الفصل الثالث
أبويّ ليسا أبويّ

لم أكن قد تجاوزت السنة الخامسة من العمر تقريباً، عندما كان أبي يتحدث في أحد الأيام - بينما كنا نتناول الغداء – عن "مديره".
لقد كنت دائمة الاهتمام بكل ما يتعلق بالكبار ،وكل ما يتحدثون عنه، ولذلك سألت مباشرة:
"أبّي ، من يكون هذا المدير؟ "
أجاب والدي :
"المدير يا عزيزتي هو الرجل الأعلى رتبة في المكتب، وعلى جميع الآخرين أن يطيعوا ما يقول، وهو المسؤول عن كل من المكتب."
فقلت له بانفعال :
"ولكن يا أبي ، أنت لست مضطراً لأن تطيع أوامره ،أليس كذلك؟ وهو ليس أعلى منك رتبة ، أليس كذلك؟ "
أجابني والدي :
"نعم ، لا بد لي أن من أطيعه، فأنا لم أصبح مديراً بعد، ولذا يتوجب عليّ أن أقوم بما يطلبه مني ".
ثم تابع والدي يشرح لي عن وظيفة المدير .
لا!لا يمكن أن أُصدّق أذنيّ ، أي مدير هذا الذي يكون أعلى رتبةً من أبي ؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟.
لقد كنت حتى ذلك الوقت بالتأكيد أعتقد بأن كلمة "الأب" تعني طبيعياً بأنه "السيد العظيم" المسيطر على كلّ شيء، وهو الذي يأمر كلّ شخص في طول البلاد وعرضها وهو المسؤول عن كلّ كنوز الإمبراطورية،كما أن كلمته هي القانون ولا أحد يتجاسر على أن يتكلّم ضدّه، و"هو" الوحيد الذي يمكن لوالدي أن يسأله النصيحة من حين لآخر؛ أو يناقش معه شؤون البلاد لكن ذلك ال"هو" الذي أقصده كان شيئاً مختلفاً كليّا! فهو لم يكن شخصاً محسوساً،ولكن إذا ما كان والدي هو فوق كل الناس الآخرين،فكيف سيكون هناك مديراً أعلى منه رتبة؟ في تلك اللحظة نظرت إلى أبي بانتباه شديد والتي يمكن أنها ربما كانت المرة الأولى التي انظر بها إليه بمثل هذا الانتباه ، وبينما كنت أنظر إليه وأتفحصه جيداً وبدقة، تبادى لمخيلتي فجأة بأنّ هذا الشخص الذي أحببته كثيرا لم يكن "أبي"!.
لقد اعتدت منذ أن بدأت أعي هذه البيئة المحيطة التي ترعرعت فيها،على حقيقة أنّي هنا، وبأنّ هذه المرأة الشقراء الغريبة الجميلة هي " أمّي" وهذا الرجل الأسمر القوي الطويل هو "أبي" ، نعم، فهنا هو أبي ، لكنّه ليس أبي!
ففي وطني ، هناك ، هو ليس أبي، ولكنه كان كذلك فقط هنا حيث أنا الآن!
وفي الحقيقة، فهو بالنسبة لي غريب عني بقدر غرابة تلك المرأة الجميلة الغريبة التي تدعى " أمي" بيد أني تعودت عليهم كذلك بشكل تدريجي، فهم أناس لطفاء ، يحبّونني ، ويعتنون بي،ويهتمون لأمري، وأنا مهمة بالنسبة إليهم وهكذا ، فقد أصبحت أحبهم بالتأكيد مع مرور الوقت ، لكنّهما ليسا أمّي وأبي، إلا أنني كنت حين أدعوهما "أمّي" و"أبّي" فقد كان ذلك فقط مجرد عادة ليس إلا !
