آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي وأثره النحوي

  1. #1
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية جمال الأحمر
    تاريخ التسجيل
    10/07/2008
    المشاركات
    1,626
    معدل تقييم المستوى
    17

    أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي وأثره النحوي


    أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي
    وأثره النحوي


    الدكتور شريف عبد الكريم النجار
    أستاذ النحو والصرف المساعد في كلية المعلمين بالإحساء


    ملخص البحث:
    يَتناولُ هذا البحث واحداً مِنْ الشَّخْصيّاتِ النَّحويّة الأندلسيّةِ التي كَانَ لها دورٌ بارزٌ في الحَياةِ العِلميّةِ في الأندلس في مُنتَصفِ القرنِ الخامسِ وأوائلِ القرن السادسِ الهجري، فَقد ساعدت هذه الشخصيّةُ على إثراءِ التراثِ النحوي في الأندلس،وذلك من خلال الصراعِ النحويّ الذي شهدته الأندلس،وكان بين اتجاهين: اتجاه يُنْقص من قيمة الفارسي وكتبِه، ويتزعّم هذا الاتّجاه ابنُ الطراوَةِ النحوي، وآخر يُقَدّرُ الفارسي وكتبه، وهو مَنْ عنى به هذا البحث،وهو أبُو الحَسَن بن الباذِش الغرناطي،وكلُّ اتجاهٍ منْهُما أيضاً يزعم أنّ ما فهمَه من عبارة سيبويه هو الصحيح.

    لم يَصِلنا مِنْ كتب أبي الحَسَن بن الباذِش سِوى قِطْعَةٍ صغيرةٍ من شَرْحِه على الجُمَلِ، نَقَلَها أبو حَيَّانَ الأنْدلسيّ في تَذْكِرةِ النُّحاةِ، كَما أنَّ هُناكَ مَجموعةً كبيرَةً مِنْ الآراءِ لابن الباذِشِ منثورة في كتب النحو،وقد اقتَصَرَ البَحْثُ على دراسَةِ آراءِ ابنِ الباذِشِ واخْتِياراتِه وتوجيهاتِه النحويّة،ولابن الباذِشِ آراءٌ واخْتِياراتٌ كثيرة في الصرفِ والقراءاتِ مَبْثوثةٌ في كتاب ولدِه أبي جعفر (الإقناع).

    تَنَاوَلَ الباحِثُ في البدايةِ الحياة العِلمِيَّة في عصر ابن الباذِش،ثُمَّ عَرَضَ لحياةِ ابن الباذِش، فتَحَدَّث عن نشأتِه وشيوخِه وتلاميذِه وكتبه،وتناول بعد ذلكَ آراءَه واخْتِياراتِه وتوجيهاتِه النحوية، وتَحَدَّثَ عن خِلافِهِ مع ابن الطَّراوَة،وختم البحثَ بالحديث عن أبرز ما توصّل إليه البحث، ويتضمّن ذلك الحديث عن بعض ملامح نحوه.

    ورأى الباحثُ أنّ ابنَ الباذِشِ شخصيّةٌ نحويّةٌ لها آراؤها التي يتفرَّدُ بها، كمَا أنَّ لهذِه الشَّخصيَّةِ محاولاتٍ في فهم عبارة سيبويه،وقد يختلف في فهمه مع غيره من النحاة، كمَا أنَّ لهذه الشخصية اهتِمامٌ خاصّ بالعللِ النحويةِ التي يَرى أنّها تُساعِد على فهم القضية النخوية.



    مُقدِّمة

    الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على إمامِ الخَلقِ وسيِّدِ المُرْسَلين وعَلى آله الذين اهْتَدوا بهَدْيِه، وسَلَكُوا نَهْجَه وسُنَّتَه وصَحْبِه الذين اتَّبَعُوه ونَصَروه، وانتَشَروا في الأرْضِ داعين لِدِينِه، وبعد:

    فقد أَخَذَت العلومُ في الأنْدلسِ تَزْدَهِرُ في عصرٍ تَمزَّقَ فيه الأندلسُ،وتَفرّقَ أهلُه شِيَعاً، وانقسمَت أرضُه إلى مَمالكَ وطوائِفَ عِدّةٍ، وكانَ هذا في القرنين الخامسِ والسادسِ،ففي القرنِ الخامسِ وُجدَ مُلوكُ الطوائِفِ،وفي نهايةِ القرنِ الخامسِ وبِدايَةِ القرنِ السادسِ وُجِد المرابطون،فهي فترةُ انْتِقالٍ وتَحَوُّلٍ سِياسيٍّ لمْ تَخلُ مِنْ الاضطرابِ والفَوضى السياسيةِ وعدمِ الاستِقرارِ.

    وكانَ أهْلُ الأندلسِ قبلَ هذينِ القرنَيْن قد اهتمّوا بعلومِ أهلِ المَشرقِ، فارْتَحَلوا طلباً لها،وجَلبُوا مَا وَضَعَه علماءُ المشرقِ مَعَهُم، فتَدَارَسُوه ودَرَّسوه لأبنائهم،وكَانَ مِنْ ضِمْنِ هذه العلومِ علمُ النَّحوِ والصَّرْفِ والقراءاتِ والتفسيرِ والفقهِ وأصولِه والحديثِ وعلومِه.

    وأخَذَتْ علومُ اللغةِ النَّصيبَ الكَبيرَ مِنْ هذه العلومِ، وكانَ مِنْ أهمِّ الكتبِ النَّحْويَّةِ التي أحْضَروها مَعَهم وتَدَارَسُوها كتابُ سيبويه وإيضاحُ الفارسيِّ وجُمَلُ الزَّجَّاجِيِّ والكافِي للنَّحَّاسِ،فاهْتَمَّ علماءُ الأندلسِ بهذِه الكتبِ وغيرِها، فشَرَحُوها وتَوَسَّعوا في شَرْحِها حَتّى إنّ كتابَ الجُمَلِ شُرِحَ في الأندلسِ أكثرَ ممّا شُرِحَ في الأندلسِ،وممّنْ شَرَحه ابنُ عُصفور، فعُرِفَ له أكثرَ مِنْ شَرْحٍ عَلى كتابِ الجُمَلِ.

    وكانَ مِنْ أبْرزِ عُلماءِ هذه الفَتْرَةِ عَالِمان كانَ لَهُما الدَّوْرُ الكَبيرُ في ازْدِهارِ الحَياةِ العِلميَّةِ،هما أبُو الحُسين بنُ الطّراوةِ وأبو الحسن بن الباذِشِ الغرناطي، فعلى هذين العَلَمَين أَخَذَ كَثيرٌ مِنْ علماءِ الأندلسِ مَعَارِفَهُم، وكَانا في تَنَافُسٍ ونِدّيّةٍ عِلميَّةٍ دائمةٍ.

    وقد اختارَ الباحِثُ شَخصيَّةَ ابنَ الباذِشِ الغَرْناطيّ لِتَكونَ مَوْضوعَ هذا البحثِ مَدفوعاً بعِدّةِ أمورٍ: مِنْها أهميَّةُ هذه الشخصيَّةِ،فهي أَبْرَزُ شَخْصيَّةٍ نَحْويَّةٍ في تلكَ الفترةِ، ومِنْها أنَّ هذه الشخصيَّةَ لمْ تَنَل اهتِمَامَ الباحِثين، فلم يكتبوا عنها، والسَّبَبُ في ذلك أنَّه ليسَ لهذِه الشَّخْصيَّةِ كُتُبٌ موجودةٌ، مَخطوطةٌ كانت أو مَطبوعةٌ، فآراؤه واختياراتُه مَبثوثةٌ في بُطونِ الكتبِ، ومِنْ هذِه الدَّوافعِ مُحاولةُ إبرازِ الفِكرِ النَّحْويِّ لِهذِه الشَّخْصِيَّةِ.

    وارْتَأَى الباحثُ تَقسيمَ هذا البحثِ إلى مُقدِّمَةٍ وثلاثةِ فُصولٍ وخَاتمةٍ،أمّا الفصلُ الأوَّلُ فحَمَلَ عنوانَ"عَصْر ابنِ الباذِش وحياتِهِ "،تَحدّثتُ فيه أولاً عن الفترةِ التي عاشَ فيها ابنُ الباذِش مِنْ ناحِيَةٍ سياسيَّةٍ وعِلميَّةٍ،ثمّ انتقلتُ إلى الحديثِ عَنْ حياةِ ابنِ الباذِش،وقد تَحَدثتُ في هذا المَوضِعِ عن اسْمِه وكنيتِه ومولدِه ولقبِه وأخلاقِه وعلمِه وشيوخِه وتلاميذِه وآثارِه وشعرِه ووفاتِه،ومِنْ الصُّعوباتِ التي واجَهَتني في هذا الفَصْلِ وُجودُ شخصياتٍ غيرِ معروفةٍ،فلمْ أعثرْ على ترجَمَةٍ لها،وأُحبُّ أنْ أُشيرَ هنا إلى أنّ هذا بحثٌ صَغيرٌ وليسَ كِتاباً، ولذلك تَعرّضتُ لشيوخ ابنِ الباذِشِ وتلاميذِه باختصار.

    وأمّا الفصلُ الثاني فهو بعنوان: " آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه النحويَّةُ "، وقد ضَمَّنْتُ هذا الفصلَ ما جَمَعْتُه مِنْ أمّهاتِ الكتبِ،وجَعَلْتُ هذا الفصلَ أربَعَة أقسام، الأوّلَ: آراؤه واختياراتُه وتوجيهاتُه في مَسائلَ نحويةٍ عِدّةٍ، والثاني: رأيُه في العاملِ النحويِّ في عِدَّةِ مَسائلَ نحويةٍ،والثالثَ: رأيُه في العلّةِ النحويةِ في بعضِ المَسائلِ، والرابعَ: توجيهاتُه لبعض الآياتِ القرآنيةِ.

    وأمّا الفصلُ الثالثُ فقد حَمَلَ عنوانَ: " خِلافُه مَعْ ابنِ الطَّراوَةِ "، وهذا هو أصغرُ فصولِ هذا البحثِ،والسببُ في ذلك أنّنا لا نَملكُ تلك الكتبَ التي وَضَعها هذان العالمان أثناءَ تنافُسِهما،فقلّةُ المَعلوماتِ هي السببُ في صِغَرِ هذا الفصلِ.

    وخَتَمتُ هذا البحثَ بالحديثِ عنْ نتائجِ هذا البحثِ،وقد تَضمّنَتْ هذه الخاتمةُ الحديثَ عنْ منهجِ ابنِ الباذِش النحويّ الذي حاولتُ اسْتِخْلاصَه من المَسائِل النحويةِ التي دَرَسْتُها، ويُضافُ إلى المَنْهَجِ اسْتِخْلاصُ النتائجِ في جَميعِ البحثِ.

    و أرجو أنْ تكونَ هذه المُحاولةُ قد أعطتْ هذا العالِمَ شيئاً مِنْ حَقّه علينا،ولا أدّعي أني قد أعطيتُ هذا العالِمَ كامِلَ حَقِّه، فهو يَحْتاجُ إلى دراسةٍ أكثرَ اتِّساعاً،وخِتاماً هذا جَهْدي قدّمتُ فيه ما أقْدَرَني اللهُ على تقديمِه،كما يَفتَحُ الباحثُ صَدْرَه لأيِّ نقدٍ مفيدٍ،وأرجو أنْ يَفيدَ الباحثون مِنْ هذا البحثِ كما أفادَ الباحثُ مِنْ غيرِه، كمَا أرجو أن يغفرَ لي ربُّ العالمين ما في هذا البحث مِنْ نَقْصٍ وزَلَلٍ. والحمد لله ربّ العالمين



    الفصل الأول: عصر ابن الباذِشِ وحياته

    أوّلاً:الحياة السياسية والعلمية في الأندلس في عصر ابن الباذِش

    وُجِدَ في الأندلسِ في الفترةِ ما بين (444528ه) نَمَطان من أَنماطِ الحكمِ،الأولُ ما يُعرَفُ بدولِ ملوكِ الطوائفِ، والثاني دولةُ المُرابطين، أمّا دولُ الطوائفِ فهي ممالكُ صغيرةٌ كانَ بعضُ الملوكِ قد شادها، وهي رمزٌ للفرقةِ والتناحرِ، ومن هذه المَمالك دولةُ بني جَهْوَر في قرطبةَ (422463ه) ودولةُ بني زِيْرِي بن مَنَاد في غرناطةَ (403483ه) ودولةُ بني عَبَّاد في اشبيليةَ (414484 ه) ودولةُ بني الأفْطَسِ في بطليوسَ(413488ه).

    وبقيت هذه الدولُ في نزاعٍ وفرقةٍ فيما بينها، فكلُّ دولةٍ منها تُحاولُ السيطرةَ على الأخرى، وكانت هذه الدولُ تستعينُ بالنَّصارى في هذه المُنازعاتِ، وبلغت هذه الدولُ من الضعفِ والهوانِ أنْ صارت تُؤدّي الجزيةَ للنَّصارى، واستغلَّ النصارى هذا الضعفَ، فَبَدَأوا بمُناوَشَةِ المسلمين،وبقي الأمرُ على هذه الحالِ حتى سقطت طُلَيْطِلَةُ بأيدي النصارى سنة 478ه،فتنبَّهَ بعضُ المسلمين لهذا الخَطَرِ الداهمِ فَأرسَلوا إلى أمير المسلمين يوسفَ بن تاشفينَ، فدخلَ الأندلسَ سنة 479ه، وبدأ المُرابِطونَ عهدَهم في محاولةِ السيطرةِ على الأندلسِ،واستمروا في حروب طاحنةٍ مع ملوكِ الطوائفِ من جهةٍ ومع النصارى من جهةٍ أخرى،ولم يستقرَّ الأمرُ لهم في الأندلسِ إلاّ في سنة 500ه حيث تمّ الاستيلاءُ على معظمِ دولِ ملوكِ الطوائفِ (1).

    هكذا كان الجوُّ السياسيُّ في الأندلسِ في القرنِ الخامسِ الهجري، فهو كما يلاحظ جوُّ تمزّقٍ وفُرقةٍ، فلم تشهد هذه الدولةُ الإسلاميةُ الاستقرارَ في الحياةِ السياسيةِ والعسكريةِ إلا في سنواتٍ قليلةٍ في عهد المرابطين 0

    والظاهرُ أنّ هذا الاضطرابَ السياسيَّ والعسكريَّ لم يكن تأثيرُه على الحياةِ العلميةِ كبيراً فقد استمرَّ التكوينُ الحضاريُّ لهذه الدولة،وشهدت الأندلسُ ازدهاراً علمياً وفكرياً لم يكن لها من قبلُ، فبقي العلماءُ عاكفين على الدرسِ والتحصيلِ في شتّى الفنون، وذلك يرجعُ إلى الرعايةِ التي حظيَ بها العلماءُ من حكامِ الأندلسِ، فقد كان ملوكُ الطوائفِ حَريصين على استقطابِ العلماءِ وتكريمهم، والظاهر أنهم كانوا يرون في العلماءِ عوناً لهم في نِزاعاتِهم، ولا يُنْسى أنّ بعضَ هؤلاء الملوكِ كان من المعروفين في العلوم والآداب كالمعتمدِ بن عبَّاد والمظفّرِ بن الأفطس.

    وشهد الأندلسُ نشاطاً علمياً في شتّى العلوم،فبرزت مجموعات كثيرة من العلماء، ففي العلوم الشرعية أذكر منهم: أبا مُحَمَّد بن حَزم الأندلسي الظاهري (2)(ت 456ه)،وأبا جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن الباذِش(3) (540 ه) صاحبَ الإقناع في القراءاتِ السبع، وابنَ عطية الأندلسي(4) (ت 542ه) صاحبَ المحرِّرِ الوجيزِ في التفسير،وأبا بكر بن العربي(5) (ت 543ه) والقاضي أبا الفضلِ عياض بن موسى(6) (ت 544ه)، وغيرهم كثير.

    وبرزَ في الشعرِ والأدبِ جملةٌ من الأدباءِ، أبرزُهم ملكُ دولةِ بني عبَّاد المُعْتَمدُ بن

    عبَّاد(7)، وابن زَيدونَ(8)،وابنُ خَفاجَةَ(9)، وابنُ حَمديسَ (10)، كما ظهرَ مجموعةٌ من العلماءِ في الطب، أشهرُهم ابنُ زُهْر الإشبيلي(11)،وكان هناك نشاطٌ في علومِ الرياضياتِ والفلكِ والتاريخِ وغيرها من العلوم.

    واهتم العلماءُ في هذا العصر بالنحو واللغة،ومن مظاهرِ هذا الاهتمامِ نشاطُ حركةِ التأليفِ في هذين الموضوعين، وكثرة العلماء فيهما، ومن أبرز العلماء الذين كان لهم جهدٌ ملحوظٌ في النحو واللغة:

    1 ابنُ سيدَه اللغوي علي بن إسماعيل (ت 458ه) صاحبُ المخصَّص والمحكم وشرح إصلاح المنطق (12).

    2 الأعلمُ الشَّنْتَمَري، أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى(ت476ه)،له تلاميذ كثر، منهم ابن أبي العافِيَة،وابن الطراوة،وغيرهما،وله من الكتب تحصيلُ عينِ الذهبِ والنكت في تفسير كتاب سِيْبَوَيْه وشرح ديوان الشعراء الستة،وغيرها(13).

    3 مُحَمَّد بن أبي العافِيَة اللخمي(ت509ه)الإمامُ بجامع إشبيليةَ،أخذ عن الأعلمِ الشَّنتمري، وكان من أهل المَعْرِفَة والأدب، أخذ الناس عنه ذلك (14).

    4 أبو مروان عبد الملك بن سراج (ت 489ه)(15).

    5 أبو بكر مُحَمَّد بن هشام المَصحَفي (ت481ه) (16).

    6 عبدالله بن مُحَمَّد بن السيد البطليوسي (ت 521ه) من كبار علماء الأندلس في اللغة والنحو والفلسفة والفقه، له الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، والحلل في أبيات الجمل وشرح الموطأ وغيرها من الكتب(17).

    7 ابن الأبرش خلف بن يوسف (ت 532ه) كان إماما في العربية واللغة، له حظ وافر من الفرائض (18).

    8 ابن الأخضر، أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن مهدي النحوي الإشبيلي (ت 514ه)(19).

    9 ابن الطراوة أبو الحسين سليمان بن مُحَمَّد (ت528ه) أخذ النحو عن الأعلم وابنِ سراج، قيل: كان أعلمُ أهلِ عصرِه بالأدبِ والعربيةِ،له الإفصاح والمقدمات على كتاب سِيْبَوَيْه والترشيح،وغيرها من الكتب(20).



    ثانياً: حياته

    اسمه وكنيته ولقبه ومولده

    هو(21) أبُو الحَسَن عليُّ بنُ أحمدَ بن خَلف بن مُحَمَّد الأنصاري الأندلسي الغرناطي المالكي النحوي،وزاد ابن فَرْحُون لقبَ (الباذِش) في اسمِه،فقالَ: عليٌّ بنُ أحمدَ بن خلف بن مُحَمَّد الباذِش الأنصاري(22)،ويبدو لي أنّ هذا هو الصوابُ في اسمِه، فقد عُرفت أسرةُ أبي الحسن في غرناطةَ ببني الباذِشِ(23)، فالباذِشُ ليس لقباً لأبي الحسن وحدَه وإنما هو لقبٌ لجميع أسرته.

    عُرِفَ أبو الحسن بهذا اللقب، وكذلك عُرِفَ به ولدُه أبو جعفر وحفيدُه أبو مُحَمَّد، وكان بعضُ الشيوخ يقول:(البَيْذِش)بكسر الذال، وقيل:معناها بالعربية: (الرجلان)(24).

    وُلِد أبو الحسن سنةَ أربع وأربعين وأربعمائة بغرناطةَ في أسرةٍ أصلُها من (جيان)(25) في الأندلس، وقد عُرفت بالتديِّن والعفافِ والورعِ،وهي أسرةٌ محبةٌ للعلمِ مجتهدةٌ في تحصيله، قال في الإحاطة عن أبي جعفرالرُّعَيْني (26): "هو مِنْ بَيْتِ تَصاونٍ وعَفَافٍ ودين والتزامٍ بالسُّنة كَانوا في غَرناطَة في الأشْعارِ وتَجْويدِ القرآنِ والامْتِيازِ بحَمْلِه وعُكوفِهم عليه نُظراءُ بني عظيمة بإشبيليةَ وبني الباذِش بغرناطة ".

