. عيونها الزرقاء الغامقة كانت واسعة للغاية، ورموشها السمراء الغامقة الطويلة أضفت على هاتيك العينين تعبيراً رائعاً، كانت عيناها تبتسم، مفعمة بالودّ، مليئة بالفهم، لكنها كانت ذات نظرات ثاقبة للغاية بحيث أن أكثر الناس كانوا يُصابون بالحرج متى نظرت إليهم.
لقد شعر الناس بأنّ هذه المرأة يمكنها أن تساعد كلّ شخص وبحق، وبأنّها يمكنها أن ترى أفكارهم بشكل واضح، وكامل ، كما يمكنها معرفة تركيبة أرواحهم.
في أغلب الأحيان،وبينما كنت أستمع إلى محاضراتها بين مجموعة من الأشخاص الآخرين، كنت أشعر بالعديد من الأسئلة التي تثيرها نفسي تظهر فجأة.
كانت تستمر في الكلام ، لكنّها سرعان ما ابتسمت لي ، وبعد ذلك بدأت تُجيب على أسئلتي الخفية التي لا تزال مختبئة بين شفتي ،والتي لم أنطق بها بعد،وقد أخبرني عدد من المستمعين الآخرين لها بأنهم قد مروا بنفس التجربة معها في ذلك الأمر، لكنني لم أستطع أن أكافح قدرة هذه المرأة،فكلما تعلّمت منها أكثر ، كلما تفتحت عيوني الروحية أكثر ،وكلما تبدت لي عظمتها ، فقد بدا لي الحقل الذي فاقت فيه معرفتها كمنجم بدا بالتوسع في كلّ الاتجاهات.
كلما أمضيت معها وقتاً أطول،كلما شعرت بقلة معرفتي بها، وكلّ مرّة كنت أراها فيها، كانت تظهر لي "كشخص مختلف"عما رأيتها عليه آخر مرة ، حتى خُيّل إلي بأن هذه المرأة تحتفظ بذاتها ضمنياً بحيث يمكن أن تُظهر المدى الكامل للشخصية الإنسانية،ولذلك لم يكن لديها شخصية بحد ذاتها على الاطلاق،لأنه لكي تكون كلّ شيء،فإن ذلك يعني بطبيعة الحال أن لا تكون شيئاً .
لقد سألتها ذات مرة بكل جرأة :
"أمّي، من أنت حقاً ؟
" من ؟ " أجابتني بدهشة واستغراب، "ما الذي تعنيه بكلمة "من" ؟ هناك واحدٌ ووحيدٌ جدير بأن يكون كذلك، وكلّ شخص، كلّ حيوان، كلّ نبات، وحتى كلّ شمس، كلّ كوكب وبين كلّ جرم سماوي وجسم نوراني ، كل هؤلاء فقط هم عبارة عن دلائل لتوضيح وجود هذا "المَن " وهو فقط من لديه القدرة على أن يكون كذلك .
كم يجب أن يكون هناك عدد "المَن" ؟ أنها النفس ذاتها التي تتكلم من خلال فمّي ومن خلالك ومن خلال كلّ المخلوقات الحيّة،لكن الفرق الوحيد يكمن في أنه ليس كلّ مخلوق حيّ يعرف نفسه بشكل مثالي ولذلك فهو ليس قادراً على إظهار كلّ خصائص النفس، ولكن أي شخص يعرف خفايا النفس بالكامل وبشكل مثالي يمكنه أن ُيظهر كلّ الخصائص التي توجد في الكون، لأن كلّ هذه الخصائص والسمات المختلفة هي صفات المتوحد بذاته الفريدة، والنفس هي الفريدة المتوحدة ، أما الشكل الخارجي الذي تراه أنت أمامك ،فإنك تعتقد بأنه " أنا" فقط ولكن أنا لست سوى دليل تتجلى من خلاله تلك النفس في طور معيّن ويُعتبر ذلك ضرورياً في أيّ وقت كان، ولذلك لا تسأل مرة أخرى مثل هذه الأسئلة الفارغة حول "من أنا " .
سألتها من جديد :
"أمّي،كيف تعرّفتِ على "النفس" بهذا الشكل المتكامل والمثالي بحيث أصبحت لديك القدرة على إظهار كلّ خصائصه المحتملة" ؟
كما أودّ أن أتعمق في سؤالي أكثر أيضا! أخبريني! ما هي التجارب التي مررت خلالها من أجل أن تصبحي دليلاً على وجود ظاهرة الوحدانية الفريدة ؟ أو هل سبق وكنت دائما على هذا المستوى؟ هل كنت قد ولدت ضمن هذا الشرط؟ "
إلاّ أنها سرعان ما رددت باستغراب :
"ولدت ؟ " "أنا ولدت" ؟ متى سبق وأن رأيت بأنّ " الأنا" تولد؟
هل سبق وأن رأيت أنت "الأنا" ؟
إن "الأنا" لم يسبق وأن وجدت، ولن تولد أبداً، الذي يولد هو الجسد فقط .