لم أكن قد تيقنت - حتى ذلك الوقت - من تلك الحالة التي تصيبني، فقد قبلت الأشياء كما هي ،كما أنني كنت أشعر بالسعادة وسط هؤلاء الناس ، فقد منحوني الأمان ، واستمتّعوا بحضوري، وكانوا يعتبرون أي شيء أقوم به عملاً رائعاً، ساحراً، ومبهجاً.
تساءلت في نفسي، لماذا لا أتمتّع بنفسي في بيئتهم المحيطة تحت هذه الظروف؟ وحتى حين كنت ألعب مع شقيقتي "غريت" كنت ألعب معها بشكل ممتع أحيانا، حينما تناسيت للحظة بأنّها كانت تكبرني بثلاث سنوات .
نعم، كلّ شيء كان يسير بخير وعلى ما يرام ، كان خالي "ستيفي" في أغلب الأحيان، يعزف موسيقى جميلة على البيانو الخاص بنا،وقد أراني كلّ أنواع الأشياء الجذّابة، نفخ لي فقاعات الصابون، وصنع لي بسكين جيبه الصغير
"خشخاشة" صغيرة من قشر البذور، وفي مناسبة أخرى صنع لي خنزيراً صغيرا ًمن الأجاص المجفّف وعيدان تنقيب الأسنان، وفي إحدى المرات جلب لي صندوقاً صغيرا من الصّفيح المزخرف وكان مليئاً بألوان جميلة ومعه فرشاة ، وقد بدأت برسم زهور ملوّنة جميلة في دفتر الملاحظات الخاص بي .
في هذا الوقت ، لم اكن أحب أن أتشارك مع "غريت" في ذلك !
كانت خالتي "أدي" تسحرنا دائماً بالعديد من قصصها وحكاياتها الرائعة، كما كانت جدتي لأمي أيضاً في غاية اللطف، وكانت دائمة الابتسام بوجهي بتعابيرها المفعمة بالمحبة والسماحة .
لقد أحببتها كثيرا، وعلى الأخص عندما كانت تجلس أمام البيانو تعزف لنا موسيقى القُّداس، كنت أشعر وكأن ذلك هو يوم راحة بالنسبة لي ، فقد كانت تسحرني وتبهجني بتلك الموسيقى السماوية التي تعزفها برقة متناهية،كنت أُسحَر بالتأكيد كلما استمعت إلى عزفها الشجّي .
لقد كنت في تلك الآونة على اتفاق تام مع "أمي" العزيزة ، فقد كانت أماًّ ودودة كما أنها كانت تحب الموسيقى أكثر من أي شيء آخر، مثلي تماما، لكن جدتي الأخرى كانت سيدة مثيرة، وكانت في أغلب الأحيان تحدثني عن العديد من أسفارها في البلدان الأجنبية، وكانت تصطحبني معها في مناسبات عديدة إلى المتحف الوطني حيث رأيت هناك أشياء رائعة، فراشات عملاقة ملوّنة جميلة بشكل أخّاذ ،وقد أخبرتني الجدة بأنها كانت قد عاشت في بعض أجزاء بعيدة وغريبة من العالم، وكان من الغرابة،بأني قد عرفتهم آنذاك بشكل جيد، وكان من بينهم عدد من الحيوانات المحنطة العملاقة،والتي أخافتني بشدة في بادئ الأمر، لكن الجدة كانت تهدّئ من روعي .
لقد استمتّعت كثيراً أيضا عندما أظهرت عائلتي بالكامل مفاجأتها وابتهاجها العظيم من كل الأشياء التي عملتها بشكل طبيعي، وعلى الأخص عندما كان أقرباءنا يتحدثون حول "مواهبي" .
عندما كنت بعمر أربع سنوات، بدأت أمي تعلمني "الحياكة" بالإبرة المنحنية، وبعد ذلك استطعت حياكة ثوب صغير لدميتي التي كانت تجلس وحيدة على الكرسي الهزاز لأنني لم أكن أعرف ماذا أفعل بها،فقد كانت بلا حياة وأنا كنت منجذبة فقط لكل ما هو حيّ.