    أخلاقه وعلمه

    عُرفَ أبو الحَسَن بالتزامِه بالدين مع ورعٍ صادقٍ وزهدٍ في الدنيا خالصٍ طيلةَ حياته (27)، وكان إمامَ الفريضةِ بجامع غرناطة(28)،كما عُرفَ بالتَّواضُعِ، فقد كانَ مُحِبّاً للعلم مجتهداً في طلبه،فيَجْلسُ مُسْتمِعاً أو قارئاً على العلماءِ مَعْ تَلامِذَتِه، يقولُ ابنُ عياض وهو أحَدُ تلامذته (29): " كانَ مَعْ تَصَدّرِه وتَقَدّمِه لا يَقطَعُ الطلبَ والسَّماعَ والرِّحْلةَ،سَمِعَ مَعَنا عَلى الشيوخِ، وكانَ يَقرَأ على المُقرِئينَ ما فَاتَه مِنْ رِوايةٍ ".

    وقيلَ في عِلمِه (30): " وكَانَ من أهْلِ المَعْرِفَةِ بالآدابِ واللغاتِ والتَّقدّمِ في علمِ القراءاتِ والضَّبْطِ للرواياتِ، وكانَ حَسَنَ الخَطِّ جَيِّدَ التَّقْييدِ، وله مُشاركةٌ في الحديثِ ومَعرفةٌ بأسْماءِ رجالِهِ ونَقَلَتِه،وكان مِنْ أهلِ الروايَةِ والإتقانِ والدّرايةِ "، فقد جَمَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش علمَ القرآنِ والحديثِ واللغةِ والشعرِ والنحوِ،فكان من أهل المَعْرِفَة في علومٍ عدّة.

    ويشهدُ على علمِه في القراءاتِ كتابُ ولدِه أبي جعفر حيثُ يحسُّ القارىءُ لكتابِ الإقناعِ في القراءاتِ السبعِ أنَّ أبا الحَسَن مؤلِّفٌ مُشاركٌ في هذا الكتابِ، فقد ذكره ولدُه أكثرَ من خمسين مرّة ناقلاً عنه مستنيراً برأيه،وكانَ ولدُه أبو جعفر مُعجباً به وبعلمِه ونفاذِ رَأيِه حتى إنه قال فيه(31): " وحقّ على من أوتي بسطةً في اللسان، وبُوِّىء ذروةَ الإحسان، وأخذ عن النقابِ الماهرِ والشهابِ الزاهر، أستاذِ الأستاذين، وجهبذِ الجهابذة الناقدين أبي الحَسَن علي بن أحمد رضي الله عنه، بقية الأعلام، وذخيرة الأيام "،وقال أيضا (32): " وطالعت أبي أيّده الله في مشكله وعويصه،فلما سَرّه وأرضاه وأقرّه وارتَضاه، وتقلّده وانْتَضاه، كشفت عنه قناعاً مغدَقاً،وأطلعته نوراً يجلو سُدَفاً، ودرّاً فارق من الكتمان صدفاً استناداً إلى عارضتِه الشديدةِ المكينة، وموادّه العتيدةِ المنيعةِ، لأنّه يَغْرفُ من بُحور، ويسعى بين يديه أوضحُ برهان وأسطعُ نورٍ، فدونَك منه فائدةً تُشَدّ الرحالُ فيما دونَها، ويَلقاها الرجال ولا يعدونها ".

    ويَشهدُ على علمِه في الحَديثِ ورجالِه وعلومِ القرآنِ والأدبِ مَا ذَكَرَه ابنُ الأبارِ مِنْ مسموعاتِ ابنِ الباذِش في علومٍ عدّة،فيُدرِكُ القارىءُ لهذِه المسموعاتِ مَدى مَعْرِفَةِ ابنِ الباذِش في هذِه العلومِ، قالَ ابنُ الأبارِ(33): " ومِنْ جُمْلةِ مَسْمُوعاتِه الغَريبان للهَرَويّ والناسخُ والمَنسوخُ لهبةِ اللهِ، ومسندُ البزّارِ، والشَّمائِلُ للترمذي، والمُؤتلِفُ والمُخْتلِفُ للدارقطني ولعبد الغني، ومُشتبَهُ النسبةِ له، ورِياضَة المُتعَلمين لأبي نعيم، وأدبُ الصحبَةِ للسلمي،وحديثُ يونس بن عبد الأعلى،وحديثُ الزعفراني، وعَوالي الزَّيْنبي، وعَوالي ابنِ خيرون،وعدة مجالس من أمالي أبي الفوارس، وأمالي ابن بشران وكثير من الأجزاء سوى ما لم أقف عليه من الدواوين ".

    أمّا علمُه في النحو فهو العلمُ الذي عُرفَ به، وانفردَ به دونَ غيرِه مِنْ العلومِ التي شارَكَ فيها، قيلَ عنه (34): " كان من أحفظِ الناسِ لكتابِ سِيْبَوَيْه وأرفقِهم به "، وكَانَ يَعتَدُّ بنَفْسِه في هذا العِلمِ، قال أبو بكر بن الرّمَاليّة(35): "سمعتُ أبا الحَسَن بن الباذِش يقولُ:نُحاةُ الأندلس ثلاثةٌ:أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي العافيةِ وأبو مَروانَ بنُ سِراج أو ابنُه أبو الحُسَين شكّ أبو بكر وكانَ يسْكُتُ عَنْ الثالثِ فيَرَونَه يريدُ نفسَه "،كما يشهدُ على تَفرّده بهذا العلم دونَ غيره مُصَنَّفاتُه التي سأُشيرُ إليها، فلم يُذكر عنه أنّ له جُهداً في عِلمِ الحَديثِ أو غَيرِه مِنْ العلومِ.

    شيوخه

    ذَكَر ابنُ الأبار أنّ لأبي الحَسَن بنِ الباذِش برنامجاً حافلاً في تسميةِ شيوخِه وما أَخَذَ عنهم (36)، كما ذكر ابنُ خير أنَّ لأبي جعفر بن الباذِش كتاباً جَمَعَ فيه شيوخَ والدِه(37)،ويَدلُّ هذا عَلى كَثرةِ الشيوخِ الذين اتصلَ بهم أبو الحَسَن بن الباذِش، وهذا يناسب العصر الذي عاش فيه ابن الباذِش، فهو عصرٌ زاخرٌ بالعُلماءِ الذين قدّموا للبشرية حضارةً راقيةً، وللأسَفِ لم يصلنا شيء من هذا البرنامج الذي ذَكَره ابنُ الأبارِ أو مِنْ مُؤلّفِ وَلدِه،وسأعرض في هذا الموضع بإيجاز لشيوخ ابن الباذِش:

    1 أبو بكر مُحَمَّد بنُ هِشَام بن مُحَمَّد القَيْسي المَصْحَفيّ (ت481ه) مِنْ كبارِ عُلماءِ قرطبةَ،أَخَذَ عن ابنِ القوطية وصَاعِد بن الحَسن وغيرهما، وتتلمَذ على يديه أبو الحُسَين ابنُ الطَّرَاوَةِ وغَيرُه، ومَرْوِيّاتُه تدلُّ على اهتِمامِه باللغةِ والنحوِ والأدبِ (38).

    2 أبو مَروانَ عبدُ الملك بنُ سِراج بن عبد الله (ت489ه)(39) عَدّه أبو الحَسن بن الباذِش من نُحاةِ الأندلس الذين يُعْتدُّ بهم(40)،كان مهتما بكتابِ سِيْبَوَيْه فيُروى أنَّه عَكَفَ على كتابِ سِيْبَوَيْه ثمانية عشر عاما لا يَعْرِفُ سواه،أخذ عن مَكيّ بن أبي طالب وابنِ الإفْلِيْلِيّ.

    3 أبو عَليّ الحُسينُ بن مُحَمَّد بن أحمد الغساني(ت 498ه) رئيسُ المحدثين بقرطبة،وأَخَذَ عنه ابن الباذِش علوم الحديث ذكر ابنُ بشكوال أن ابن الباذِش قد أكثرَ من الأخذِ عنه (41).

    4 أبو عَليّ الحُسَين بن مُحَمَّد بن سَكْرة الصَّدَفيّ(ت514) كان حافظاً لمصنفات الحديث وأسانيدها ورواتها،له التعليقة الكبرى في الخلاف والمعجم (42).

    5 أبو الحُسَين سراجٌ بنُ عبدِ المَلِك بنُ سراجٍ بنُ عبدِ الله بنُ سَراجٍ (ت 508ه) قالَ فيه أحَدُ العلماءِ: كانَ أبو الحُسَين مِنْ أكمَلِ أَهْلِ عَصْرِه مروءةً وصيانَةً وأوسَعَهم مالاً وجَاهاً وأكْثرَهم مهابَةً يَجْتِمعُ إليه للسَّمَاعِ في الأربعين والخمسين من رُؤساءِ الملثمين ومهرةِ الكُتَّابِ كأبي عبدِ الله بنِ أبي الخِصَالِ وأبي بكر بنِ عبدِ العزيز وجلة أستاذيّ النحو كأبي القاسم بن الأبْرَشِ وأبي الحَسَن بن الباذِش، وكُلُّهُم إليه مفتقرون لِوُقوفِه على مواد النحو من أشعار العرب وحكاياتها ولغاتها وأخبارها (43).

    6 أبو القاسم نعم الخلف بن مُحَمَّد بن يحيى الأنصاري(44).لم أستطع العثور على ترجمة له.

    7 أبو جعفر بن رزق (45).لم أستطع العثور على ترجمةٍ له.

    تلاميذه

    أَخَذَ العِلمَ عن ابنِ الباذِش كثيرٌ من التلاميذ،ولم يَأخُذوا عنه علمَ النَّحو دونَ غيرِه مِنْ العلومِ التي يُتْقنُها، فمِنْهم مَنْ أَخَذَ عنه علمَ القراءاتِ، وبعضُهم أَخَذَ عنه في علوم الحديث،وأذكر ها هنا أسماء تلاميذه فقط مختصراً:

    1 ابن الأبْرَش خلف بن يوسف (ت532ه)(46).

    2 مُحَمَّد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني (ت538ه)(47).

    3 ولده أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري المعروف بابن

    الباذِش (ت540ه) صاحب الإقناع في القراءات (48).

    4 أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الخِصال (ت540ه) (49).

    5 مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن أبي خَيْثَمة الجبائي (ت540ه)(50).

    6 عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عطية (ت 541ه)صاحب المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز(51).

    7 أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال (ت 578ه)(52).

    8 القاضي عياض بن موسى بن عياض اليَحْصبي (ت544ه)(53).

    9 علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن الضحاك الفِزاري (ت557ه)(54).

    10 القاضي أبو الإصبغ عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي (55)،لم أعثر على سنة وفاته.

    11 أبو داوود المقرىء (56)،لم أعثر على سنة وفاته.

    12 القاضي أبو عبدالله بن عبد الرحيم الأنصاري(57)،لم أعثر على سنة وفاته.

    13 مُحَمَّد بن سابق الصِّقِلّي (58)،لم أعثر على سنة وفاته.

    14 القاضي أبو خالد عبدالله بن أبي زَمَنين(59)،لم أعثر على سنة وفاته.

    15 أبو عبد الله النميري،وهو صهر أبي الحسن(60)، لم أعثر على سنة وفاته.

    16 أبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف اللَّخمي المعروف بابن الدبَّاغ(61)،لم أعثر على سنة وفاته.

    17 علي بن موسى بن حَمَّاد، نقل تعليق ابن الباذِش على كتاب الجمل(62)،لم أعثر على سنة وفاته.

    18 مُحَمَّد بن عُرَيب بن عبد الرحمن بن عُرَيب العبسي (63)،لم أعثر على سنة وفاته.



    آثاره

    اتَّسَم عصرُ أبي الحسن بكثرةِ الشروحِ والتعليقاتِ على كتبِ أهل المشرق، فاهتموا كثيراً بكتابِ سِيْبَوَيْه وبمؤلَّفاتِ أبي علي الفَارِسِيّ وابن جِنِّي وبجمل الزجاجي،ولم يخرج ابنُ الباذِش عن هذا النهجِ، وقد نَسَبَ المترجمون له مجموعةً من الكتب، وللأسفِ لم يصلنا أيُّ كتابٍ منها، وهذه الكتب هي:

    1 شرح كتاب سِيْبَوَيْه(64).

    2 شرح الأصول لابن السراج(65).

    3 شرح المُقْتَضَبِ من كلام العرب(66)،وهو كتاب لابن جِنِّي في اسم المَفْعُول من معتلِّ العين،وذكر ابن فَرْحُون أن له كلاماً على المقتضب(67)، فيُحتمَلُ أن يكون تعليقة على كتاب المُبَرّد.

    4 شرح الجمل للزجاجي (68)،وقد وَصَلَنا بعضُ الصفحاتِ من هذا الكتاب، نَقَلَها أبو حيَّانَ الأندلسي في تذكرته(69).

    5 شرح الإيضاح لأبي علي الفَارِسِيّ(70)، ولابن الباذِش أبياتٌ في إعجابِه بالإيضاحِ ومؤلِّفِه.

    6 شرح الكافي لأبي جعفر النحاس (71)، وذكر ابن فَرْحُون أن ابن الباذِش خَطَّأ النحّاسَ في نحو مئةِ موضع (72).

    7 برنامج شيوخ ابن الباذِش(73).

    شعره

    لم يصلنا من شعر أبي الحسن بن الباذِش إلاّ أبياتٌ قليلة يمدح فيها أبا علي الفَارِسِيّ ويبدي إعجابه بكتابه الإيضاح العضدي، قال (74):

    أضِعِ الكَرى لِتَحَفُّظِ الإيضاحَ وصِلِ الغُدُوَّ لِفهمه بِرَواحِ (75)

    هو بُغْيَةُ المُتَعَلِّمين ومن بَغى حَمْلَ الكتابِ يَلِجْه بالمفتاحِ

    لأبي علي في الكتابِ إمامَةٌ شَهِدَ الرواةُ لَها بفَوزِ قِداحِ

    يَقضي على أسراره بنَوافِذٍ مِنْ علمِه بَهَرَت قُوى الأمْداحِ (76)

    فيُخاطِبُ المُتَعَلمينَ بلفظِه ويحلُّ مُشْكِلَه بوَمْضةِ واحِ

    مَضَت العصورُ وكلُّ نَحْوٍ ظلمةٌ وأتى فكان النحْوُ ضوءَ صباحِ

    أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا بحروفه في الصُحُفِ والألواحِ

    وإذا همو سَمِعوا النصيحة أنْجَحوا إن النَّصيحة غِبُّها لنجاحِ (77)

    كما ذكر له المترجمون بيتين من الشعر في الزهد، قال(78):

    أصبحتَ تَقعُدُ بالهَوى وتقومُ وبه تَقْرِظُ معشراً وتذيمُ (79)

    تَعْنيكَ نفسُك فاشْتَغِل بصَلاحِها أنّى يُعيِّر بالسَّقامِ سقيمُ(80)



    وفاته

    أجمعَ المُتَرجِمون لأبي الحسن بن الباذِش على أنَّ وفاتَه كانت ليلةَ الاثنين الثالثة عشرة من المحرم سنة ثمان وعشرين وخمسمائة هجرية، وعمره أربعٌ وثمانون سنةً، قال ابن الأبار يصِفُ يومَ وفاتِه (81): " وصَلَّى عليه ابنُه أبو جعفر عصرَ ذلك اليوم بالمسجد الجامع وشَهدَه جَمْعٌ عظيمٌ، وما وَصَلَ إلى قبره إلاّ مع الأصيل لازدحام الناس عليه حتى كَسَروا النعشَ،وانصرفوا من دفنه بين العشاءين، وجمع به الخاص والعام، قال ابنه: فلم أرَ يوماً أكثرَ باكياً منه " 0

    وقال أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السعدي في رثاء عالمنا أبي الحسن بن الباذِش (82):

    أبا حَسَنٍ ظَعَنْتَ وكُلُّ حيّ سيَظعَنُ بالبعادِ أو الحِمامِ

    بعثت إلى خَليلِكَ من أساه بما بعث الهديل إلى الحَمامِ

    فإن عَجِلتْ ركابك فاستقلّت إماماً والفَضيلةُ للأمامِ

    فإنا سوف نلحق كيف سارت على تَعَبٍ هنالك أو جُمامِ



    الفصل الثاني: آراؤه واختياراته وتوجيهاته النحوية

    آراؤه واختياراته وتوجيهاته النحوية

    نَقَلَ لنا أبوحيَّانَ الأندلسي في تذكرتِه مقطوعاتٍ عدّة من كتبٍ نَحْويةٍ مُهمّةٍ لايكادُ يوجدُ من هذه الكتب إلا القليلُ، ومن ضمن هذه المقطوعاتِ جزءٌ ليسَ باليَسيرِ من شرح أبي الحسن بن الباذِش على كتاب الجمل للزجاجي(83)،والذي رواه لنا أحدُ تلامِذَتِه وهو علي بن موسى بن حَمّاد،ويمكن من خلال هذا الجزء من الكتاب وما نَقَلَه النُّحَاة في كتبهم من آراء لابن الباذِش التعرف على ملامح نحوه، وسأحاول في هذا البحث تناول هذه الملامح عسى أن أوفي هذا العالم حقّه.

    أوّلاً:آراء واختيارات وتوجيهات نحوية متفرقة

    الفرق بين الإعراب وعلاماته

    يَرى ابنُ الباذِش أنّ الإعرابَ وعلاماتِه تغييران لآخِرِ المعربِ بالعامِلِ(84)، والفرقُ بينَهما كما يرى ابن الباذِش أنّ زوالَ الإعرابِ عن الكلمةِ بالوقفِ أو غيره لا يُغَيّرُ من بناءِ الكلمةِ ومَعْناها، أمّا زَوالُ العلامةِ فيَتَرَتّبُ عليه انتقالُ الكلمةِ من بناء إلى آخرَ وتغييرُ المَعْنى، ويمثّل ابن الباذِش على ذلك بالتثنيةِ والجَمْعِ والأسماء الستة، فالملاحظ أنّ بناءَ(رجل) يختلفُ عن بناءِ (رجلان)، وكذلك (أخوك) و(أخ) و(زيدون) و(زيد)، فكُلّ بناءٍ من هذه الأبنية يختلفُ عن الآخرِ، كما أنّ المَعْنى في البناءِ الأوّل يختلفُ عن المعنى في البناء الثاني، ويرى ابن الباذِش أنّ اختلافَ المَبْنى والمَعْنى مَرَدُّه إلى زَوالِ علامةِ الإعرابِ عن البناءِ الأوّل.

    تفسير معنى المضارعة

    يَذهبُ ابن الباذِش إلى أنّ صَلاحَ المُضارِعِ لِزَمَانِ الحالِ والاستقبالِ هو المَعْنى الذي ضارَعَ به اسمَ الفاعلِ، فالفِعْل المُضارعُ يَدلُّ على جزءٍ مما يدلُّ عليه اسمَ الفاعلِ الذي يصلحُ للأزمنة كلها، ويرى ابنُ الباذِش أنّ هذا هو رأيُ سِيْبَوَيْه(85).

    ويَرى أنّ الفِعْل يُضارعُ اسمَ الفاعل وغيرَه من الأسماء، ويَستند في هذا إلى أنّ بعضَ حُروفِ المَعاني تدخلُ على المُضارع فتُخَصّصُه وتَرْفَعُ الصلاحَ عنه،كما تدخل هذه الحروف على الأسماء الصالحة لذلك،ومثال ذلك أنّك إذا قلت: (يقوم) فهو صالحٌ للحال والاستقبال، فإذا قلت: (سوف يقوم) فقد خصَّصْت الفِعْل للاستقبال فتَقْصرُ الفِعْل على شيءٍ محدّدٍ (86).