إنّ النفس القدسية الحقيقية هي نفس كاملة متكاملة وتامة بحد ذاتها، لذا فإن أي تطوير فيها هو أمر غير وارد على الاطلاق ، لكنه الجسد فقط هو الذي يجب أن يُطوّر لكي يكون قادراً على إظهار ترددات النفس التي تعلو أكثر فأكثر وكذلك اهتزازات تلك النفس التي تتعاظم بشكل أعلى فأعلى، وحتى أكثر الأعضاء والأجسام تطوراً يجب أن تمرّ بهذه العملية، ومن ضمنهم جسدي أنا،والذي ،وبالمناسبة ما يزال بعيدا من الكمال.
و باختصار ، فإن كلّ شيء إنما هو فقط مجرد مرحلة من مراحل التطور.
إنّ خلق الجسم يكون دائما عبر تفاعلات متسلسلة في حد ذاتهها – كما تدعى بعمليات النمو في الوقت الحاضر- وعندما تبدأ لحظة التفاعل المتسلسل ، فإن مرحلة الخلق تستمر لتمرّ عبر فترات مختلفة حتى تكتمل، ولذلك لا يمكن لأية صيغ مادية لأية ظواهر من أن تتهرب أن يكون باستطاعتها تغيير ذلك القانون .
وبالتوازي مع ذلك، فإنه ومع تطور الجسم، فإن شروط الوعي تتغير طبيعياً أيضا."
وهنا سارعت وبادرتها بسؤال جديد :
"إن ذلك يعني بأنّه يتحتم عليك المرور بفترة التطور أيضا، أليس كذلك " يا أمي"؟ أخبريني رجاء ما هو نوع تلك التجارب التي مررت بها والتي جعلتك تصلين في حالتك إلى هذه الدرجة العميقة من الوعي ؟ أرجوك ، أخبريني كل شيء عن ذلك ."
لكنها أجابت :
"لماذا يجب أن أخبرك أنا عنه؟
"يجب على كلّ انسان أن يتوصل إلى معرفة النفس، كل وفق طريقته الخاصة، ماذا ستستفيد إذا أخبرتك عن طريقتي ؟
أنت لن تستطيع أن تتبع طريقي ، فالأحداث بحد ذاتها ليست ذات أهمية بل التجارب، والدروس والعبر التي تستخلصها جرّاء تلك الأحداث ، ولكن ُخذ الأمور ببساطة .
ففي طريقك انت سوف تتعلّم نفس الدروس التي تعلمتها أنا، هناك عدد لانهائي من تلك الطرق ولكن يجب أن تعلم بأنها جميعها تؤدي إلى نفس الهدف ".
وهنا بادرت بالحديث :
" أنت على حق يا أمي ، فأنا أرى بشكل واضح بأنّي لن أكون قادراً على إحراز أي تقدّم على طريقك، ولكن على الرغم من هذا، فإن الأمر سيساعدني كثيراً إذا ما تفضلت بإعلامي كيف اكتسبت تجربتك؟ لأنني وكلّ الآخرين الذين يستمعون إلى قصّتك سيكونون قادرون على تعلّم كيف يمكن للفرد أن يستفيد من التجارب. أنا لست فضولياً لمعرفة قصّتك، لكنني متلهّف لمجرّد سماع كيف بدأت بالاستحواذ على وتعلّم الدرس والعبرة من كل حَدَث؟
رجاءً ، أخبريني عن الطريق التي اتبعتها يا أمي.
سوف يكون شيئاً قيّماً جداً بالنسبة لنا أن نتعلم من موقفك نحو الحياة وكم كانت رددوك نحو قدرك لكي يطوّر أفقك الروحي ليصل إلى مثل هذا المدى البعيد بشكل شامل ، نحن يمكن أن نتعلّم الشيء الكثير والعبر العظيمة من قصّتك."
نظرت المرأة العجوز إلي وتأمّلتني لوقت طويل، ثم قالت أخيراً :
" لذلك أنت فضولي بالنسبة إلى كيفية استجابتي ؟
وأنت تعتقد بأنّ ذلك سوف يساعدك ويساعد الآخرين إذا ما سمعتم عنه ؟
حسناً!ربما سيكون أمراً جيداً في أن أخبركم عن التجارب التي فتحت لي عيوني بشكل تدريجي إلى القوانين الداخلية للحياة والعلاقات المختلفة والتي تربط أقدار الناس المختلفين معاً .
عُد غداً، وأنا سأخبرك أنت وبضعة آخرون من الذين تفتحت عيونهم إلى الأشياء الضرورية في الحياة حول التجارب التي ساعدتني في العثور على ما يدعوه الناس " التنّور".
أنا سأخبرك كيف واجهت "تلقيني "!
وفي اليوم التالي، وجدت نفسي مع عدد من أكثر تلاميذها المتقدّمين جالسين أمام المرأة العجوز، والتي بدأت تقص ّ علينا رواية "تلقينها".
وهكذا ، تم تأليف هذا الكتاب .