عندما انتهيت من حياكة ذلك الثوب الصغير ، أدهشتني مشاعر العائلة حين رؤوا ثوب لعبتي الصغير، ولكني كنت أتساءل في نفسي، إذا كان بإمكان أمي أن تحُيك مثل هذه النقوش الجميلة، فما الذي يمنعني من أن أكون قادرة على ذلك ؟.
لقد أثارت زهوري التي قمت بتلوينها في دفتر ملاحظاتي كثيراً من الحماس في العائلة، فقد جلب لي أبي حصّالة نقود على شكل خنزير، ومنذ ذلك الحين، كان يضع في حصالتي قطعة نقدية كلما قمت بتلوين زهرة جميلة، آه كم كان ذلك جميلاً ولطيفاً . .
ولكن جاءت تلك المفاجأة الفظيعة الآن! هناك مدير يترأس أبي وهو أعلى منه رتبة ؟.
قلد أصبحت مدركةً تماماً في تلك اللحظة بأنّني كنت هنا في هذه البيئة، وبأنّني كنت أدعو هذا المكان الذي هنا هو "البيت " ولكني لغاية الآن لم أكن "هنا" في البيت ،لم أكن في بيتي! وقد كان ذلك هو سبب ثقتي الراسخة.
لو أنني كنت في ذلك الوقت أمتلك معرفتي الحالية حول علم النفس ، لكنت قد حللّت على الفور كيف تبادرت إلى ذهني مثل تلك الأفكار ، ولكني في ذلك الوقت لم أكن سوى طفلة، تواجه وتجرّب كلّ شيء حولها بذهنية وبطريقة طفولية مباشرة، وقد كنت على قناعة تامة حينذاك بأنني كنت قد سُحبت بعيدا عن بيتي بالقوة.
لم أكن أعرف بشكل طبيعي من أين جئت لأني في تلك الأثناء كنت قد نسيت ، من يستطيع أن يفسّر لي ذلك؟ إنهما فقط الشخصان اللذان يدعونني بطفلتهما ! لكنّي كنت أعرف بأنّني إذا كنت سأسأل تلك الأسئلة، فسيقومون فقط بتطبيق شخصية الكبار ويلقيان عليّ "أجوبة البالغين "تلك ، والتي لا يمكنني فهمها، وستنتهي القصة مرة أخرى بالجواب الذي أعرفه سلفاً "انتظري حتى تكبري ".
آه ، كم كنت أكره ذلك! الانتظار حتى أكبر؟.
هل سيكون لزاماً علّي أن أقضي كلّ هذا الوقت في الظلام، في الجهل؟
لقد أردت معرفة كلّ شيء الآن وليس "يوماً ما"! ولذلك ، استمريت ذلك اليوم في التفكير في ذات السؤال حتى المساء ، وحين جاء وقت نومي دخلت أمي ،وجلست على حافة سريري وسألتني:
"لماذا أنت هادئة هكذا ؟ لماذا لم لا تلعبين بدميتك ثانية؟ ولماذا كنت تتجولين في البيت وكأنك كنت في حلم يقظة تحلمين بشيء ما ؟ .
أخبريني ، ما الذي أصابك ؟ يمكنك أن تخبريني بكلّ شيء، ويمكن أن تسأليني عن أيّ شيء تريدينه."
آه ، كم أحببتها في تلك اللحظة ، كم أحببتها من كل قلبي وبكلّ ثقتي، لقد كانت جميلة وحلوة وحسّاسة،وقد اكتشفت أنها كانت - في أغلب الأحيان – تدافع عنّي عندما ينتقدني شخص ما ، لقد كنت ألجأ إليها على الدوام ،ومعها فقط كنت أجد دائما ملجأً آمناً.