    أمّا عبارةُ سِيْبَوَيْه فالمفهومُ الظاهرُ منها أنّ اجتماعَ الفِعْل والفاعلِ في المَعْنى هو السببُ في حُصولِ معنى المُضارعَةِ، يقول(87): " وإنّما ضارعت أسماء الفاعلين أنّك تقول: (إنّ عبد الله ليفعل) فيوافق قولك: (لفاعل) حتّى كأنّك قلت: (إنّ زيداً لفاعل) فيما تريد من المعنى "، ويقول: " إلا أنّها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى "،فالمقصودُ من هذا أنّ مُضارعةَ الفِعْل لاسم الفاعِل إنّما كانت لاتّفاقهما في المعنى حتّى إنّ كلَّ كلمةٍ منهما يمكن أن تسدَّ مسدّ الأخرى،ولم تكن المضارَعةُ لمُجَرَّد اتفاقهما في وقوعهما خبراً،أو في دخول اللام عليهما.

    حدّ الفِعْل الماضي والمستقبل

    عَرَّفَ الزَّجّاجيُّ الفِعْل الماضي بقوله(88):" ما حَسُنَ فيه أمسُ " وعَرَّفَ المستقبلَ بقوله (89):"ما حَسُن فيه غد "، ويَرى ابنُ الباذِش أنّ هذا الحدَّ غيرُ سديدٍ مستنداً إلى لفظِ سِيْبَوَيْه، فَحَدُّ الزَّجّاجي يوجبُ أن يكونَ قولُكَ: (قامَ زيدٌ غداً) و(يقومُ زيدٌ أمس) قبيحاً(90)،والصحيحُ أنّه مُحالٌ كما هو رأيُ سِيْبَوَيْه، يقول سِيْبَوَيْه (91):"وأمّا المُحالُ فأن تنقضَ أوَّلَ كلامِك بآخِرِه فتقول: (أتَيتُك غداً) و(سآتيك أمس) ".

    وهذا الاعتراضُ اعتراضٌ لفظيٌّ على استعمالِ الزَّجّاجي لكلمةِ (حَسُن)، والصَّحيحُ أنّه يُفْتَرَضُ استعمالُ كلمةِ (استقام)،فالمُحال ضدّه المُستقيم، والتحقيق في حدّ الفِعْل الماضي عند ابن الباذِش (92): (ما استَقامَ فيه أمس) والمستقبل: (ما استَقامَ فيه غد).

    ويرى ابنُ الباذِش أنّ الكلامَ قد يكون مُستقيماً حَسَناً كقولك: (قد قامَ زيدٌ)،وقد يكون مستقيماً غيرَ حَسَن نحو: (قد زيدٌ قامَ) (93).



    الفِعْل الدائم نقد للزجّاجي



    ذكَرَ الزَّجّاجي في جُمَلِه أنّ فعلَ الحالِ يُسَمّى الدائمَ(94)،ويَبْدو أنّه أخَذ هذه التسميةَ من الكوفيين، إلاّ أنّ الكوفيين يُطْلِقون (الدائم)على اسمِ الفاعلِ دون الفِعْل المُضارعِ لكونه يَصْلُحُ للأزمنَةِ الثلاثةِ، ويرى ابنُ الباذِش أنّ إطلاقَ الزجّاجي مُصْطلحَ (الدائم) على الفِعْل فاسِدٌ، قال(95): "فأتى به أبو القاسم على أنّه الفِعْل البتةَ فأفسده ".

    انتصاب (غير) في الاستثناء

    شَبَّهَ ابنُ الباذِش انْتِصابَ (غَيْر) إذا كانَتْ بمَعْنى الاسْتِثْناءِ بانْتِصابِ الظَّرْفِ المُبْهَمِ،وناصِبُه هو الفِعْلُ، فكَما يَصِلُ الفِعْلُ إلى الظَّرْفِ المُبْهَمِ بنَفْسِه فكَذلِك (غَيْر) يَصِلُ إِلَيْها الفِعْلُ بنَفْسِه دونَ واسِطةٍ، وهو مُشَبَّهٌ بظَرْفِ المَكانِ في نَحْوِ قولك: (وَقَفوا أَمامَكَ) و(خَلفَكَ)، فالظَّرْفُ هاهنا مُنْتَصِبٌ بالفِعْلِ دونَ واسِطَةٍ، ونُسِبَ هذا الرأيُ للسِّيرافِيِّ(96).

    ورَأى ابنُ عُصْفور والمَغارِبَةُ أنَّ (غَيْرَ) تُنْصَبُ كَمَا يُنْصَبُ الاسْمُ بَعْدَ (إلاّ) في الاسْتِثناءِ، والمُشابَهَةُ بَيْنَهما أَنَّ (غَيْر) جاءَتْ فَضْلةً بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ كما أَنَّ المُسْتَثْنى فَضْلةٌ جاءَ بَعْدَ تَمامِ الكَلامِ (97).

    واخْتارَ ابنُ مالِك نَصْبَ (غَيْر) عَلى الحالِ(98)، وأجَازَ أَصْحابُ هذا الرأيِ تأويلَ (غَيْر) بمُشْتَقٍّ، فقيلَ في قولك: (قَامَ القَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ): قَامَ القومُ مُغَايِرينَ لِزَيدٍ، ولم يُنْكرْ هؤلاء مَعْنى الاسْتِثناءِ المَوْجُودِ فيها، فقالوا: هي مَنْصُوبةٌ عَلى الحالِ وفيها مَعْنى الاسْتثناءِ(99)، ونُسِبَ هذا الرأيُ لسِيْبَوَيْه(100)، وهو مَنْسُوبٌ عِندَ أكْثرِ النُّحَاةِ إلى الفَارِسِيِّ، قالوا: ذَكَرَه في التَّذْكِرةِ(101)، ولم أجِدْ هذا الرأيَ في كُتُبِ الفَارِسِيِّ التي تَيَسَّرَ لي الاطلاعُ عليها.

    وأرى أنّ الرأيَ الذي ذَهَبَ إليه ابنُ مالِك لا يَقْبَلُه المَنْطِقُ اللُّغَوي، إذ كيف يمْكِنُ للاسمِ أنْ يَحْملَ دَلالتين في وَقتٍ واحِدٍ، ف(غَيْر) عِنْدَه مَنْصُوبةٌ على الحالِ وتَحْمِلُ معنى الاسْتثناء،كَما أَنَّ تأويلَهُم للجُمْلةِ لا يُساعدُ على فَهمِ المَعْنى،وأرى أَنَّ تَوجيهَ ابنِ الباذِشِ هو الصَّوابُ، وأمّا رأيُ ابنُ عُصْفور والمَغاربة فرَأي صحيح لو ذَهَب إلى رأيِ الجُمْهورِ في نصب المُسْتثنى، ولكنَّه يرى أنَّه مَنْصوبٌ عن تَمامِ الكلامِ،وكذلك (غَيْر).

    إضافة (بينا) إلى الجملة

    تابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش أبا عليٍّ الفَارِسِيِّ وابنَ جِنِّي في مَسْأَلَةِ إِضَافَةِ (بَيْنا) إلى الجُمْلَةِ، وهم يَرَونَ أَنَّ (بَيْنا)في حَقيقَتِها مُضافَةٌ إلى زَمَانٍ مُضَافٍ إلى الجُمْلَةِ، وأَضَافُوهَا إلى ظَرْفِ الزَّمَانِ دُونَ ظَرْفِ المَكَانِ لِغَلبَةِ إِضَافَةِ الأزْمِنَةِ إلى الجُمَلِ دونَ الأمْكِنَةِ،ويَكُونُ تَقْديرُ قَوْلِكَ: (بَيْنا زَيْدٌ قائِمٌ إذْ أَقْبَلَ عَمْروٌ): بَيْنا أوقاتِ زَيْدٌ قائِمٌ أَقْبَلَ عَمْرو (102).

    وهذا يُؤَكِّدُ أنَّ الزَّمَانَ الذي رَآهُ ابنُ جِنِّي وغَيْرُه مِنْ العُلَماءِ في (إذ) الفُجَائِيَّةِ هو في الحَقيقَةِ مَفْهُومٌ مِنْ(بَيْنا)، فلا شكَّ أَنَّ (بَيْنَ) تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ والمَكَانِ، لكنّ (بَيْنا) و(بَيْنَما) تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ -غالبا- لِكَوْنِهِما تُضَافَان إلى الأزْمِنَةِ.

    تَعَلُّقُ لامِ المُسْتَغاثِ لَه

    اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في لامَيْ الاسْتِغَاثَةِ في نَحْوِ قولِ الشاعِرِ:

    تَكَنَّفَني الوُشَاةُ فَأزْعَجُونِي فَيَا لَلَّه لِلوَاشِي المُطَاعِ(103)

    ففي لامِ المُسْتَغَاثِ بِهِ أَقْوَالٌ،مِنْها أنَّها زَائِدَةٌ ولا تَتَعَلَّقُ بِشَيءٍ، ومِنْها أَنَّها تَتَعَلَّقُ بفِعْلِ النِّداءِ، ومِنْها أَنَّها تَتَعَلَّقُ بِحَرْفِ النِّداءِ(104).

    أَمَّا لامُ المُسْتَغَاثِ لَهُ ففي تَعَلُّقِها عِدَّةُ أَقْوَالٍ، فمِنْهُم مَنْ عَلَّقَها بفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، ومِنْهُم مَنْ عَلَّقَها باسْمٍ،وقد ذَهَبَ جُمْهورُ النُّحَاةِ إلى أَنَّ هذه اللامَ مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلٍ مَعْ اخْتِلافِهِم في هذا الفِعْلِ، فالفَارِسِيُّ يَرى أَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بفِعْلٍ فيه مَعْنى الدُّعاءِ، فعَنْ ابنِ جِنِّي أنَّه قالَ (105): " سَأَلَ أبو عليٍّ فقالَ: اّللامُ الثانِيَةُ مِنْ قَوْلِه:

    ………………………. فيَا لَلنَّاسِ لِلوَاشِي المُطَاعِ

    بأَيِّ شَيءٍ تَتَعَلَّقُ؟ فقلتُ: لا يَجوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بالَّلامِ الأولى؛ لأنَّ الأولى مُتَعَلِّقةٌ ب(يا)، ولا ضَمِيرَ فيها، فيَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِها شَيءٌ،فقالَ: تَتَعَلَّقُ بمَعْنى الدُّعَاءِ؛ لأنَّ:(يَا لَزَيدٍ) في مَعْنى:يا زَيْدُ، أيْ:أدْعُو،فَكَأَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ ب(أَدْعُو) الذي دَلَّ عَلَيْه (يَا لَلنَّاسِ) ".

    ومِنْ النُّحَاةِ مَنْ ذَكَرَ أنَّها تَتَعَلَّقُ بفِعْلِ النِّداءِ(106)،ومِنْهم مَنْ قَدَّرَ (أَدْعُو)غَيرَ الفِعْلِ الأوَّلِ المَفْهُومِ مِنْ النِّداءِ فكَأَنَّه قالَ: أَدْعُوك لِزَيدٍ(107)، ومِنْهُم مَنْ اشْتَقَّ فِعلاً مِنْ الاسْتِغاثةِ،ورَأى أَنَّ الَّلامَ الثانِيَةَ تَتَعَلَّقُ بفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُه (اسْتَغَثتُ)(108)،وذَهَبَ الرَّضيُّ إلى أَنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بمَا تَعَلّقَتْ به الَّلامُ الأولى(109)، واللامُ الأولى مُخْتَلَفٌ في تَعَلُّقِها،فالرّضيُّ لمْ يُحَدِّدْ مَا تَعَلَّقَتْ به الَّلامُ الأولى.

    هذه آراءُ مُعْظمِ النُّحَاةِ في هذِه المَسْألَةِ، فأَكْثَرُهُم يَذْهَبُ إلى تَقْديرِ الفِعْلِ، ولمْ أَرَ أَحَداً مِنْ النُّحَاةِ يُقَدِّرُ اسْماً في هذا المَوْضِعِ سِوى أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش الغَرْناطيّ، فقد تَفَرَّدَ في هذا الرَّأيِ، وذَهَبَ إلى أَنَّ لامَ المُسْتَغاثِ لَه مُتَعَلِّقةٌ باسْمٍ مَحْذوفٍ في مَوْضِعِ الحالِ، والتَّقْديرُ عِنْدَه: يا لَلّهِ مَدْعوّاً لِلواشي(110).

    وأَرَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إليه ابْنُ الباذِش الغَرْناطيُّ في تَقْديرِه لا يختَلِفُ كثيراً عَنْ الجُمْلَةِ الفِعْليَّةِ التي قَدَّرَها الجُمْهورُ، فلا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْديرَينِ مِنْ جِهَةِ المَعْنى،لكنّ تَقْديرَ الجُمْهورِ يَجْعَلُك تَتَعامَلُ مَع جُمْلَتَين، وتَقْديرُ ابنِ الباذِش تَتَعامَلُ فيه مَع جُمْلةٍ واحِدَةٍ،ولِذلِكَ أَرى أَنَّ رَأيَ ابنِ الباذِش أَقْرَبُ إلى الذِّهْنِ مِنْ رَأيِ الجُمْهورِ.

    مَسألة في التنازع

    مِنْ شَرْطِ التَّنَازُعِ عِندَ ابنِ مَالِك ألاّ يَكُونَ المُتَنَازَعُ فيه سَبَبِيّاً مَرْفُوعَاً، فليسَ مِنْ التَّنازُعِ قَوْلُكَ: (زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ مُسْرِعٌ أَخُوه)، قالَ (111): " لأنّكَ لو قَصَدْتَ فيه التَّنازُعَ أَسْنَدْتَ أَحَدَ العَامِلَيْن إلى السَّبَبَيَّ،وهو الأخُ، وأَسْنَدْتَ الآخَرَ إلى ضَمِيرِه، فيَلزَمُ عدمُ ارْتِباطِه بالمُبْتدأ؛ لأنّه لمْ يَرْفَعْ ضَمِيرَه ولا مَا التَبَسَ بِضَمِيرِه"، وهذا حَاصِلٌ أَيْضاً في قَوْلِ كُثَيّر(112):

    قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فوَفَّى غَرِيْمَه وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّىً غَرِيمُها

    وقد أَشَارَ ابنُ مَالك في شَرْحِ الكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ إلى جَوازِ التَّنازُعِ عِندَ بَعْضِهِم (113)،وهذا هو رَأيُ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش وابنِ طاهِر، واحْتَجَّ السُّيوطي لهذا الرَّأيِ بِقَوْلِه (114): " تَعْليقُ المَنْعِ بِكَوْنِ المِعْمُولِ سَبَبِيّاً تَعْميمٌ فاسِدٌ؛لأنَّهم أَسْنَدوا المَنْعَ لِعَدَمِ الارْتِباطِ، وذلكَ ليسَ مَوْجُوداً في كُلِّ سَبَبِيّ على تقديرِ التَّنازُعِ فيهِ ".

    وأَرَى أَنَّ الإضْمَارَ في مِثلِ هذه التَّراكِيبِ لا يُؤَيِّدُه المَعْنى، وكَانَ بالإمْكَانِ الاسْتِغْناءُ عنه،وذلكَ مَوْجُودٌ في تَخْرِيجِ ابنِ مَالِك،فهو يَرَى أَنَّ (مَمْطُول) و(مُعَنَّى) خَبَران، و(غَرِيمُها) مُبْتَدأ، فالمَعْنى: وعَزَّةُ غَرِيْمُها مَمْطُولٌ مُعَنّىً (115)، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وعَزَّةُ مَمْطُولٌ غَرِيمُها مُعَنّىً هو، والضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلى المُتَنازَعِ فيه كَمَا هو رَأي ابنِ الباذِش.



    الاستفهام والتسوية

    يَرَى ابنُ الباذِش أَنَّ الهَمْزَةَ في قَوْلِكَ: (عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِندَكَ أمْ عَمْروٌ) لَيْسَتْ للاسْتِفْهامِ، وكَذلكَ أَدَاةُ الاسْتِفْهامِ في قَوْلِه تَعالَى:) لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ({الكهف 12}،وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ مُنْطَلِقاً مِنْ المَعْنى، فوُجُودُ مَعْنى الاسْتِفْهامِ في مِثلِ هذا المَوْضِعِ يُؤَدِّي إلى تَنَاقُضٍ، فقد تَقَدَّمَ العِلمُ عَلى طَلَبِ الفَهْمِ، فيَسْتَحِيلُ أنْ يَسْتَفْهِمَ المُتَكَلِّمِ عَمَّا أَخْبَرَ أنَّه يَعْلَمُه.

    وهو يَرَى أَنَّ المَعْنى الذي أَفَادَتْهُ الهَمْزَةُ في هذا التَّرْكِيبِ هو التَّسْوِيَةُ عِنْدَ المُخَاطَبِ؛ لأنّكَ لمْ تُبَيَّنْ لَهُ مَنْ المَقْصُودُ، وأَبْهَمْتَ عَلى المُخَاطِبِ،فنَقَلْتَ مَعْنى التَّسْوِيَةِ مِنْ نَفْسِكَ إلى المُخَاطَبِ، وهو يَرَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ أَخَصُّ مِنْ الاسْتِفْهامِ، فالاسْتِفْهامُ لا يَخْلو مِنْ التَّسْوِيَةِ، والتَّسْوِيَةُ تَخْلو مِنْ الاسْتِفهامِ.

    وقد نَقَلَ أبو حيَّانَ في تَذْكِرَتِه نَصّاً لابنِ الباذِش في هذا المَعْنى، وهو(116): " قال: (عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أمْ عَمْروٌ) و) لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ({ الكهف 12 } ليسَ حَرْفُ الاسْتِفْهامِ هُنا لِمَعْنى الاسْتِفْهامِ؛ لأنَّه يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَفْهِمَ عَمَّا أَخْبرَ أَنَّه يَعْلَمُه، وإِنَّمَا مَعْناهُ التَّسْوِيَةُ عِنْدَ المُخَاطَبِ؛ لأنّكَ لمْ تُبَيِّنْ لَهُ مَنْ ثمَّ، وأَبْهَمْتَ عَلَيْه، فنَقَلتَ ب(عَلِمْت) مَعْنى التَّسْوِيَةِ مِنْ نَفْسِك إلى المُخَاطبِ؛ لأنّك حِينَ قُلْتَ: (أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أمْ عَمْروٌ) فهُما مُسْتَوِيَانِ عِنْدَك، وإنَّمَا تَطْلُبُ بالاسْتِفْهامِ العِلمَ بأَحَدِهِما، فالتَّسْوِيَةُ أَمْلَكُ مِنْ الاسْتِفْهامِ وأَخَصُّ؛ لأنّ الاسْتِفْهامَ لا يَخْلو مِنْ التَّسْوِيَةِ، والتَّسْوِيَةُ تَخْلو مِنْ الاسْتِفهامِ، ويُبَيِّنُ أَنَّ المُرَادَ بِه التَّسْوِيَةُ المُجَرَّدَةُ قولُه تَعَالَى:) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهُمْ أَمْ لمْ تُنْذِرْهُمْ ({البقرة 6} و)سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون ({الأعراف193} انتهى كلامه ".

    ومَا أَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الشَّواهِدِ القُرآنيَّةِ التي سَاقَها لا يُفْهَمُ مِنْها إلا الخَبَرَ،وهذا الخَبَرُ هو معنى التسوية الذي يتكلّم عنه ابن الباذِش، فلا أُخَالِفُه في هذا،وأَخْتَلِفُ مَعَه في نَقْلِ مَعْنى الاسْتِفْهامِ إلى مَعْنى التَّسْوِيَةِ،فالذي أَراهَ أَنَّ الأصْلَ في الهَمْزَةِ الاسْتِفْهامُ،وخُرُوجُها إلى مَعْنى التَّسْوِيَةِ أَمْرٌ طارِىءٌ سَبَّبَه وُجُودُ النَّقيضِ، وهو (عَلِمْت) و(سَوَاء) وغَيْرُهما مِنْ الألْفاظِ التي تُناقِضُ مَعْنى الاسْتِفْهامِ،فلمْ نَكُنْ لِنَفْهَمَ مَعْنى التَّسْوِيَةِ دونَ وُجُودِ (عَلِمْت)، فقولك: (أَزَيْدٌ عِندَكَ أمْ عَمْروٌ) ليست التَّسْوِيَةُ واضِحَةً فيه، فالمَعْنى هو الاسْتِفْهامُ،وهو مَا أَفَادَتْه الهَمْزَةُ و(أم) عِندَ مَنْ عَدَّها مِنْ حُرُوفِ الاسْتِفهامِ.

    (سَمِعَ) يتعدّى إلى مفعول واحد

    ذَهَبَ الفَارِسِيُّ في الإيضَاحِ إلى أنَّ(سَمِعَ) مِنْ الأفْعَالِ التي تَتَعدَّى إلى مَفْعُولَيْن، قالَ(117): " إلاّ أَنَّ(سَمِعْتَ) يَتَعَدَّى إلى مَفْعُولَيْن، ولا بُدَّ مِنْ أنْ يَكُونَ الثاني مِمّا يُسْمَعُ كَقَوْلِكَ: سَمِعْتُ زَيداً يَقُولُ ذاك "، ونَسَبَ ابنُ مَالِك هذا الرَّأيَ للأخْفَشِ والفَارِسِيِّ، وأَخَذَ بِه(118)، كَمَا أَخَذَ بِه العُكْبُري (119) وابنُ القَوَّاسِ(120)وابنُ الضَّائِعِ(121)،واحْتَجُّوا بأنَّ هذا الفِعْلَ يَتَوَقَّفُ فَهْمُه عَلى سَمَاعِ سَامِعٍ، فقد دَخَلَ الفِعْلُ عَلى مَا لا يُسْمَعُ،فاحْتَاجَ عِنْدَها إلى مَعْنى المَسْمُوعِ (122).

    أَمَّا ابنُ الباذِش الغَرْناطي فهو يَرَى أَنَّ هذا الفِعْلَ مِنْ الأفْعَالِ التي تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ (123)،واحْتَجَّ لِهذا الرَّأيِ بالقِياسِ عَلى سَائِرِ أَخَواتِها مِنْ أَفْعَالِ الحَوَاسِ، فهي جَمِيعاً تَتَعَدَّى إلى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ(124)، واحْتَجَّ أَيْضاً بأَنَّه لَوْ كَانَ مِمّا يَنْصِبُ الاثنَيْن لَسُمِعَ الثاني غَيْرَ جُمْلَةٍ نَكِرِةً ومَعْرِفَةً، فكَوْنُهُم لمْ يُسْمَعْ عَنْهم ذلك دَلَّ عَلى أَنَّ الفِعْلَ المَسْمُوعَ في مَوْضِعِ الحَالِ، فالجُمْلَةُ في نَحْوِ قَوْلِكَ: (سَمِعْتُ زَيْداً يَتَكَلَّمُ) لَيْسَتْ مَفْعُولاً بِه، وإِنَّما في مَوْضِعِ الحَالِ (125)، والمَسْمُوعُ في الحَقِيقَةِ هو الصَّوْتُ،وهو عَلى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُه:سَمِعْتُ صَوْتَ زَيْدٍ في حَالِ كَلامِه، فصَوْتُ زَيْدٍ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلاماً أو غَيْره،واحْتَجُّوا لِهذا بِقَولِه تَعَالى:) هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ({ الشعراء72} فالمَعْنى: هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُم،عَلى حَذْفِ الدُّعَاءِ بدَليل (إذْ تَدْعُونَ) عَليه (126)، وقَالوا في قَولِ الشاعِرِ:

    سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثاً فَقُلْتُ لِصَيْدَحَ انْتَجِعِي بِلالا(127)

    المَعْنى: سَمِعْتُ هذا الكَلامَ الذي هو: (النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثاً)، وهذا عَلى الحِكَايَةِ(128)،وهناكَ أدِلَّةٌ كَثيرةٌ تَدُلُّ عَلى هذا الرَّأيِ(129).

    وقد أَشَارَ إلى هذا الرَّأيِ الجُرْجَانيُّ(130)،ونُسِبَ إلى الرُّمَّانيِّ(131) وابنِ السّيدِ(132)،وأَخَذَ به ابنُ عُصْفور(133)، وأَرَى أَنَّ أَدِلَّةَ ابنِ الباذِش تُقوّي رَأيَ مَنْ أَخَذَ بهذا المذهبِ،فهي أَدِلَّةٌ يَقْبَلُها المَعْنى،ويُسَانِدُها العَقْلُ،فالسَّمعُ حَاسَّةٌ، وهذا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ المَسْمُوعُ صَوْتاً لا جِسْماً فقولكَ: سَمِعْتُ زَيْداً،تُريدُ بِه: صوتَ زَيدٍ.

    حذف مفاعيل (أعلم) اقتصاراً

    تَحَدَّثَ النُّحَاةُ عَنْ نَوْعَيْن مِنْ الحَذْفِ هُما الاقْتِصارُ والاخْتِصارُ، والفَرْقُ بَيْنَهُما عِنْدَهُم أَنَّ حَذْفَ الاخْتِصَارِ يَكُونُ بِدَليلٍ،والاقْتِصارُ حَذْفٌ مِنْ غَيْرِ دَليلٍ، وفي حَذْفِ مَفَاعِيلِ (أَعْلَمَ) اقْتِصَاراً خِلافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ(134)،وفيه رَأيان:

    الأوَّلُ: مَنْعُ الحَذْفِ، وهو الرَّأيُ الذي أَخَذَ بِهِ أبو الحَسَن بنِ الباذِش(135)، وقد تابَعَ فيه سِيْبَوَيْه، قالَ في الكِتابِ (136): " ولا يَجُوزُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلى مَفْعُولٍ مِنْهُم واحِدٍ دونَ الثلاثةِ "، وأَخَذَ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ بِهذا الرَّأيِ، مِنْهُم المُبَرَّدُ(137)،وابنُ بابْشاذَ(138)،وابنُ عُصْفور(139)، وابنُ طاهِرٍ(140)، والسُّهيلي(141)،قالَ في نَتَائِجِ الفِكْرِ(142): " لأنّك لا تُريدُ بِقَوْلِكَ:(أَعْلَمْتُ زَيْداً) أيْ: جَعَلْتَهُ عَالِماً عَلى الإطلاقِ، هذا مُحَالٌ، إِنَّما تُريدُ: أَعْلَمْتُهُ بِهذا الحَدِيثِ، فلا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الحَدِيثِ الذي أَعْلَمْتَهُ به ".

    الثاني: جَوَازُ الحَذْفِ، وفيهِ آراءٌ كَثِيرَةٌ، فَأَكْثَرُ النُّحَاةِ أَجَازَ حَذَفَ المَفْعُولِ الأوَّلِ بِشَرْطِ ذِكْرِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين، أو حَذْفَ المَفْعُولَيْن الآخِرَين بِشَرْطِ ذِكْرِ الأوَّلِ(143)، فيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: (أَعْلَمْتُ زَيْداً)،ولا تَذْكُرُ مَا أَعْلَمْتَه بِه، وتَقُولُ: (أَعْلَمْتُ عَمْراً قائِماً)،ولا تَذْكُرُ المَفْعُولَ الأوَّلَ. ومِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى جَوازِ حَذْفِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين فَقَط فتقولُ: (أَعْلَمْتُ زَيْداً)،ولا تَذْكُرُ مَا أَعْلَمْتَه بِه(144). وارْتَضَى الشلوبين عَكْسَ هذا المَذْهَبِ، فقد أَجَازَ حَذْفَ المَفْعُولِ الأوَّلِ فَقَط، ومَنَعَ حَذْفِ المَفْعُولَيْن الآخِرَين،فيَجُوزُ أَنْ تَقولَ: (أَعْلَمْتُ عَمْراً قائِماً)،ولا تَذْكُرُ مَنْ أَعْلَمْتَه بهذا الخَبَرِ(145). وذَهَبَ ابنُ مالِك في التَّسْهيلِ إلى جَوازِ حَذْفِ المَفَاعِيلِ الثلاثةِ اقْتِصاراً واخْتِصاراً (146).

    هذه آراءُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ، والمُلاحَظُ فيها وُجُودُ التَّناقُضِ في الآراءِ الكَثيرَةِ التي أَجازت الحذَْفَ، فهناك سبعة آراء، وكلُّ رَأيٍ مِنْها يتَعارض مع الآخر،والذي أَراهُ أَنَّ العَرَبِيَّ لا يَرْتَضِي أَنْ يَكونَ كَلامُه مُبْهَماً، فإِذا حَذَفَ كانَ هُناكَ مَا يَدُلُّ عَلى الحَذْفِ لَفْظاً أو مَعْنىً،حَيْثُ يُدْرِكُ أَنَّ السَّامِعَ قد أَدْرَكَ مَا يَرْمِي إليه المُتَكَلَّمُ، أَمَّا أَنْ يَحْذِفَ دونَ تَرْكِ دَليلٍ عَلى المَحْذُوفِ فهذا ليسَ مِنْ سَمْت لُغَةِ العَرَبِيِّ، فالذي يَظْهَرُ لي هو مَنْعُ الحَذْفِ، وهذا مَا اخْتَارَه ابنُ الباذِش

    إفراد كافِ الخِطابِ

    تَلْحَقُ بِأَسْمَاءِ الإشَارَةِ في العَرَبِيِّةِ كافُ الخِطَابِ، وهو حَرْفٌ يُبَيِّنُ أَحْوالَ المُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وتَثْنِيَةٍ وجَمْعِ وتَذْكِيرٍ وتَأْنِيثٍ، فتَقولُ: (ذلكَ) (ذلكُمَا) (ذلكُمْ) (ذلكُنَّ)…الخ،وقد جَاءَ في العَرَبِيَّةِ خِطَابُ الجَمْعِ بِكَافِ الخِطَابِ للمُفْرَدِ،ومِنْ ذلكَ قولُه تَعَالى:) ذلِكَ يُوعَظُ بِه ({ البقرة 232} وفي آيةٍ أُخْرَى:)ذلِكُمْ يُوْعَظُ بِهِ ({الطلاق 2} والخِطَابُ في الآيَتَيْن للجَمَاعَةِ.

    وذَكَرَ أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش تَأْويلَيْن لإفْرادِ كافِ الخِطابِ عِندَ خِطابِ الجَمَاعَةِ (147)، أَحَدَهُما أَنْ يَكُونَ الخِطابُ خَاصّاً بِوَاحِدٍ مِنْ الجَمَاعَةِ لجَلالَتِه، والمُرادُ الجَمِيعُ، والثاني تَقْديرُ اسْمٍ مِنْ الأسْمَاءِ (أَسْمَاءِ الجُمُوعِ) التي تَقَعُ عَلى الجَمَاعَةِ،والخِطَابُ فيه للكُلِّ، ويُقَدِّرُه ابنُ الباذِش بقَوْلِه: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ يا فَريقُ ويا جَمْعُ.

    وقد أَشَارَ العُلمَاءُ إلى أَنَّ المُخَاطَبَ في الآيَةِ الأولى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولَ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أو كُلَّ سَامِعٍ، فَأُفْرِدَت الكَافُ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ الخِطَابُ للجَمَاعَةِ، وهذا هو الظَّاهرُ عِنْدَهُم؛ لأنَّ الخِطَابَ في الآيَةِ كُلِّها للجَمَاعَةِ (148)، ولذلِكَ احْتَاجَ الأمْرُ عِنْدَهُم إلى تَأويلٍ.

    ومَا أَرَاهُ أنَّ اسْمَ الإشَارَةِ تَتَّصِلُ بِهِ كَافُ الخِطَابِ لِتُبَيِّنَ حَالَ المُشارِ إِلَيْهِ لا لِتُبَيِّنَ حالَ المُخَاطَبِ فَقَط، فأَنْتَ تَقُوْلُ: (ذلكَ رَجُلٌ) والمُخَاطَبُ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّساءِ،وتَقُولُ: (ذلكَ أَمُرٌ عَظيمٌ) والمُخَاطَبُ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ الكَافُ تُبَيِّنُ أَحْوالَ المُخَاطَبِ فقط لَقُلتَ في الأولى: (ذلكُنَّ رَجُلٌ)، وفي الثانِيَةِ: (ذلكُمْ أَمْرٌ عَظيمٌ)،وكُلُّ هذا جَائِزٌ،ولكنَّكَ تَقولُهُ لدَلالَةٍ مُعَيَّنَةٍ في لُغَةِ العَرَبِ، ولا أَرَى أَمْرَ هاتَيْن الآيَتَيْن يَخْتَلِفُ عَنْ قَوْلِه تَعالى:) ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِر اللهِ({الحج 32 }، وقوله تعالى:) هذا فَلْيَذُوْقُوْهُ حَمِيْمٌ وغَسَّاق ({ص 57}، فلا يُوجَدُ مُشَارٌ إليه ظَاهِرٌ في هاتَيْن الآيَتَيْن؛ ولِذلكَ ذَهَبَ النُّحَاةُ هُنا إلى التَّأْوِيلِ بِأَنْ قالوا: خَبَرٌ لمُبْتَدأ مَحْذُوفٍ،أو مُبْتَدأ وخَبَرُه مَحْذوفٌ، وقَدَّرُوا المَحْذُوفَ ب(الأمر)،فالأغْلَبُ عِنْدي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ في الآيَتَيْن -مَوْضِعِ الخِلافِ-:ذلكَ الأمْرُ يُوعَظُ بِه، وذلكُمْ الأمْرُ يُوعَظُ بِه،فكَافُ الخِطَابِ لا تَتَعَلقُ بحالِ المُخَاطَبِ، وإِنَّما ببَيانِ حَالِ المُشَارِ إليه، أَمَّا السَّبَبُ في الإفْرَادِ في الأولى والجَمْعِ في الثانِيَةِ فهو يَعُودُ إلى قِيمَةٍ بَلاغِيَّةٍ، فإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعْظِيمِ المُشارِ إِليهِ في مَوْضِع دونَ الآخَرِ، وهو مَا أَشَارَ إليه ابنُ الباذِشِ في تأويلِهِ الأوّل،وأَرَاه صَواباً، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ اسْمِ الإشَارَةِ في هذِه الآياتِ للرَّبْطِ،والمَقصُودُ بِهِ رَبْطُ الَّلاحِقِ بالسَّابِقِ في ذِهْنِ السَّامِعِ،ولا أَرَى حَاجَةً إلى التَّأويلِ في هذا المَوْضِعِ؛ لأنَّ المَعْنى مُسْتَغْنٍ عَنْ أيِّ لَفْظٍ جَدِيدٍ.



    بدل الاشتمال

    تابَعَ أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش المُبَرِّدَ في مَعْنى بَدَلِ الاشْتِمَالِ (149)، فالمُبرِّدُ يَرى أَنَّ المَقْصُودَ في بَدَلِ الاشتِمَالِ هو الثانِي،والاشتِمَالُ عِنْدَه إسْنَادُ الخَبَرِ إلى الأوَّل عَلى إِرَادَةِ غَيْرِه مِمَّا يَتَعَلّقُ بِه، قالَ في المُقْتَضَبِ (150): " والضَّرْبُ الثالثُ أَنْ يَكُونَ المَعْنى مُحِيطاً بِغَيْرِ الأوَّلِ الذي سَبَقَ له الذِّكْرُ لالتِبَاسِه بِمَا بَعْدَه، فَتُبْدِلُ مِنْه الثانِي المَقْصُودُ في الحَقِيقَةِ ".

    وفي هذا الرَّأْيِ لا يَشْتَمِلُ البَدَلُ عَلى المُبْدَلِ مِنْه أو العكس، وإِنَّما الاشتِمَالُ للخَبَرِ المُسْنَدِ إلى الأوَّلِ، فإذا قُلْتَ: (سُلِبَ زَيْدٌ ثوبُهُ) أو (أَعْجَبَني زَيْدٌ عِلْمُه) فالمَسْلُوبُ هو الثوبُ لا زَيْدٌ، والمُعْجِبُ هو العِلْمُ لا زَيْدٌ، وبِناءً عَلى هذا يَكُونُ إِسْنَادُ المَعْنى إلى الأوِّلِ مَجَازاً وإلى الثانِي حَقيقَةً (151).

    وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ السِّيْرَافِيُّ والرُّمَّانِيُّ وابنُ مَلْكون وغَيْرُهُم مِنْ النُّحَاةِ(152)، ورَدَّه ابنُ مَالِك (153)،وابنُ أبي الرَّبيعِ، قالَ في البَسيطِ (154): " ويَنْكَسِرُ هذا عَلَيْهِم ببَدَلِ البَعْضِ مِنْ الكُلِّ؛ لأنَّ بَدَلَ البَعْضِ مِنْ الكُلِّ عُلَّقَ فيه الفِعْلُ وهو في المَعْنى طالِب بالثانِي ".

    وفي هذه المَسْأَلَةِ آراءٌ أُخْرى، مِنْها أَنَّ المُبْدَلَ مِنْه مُشْتَمِلٌ عَلى البَدَلِ، والمَقْصُودُ بهذا الرَّأيِ أَنَّه يَجُوزُ لك الاكْتِفاءُ بالأوَّلِ لكَوْنِه مُتَضَمِّناً للثانِي، فيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ) وأنتَ تُريدُ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ ثَوْبُه)(155).

    ومِنْ هذه الآراءِ أَنَّ البَدَلَ مُشْتَمِلٌ عَلى المُبْدَلِ مِنْه،فالثوبُ في قَوْلِكَ: (سُرِقَ عَبْدُاللهِ ثوبُهُ) مُشْتَمِلٌ عَلى عَبْدِاللهِ(156).

    وذَهَبَ الجُرجانِيُّ إلى أَنَّه لا خُصُوصِيّةَ لاشْتِمالِ أَحَدِهِما عَلى الآخَرِ(157).

    وذَهَبَ الزَّجَّاجُ إلى تَسْمِيَةِ هذا النَّوْعِ مِنْ البَدَلِ بِبَدَلِ المَصْدَرِ(158).

    وأَرى أَنَّ هذا الخِلافَ ليسَ بِذي فَائِدَةٍ كَبيرَةٍ، فالنُّحَاةُ لمْ يَخْتَلفوا في إعْرابِ البَدَلِ، وإنّما الخِلافُ في تَحْديدِ المَقْصُود ببَدَلِ الاشْتِمَالِ،فهو خِلافٌ في حَدِّ المصْطَلَحِ،وأرَى أنَّ هذا التَّحْديدِ يَدْخُلُ في الجَانِبِ الفَلْسَفِيِّ للنَّحْو، وأَرَى أنّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ: كُلُّ مُبْدَلٍ يَشْتَمِلُ عَلى البَدَلِ ولكنْ ليسَ كُلُّ بَدَلٍ يَشْتَمِلُ عَلى المُبْدَلِ مِنه، ومِثالُ ذلكَ أنَّكَ إذا قلتَ: (أَعْجَبَتْني الزَّهْرَةُ رَائِحَتُها) تَسْتَطِيعُ القَوْلَ إِنَّ الزَّهْرَةَ تَشْتَمِلُ عَلى الرَّائِحَةِ،ولكنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقولَ إنَّ الرَّائِحَةَ تَشْتَمِلُ عَلى الزَّهْرَةِ،فبينَهُما مَا يُشْبِه العُمُومَ والخُصُوصَ، فالعامُّ يَشْمَلُ الخاصَّ ولكِنَّ الخَاصَّ لا يَشْمَلُ جَميعَ العامِّ،كَمَا أَنَّك إذا قلت: (سُرِقَ زَيْدٌ ثوبُه) جَازَ لكَ أنْ تَقولَ إنَّ البَدَلَ يَشْتَمِلُ على المُبْدَلِ مِنْه، وجازَ العَكْسُ، وهذا الذي أَرَاهُ هو الذي دَفَعَ النُّحَاةُ إلى القوْلِ بأكثر من رأي.

    إعراب المخصوص بالمدح

    نُسِبَ لسِيْبَوَيْه في إِعْرابِ المَخْصُوصِ بالمَدْحِ قَوْلان:

    الأوَّلُ: أَنْ يَكُونَ خَبَراً لمُبْتَدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُه (هو) (159)،وتَقْدِيرُ الجُمْلَةِ: نِعْمَ الرَّجُلُ هو زَيْدٌ، والمُبْتَدَأ هاهُنا مَحْذُوفٌ وُجُوباً، وقد أَخَذَ بِهذا الرَّأْيِ جُمْهُورُ النُّحَاةِ، مِنْهُم الجَرْمِي (160)والمُبَرِّدُ(161) وابنُ السَّراجِ(162) والسِّيْرَافِيُّ(163) والفَارِسِيُّ(164) وابنُ جِنِّي، قالَ في اللُّمَعِ (165):" و(زَيْدٌ) مَرْفُوعٌ، لأنَّه خَبَرُ مُبْتَدَأ مَحْذُوفٍ، كَأنَّ قائِلاً قالَ: مَنْ هذا المَمْدُوحُ؟ فقُلْتَ: (زَيْدٌ)، أيْ: هو زَيْدٌ ".