الآن، وقد أصبحنا قريبتين من بعضنا بشكل وثوق، وقد اعتقدت،بأنّني يمكن أن أناقش كلّ شيء معها،لذا ، طوّقت عنقها بذراعيّ وسألتها:
"أمّي، من أين أنت وأبّي حصلتما عليّ ؟ من أين جئت أنا ؟ "
في باديء الأمر رأيت دهشةً مفاجئة في عينيها؛ لقد كانت مندهشة إلى حدّ ما، لكنها ومن ثمّ ابتسمت لي بمودّة وقالت:
"هناك في مكان ما بحيرةً كبرى حيث كلّ الأطفال الصغار يسبحون حولها؛ وعندما يقع شخصان في الحب ويصلّيان متضرّعين إلى الله أن يهبهما طفلاً صغيراً ، يسمح الله لأحد ملائكته الذي يكون على هيئة طائر لقلقٍ عظيم، بالطيران إلى البحيرة والتقاط طفلاً صغيراً يختاره الله لهذين الشخصين،ويحمل ذلك الطفل الصغير على ظهره ويطير باتجاههما ، ثمّ يلتقط الطفل الصغير بمنقاره الطويل ويضعه بجانب المرأة ، وعند ذاك يصبح لذلك الطفل الصغير أبوان دنيويان ".
كنت أستمع إليها في بادئ الأمر بانتباه وتلهُف، لكني ، سرعان ما أدركت بأنّها كانت "تقصُّ " عليّ شيئاً مماثلاً لما كانت تقصّه خالتي " إدي " من حكايات ، ولكن لا، إنها ليست الحقيقة! فأمي فقط لا تريد إطلاعي على حقيقة كيف وأين هي وأبي وجداني .
لقد أُصبت بخيبة أمل مباشرة إلى عينيها نظرة استفسار غامضة، لكنها تداركت الأمر سريعاً ثمّ أخبرتني بأنني يجب أن أكون فتاة جيدة وأن أتلو صلواتي بعد ذلك ، ثم بعد لحظة ، تمنّت لي ليلةً سعيدةً ، ثم غادرت وتركتني وحيدة.
لقد أصبح الأمر من الآن فصاعدا أكثر وضوحا بالنسبة لي وأعمق تفسيراً ذلك أن أبّي وأمّي لم يكونا أبويَّ الحقيقيين، وبأنّ هذه البلاد لم تكن موطني الحقيقي.
لقد أدركت بأن أمي لم تكن تعرفني ، وعرفت بأنّها لم تكن تراني، لقد كنت غريبةً بالنسبة إليها، كما أن كلّ هؤلاء الناس من حولي بدوا غرباء جداً بالنسبة لي، نحن فقط لم يفهم أحدنا الآخر،فعندما تحدثت مع أمّي حول الأشياء التي كانت واضحة جدا لي، إلاّ أنها كانت تُفاجأ وتُدهَش للغاية في أغلب الأحيان ،بل وكانت تهرع إلى أبّي وتخبره عن الأشياء الغريبة التي كنت أقولها، كان أبّي يُفاجأ أيضاً ، وقد أيقنت حينذاك بأن هذه الأشياء كانت جديدة على كلاهما، وغريبة بالكامل .
بعد ذلك، صاروا يحدثون أقاربي عما كنت ألاحظه وأراقبه،مما دعاهم للسخرية مني، وقد سمعت تلك العبارة مرارا ومرارا " يا لها من طفلة غريبة" ولكنني لم أكن أرى أثراً للغرابة التي يدّعونها، بل على العكس من ذلك ، فقد بدا اولئك الاشخاص هم الغرباء بالنسبة لي، بيد أنني ومع ذلك كله، فقد كنت أحبهم .
لقد كنت أشعر بنفسي غريبةً تماما بينهم ، إذ كان يبدو كل شيء بالنسبة لي ضئيلا محدودا وباهتا، وكنت اشعر من أعماق ضميري بقوة الإيمان التي تغمرني وتهيمن عليّ ، وانه "هو" فقط وحده القادر على ان يفهمني تماما، كما وانني سأكون سعيدة في العيش ضمن مساحات واسعة أكبر وجو أكثر تحررا، وبين أناس هم على أدنى تقدير كانو يشبهونني.