    الثانِي: المَخْصُوصُ مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ، والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ خَبَرٌ عَنْه (166)، وهذا هو الرَّأيُ الذي اخْتَارَه أبو الحَسَن بنِ الباذِش (167) وغَيْرُه مِنْ النُّحَاةِ(168).

    ويَرَى ابنُ الباذِش أَنَّ الرَّأيَ الأوَّلَ هو رَأْيُ مَنْ يُسيءُ فَهْمَ عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه(169)، ونَقَلَ الأشْمُونِي عَنْ ابنِ الباذِش قَوْلَه(170): " لا يُجِيزُ سِيْبَوَيْه أَنْ يَكُونَ المُخْتَصُّ بالمَدْحِ والذَّمِّ إلاّ مُبْتَدأ ".

    ويَرى ابنُ خَروف أَنَّ في عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه غُمُوضاً (171)، وهذا هو الحَاصِلُ، فعِبَارَةُ سِيْبَوَيْه تَحْتَمِلُ الرَّأْيَيْن، قالَ في كِتابِه (172): " وإِذا قالَ: (عَبْدُ اللهِ نِعْمَ الرَّجُلُ) فهو بمَنْزِلَةِ: (عَبْدُ اللهِ ذَهَبَ أَخُوه)،كَأَنَّه قَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ) فقِيْلَ لَه: مَنْ هو؟ فقالَ: (عَبْدُ اللهِ)، وإذا قالَ: (عَبْدُ اللهِ) فكَأَنَّه قيلَ له: مَا شَأْنُه؟ فقالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ ".

    فإِذا أَرَدْتَ المَعْنى العامَّ لِنَصِّ سِيْبَوَيْه فرَأْيُه مَا ذَهَبَ إليه ابنُ الباذِش، وإِذا أَرَدْتَ أَنْ تُفَسِّرَ كَلامَ سِيْبَوَيْه مَقْطَعِيّاً، فالمَقْطَعُ الثانِي مِنْ كَلامِه يَدُلُّ عَلى ما ذَهَبَ إليه الجُمْهورُ، وهو قَوْلُه: " كَأَنَّه قالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ)،فقِيلَ له: مَنْ هو؟ فقالَ: عَبْدُ اللهِ "، فالمَعْنى عَلى أَنَّ التَّقْديرَ: هو عَبْدُ اللهِ.

    ونَقَلَ لَنا أبو حَيَّانَ اسْتِدلالَ ابنِ الباذِش عَلى مَذْهَبِه، فذَكَرَ أنّه اسْتَدَلَّ بوَجْهَيْن(173):

    الأوَّلِ: جَوازُ حَذْفِ المَخْصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالى: "نِعْمَ العَبْدُ " فحُذِفَ للعِلْمِ، ولَوْ كَانَ مُبْتَدأ مَحْذُوفَ الخَبَرِ أو عَكْسَه للزِمَ مِنْ ذلكَ حَذْفُ الجُمْلَةِ بأَسْرِها، والعَرَبُ لا تَفْعَلُ ذلك.

    الثانِي: إِنَّ جَعْلَ جُمْلَةِ المَدْحِ جُمْلَتَيْن يُؤَدِّي إلى ارْتِبَاطِهِمَا مِنْ غَيْرِ رَابِطٍ؛ لأنَّ (نِعْمَ الرَّجُلُ) جُمْلَةٌ، و(زَيْدٌ) المَمَدُوحُ جُمْلَةٌ، ولا تَعَلُّقَ بَينَهما بِخِلافِ المَذْهَبِ الذي يَجْعَلُ جُمْلَةَ المَدْحِ جُمْلَةً وَاحِدَةً.

    وفي هذه المَسْأَلَةِ رَأيان آخَران:

    الأوّل: أنْ يَكُونَ المَخْصُوصُ مُبْتَدأ خَبَرُه مَحْذُوفٌ تقديره: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ المَمْدوحُ، ذَكَرَهُ ابنُ عُصْفور في المُقَرّبِ(174).

    الثاني: المَخْصُوصُ بَدَلٌ مِنْ الفاعِلِ، وهو رَأيُ ابنِ كَيْسان (175)، ويَرُدُّه أَنَّ المَخْصوصُ لازِمٌ،وليسَ البَدَلُ بلازِمٍ في الكَلامِ، كَمَا يَرُدُّه أنَّه لا يَصْلُحُ لمُباشَرَةِ "نِعْمَ".

    يُلاحَظُ في هذه المَسْألةِ تَعَدُّدّ وُجُوه الإعْرابِ،وسَبَبُ هذا التَّعَدُّدِ هو عِبَارَةُ سَيْبَوَيْه الغامِضَةُ،وأَرَى أَنَّ الاسْتِدلالَ الذي قَدَّمَه ابنُ الباذِشِ اسْتِدْلالٌ يَدُلُّ عَلى فَهْمٍ سَديدٍ لِعَبارَةِ سِيْبَوَيْه،ويُضَافُ إلى اسْتِدْلالِه أَنَّ جُمْلَةَ المَدْحِ تامَّةُ المَعْنى،فلا تَحْتاجُ إلى التَّقْديرِ الذي ذَهَبَ إليه أَكْثرُ النُّحَاةِ في الرَّأْيِ الأوَّلِ.

    دلالة (ربّ)

    اسْتَعْمَلَتْ العَرَبُ (رُبَّ) للدّلالَةِ عَلى العَدَدِ،والمَقْصُودُ بالعَدَدِ هو القِيْمَةُ التي تَدُلُّ عليه مِنْ حيث القلَّةِ والكَثرَةِ، وهذا الاسْتِعْمالُ ثابِتٌ في أشْعَارِهم وأقوالِهم، واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في القِيمَةِ التي تَدُلُّ عَلَيهِ (رُبَّ)،واخْتِلافُهُم مَحْصُورٌ في دَلالَتِها على القَلِيلِ أو الكَثيرِ(176).

    وذَهَبَ ابنُ الباذِش إلى أنَّه لا يُمْكِنُ تَحْديدُ القِيمَةِ التي تَدُلُّ عَليه سَواء كانت قلَيلَةً أو كثيرةً، فهي مَجْهولَةٌ مُبْهَمَةٌ مِنْ هذه الناحِيَةِ(177)،وتَابَعَه في هذا الرَّأيِ ابنُ طَاهِر(178).

    وبَعْدَ اسْتِعْراضِ مَجْمُوعَةٍ مِنْ شَواهِدِ النُّحَاةِ الشِّعْرِيَّةِ على الكَثرَةِ أو القِلَّةِ رَأَيْتُ أَنَّها لا تَدُلُّ عَلى أَنَّ هناك قيمَةً مَحْدودَةً يُمْكن قِياسُها مِنْ خِلالِ السِّياقِ، فحَقِيقَةُ هذه القِيمَةِ مَجْهُولَةٌ لا يُمْكِنُ إِدْرَاكُها إلاّ بقَرينَةٍ لفظية أو مَعْنَويّة، ومِمّا يُذْكَرُ في هذا المَوْضع أَنَّ كثيراً مِنْ الشَّواهِدِ التي اسْتَدَلُّوا بِها عَلى الكَثْرَةِ قد رُدَّتْ واسْتَدَلّوا بها عَلى القِلةِ(179)، وهذا مِمّا يُقَوِّي رَأيَ أبي الحَسَن بن الباذِش.

    اسم وخبر كان إذا كانا معرفتين

    اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في تَفْسِيرِ عِبَاراتِ سِيْبَوَيْه، ومِنْ تلك العِبارَاتِ التي اخْتَلَفُوا فيها عِبَارَتان تَتَعَلّقان باسْمِ وخَبَرِ (كانَ) إذا كَانا مَعْرِفَتَيْن،وكانَ لأبي الحَسَنِ بن الباذِش رَأيٌ في تَفْسِيرِ هَاتَيْن العِبَارَتَيْن.

    العِبَارةُ الأولى: قَوْلُ سِيْبَوَيْه(180): " وإِذا كانا مَعْرِفَةً فأنتَ بالخيارِ: أيَّهُما مَا جَعَلتَه فاعِلاً رَفَعْتَه ونَصَبْتَ الآخَرَ كَما فَعَلْتَ ذلك في ضَرَبَ، وذلك قَوْلُكَ:كَانَ أَخُوكَ زَيْداً،وكَانَ زَيْدٌ صَاحِبَكَ،وكَانَ هذا زَيْداً، وكَانَ المُتَكَلّمُ أَخَاكَ ".

    نُقِلَ عن أبي الحَسَن بن الباذِش أنّه اخْتَارَ رَأيَ السِّيْرَافِيِّ في تَعْيينِ اسْمِ وخَبَرِ (كان)،وأَخَذَ بِرَأيِهِمَا ابنُ الضَّائِعِ وابنُ خَروف، قالوا: تَنْظُرُ إلى المُخَاطَبِ،فإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَحَدَ المَعْرِفَتَيْن ويَجْهَلُ الآخَرَ جُعِلَ المَعْلومُ الاسْمَ والمَجْهُولُ الخَبَرَ، نَحْو: (كَانَ أَخُو بَكْرٍ عَمْراً) إِذا قَدَّرْتَ أَنَّ المُخَاطَبَ يَعْلَمُ أَنَّ لِبَكْرٍ أَخاً ويَجْهَلُ كَوْنَهُ عَمْراً، و(كَانَ عَمْروٌ أَخا بَكْرٍ)إذا كَانَ يَعْلَمُ عَمْراً ويَجْهَلُ كَوْنَه أَخَا بَكْرٍ(181).

    وقد فُسِّر قَوْلُ سِيْبَوَيْه أَكْثرَ مِنْ تَفْسِيرٍ، ونَتَجَ عَنْ ذلكَ أَكْثَرَ مِنْ رَأي، فمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى تَخَيُّرِ أَيِّهِما شِئْتَ اسْماً والآخَرَ خَبَراً،وقَالوا:هذا ظَاهِرُ كَلامِ سِيْبَوَيْه(182)،ومِنْهُم مَنْ رَأى أنَّه إذا لَمْ يَسْتَوِيا في رُتْبَةِ التَّعْريفِ فالاخْتِيارُ جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً والآخَرِ خَبَراً (183)، وذَهَبَ بَعْضُهُم إلى أَنَّ الخَبَرَ مَا تُريدُ إثباتَه مُطْلَقاً نَحْو: (كَانَتْ عُزْلَتَكَ عُقُوبَتُكَ) فالعُزْلَةُ هي الثابِتَةُ، فهي الخَبَرُ (184)، ومِنْهُم مَنْ قالَ: مَا صَحَّ مِنْهُما جَواباً فهو الخَبَرُ والآخَرُ الاسْمُ (185).

    العِبَارَةُ الثانِيَةُ: قالَ سِيْبَوَيْه(186): " وتَقولُ: مَنْ كَانَ أَخَاكَ، ومَنْ كَانَ أَخُوكَ، كَما تَقولُ: مَنْ ضَرَبَ أَبَاكَ،إِذا جَعَلْتَ (مَنْ) الفاعِلَ ".

    لمْ تَخْتَلِفْ نَظْرَةُ ابنِ الباذِش وغيرِه مِنْ النُّحَاةِ إلى هذه العِبَارَةِ عَنْ نَظْرَتِهِ إلى العِبَارَةِ السَّابِقَةِ، فَيَنْطَلِقُ في تَفْسِيرِه مِنْ التَّرْكِيبِ مُرْتَبِطاً بِواقِعِ الحَالِ، فهو يَرْبِطُ بَيْنَ االمُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه كَتَرْكِيبٍ وبَيْنَ المُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ عِلْمِه أو جَهْلِه، قالَ أبو حيَّانَ في تَفْسيرِ هذه العِبارَةِ نَقلاً عَنْ السِّيْرَافِيِّ وابنِ الباذِش والشلوبين وابنِ الضَّائِعِ(187): " مُرَادُ سِيْبَوَيْه أنّكَ لا تُخْبِرُ المُخَاطَبَ فتَجْعَلَ له الخَبَرَ عَنْ (كَانَ) المَجْهُولَ عندَه، إنّما مُرادُه أَنَّهُما إذا كَانَا مَعْرِفَتَيْن والمُخَاطَبُ يَعْرِفُ كُلاً عَلى انْفِرَادِه لا التركيب، فأَرَدْتَ أَنْ تُخْبِرَ بانْتِسَابِ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ، فأنتَ إذن بالخيارِ، وإِنَّما جَعَلْتَ الاسْمَ والخَبَرَ(بالخيارِ) لأنَّ كُلاً مِنْهُما عِنْدَه في المَعْرِفَةِ سَواء، إذ مَقْصُودُكَ هو أَنْ تُعَرِّفَه تَرْكِيبَهُما ".



    (كان) التي فيها ضمير الشأن ناقصة

    اخْتَلَفَ النُّحَاةُ في (كَانَ) التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشَّأْنُ نَحْوَ قَوْلِ الشاعِرِ(188):

    إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ:شَامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالّذي كُنْتُ أَصْنَعُ

    فقد نَقَلَ لَنا أبو جَعْفَر بنُ الإمَامِ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش عَنْ أبي القاسِمِ الشَّنْتَريني أنّه قال (189): " مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَانَ التي يُضْمَرُ فيها الأمْرُ والشأنُ هي النَّاقِصَةُ فقد أَخْطَأَ، وإنّما هي غَيْرُها "،والمَقْصُودُ بغَيْرِها تَمَامُها وإَلْغاءُ عَمَلِها في المُبْتَدَأ والخَبَرِ، وهو رَأيُ ابنِ الطَّرَاوَةِ(190).

    وأَخَذَ أبو الحَسَنِ بنِ الباذِش برَأيِ الجُمْهُورِ، فإِنَّ(كَانَ) التي فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي النَّاقِصَةُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقد نَقَلَ لنا رَأيَهُ في هذه المَسْألَةِ وَلَدُه أبُو جَعْفَر، قالَ(191): "قالَ أَبي:والصَّحِيحُ أَنَّ (كَانَ) المُضْمَرَ فيها الأمْرُ والشَّأنُ هي (كَانَ) النَّاقِصَةُ، والجُمْلةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ،يَدُلُّ عَلى ذلكَ أَنَّ الأمْرَ والشَّأنَ يَكُونُ مُبْتدأ ومُضْمَراً في(إِنَّ)وأَخَواتِها و(ظَنَنْت) وأَخَواتِها والجُمْلةُ المُفَسِّرَةُ الوَاقِعَةُ مَوْقِعَ خَبَرِ هذه الأشْياءِ،ومَا ثبَتَ أنَّه خَبَرُ المُبْتَدأ،ولَمّا ذُكِرَ معه ثبَتَ أنَّه خَبَرٌ لِ(كَانَ). انتهى ".

    وأَرَى أَنَّ الأقْرَبَ إلى الصَّوَابِ في هذِه المَسْألةِ هو مَا ذَهَبَ إليه الشَّنْتَريني، فإنَّ مَا ذَهَبَ إليه الجُمْهُورُ يُنَاقِضُ المَعْنى، فإضْمَارُ الشأنِ في هذا المَوْضِعِ لا دَلالةَ عليه، فلا حَاجَة تَدْعُونا إلى إضْمَارِه،كَمَا أَنَّ في اخْتِيارِ الشَّنْتَريني بُعداً عَنْ التَكَلُّفِ.



    العطف على اسم (أنّ)

    لَنْ أَخُوضَ في الخِلافِ بَيْنَ النُّحَاةِ في مَسْألةِ العَطْفِ عَلى اسْمِ (إنَّ) وأَخَواتِها، فهذِه مَسْأَلةٌ طَويلةٌ أشبعَ البَحْثُ فيها، وهي مَوْجُودَةٌ في الكُتُبِ حَيثُ يَكادُ لا يَخْلو كِتابٌ مِنْ ذِكْرِها.

    يَنْقُلُ ابنُ عَطِيَّةَ الأندَلُسيّ رَأْيَ أُسْتاذِه أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش في إعْرابِ قَولِهِ تَعَالى:) أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ المُشْرِكينَ ورَسُوْلُه ({التوبة 3 } فيقولُ (192): " ومَذْهَبُ الأسْتاذِ يَعْني ابنَ الباذِش عَلى مُقْتَضَى كَلامِ سِيْبَوَيْه أَنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَليه (أَنَّ) إذْ هو مُعْرَبٌ قد ظَهَرَ فيه عَمَلُ العَامِلِ، وأنَّه لا فَرْقَ بَيْنَ (أَنَّ) وبَيْنَ (لَيْتَ)،والإجْمَاعُ عَلى أَنْ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عليه هذه " هذا كَلامُ ابنِ عَطِيَّةَ نَقْلاً لمَذْهَبِ ابنِ الباذِش.

    ويُفْهَمُ مِنْ هذا الكَلامِ أنَّ عَالِمَنا يَأْخُذُ برَأيِ سِيْبَوَيْه في عَدَمِ جَوَازِ العَطْفِ عَلى مَوْضِعِ اسْمِ (أَنَّ)، وأَنَّ مَا جَاءَ مِنْها مَرْفُوعَاً كَهذِه الآيةِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، كَأَنَّهُ قالَ: (ورَسُولُه كَذلِكَ).

    ورَفْعُه لا يَكُونُ إلاّ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ،وثانِيْها أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ، والثالثِ العَطْفُ عَلى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ، وهذا مَا لمْ يُجِزْهُ سِيْبَوَيْه(193) وغَيْرُه مِنْ المُحَقِّقين، ويَرَوْنَ أَنَّ العَطْفَ في هذِه المَواضِعِ عَلى الجُمَلِ لا عَلى المُفْرَداتِ، أيْ: العَطْفُ عَلى جُمْلةِ(أَنَّ) واسْمِها وخَبَرِها لا عَلى اسْمِ (أَنَّ)(194).

    ويَرَى أبُو حيَّانَ أَنَّ العِلَّةَ التي ذَكَرَها ابنُ الباذِش في أنَّ لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه (أَنَّ) غَيرُ صَحيحَةٍ، فالعِلَّةُ ليْسَت هي ظُهُورُ عَمَلِ العَامِلِ بدَلِيلِ: (لَيْسَ زَيْدٌ بقائِمٍ) فقد ظَهَرَ العَامِلُ، ولَهُمَا مَوْضِعٌ (195).

    ويُعَلِّقُ أَيْضاً عَلى مَا ذَكَرَه مِنْ إِجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلى (لَيْتَ)،وأَنَّه لا مَوْضِعَ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيه، فهُناكَ خِلافٌ في هذه المَسْأَلةِ، فقد ذَهَبَ الفَرَّاءُ إلى أَنَّ حُكْمَ (لَيْتَ) حُكْمُ غَيْرِها مِنْ أَخَواتِها، فلَيْسَ في هذا الرَّأيِ إِجْمَاعٌ كَمَا ذَكَرَ ابنُ الباذِش(196).

    ورَدَّ السَّمينُ الحَلَبي قَوْلَ ابنِ الباذِش: (وأنَّ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنَّ وبَيْنَ لَيْتَ) فقال (197): "فإِنَّ الفَرْقَ قائِمٌ، وذلك أَنَّ حُكْمَ الابْتِداءِ قد انتَسَخَ مَعْ (لَيْتَ)و(لَعَلَّ) و(كَأنَّ) لفظاً ومعنىً بخِلافِه مَعْ (إِنَّ) و(أَنَّ) فإِنَّ مَعْناه معهما باقٍ "

    جواز نصب صفة (أي) في النداء

    أَجَازَ المَازِنِيُّ نَصْبَ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ،وذلكَ في قَوْلِكَ: (يَا أَيُّها الرَّجُلُ) فأَجَازَ النَّصْبَ في (الرَّجُلِ) (198)،ووَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ المَازِنِيِّ مِنْ جِهَةِ القِياسِ فيهِ قَوْلان:

    أَوَّلُهُمَا: الحَمْلُ عَلى مَوْضِعِ (أَيّ)، فالأصْلُ في النِّداءِ النَّصْبُ(199)، ورَدَّ النُّحَاةُ هذا القِياسَ بأنَّ الحَمْلَ عَلى المَوْضِعِ حَمْلٌ عَلى التَّأويلِ،ولا يُحْمَلُ عَلى التَّأويلِ مَا لمْ يَتِمَّ الكَلامُ(200)،كَمَا قالُوا: إِنَّ الحَمْلَ عَلى المَعْنى إِنَّما يَكُونُ في المُنَادى المُسْتَغْنِي عَنْ الصَّفَةِ، فأَمَّا (أَيّ) فلا تَسْتَغْنِي عَنْ الصِّفَةِ، فلا تُحمَلُ صِفَتُها عَلى المَعْنى(201).

    وثانِيها: القِياسُ عَلى صِفَةِ غَيْرِه مِنْ المُنَادَياتِ المَضْمُومَةِ(202)،ورَدَّه النُّحَاةُ، قالَ القوَّاسُ (203): " وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المَقْصُودَ بِصِفَةِ العَلمِ الإيضاحُ، والمُنَادَى هُناكَ هو العَلَمُ،وها هُنا الصِّفَةُ هي المُنَادَى،و(أيّ) وَصْلةٌ إلى نِدَائِه،ولِذلكَ لا يُوقَفُ عَلى الوَصْلَةِ دونَ الصِّفَةِ بخِلافِ العَلَمِ".

    أَمّا وَجْهُ النَّصْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ فقد أَنْكَرَ النُّحَاةُ وُجودَ سَمَاعٍ في هذا المَوْضِعِ(204)، قالَ ابنُ بُرْهان(205): " ولمْ يُسْمَعْ في (الرَّجُلِ) النَّصْبُ، كَمَا قالوا: (يَا زَيْدُ الفاضِلَ)؛لأنَّ (الرَّجُلَ) وإنْ كَانَ صِفَةً في اللَّفْظِ فإِنَّه المَقْصُودُ بالنِّدَاءِ، فأَلزَمُوا (الرَّجُلَ) الرَّفْعَ ليَدُلُّوا عَلى الفَرْقِ بَيْنَهُما، وسَوَّى بَيْنَهُما أبو عُثمَان قِياساً مِنْ غَيْرِ رِوايَةٍ ".

    ونَقَلَ أبُو حيَّانَ عَنْ أبي الحَسَن بنِ الباذِش أَنَّ النَّصْبَ في هذا المَوْضِعِ مَسْمُوعٌ عَنْ العَرَبِ، ولمْ يَذْكُرْ شاهِداً عَلى ذلك(206)،وذكر الصَّبَّانُ في حَاشِيَتِه عَلى الأشْمُوني سَمَاعَ ابنِ الباذِش، ونَقَلَ شَاهِداً عَلى ذلكَ عَنْ السّنْدُوبي وهو قِراءَةُ بَعْضِهم: " قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرِينَ " {الكافرون 1}بالنَّصْبِ(207)،ولمْ أجِدْ في كُتُبِ القِراءاتِ التي تَيَسَّرَ لي الاطِّلاعُ عَليْها هذه القراءَةَ،ولا يَعْني ذلكَ أَنَّ هذه القراءَةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فأبو حَيَّانَ يُؤكِّدُ أَنَّ عِنْدَ ابنِ الباذِشِ شَاهِداً عَلى ذلكَ،والصَّبَّانُ يَنْقُلُ هذا الشَّاهِدَ القُرْآنِيّ،ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ابنَ الباذِشِ مِنْ أَكابِرِ عُلماءِ القِراءاتِ في عَصْرِه،ويَشْهَدُ عَلى ذلكَ كِتابُ وَلدِه المَوْسُومُ ب(الإقناعِ)، فمِنْ الصَّعْبِ الشَّكُّ فيما يَنْقُلُ هذا العَالِمُ مِنْ رِواياتٍ عَنْ القرَّاءِ.

    والحَقُّ أَنَّ هذه القِراءَةَ إنْ صَحَّت دَعَامَةٌ تُقَوِّي مِنْ رَأيِ المَازِنِيِّ، ومَا نُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش يَدُلُّ عَلى جَوازِ نَصْبِ صِفَةِ (أَيّ) في النِّداءِ عِنْدَه، فلو كَانَ هذا السَّماعُ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَه مَا ذَكَرَه.


    الفصل بين نكرتين

    نَقَلَ أبُو حَيَّانَ وغَيْرُه عَنْ أبي الحَسَن بنِ الباذِشِ أَنَّه حَكَى عَنْ قَوْمٍ مِنْ الكُوفِيَّين أَنَّهُم أَجَازُوا الفَصْلَ بَيْنَ النَّكِرَاتِ (208)، ومِنْ ذلكَ قَوْلُه تَعالى: "أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ " {النحل 92} هذا مَا نَقَلَهُ أبو حَيَّانَ عَنْ ابنِ الباذِش، ولا يَدُلُّ هذا عَلى مُتَابَعَةِ ابنِ الباذِش للكُوفِيِّين،وقد ذَكَرَ رَأيَهُم الزَّجَّاجُ في مَعَانيه ورَدَّه (209).

    اشتقاق اسم الفاعل من العدد فوق العشرة

    أَجَازَ سِيْبَوَيْه وجَمَاعَةٌ مِنْ المُتَقدِّمين اشْتِقَاقَ اسْمِ الفَاعِلِ المُخْتَلفِ في المُرَكَّبَاتِ قِياساً لا سَمَاعاً، فيُجِيزُ: رَابِعُ ثَلاثَةِ عَشْر وخَامِسُ أَرْبَعَةِ عَشْر بمَعْنى التَّصْييرِ،وقاسَ سِيْبَوَيْه ذلكَ عَلى مُتَّفقِ الألفاظِ، قالَ (210): "ونَقُولُ: هو خَامِسُ أَرْبَعٍ إذا أَرَدْتَ أَنْ تُصَيِّرَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ خَمْسَةً، ولا تَكادُ العَرَبُ تَكَلَّمُ بِه كَما ذَكَرْتُ لك، وعَلى هذا تَقُولُ: رَابِعُ ثَلاثَةِ عَشْر ".

    ومَنَعَ هذا الاشْتِقاق الجُمْهورُ(211)،وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّين(212) والأخْفَشِ(213) والمَازِنِيِّ (214)والمُبرِّد(215) والفَارِسِيُّ، قالَ الفَارِسِيُّ(216): " ومَنْ قالَ: خَامِسُ أَرْبَعَةٍ لم يَقلْ: رَابِعُ ثلاثةِ عَشْر، ولا رَابِعُ عَشْر ثلاثةَ عَشْر؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ الجَارِي عَلى الفِعْلِ لا يَكونُ هكذا ".

    وتابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش الجُمْهورَ في مَنْعِهِم مِثْلَ هذا الاشْتِقاقِ، قالَ أبو حيَّانَ(217): " وقد رَدَّ بَعْضُ المُتَأَخِّرينَ عَلى هذا القَوْلِ بأَنَّ العَرَبَ إنّما تَشْتَقُّ مِنْ العَقدِ الأوَّلِ فلا تَرْكِيبَ، ومِنْهُ اشْتَقَّتْ ثالِثَ عَشْرَ ثلاثةَ عَشْرَ، اشْتَقَّتْ ثالِثاً مِنْ ثلاثةٍ ثم رَكَّبَتْه بَعْدُ مَعْ (عَشْر)، قالَ: والعَرَبُ تَقولُ: رَبَّعْتُ الثلاثةَ عَشْرَ، أيْ: رَدَدْتُهُم أَرْبَعَةَ عَشْرَ، فاشْتَقَّتْ مِنْ الصَّدْرِ ولمْ تُرَكِّبْ، فكَذلكَ تَشتَقُّ اسْمَ الفَاعِلِ مِنْ الصَّدْرِ "،ثمّ يَعْتَذِرُ ابنُ الباذِش لسِيْبَوَيْه فيقول (218): " وإنّما قالَ سِيْبَوَيْه: رَابِعُ ثَلاثةَ عَشْر ولمْ يَعْلَمْ أنَّه مَحْذُوفٌ مِنْ تَرْكِيبٍ،واسْمُ الفاعِلِ تابِعٌ للفِعْلِ " قالَ أبو حيَّانَ (219): " هكذا قالَ ابن الباذِش "، ومَقْصُودُ ابنِ الباذِشِ أَنَّ (رَابعَ) اسْمُ فَاعِلٍ،وهو مُشْتَقٌّ في هذا المَوْضِعِ (رَابِعُ ثلاثةَ عَشْر) مِنْ التَّرْكِيبِ (أَرْبَعَةَ عَشْر)، واسْمُ الفَاعِلِ الذي بمَعْنَى المُصيِّر لا بُدَّ لَه مِنْ فِعْلٍ ومَصْدَرٍ، ولمْ يَثْبُتْ فِعْلٌ ولا مَصْدَرٌ مَبْنِيَّان مِنْ عَدَدٍ مُرَكَّب فوقَ العَشْرة.

    أمس

    تُسْتَعْمَلُ (أَمْس) في العَرَبِيَّةِ ظَرْفاً وغَيْرَ ظَرْفٍ، وفي الاسْتِعْمَالَيْن خِلافٌ، وهو خِلافٌ لَهَجِيٌّ يَتَعَلَّقُ ببِناءِ أو إِعْرَابِ (أمْس) في لُغَةِ الحِجَازِ وتَمِيم.

    أَمَّا الخِلافُ عندَ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً فهو في بِنائِها أوَّلاً، فالظّاهِرُ أَنَّ النُّحَاةَ لمْ يَتّفِقوا عَلى حَرَكَةِ البِنَاءِ، فقد ذَهَبَ الزَّجَّاجُ(220) والزَّجَّاجِيُّ في جُمَلِهِ إِلى أَنَّ بِنَاءَ (أَمْس) عَلى الفَتْحِ لُغَةٌ وَرَدَتْ عَنْ العَرَبِ(221)، والجُمْهورُ يَرى أنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى الكَسْرِ في حَالِ اسْتِعْمَالِها ظَرْفاً(222)، وحَمَلَ ابنُ الباذِش عَلى الزَّجَّاجيِّ فقالَ(223): "خَرَجَ الزَّجَّاجيُّ عَنْ إِجْمَاعِ النُّحَاةِ بِقَولِهِ: ومِنْ العَرَبِ مَنْ يَبْنيه عَلى الفَتْحِ "،وتابَعَ ابنَ الباذِش ابنُ مَالِك في التَّسْهيلِ(224).

    ثُمَّ إِنَّهُم اخْتَلفُوا في هذِه الكَلِمَةِ بَيْنَ الإعْرابِ والبناءِ، فالجُمْهُورُ يَرى بِنَاءَها،والخَلِيلُ يَرى أَنَّ الكَسْرَةَ كَسْرَةُ إِعْرابٍ عَلى تَقْديرِ: لَقيتُكَ بالأمْسِ بِحَذْفِ البَاءِ وأل التَّعْريفِ، والكِسَائي يَرى أَنَّ (أَمْس) ليسَ مُعْرَباً ولا مَبْنِياً، وإِنَّما هو اسْمٌ مَحْكِيٌّ سُمِّيَ بِفِعْلِ الأمْرِ مِنْ الأمْسِ كَمَا لو سُمِّيَ ب(أَصْبَحَ) مِنْ الإصْبَاحِ(225).

    أَمَّا إذا اسْتُعْمِلَ (أَمْس) غَيْرَ ظَرْفٍ فأَهْلُ الحِجَازِ يَبْنونَه عَلى الكَسْرِ في كُلِّ حَالٍ، يَقولونَ: (ذَهَبَ أَمْسِِ) و(كَرِهْتُ أَمْسِِ)(226). أَمَّا بَنو تَميمٍ فاخْتَلَفَ النُّحَاةُ في مَا وَرَدَ عَنْهُم، فقد ذَهَبَ ابنُ الباذِش وابنُ عُصْفور وابنُ مَالِك إلى أَنَّ بَني تَميمً تُعْرِبُ (أَمْس)، وتَمْنَعُهُ مِنْ الصَّرْفِ للتَّعْرِيفِ والعَدْلِ عَنْ الألِفِ والَّلامِ في حَالِ الرَّفْعِ خَاصَّةً،ويُبْنى عَلى الكَسْرِ في حَالِ النَّصْبِ والجَرِّ، تَقولُ: (ذَهَبَ أمْسُ بمَا فيه) و(كَرِهْتُ أَمْسِِ)(227).

    وذَهَبَ الشلوبين إلى أَنَّ بَني تَميمٍ يُعْرِبُونَه في الرَّفْعِ فَيقولون:(ذَهَبَ أَمْسُ) ويُنَوَّنُ في النَّصْبِ والجَرِّ(228)،فيقولون: (كَرِهْتُ أمْساً) و(مَرَرْتُ بأَمْسٍ)،وحَكَى الكِسَائي أَنَّ بَعْضِهُم يَمْنَعُه الصَّرْفَ رَفْعاً ونَصْباً وجَرّاً، وبَعْضُهُم يُنَوِّنُهُ تَنْوينَ الصَّرْفِ في الأحْوَالِ الثلاثةِ إلا في النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِ (229)،وحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ بَعْضَهُم يُنَوِّنُه، وهو مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ (230)، وذَكَرَ ابنُ مَالِك والفَارِقِيّ أَنَّ مِنْهم مَنْ يُعْرِبُه في الجَرِّ بالفَتْحَة(231) كَقولِ الرَّاجزِ:

    لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسا (232)

    وخَصَّ ابنُ أبي الرَّبِيعِ مَنْعَهُ مِنْ الصَّرْفِ عِنْدَ تَمِيمٍ إذا كَانَ مَرْفُوعاً أو مَخْفُوضاً ب(مُذ) أو (مُنْذُ)،قالَ(233): "وكَذلكَ (أَمْس) عِنْدَ بَنِي تَميمٍ إذا كَانَ مَرْفُوعاً أو مَخْفُوضاً ب(مُذ) أو(مُنْذُ)،وجَعَلوه في حَالِ النَّصْبِ أو الخَفْضِ بِغَيْرِهِما مَبْنِياً عَلى الكَسْر".

    فالمُلاحَظُ بَعْدَ كُلِّ هذِه الآراءِ أَنَّ الخِلافَ في النَّقْلِ والرِّوايَةِ عَنْ تَمِيم، وأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِر في (أَمْس) يَقَعُ ضِمْنَ الخِلافَاتِ الَّلَهَجِيَّةِ، وتَقْرِيرُ كَوْنِ (أَمْس) مَبْنِياً أو مُعْرَباً يَعْتَمِدُ عَلى صِحَّةِ السَّمَاعِ عَنْ تَميم.

    جواز (هما يفعلان) للمؤنث

    أَجَازَ أَبو الحَسَن بنُ الباذِش الإخْبَارَ عَنْ المُؤَنَّثِ إِذا سُبِقَ الفِعْلُ بضَمِيرٍ أَنْ تَقولَ: (هُمَا يَفْعَلان) بالياءِ(234)، وقد أجَازَ ذلكَ حَمْلاً عَلى اللَّفْظِ، فالضَّمِيرُ(هُما) للمُذَكّرين، ونُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش أَنَّه أَجَازَ ذلكَ مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ، فقد ذَكَرَ النُّحَاةُ أنَّه يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ المُذَكَّرُ الغَائِبُ عَلى المُؤَنَّثِ فتقولُ: (تَجِيءُ كِتَابي) يريدُ الصَّحيفَةَ (235)، ومِنْ ذلكَ قَوْلُه تَعَالى:) تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ({يوسف 10}، ونُقِلَ عَنْ ابنِ الباذِش أَيْضاً أنَّه لمْ يَعْلَمْ سَمَاعًا مَخْصُوصاً مِنْ العَرَبِ في هذِه المَسْألَةِ(236).

    وذَهَبَ ابنُ أبي العَافِيَةِ إلى وُجُوبِ الحَمْلِ عَلى المَعْنى،فلا يُجِيزُ إلاّ أَنْ تَقولَ:(هُما تَفْعَلان)(237)،وأَخَذَ بِهذا الرَّأيِ أبو حَيَّانَ(238)،ورَدَّ رَأْيَ ابنِ الباذِش بأَنَّ الضَّمِيرَ يَرُدُّ الأشْيَاءَ إلى أُصُولِها(239)، بمَعْنى أَنَّ الضَّمِيرَ يَنْبَغي أَنْ يَدُلَّ عَلى التَّثْنِيَةِ المُؤَنَّثةِ، ولا يَجُوزُ أَنْ يُنَاقِضَ ذلكَ.

    كَمَا ذُكِرَ أَنَّ السَّمَاعَ جَاءَ بالتاءِ(240)،وذلكَ في مِثْلِ قولِ عُمَر بنِ أبي رَبِيعَةَ:

    لَعَلَّهُمَا أَنْ تَبْغِيَا لَكَ حَاجَةً ……………………(241)

    وهذا مَا يُؤَيِّد قولَ ابنِ أبي العَافِيَةِ.

    الاسم بعد حروف النفي في باب الاشتغال

    يَسْتَوي الرَّفْعُ والنَّصْبُ عِنْدَ أَبي الحَسَن بنِ الباذِش في الاسْمِ المَشْغُولِ عَنْه إذا وَلِيَ أَحَدَ حُرُوفِ النَّفْيِ (مَا،لا، إِنْ)،نَحْوَ قولِ الشَّاعِرِ:

    فَلا حَسَباً فَخَرْتَ بِهِ لِتَيْمٍٍ وَلا جَدّاً إِذا ازْدَحَمَ الجُدُودُ(242)

    وقد رُوِيَ البَيْتُ بالوَجْهَيْن، ونَحْوَ قولِكَ: (مَا زَيْدٌ ضَرَبْتَه)، والعِلَّةُ في ذلكَ أَنَّ هذِه الحُرُوفِ تَدْخُلُ عَلى الأسْمَاءِ والأفْعَالِ، أَمَّا غَيْرُها مِنْ أَحْرُفِ النَّفْيِ المُخْتَصَّةِ بِدُخُولِها عَلى الأفْعَالِ نَحْوَ: (لمْ،لَمّا، لنْ) فَلا يَجُوزُ فيها إلاّ النَّصْبُ لاخْتِصَاصِها بالأفْعَالِ(243).

    وتَابَعَ أَبا الحَسَن بنَ الباذِش في هذا الرَّأيِ ابنُ أبي الرَّبِيعِ(244) وابنُ خَروف،ونَسَبَ هذا الرَّأيَ لسِيْبَوَيْه،قالَ(245): " وهو الظَّاهرُ مِنْ كَلامِ سِيْبَوَيْه"، واعْتَلَّ بأَنَّ المَوْضِعَ لا يَخْتَصُّ بالفِعْلِ دونَ الاسْمِ(246).

    وهُناكَ رَأيانِ آخَرَانِ في هذِه المَسْأَلَةِ، فظَاهِرُ كَلامِ سِيْبَوَيْه تَرْجِيحُ الرَّفْعِ مَعْ جَوازِ النَّصْبِ(247)، وتَابَعَه في هذا الرَّأيِ ابنُ طَاهِرٍ(248)، ويَرَى كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ أَنَّ النَّصْبَ أَرْجَحَ مِنْ الرَّفْعِ، وهو اخْتِيَارُ ابنِ مَالِكٍ(249) وابنِ الحَاجِبِ(250) والرَّضِيِّ(251) والخَوارِزْمي(252) والوَرَّاقِ (253)والنِّيليِّ(254)،وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ كَمَا ذَكَرَ أبو حَيَّانَ (255)، والعِلَّةُ في هذا الاخْتِيارِ أَنَّ النَّفْيَ أَوْلى بالفِعْلِ.

    وأَرَى أَنَّ مَا اعْتَلَّ بِهِ الجُمْهُورُ تَعْليلٌ عَامٌّ يَشْملُ جَمِيعَ حُرُوفِ النَّفْيِ،والنَّفْيُ بابٌ واسِعٌ، فمِنْ حُرُوفِه مَا يَدْخُلُ عَلى الأفْعَالِ، ومِنْه مَا يَخْتَصُّ بالأسْمَاءِ،ومِنْها مَا يَدْخُلُ عَلى الأسْمَاءِ والأفْعَالِ عَلى السَّواءِ، فلا يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلَ كُلُّ النَّفْيِ مُعَامَلَةً وَاحِدَةً، ولِذا أَرَى أَنَّ رَأيَ ابنِ الباذِش أَدَقُّ مِنْ غَيْرِه مِنْ الآراءِ، وبِهِ جَاءَ السَّمَاعُ.