إن شعوري بالغربة والوحدة لم يفارقني مطلقا ،بل على العكس بات لي الامر أكثر وضوحا ،حاولت عبثا ان أجد بعض التواصل،وكانت والدتي تتحدث بأسلوب جميل عن حب الاطفال بعضهم لبعض،وقالت لي "انه من اللطيف ان يكون لي أخت بوسعك ان تناقشيها بكل شيء ،وان توليها ثقة كاملة" فقررت أن أجعل من تلك العلاقة مع "غريت" علاقة ثقة راسخة ،غير أنها لم تكن أمينة على ثقتي وكانت تنظر لي باستخفاف لانها كانت تكبرني بثلاث سنوات وعندما كنت أفشي لها بسّر ما ، كان تهرع الى والدتي لتخبرها عن كل أسراري الصغيرة،ولذلك فقد كانت كل محاولاتي تجاه شقيقتي من جانب واحد،وأخيرا توقفت عن المحاولة لتأسيس علاقة وطيدة الثقة معها،وعلى الرغم من أننا كنا نعيش جنبا الى جنب،غيراننا كنا بعيدتين عن بعضنا البعض,شأننا بذلك شأن مخلوقتين أتيتا من عالمين مختلفين، غلآ أن ذلك لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي ، فقد كان كل شخص يعتبر غريباً بالنسبة لي،كل شخص.
مرّ الوقت سريعا وتعاقبت السنين ،وسرعان ما أصبحت في السادسة،وفي أحد الايام الجميلة أخذتني أمي الى المدرسة ،لأجد نفسي بين الكثير من الاطفال ، ولكن ذلك الشعور بالوحدة والغربة بات أكثر عمقاً في داخلي لقد أحبني كل فرد في عائلتي، وانا كذلك كنت أحبهم ، وكان الحب يخيّم على الجميع آنذاك ، ولكن كل شيء عدا ذلك جاء لاحقاً ، ولكن هذا ما جعلني أشعر ضمن تلك البيئة وكأنني لا أزال في البيت، وكنت قد بدأت أعتاد على أولئك الناس بالتدريج،غير أن اطفال المدرسة كانو غريبين عني تماما،فهم يفهمون بعضهم البعض بشكل جيد، بيد أني كنت أبدو شاذة وغريبة بينهم بعض الشيء،وطالما كانوا يستغربون ذلك ، بل ويُدهشون مني ، ولكنني أنا أيضاً كنت أعجب منهم حين كانو يسخرون مني ويضحكون عليّ ، مما كان يسبب لي ألماً في أعماق نفسي ، وكانوا دوما يتهامسون فيما بينهم عن الاشياء التي يمتلكونها،ويعرضون على بعضهم أشياءهم الخاصة وأقلام الرصاص والأدوات القرطاسية الأخرى ، وكانوا جميعا يحبون أن يمتلكوا أشياءا لايمتلكها الاخرون.
لقد بدا ذلك كله بالنسبة لي أمراً مُملّا للغاية ، بل وبمنتهى السخافة ، فقد كنت أنا توّاقة للكتب والقصص والحكايات والموسيقى والمتاحف ، وكانو دائماً يحملقون والدهشة تحاصر عيونهم عندما كنت أحدثهم عن تلك الاشياء , وكانو يسألونني أسئلة غريبة جدا، وفي الوقت الذي كانوا يمضونه وهم يلعبون بالدمى والكرات وحلقات الخصر الكبيرة ، كنت أنا أالهو بالموشور الذي يُخرج أبدع الالوان في ضياء الشمس وبالمغناطيس الذي كان قد أعطاني اياه خالي (طوني Tony ) شقيق والدتي فقد كان هو الآخر غامضاً للغاية، وقد كان المغناطيس يلتقط جميع إبر والدتي , ثم بعد ذلك بدا المقص ممغنط أيضا، وكان على والدتي ان تزيل جميع الدبابيس والابر لتحول دون رجوع التصاقها به مرة أخرى.