    المشغول عنه بعد الاستفهام

    يَبْدو لِي أَنَّ السّيوطِي قد خَلَطَ بَيْنَ الاسْتِفْهامِ والنَّفْيِ في نِسْبَةِ اسْتِواءِ الرَّفْعِ والنَّصْبِ بعد النفي لابنِ الباذِش، فقد نَسَبَ إليه في الهَمْعِ اسْتِواءَ الأمْرَيْن بَعْدَ الاسْتِفْهَام نَحْوَ: (أَ زَيْداً ضَرَبْتَه) (256)، ولمْ يَذْكُر رَأْيَهُ في النَّفيِ، ولمْ أَجِدْ هذا الرَّأيَ مَنْسُوباً لَهُ عِنْدَ غَيْرِ السّيوطي.

    (جُمَع) و(كُتَع) وغيرها من ألفاظ التوكيد أعلام

    يَكادُ النُّحَاةُ يُجْمِعون عَلى كَوْنِ (أَجْمَعَ) وأخَواتِه و(جُمَع)وأخَواتِه مِنْ أَلْفاظِ التَّوْكِيدِ مَعَارِفَ، ولمْ يَخْرُجْ عَنْ هذا الإجْمَاعِ إلاّ ابنُ الحاجِبِ ومَنْ تَبِعَه حَيْثُ ذَهَبَ إلى أَنَّ (جُمَع) مُنِعَ مِنْ الصَّرْفِ لعِلَّتَيْن هُما العَدْلُ والوَصْفُ الأصْليُّ(257).

    واخْتَلَفُوا في تَعْريفِه، فرَأى الخليلُ أنَّ (جُمَع)و(أَجْمَع) وأَخَواتِهِمَا تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ (نَفسِه) و(عَيْنِه) المَعْرِفَتَيْن بالإضَافَةِ، قالَ سِيْبَوَيْه (258): " وسَأَلتُه عَنْ (جُمَع) و(كُتَع)، فقالَ: هُمَا مَعْرِفةٌ بمَنْزِلَةِ (كُلِّهِم)، وهُمَا مَعْدولَتانِ جَمْعُ (جَمْعَاءَ) وجَمْعُ (كَتْعَاءَ) "، فهو تَعْرِيفٌ إِضَافِيٌّ عِنْدَ الخَليلِ، وتَابَعَه جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ.

    ونُسِبَ لأبي الحَسَن بنِ الباذِش أَنَّ هذِه الألفَاظَ مَعَارِفُ بالعَلَمِيَّةِ (259)، وقد أَسْعَفَنا أبُو حَيَّانَ فيمَا نَقَلَهُ مِنْ شَرْحِ الجُمَلِ لابنِ الباذِش بِرَأيِ عَالِمِنا في هذِه المَسْأَلَةِ، قالَ ابنُ الباذِش (260): " وأَسْمَاءُ التَّوْكيدِ التي للإحَاطِةِ أَعْلامُ التَّوْكِيدِ المَعَارِفِ، فهي تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ سَائِرِ الأعْلامِ "، ثُمَّ يُبَيِّنُ لنا أَنَّ هذِه الألْفَاظَ أَعْلامٌ مُشْتَقَّةٌ في حَالِ العَلَمِيَّةِ غَيْرِ مَنْقولةٍ، ثُمَّ يَقولُ: "هذا قَوْلُ سِيْبَوَيْه وكَافَّةِ أَصْحَابِه".

    وقد وَجَدْتُ هذا الرَّأيَ عِنْدَ ابنِ أبي الرَّبِيعِ في المُلَخَّصِ، قالَ(261):"وأَمّا(أَجْمَعُ)فمَعْرِفَةٌ بالعَلَمِيَّةِ؛ لأنَّه اسْمُ عَلَمٍ لِجُمْلَةٍ أَجْزَاءِ مَا تَجْرِي عَلَيْه، ولَيْسَ بنَكِرَةٍ "،وأَخَذَ بِهِ ابنُ مَالِك في التَّسْهيلِ(262) ورَدَّه في شَرْحِ عُمْدَةِ الحَافِظِ،قالَ(263): "وصارَ (جُمَع) لِتَعْرِيفِه بغَيْرِ عَلامَةٍ مَلْفُوظٍ بِها كَأَنَّهُ عَلَمٌ،وليسَ عَلَماً؛ لأنَّ العَلَمَ إِمَّا شَخْصِيّ وإِمَّا جِنْسِيّ،فالشَخْصِيُّ مَخْصُوصٌ ببَعْضِ الأشْخَاصِ،والجِنْسِيُّ مَخْصُوصٌ بِبِعْضِ الأجْنَاسِ،و(جُمِع) بِخِلافِ ذلكَ فالحُكْمُ بِعَلَمِيَّتِه بَاطِلٌ ".

    ويُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إليه ابنُ الباذِش أَنَّ هذِه الألْفَاظِ تَأتي تَأكِيداً للمَعَارِفِ،فهي مَعَارِفُ،ويُضافُ إلى ذلكَ دَلالَتُها الثابِتَةُ عَلى مَجْمُوعَةِ المُؤَكَّدِ،كَمَا يُؤَيِّدُ رَأيَه أَنَّ (أَجْمَعُ) يُجْمَعُ بالواوِ والنونِ، وهذا الجَمْعُ خَاصّ بالصِّفاتِ والأعْلامِ، و(أَجْمَعُ)وأَخَواتُها لَيْسَت بِصِفَاتٍ، فلمْ يَبْقَ إلا العَلَمِيَّةُ.

    هل يجوز التعليق فيما لم يجز فيه الإلغاء؟

    تَابَعَ أبو الحَسَن بنُ الباذِش ابنَ السَّرَّاجِ وأبا عَليٍّ الفَارِسِيّ في أَنَّه لا يَجُوزُ التعْليقُ في مِثْلِ قَوْلِكَ: (عَرَفْتَ أيُّهُم زَيْدٌ)، وقَوْلِ الشاعرِ(264):

    حُزُقٌّ إذا ما القومُ أَبْدَوْا فُكَاهَةً تفكّرَ آإيّاه يَعْنونَ أم قِرْدا

    فابنُ الباذِش يَرى أَنَّه لا يَكُونُ التّعْلِيقُ إلاّ فيمَا جازَ إلغاؤُه،وهذِه الأفْعَالُ لمْ يَرِدْ الإلغَاءُ فيها،وأَجَازَ هو وجَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ أَنْ تُحْمَلَ هذِه الأفعالُ عَلى غَيْرِها ممّا جَازَ فيها التَّعْليقُ، وبِناءً عَلى هذا الرَّأيِ يَكونُ (تَفَكَّرَ) و(عَرَفَ) فِعْلَيْن يَتَضَمَّنانِ مَعْنى مَا يَتَعَدَّى إلى اثنين،وقد سَدَّت الجُمْلةُ مَسَدَّ المَفْعُولين (265).

    وذَهَبَ السِّيْرَافِيّ وجَمَاعَةٌ إلى أَنَّه يَجُوزُ التّعْليقُ في أَفْعَالِ القُلوبِ مُطلقاً سَواءً كَانَ ممّا يُلغَى أو ممّا لا يُلغَى(266).

    والذي أَرَاه أَنَّ أَمْرَ الإلغَاءِ والتَّعْلِيقِ جَائِزٌ في كُلِّ فِعْلٍ يَدْخُلُ عَلى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، فإِذا جَازَ الإلغَاءُ والتَّعْلِيقُ في نَواسِخِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ جَازَ في غَيْرِها مِنْ الأفْعَالِ التي تُحْمَلُ عَلَيها في دُخُولِها عَلى المُبْتَدأ والخَبَرِ،وإذا كَانَتْ فِكْرَةُ التَّعْلِيقِ جَائِزَةٌ في الأفْعَالِ النَّواسِخِ والمَحْمُولَةِ عَلَيْها فلا أَرَى ضَيْراً مِنْ تَعْلِيقِ الأفْعَالِ التي لمْ يَرِدْ فيها الإلْغَاءُ، وذلك بِحَمْلِها عَلى غَيْرِها مِنْ الأفْعَالِ، ومَا ذَهَبَ إليه السِّيْرَافِيُّ دَعَامَةٌ لِرَأيِ أبي الحَسَن بنِ البَاذشِ.

    الأصل في واو المَفْعُول معه

    ذَهَبَ الزَّجَّاجِيُّ في الجُمَلِ إلى مَنْعِ رَفْعِ ما بَعْدَ الواوِ في قولك: (اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) فأَوْجَبَ النَّصْبَ(267)، وخَالفَهُ أبو الحَسَنِ بنِ الباذِش الغرناطي فهو يَرى أَنَّ أَصْلَ الواوِ في هذا المَوْضعِ هو العَطْفُ، ونَقَلَ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ على هذا الأصْلِ (268)، ويَرى أنّه لا يَكونُ النصبُ على المَفْعُوليَّةِ إلاّ في بَعضِ المَعْطوفِ، وكَأنَّ ابنَ الباذِش لَمَحَ في كَلامِ الزَّجَّاجيِّ عَدَمَ إِقْرارِه بأَنَّ أَصْلَ الواوِ العَطْفُ.

    وقد نَقَلَ أبو حيَّانَ في التَّذييلِ نَصَّ رَدِّ ابنِ الباذِش على الزَّجّاجيِّ فقال(269): " وقد ادَّعَى الإجْمَاعَ على ذلك أبو الحَسَنِ بنُ الباذِش، قال: ويَمْتَنِعُ بإِجْماعٍ أَنْ يَكونَ المَفْعُولُ مَعَه غَيرَ مَنْقولٍ من العَطْفِ،فلا يكونُ فيه إلاّ النَّصيبُ في شيءٍ مِنْ الأفْعَالِ كَمَا زَعَمَ أبو القاسم يَعْني الزَّجّاجيَّ في قولهم: (اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) أنّه لا يَجوزُ فيهِ إلاّ النَّصْبَ؛ لأنَّ المَعْنى: ساوى الماءُ الخَشَبَةَ، وهذا خِلافُ ما البابُ عَليه مِنْ أنَّ بَعضَ المَعْطوفِ هو الذي يَجوزُ فيه النَّصْبُ. انتهى ".

    وأُقِرُّ مَع ابن الباذِشِ أنَّ الأصْلَ في هذه الواو هو العطفُ،ولكنَّها في هذا البابِ تحملُ مدلولاً آخرَ يَخْتلِفُ عَنْ مَدْلولِها في العَطْفِ،كما أُ قِرُّ معَه أنَّه لا يَجُوزُ النَّصْبُ على المَفْعُوليَّةِ إِلاّ في القَليلِ مِنْ الأفعالِ،أمّا قوله:(اسْتَوى الماءُ والخَشَبَةَ) ففيه أَمْران: إِنْ قصَدَ المتَكَلِّمُ أنَّ (اسْتَوى) بمَعْنى:ارْتَفَعَ أو اسْتَقامَ،فلا يَجُوزُ إلاّ النَّصْبُ على المَعِيَّةِ، وإنْ أَرادَ أنّ (اسْتَوى) بمَعْنى: تَسَاوَى جَازَ العَطفُ،فالأوّلُ ما أَرادَه الزّجّاجيُّ،والثاني ما قَصَدَه ابنَ الباذِشِ.

    ثانياً: العامل النحوي

    العامل في المَفْعُول معه

    تَابَعَ ابنُ الباذِش سِيْبَوَيْه وجُمْهُورَ البَصْرِيِّين في العَامِلِ في المَفْعُولِ مَعَه، فهو يَرى أَنَّ العَامِلَ فيه الفِعْلُ بِتَوَسُّطِ الواوِ، ويُشَبِّهُ ابنُ الباذِش هذا العَمَلَ بعَمَلِ الفِعْلِ في المُسْتَثْنى بواسِطةِ أَداةِ الاسْتِثناءِ، ويَرى أَيْضاً أَنَّه لا يَعْمَلُ في المَفْعُولِ مَعَه إلاّ الفِعْلُ، وعَزا ذلك إلى سِيْبَوَيْه (270).

    وقد نَقلَ أبُو حَيَّانَ قولَ ابنِ الباذِش في التذييلِ فقال (271): " وقال أبو الحَسَن بنُ الباذِش: المَفْعُولُ مَعَه يَعْمَلُ فيه الفِعْلُ بِتَوَسُّطِ الواوِ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الاسْتثناءِ، إلاّ أَنَّ حَرْفَ الاسْتِثناءِ يُسَلّطُ الفِعْلُ ومعنى الفِعْلِ، ولا يُسَلّطُ الواوَ بمَعْنى مَع إلاّ الفِعْلُ عِنْدَ سِيْبَوَيْه، فهي مَتْروكَةٌ على العَطفِ أَبَداً إِلاّ في الفِعْلِ فإِنَّها تُنْقَلُ مِنْ العَطفِ إلى التّعْدِيَةِ وتَسَلُّطِ الفِعْلِ.انتهى ".

    وهذا هو رَأيُ سِيْبَوَيْه، قال (272): " والواوُ لمْ تُغَيِّرْ المَعْنى، ولكنَّها تُعْمِلُ في الاسْمِ ما قَبْلها "، ولا يُجِيزُ سِيْبَوَيْه عَمَلَ المَعْنى، وصَرَّحَ بذلكَ في قوله(273): " وزَعَمُوا أَنَّ ناساً يَقولون: كَيْفَ أَنْتَ وزَيْداً، ومَا أَنْتَ وزَيْداً، وهو قَليلٌ في كَلامِ العَرَبِ، ولمْ يَحْمِلُوا الكَلامَ عَلى (مَا) ولا (كَيْفَ) ولكِنَّهُم حَمَلُوه عَلى الفِعْلِ، عَلى شيءٍ لو ظَهَرَ حَتّى يَلْفِظوا بِه لمْ يَنْقُضْ مَا أَرَادُوا مِنْ المَعْنى "، فأَضْمَرَ سِيْبَوَيْه فِعْلاً، فكَأَنَّكَ قلتَ: ما كُنْتَ وزَيْداً.هذا هو رَأيُ سِيْبَوَيْه، وتابَعَه فيه ابنُ الباذِش، وأَخَذَ بِهِ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ مِنْهُم ابنُ بابْشاذ(274) والصَّيْمَريّ(275) وابنُ مالك(276).

    أمّا الفَارِسِيُّ فالمَنْسُوبُ إليه جَوازُ عَمَلِ المَعْنى(277)، مُحْتَجّاً بقولِ الشاعِرِ:

    لا تَحْبِسَنَّكَ أَثْوَابِي فَقَدْ جُمِعَتْ هذا رِدَاِئي مَطْوِيّاً وسِرْبَالا(278)

    وفي هذه المَسْأَلَةِ آراءٌ أُخْرى، مِنْها رَأيُ الكُوفَيّين، فهُمْ يَرَونَ أَنَّ العَامِلَ مَعْنَويٌّ، وهو الخِلافُ أو الصَّرْفُ (279)، ومِنْها رَأيُ الأخْفَشِ الأوْسَطِ حَيْثُ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَا بَعْدَ الواوِ يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ (مَعْ)، فهو مَنْصُوبٌ عَلى الظرْفِيَّةِ(280)، ومِنْها مَا نُسِبَ إلى الزَّجَّاجِ وهو أَنَّ المَفْعُولَ مَعَه مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الواوِ،تَقْدِيرُه: (لابَسَ)(281)،وذَهَبَ الجُرْجانِيُّ في جُمَلِه وعَوامِلِه إلى أنَّه مَنْصُوبٌ بالواوِ نَفْسِها (282)، ونُسِبَ للصَّيْمَرِيّ أنَّه يَنْتَصِبُ عَنْ تَمَامِ الكَلامِ كَما في التَّمْييزِ(283)،ولمْ أَجِدْ هذا الرأيَ في كِتابِه،وممّا نُسِبَ إلى الخَليلِ أَنَّ الاسمَ بَعْدَ الواوِ انْتَصَبَ بنَزْعِ الخَافِضِ،وهو (مَعْ)(284)، وآخِرُ هذه الآراءِ مَا ذَهَبَ إليه الخَوارِزْمِيُّ في التَّخْمِيرِ فقد صَرَّحَ فيه أَنَّ هذه الواوَ هي واوُ الحالِ، وأَنَّ ما بَعْدَها مَنْصُوبٌ على الحَالِ(285).

    هذه هي آراءُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ،وهي -كَمَا يُلاحَظُ - كَثيرةٌ، وكُلُّها آراءٌ مُحْتَمِلَةٌ للصَّوابِ،وأَخُصُّ مِنْ هذه الآراءِ رَأيُ صَاحِبِ التَّخْميرِ، فالمَعْنى يُرْشِدُ إلى الحَالِ، فقولُكَ: (جَاءَ البَرْدُ والطَّيَالِسَةَ) مَعْناهُ:جَاءَ البَرْدُ مَقْرُوناً مَعْ الطَّيَالِسَةِ، كَمَا أَنَّ الحَالَ جَاءَتْ في القُرآنِ الكَريمَ في مَعْنى المَفْعُولِ مَعَه، وذلك قَوْلُه تَعالى: " فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين " {المدثر 49 }فالمَعْنى: مَا لَهُم والإعْراضِ عَنْ التَّذْكِرَةِ،ومَعْ كَثْرَةِ الإشاراتِ التي تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ رَأْيِهِ إلاّ أنَّ المَنْطِقَ الُّلغويَّ يَرْفُضُهُ؛ فالقَوْلُ بأَنَّ الواوَ واوُ الحَالِ يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ بَعْدَها جُمْلةٌ اسْمِيَّةٌ صَدْرُها مُبْتدأ مَرْفُوعٌ، والظاهَرُ أَمَامَنا أَنَّ مَا بَعْدَها مَنْصُوبٌ، ولذلكَ أَرى أَنَّ أَقْوى الآراءِ وأَقْرَبَها إلى الصَّوابِ مَا ذَهَبَ إليه الفَارِسِيُّ مِنْ جَوازِ عَمَلِ المَعْنى مُضَافاً إلى عَمَل الفِعْلِ بِتَوَسُّطِ الواوِ.

    عامل النصب في المُسْتَثْنى

    للنُّحاةِ في هذه المَسْأَلَةِ آراء كَثيرَةٌ(286)،ففي ناصبِ المُسْتَثْنى ثمانِيَةُ آراءٍ،نُسِبَ أَرْبَعَةٌ مِنْها لِسِيْبَوَيْه،وقد كانَ لِعَبارَةِ سِيْبَوَيْه مُتَعَدِّدَةِ الوُجُوهِ دَوْرٌ رَئيسٌ في هذا الخِلافِ وتَعَدُّدِ الآراءِ، وكَانَ أبُو الحَسَنِ بنُ الباذِش أَحَدَ العُلَماءِ الذين حَاوَلوا فهمَ عِبارَةِ سِيْبَوَيْه وأَمْعَنوا النَّظَرَ فيها.

    أمّا الآراءُ التي نُسِبَت إلى سِيْبَوَيْه وفُهِمَت مِنْ عِبارَتِه فأَوُّلُها: النَّصْبُ عَنْ تَمَامِ الكَلامِ،وهو اخْتِيارُ ابنِ عُصْفُور(287)،وهذا يُفْهَمُ من قَوْلِ سِيْبَوَيْه (288): "عَامِلاً فيه ما قَبْلَه كَما تَعْمَلُ عِشْرونَ فيما بَعْدَها إذا قُلْتَ: عِشْرونَ دِرْهَما " فعَامِلُ النَّصْبِ في التَّمْييزِ عندَه هو (عِشْرونَ)؛ لأنَّ الدِّرْهَمَ مِنْ تَتِمَّتِه، وقد شَبَّه سِيْبَوَيْه انْتِصَابَ التَّمْييزِ في هذا المَوْضِعِ بالمَنْصوبِ في قولِك: (هو أَحْسَنُ مِنْك وَجْهاً)،فالوَجْهُ مِنْ تَتِمَّةِ (أَحْسَنَ) كَما أَنَّ الدِّرْهَمَ كَذلِك(289)،وإذا كانَ الدِّرْهَمُ يَنْتَصِبُ بِهذا الشَّكْلِ فالمُسْتَثْنى كذلك.

    وثانيها: ما ذَهَبَ إليه ابنُ خَرُوف، قالَ في شَرْحِ الجُمَلِ (290): " والعَامِل في الاسْمِ المَنْصُوبِ في الصَّحِيحِ مِنْ الأقْوالِ وهو قولُ سِيْبَوَيْه الفِعْلُ الأوَّلُ "،وهذا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ سِيْبَوَيْه (291): " عامِلاً فيهِ ما قَبْلَه " وأَبْرَزُ العَوامِلِ المَوْجُودَةِ قَبْلَه هو الفِعْلُ.