نعم ،لقد كنت أود أن اعرف شيئاً عن تلك القوة الكامنة الخفية في قوة المغناطيس، وقد استقر بي الرأي أخيرا بأن ذلك المغناطيس كان لابد وبكل قطعي يحب تلك الدبابيس تماماً كماً تحب الام أطفالها، ثم ركضت نحو أمي وارتميت في حضنها مطوّقة عنقها بذراعيّ ، تماما كما تفعل الدبابيس مع المغناطيس،وقد وجدت أن في ذلك اهتماما بمنتهى الروعة، في الوقت الذي كان فيه بقية الأطفال يسخرون مني.
لقد كنت وحيدة ، وحيدة ، كنت في ذلك الشتاء أتلقى دروسا في العزف على البيانو،وكنت كلما أعزف مقطوعة جديدة مختلفة ، ينتابني شعور ما بداخلي، بأن الموسيقى الساكنة في داخل تلك المقطوع ، تمتلك بطريقة او بأخرى نفس المزايا و الانماط في المقطوعات الموسيقية التي كان يعزفها خالي"طوني" بعلبة الورق ، والتي كان يدعوها "بالمجسمات الهندسية".
عزفت أحدى تلك المعزوفات والتي كانت تبدو وكأنها تطلق مكعبات معدنية صغيرة، وبدت الاخرى وكأن النقاط تغطيها من أعلاها الى اسفلها، وظهرت منها كرات وكأنها كانت تتسلق على تلك النقاط.
كنت كلما أخرج لأتمشى مع والدتي في باحة المدينة، أنظر بانبهار إلى تلك النوافير، لاني كنت أرى من مصدر ينبوعها أشبه بالكائنات الخيالية وهي تتراقص وتلتف وتقفز،وكنت أشعر بأن منظر الماء الراقص في النافورة ليس إلا موسيقى هو الاخر، ولذلك فأنا لم أسمع الموسيقى بأذني فقط ، بل رأيتها بأم عيني، وكنت أعلم بأن تلك كانت موسيقى وقد كان ذلك كله واضحا لي تماما غير ان الاطفال في المدرسة ،كانو يضحكون علي كلما حدثتهم بذلك، وكانوا يقولون عني أنني "غبية" ولكن لم اكن أعرف لماذا، بيد أني عندما سمعت الاطفال يعزفون في صف الموسيقى أصبت بالدهشة وتساءلت في نفسي " ماهذا؟ ألم يكن بوسعهم أن يسمعوا ذلك النشاز الذي يقومون به ؟و كم كانوا يؤذون تلك الاشكال الهندسية في الموسيقى؟ لكن المعلم قالي لي انهم لم يكونوا يعزفون في إيقاع منتظم وموزون ، لقد كانوا تماما وكأن قلوبهم لم تنبض بالإيقاع، وما كانوا يُسمِعون أنفسهم بأنهم يعزفزن عزفا خاطئا؟
آه، لقد كان أمرا سيئا للغاية عندما كانو يعزفون الجملة الموسيقية بشكل خاطىء ، وقد كان ذلك يؤذي أذنيّ ولقد رغبت بالصراخ، غير أنهم لم يستطيعوا ان يسمعوا حتى ذلك، نظرت الى الاطفال بفضول وقلت لنفسي، اولا يسمعون؟؟ كيف ذلك ؟ ألا يشبهني بقية الاطفال؟ .
لقد كنت أعتقد بأن كل طفل،بل كل شخص كان يسمع و يرى كما أسمع أنا وأرى، ولكنني تعلمت شيئا فشيئا ان معظم الاشخاص كانوا يمتلكون عيونا وآذانا تختلف كثيرا عن عينيّ وأذنيّ، ولذا فأنهم كانوا يعتبروني شخصا شاذا عنهم ، لذلك كنت وحيدة ، وكنت أشعر بالوحدة أكثر فأكثر.