    وثالثها: اخْتِيارُ ابنِ مَالك(292)،فالعَامِلُ عندَه هو (إلاّ)، ونَسَبَه في شَرْحِ التسْهيلِ لسِيْبَوَيْه والمُبَرّدِ والجُرْجانيِّ،ويُمْكِنُ أنْ يُفْهَمَ هذا مِنْ عِبارَةِ سِيْبَوَيْه السَّابِقَةِ، واحْتَجَّ ابنُ مالك بأَنَّ (إلاّ) مُخْتَصَّةٌ بِدُخولِها على الاسْمِ ولَيْسَت جُزءاً منه، فعَمِلَت فيه ك(إن) ولا التَّبْرِئَةِ.

    ورابعها: اخْتِيارُ ابنِ الباذِش (293)، والعَامِل عنْدَه هو الفِعْلُ المُتَقَدِّمُ بواسِطةِ (إلاّ)، وهو الرأيُ الذي أَخَذَ بِه الجُمْهورُ، ونُسِبَ إلى سِيْبَوَيْه(294) والسِّيْرَافِيِّ والفَارِسِيِّ وابنِ بابْشَاذ وابنِ الضَّائِعِ والرُّنْديِّ وغيرِهم مِنْ النُّحَاة(295)، واسْتَدَلَّ النُّحَاةُ على ذلك بِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْها (296): 1 القِياسُ عَلى المَفْعُول مَعَه، فالنَّاصِبُ لَه الفِعْلُ بِتَقْوِيَةِ الواوِ. 2 التَّشْبِيهُ بالمَفْعُولِ، فقد جَاءَ المُسْتَثْنى بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ كَمَا يَأتِي المَفْعُولُ بَعْدَ تَمَامِ الكَلامِ. 3 العَمَلُ بالأصَالةِ للأفْعَالِ، فإذا وُجِدَ الفِعْلُ كانَ العَمَلُ مُضَافاً إليه، وها هُنا وُجِدَ الفِعْلُ أو ما يُشَابِهُهُ، ولكنَّهُ لمَّا كانَ لا يَتَعَدَّى قُوِّيَ بإلاّ.

    هذه هي آراءُ النُّحَاةِ التي يُمْكِنُ فَهْمُها مِنْ عِبَارَةِ سِيْبَوَيْه، والتي فَهِمَها النُّحَاةُ منها،وللنُّحَاةِ آراءٌ أُخْرى غيرُ هذه الأرْبَعَةِ أُوجِزُها فيمايأتي:

    رأيُ المُبَرِّدِ، قالَ في المُقْتَضَبِ (297): "وذلك لأنّكَ لمَّا قُلتَ: (جَاءَني القومُ) وَقَعَ عِنْدَ السَّامِعِ أنَّ (زَيْداً) فيهم،فلمّا قُلتَ: (إِلاّ زَيداً) كَانَتْ (إلاّ) بَدَلاً مِنْ قولك: أَعْني زَيْداً وأَسْتَثني في مَنْ جَاءَني زَيْداً، فكانَتْ بَدَلاً مِنْ الفِعْلِ".

    واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في تَفْسيرِ كَلامِ المُبَرِّدِ، فمِنْهُم مَنْ نَسَبَ إلَيْه أَنَّ العَامِل هو مَعْنَى الاسْتِثناءِ المَوْجُودُ في (إلاّ) (298)،ومِنْهُم مَنْ نَقَلَ عَنْه أَنَّ المُسْتَثْنى مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَ (إلاّ) تَقدِيرُه: أَسْتَثني أو أَعْني(299)، ومِنْهُم مَنْ نَسَبَ إليه أَنَّ العَامِل هو مَعْنى (إلاّ) لِكَوْنِها بِمَعْنى أَسْتَثني (300)، وقد نُسِبَتْ جَميعُ هذه الآراءِ إلى الزَّجَّاجِ أَيْضاً(301).

    رَأيُ الفَرّاءِ، يَرى أَنَّ (إِلاّ) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنْ)و (لا)، فالنَّصْبُ ب(إنْ) والرَّفْعُ ب(لا)(302).

    رَأيُ الكِسائِيِّ، نُسِبَ إليه أَنَّ المُسْتَثْنى مَنْصُوبٌ ب(أنَّ) مُقَدَّرَةٍ بَعْدَ(إلاّ) مَحْذُوفَةِ الخَبَرِ (303).

    رَأيٌ آخَرُ للكِسائِيِّ، نُسِبَ إليه أَيْضاً أَنَّ العَامِلَ فيه عَامِلٌ مَعْنَويٌّ،وهو المُخَالَفَةُ (304)،وهذا العَامِلُ هو نفسُه مُصْطلحُ الخِلافِ أو الصَّرفِ أو الخُروجِ الذي يَسْتَعْمِلُه الكوفيون كثيراً في تَسْويغِ الحَرَكَةِ الإعْرابِيَّةِ.

    نَصْبُ المُسْتَثْنى بَعْدَ الجُمْلةِ الاسْمِيَّةِ، ذَكَرَ ابنُ خَروفٍ في شَرْحِه على الجُمَلِ أَنَّ الابْتِداءَ بِتَوَسُّطِ (إلاّ) هو العَامِلُ في المُسْتَثْنى(305)،ويَرى ابنُ الحاجِبِ أَنَّ المُسْتَثْنى منه بِتَوَسُّطِ (إلاّ)هو العَامِلُ(306).

    هذه هي آراءُ النُّحَاةِ في العَامِلِ في المُسْتَثْنى، ولَعَلَّه يُلاحَظُ ما في هذه الآراءِ مِنْ اضْطِرابٍ،ويُلاحَظُ أيضاً أَنَّ مِنْ أَسْبابِ هذا الاضْطِرابِ العِبَارَةَ المُبْهَمَةَ لسِيْبَوَيْه أو المُبَرِّدِ وغيرِهما مِنْ النُّحَاةِ،ولو تَتَبَّعْتَ هذه الآراءَ وَجَدْتَ أنَّه قد تَمَّ الاعْتِراضُ على جَميعِها،وأَرى أَنَّ أقْرَبَ هذه الآراءِ قُبُولاً هو ما اخْتارَه ابنُ الباذِش وهو رَأيُ الجُمْهورِ.

    العامل في المضاف إليه

    للنُّحَاةِ في عَامِلِ الجَرِّ في المُضَافِ إليه ثلاثَةُ آراءٍ، هي:

    1 المضافُ.

    2 الإضافَةُ.

    3 الحَرفُ.

    أمّا الأوَّلُ فهو مَذْهَبُ سِيْبَوَيْه(307)، ولِهذا الرَّأيِ تَوْجِيهان،أَحَدُهُما أَنَّ العَامِلَ هو الاسْمُ المُضَافُ بنَفْسِه، وهو مَا أَخَذَ به الرَّضيُّ(308)، والثاني أنَّ العَامِلَ هو الاسْمُ المُضَافُ بِواسِطَةِ نِيابَتِه عَنْ حَرْفِ الجَرِّ المُقَدَّرِ، وهو مِا ذَهَبَ إليه أبو الحَسَن بنُ الباذِش الغرناطيُّ حَيْثُ نُسِبَ إليه أَنَّ العَامِلَ في المُضَافِ إليه حَرْفٌ مُقَدَّرٌ نَابَ عَنْه المُضَافُ (309).

    ويُفْتَرَضُ هنا أَنْ يَدُلَّ المُضَافُ عَلى الحَرْفِ المُقَدَّرِ حَتّى يَنُوبَ عَنْه، فلا يُمْكِنُ للاسْمِ أنْ يَنُوبَ عَنْ الحَرْفِ العَامِلِ إلاّ إذا تَضَمَّنَ هذا الاسْمُ مَعْنى الحَرْفِ وهو الإضَافَةُ، والذي أراه أنَّ المُضَافَ لا يَدُلُّ عَلى الحَرْفِ المُقَدَّرِ، فمَعْنى اللامِ أو (مِنْ) لمْ يَحْدُثْ مِنْ المُضَافِ، وإنَّما مِنْ النِّسْبَةِ المَوْجُودَةِ بينَ المُضَافِ والمُضافِ إليه.

    واحْتَجَّ الإمامُ يَحْيى بنُ حَمْزَةَ لهذا الرأي فقال (310): " والحَقُّ عندَنا في هذه المَسْألَةِ أَنَّ العَامِلَ في المُضَافِ إليه ليسَ الحَرْفُ نفْسُه،ولا الاسْمُ نَفْسُه؛لأنّه يَلزَمُ مَا ذَكَرُوه، وإنّما العَمَلُ يَكُونُ للاسْمِ بِواسِطَةِ نِيَابَتِه عَنْ الحَرْفِ، فعَلى هذا لا يَلْزَمُ إعْمَالُ الاسْمِ؛لأنّه ليسَ عَامِلاً بنَفْسِه، ولا يَلزَمُ عَليه إعْمَالُ الحَرْفِ وهو مُضْمَرٌ،فإنَّ الاسْمَ قد نَابَ عَنْه، ولا يَلزَمُ عليه أنْ يَكُونَ العَامِلُ مَعْنَويّاً؛ فإنَّ الاسْمَ ها هنا لَفْظِيٌّ،فهذا هو الذي يَجْمَعُ المَذاهِبَ ولا يَلزَمُ منه فَسادٌ ".

    أمّا الرأيُ الثاني فهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ(311) والسُّهَيْليِّ(312) وأبي حيَّانَ(313)، واحْتَجُّوا لِهذا الرَّأيِ بأنَّ النِّسْبَةَ المَوْجُودَةَ بَينَ المُضَافِ والمُضَافِ إليه هي المُعَرِّفَةُ للمُضَافِ، فهو لا يَقومُ بعَمَلِ التَّعْريفِ كَمَا أَنَّ الحَرْفَ المُقَدَّرَ لا يَقومُ بذلك (314).

    وأمّا الرأيُ الثالثُ فهو مَذْهَبُ الزَّجَّاجِ (315)،واخْتَلفُوا في العِبارَةِ، فقيلَ: حَرْفٌ مُقَدَّرٌ، وحَرْفٌ مَنْوِيٌّ، وحَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنى الإضَافَةِ، ومَعْنى الحَرْفِ،ووَجْهُ هذا الرأيِ هو المَعْنى، فلا يَخْلو في كُلِّ إِضَافَةٍ حَقيقِيَّةٍ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ مُناسِبٍ، والمَعْروفُ عندَ النُّحَاةِ أنّه يُقَدَّرُ أحَدُ ثلاثةِ حُروفٍ، هي: اللامُ و(مِنْ) و(في) (316).

    والذي يَراهُ البَاحِثُ أنَّ وَظيفَةَ المُضَافِ إليهِ هي تَحْديدُ وتَخْصيصُ الاسْمِ الذي قَبْلَه،كَمَا أنَّ بينَ الاسْمَينِ علاقَةً تَلازُمِيَّةً بحَيثُ يَرْتَبِطُ المُضَافُ إليه بالمُضافِ مِنْ حَيْثُ المَعْنى، فلا يُفْهَمُ مِنْ وُجُودِ المُضَافِ إليه شيئاً إلاّ بارتِبَاطِه مَعْ الاسْمِ الذي خَصَّصَه، وهذا يَدْفَعُني إلى تَرْجيحِ رَأيِ الأخْفَشِ، فالعَامِلُ فيه هو الإضافَةُ، وهو المَعْنى المُسْتَفادُ مِنْ النِّسْبَةِ بينَ المُضَافِ والمُضَاف إليه.



    العامل في (بَيْنَا) و(إذْ) الفجائية

    ذَهَبَ سِيْبَوَيْه إِلى أَنَّ (إذْ) في قَوْلِكَ: (بَيْنا زَيْدٌ قَائِمٌ إذْ جَاءَ عَمْرو) و(بَيْنَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ إذْ جَاءَ عَمْروٌ) للمُفَاجَأَةِ (317)، واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في (إِذْ)، فرَأى ابنُ جِنِّي أنَّها ظَرْفِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ(318)، ونَسَبَ الرَّضيُّ هذا الرأيَ للزَّجَّاجِ(319)، وأَخَذَ ابنُ الباذِش الغَرناطيُّ بِهِ(320).

    وهناك تَأْويلاتٌ عِدَّةٌ للجُمْلَةِ، فَقَدَّروها: جَاءَ عَمْروٌ في زَمَنِ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي (321)،وعَلى هذا التَّقْديرِ تَكُونُ الجُمْلَةُ فِعْلِيَّةً، والعَامِلُ في (إِذْ) هو الفِعْلُ الذي يَليها، أمّا العَامِلُ في (بَيْنَ) فَفِعْلٌ يُفَسِّرُه الفِعْلُ المَذْكُورُ، وهذا هو رَأيُ ابنُ جِنِّي وابنِ الباذِش (322).

    وقَدَّروا الجُمْلَةَ أَيْضاً: وَقْتُ مَجيءِ عَمْروٍ حَاصِلٌ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي،أو بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي مَجيءُ زَيْدٍ، وعَلى هذا التَّقْديرِ تَكُونُ الجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، والعَامِلُ في (إِذْ) و(بَيْنا) هو الابْتِداءُ (323).

    ويَذْهَبُ أبو عليٍّ الشلوبين إلى أَنَّ العَامِلَ في (بَيْنا) ما يُفْهَمُ مِنْ مَعْنى الكَلامِ،و(إِذْ) بَدَلٌ مِنْ (بَيْنَ) (324)، والتَّقديرُ:حِينَ زَيْدٌ قَائِمٌ حِينَ جَاءَ عَمْروٌ(325)، فلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ العَامِلُ في(إِذْ) هو الفِعْلُ عِندَ الشلوبين.

    وفي العَامِلِ في(إِذْ) و(بَيْنا) آراءٌ أُخْرى لا تَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْتُه(326)، كَمَا أَنَّ في(إِذْ) آراءٌ أخْرى، فمِنْهُم مَنْ يَرى أَنَّها للظرفِيَّةِ المَكَانِيَّةِ كالمُبَرِّدِ(327)،ومِنْهُم مَنْ يَرى أَنَّها حَرْفُ مُفاجَأَةٍ، وهو رأيُ ابنِ برّي(328)،ويَرى بَعْضُهم أنّها زائِدَةٌ(329).

    والحَقُّ الذي أَرَاهُ أَنَّ هذه التَأويلاتِ لا تَدُلُّ عَلى وَاقِعِ المَعْنى، وَلا تَخْدمُه،فجُمْلَةُ (بَيْنَما زَيْدٌ قَائِمٌ إِذْ جَاءَ عَمْرو) لا يُعَادِلُها في المَعْنى تَأويلُ ابنُ جِنِّي وابنُ الباذِشِ الغَرْناطيِّ الذي هو (جَاءَ عَمْروٌ في زَمَنِ أَوْقاتِ قِيامِي)،ولا يُعَادِلُها أَيْضاً تَقْديرُ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ: (وَقْتُ مَجيءِ عَمْرٍو حَاصِلٌ بَيْنَ أَوْقاتِ قِيامِي)، ولا تَقْديرُ الشلوبين: (حِينَ زَيْدٌ قائِمٌ حِينَ جَاءَ عَمْروٌ)،وأَرى أَنَّ الجُمْلَةَ لا تَحْتاجُ لِكُلِّ هذه التَّأويلاتِ، فالمَعْنى: (جَاءَ عَمْروٌ بَيْنَما زَيْدٌ قائِمٌ) فالجُمْلَةُ فِعْلِيَّةٌ، كَمَا أَرَى أَنَّ الزَّمَانَ الذي رَآهُ ابنُ جِنّي وابنُ الباذِشِ الغَرْناطِيِّ في (إِذْ) الفُجَائِيَّةِ يُفْهَمُ مِنْ (بَيْنَما)والتي هي في هذا المَوْضِعِ تَدُلُّ عَلى الزَّمَانِ،أَمَّا (إِذْ) الفُجَائِيَّةُ فرَأيُ المُبَرِّدِ فيها هو الصَّحيحُ،فالمُفَاجَأَةُ تَكونُ في المَكَان -غالباً- لا في الزّمَانِ، سَواءٌ كَانَتْ في (إِذْ) أو (إِذا)، فالمَعْنى إذَنْ هو: في الوَقْتِ الذي كَانَ فيه زَيْدٌ قائِمٌ فاجَأَهُ مَجيءُ عَمْروٍ في المَكَانِ المَوْجودِ فيه،وهذا الرَّأيُ مَوْجُودٌ في (إذا) الفُجَائِيَّةِ عِنْدَ كَثيرٍ مِنْ النُّحَاةِ، مِنْهُم الخَوارِزمِيُّ، فهو يَرى أَنَّها مَكَانِيَّةٌ، والتقديرُ عِنْدَه: خَرَجْتُ فبِالحَضْرَةِ السَّبْعُ (330).

    ثالثاً:العلَّة النحوية في بعض المسائل

    علّة بناء (ما) ونحوها

    من المعروفِ عندَ النُّحَاة أنَّ علّةَ بناءِ (مَنْ) و(ما) ونَحْوِهِما مشابهةُ الحرفِ(331)، وقد جَزَمَ بِذلكَ ابنُ مالك(332)، أمّا ابنُ الباذِش فيَرى أنّ (ما)كبعضِ الاسمِ، وبعضُ الاسمِ مبنيٌّ؛ لأنّ الإعرابَ لا يكونُ إلاّ في أواخِرِ الأسماءِ،ولكون(ما)بعضَ الاسمِ أو جزءاً منه وَجَبَ بِناؤُها (333).

    وهذه العلةُ التي ذكرَها ابنُ الباذِش أشارَ إليها غيرُه من النُّحَاة، قال الوَرّاقُ في الحديثِ عن (ما)(334):" وفي الخبرِ بمنزلةِ(الذي) فقد صارت كبَعْضِ اسمٍ، فوجَبَ بناؤها في جميعِ المَواضعِ ".

    علة امتناع نعت المَعْرِفَة بالنَّكِرَة والنَّكِرَة بالمَعْرِفَة

    يَرى ابنُ الباذِش أنَّ سببَ امتناعِ نعتِ النَّكِرَة بالمَعْرِفَة هو أنَّ من حَقِّ المَعْرِفَة التقديمَ على النَّكِرَةِ، وحَقُّ النَّعْتِ التَّأخُّرُ عن المنعوتِ فهُما مُتَدافِعان، أمّا امتناعُ نَعْتِ المَعْرِفَةِ بالنَّكِرَةِ فلأنّ نعتَ المَعْرِفَةِ لإزالةِ التَّنْكيرِ العارضِ فيها، والنَّكِرَةُ يلزَمُها التَّنْكيرُ،فلا تُزيلُ النَّكِرَةُ عن غيرِها ما لا يجوزُ أنْ يزولَ عنها (335).

    والظاهِرُ أنَّ ابنَ الباذِشِ تابَعَ الرّبعيّ في هذه العلَّة، وقد نقلَ ابنُ برهان كَلامَ الربعي فقالَ (336): " وقال علي بن عيسى:لا تُوصَفُ المَعْرِفَةُ إلا بمَعْرِفَةٍ؛ لأنَّ صِفَةَ المَعْرِفَةِ لإزالةِ الاشْتِراكِ العَارِضِ عَلى المَعْرِفَةِ، والنَّكِرَةُ لا تُزيلُ الاشْتِراكَ العَارِضَ.وحُكْمُ النَّكِرَةِ ألاّ توصَفَ إلاّ بِنَكِرَةٍ لأنَّ المَعْرِفَةَ أَحَقُّ بالتقديمِ".

    أمّا الجَرْمِي فيَرَى أَنَّ المَعْرِفةَ وُصِفَتْ بالمَعْرِفةِ، والنَّكِرَةُ وُصِفتْ بالنَّكِرَةِ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما جِنْسٌ على حِيالِهِ(337)،وهذا مَا أخَذَ بهِ الفارِسِيُّ في الإيضاحِ والمَسائِلِ المَنْثورَةِ (338)، قالَ في المَسَائِلِ المَنثورةِ (339): " وإنَّما امْتَنَعَ ذلكَ لأنَّ الوَصْفَ هو المَوْصُوفُ في الحَقيقةِ، ولَمَّا كَانَتْ النكرةُ تَقَعُ عَلى أشْخَاصٍ كَثيرَةٍ، فتدُلُّ على جنسٍ، وهو قولكَ: (مَا جَاءَني أَحَدٌ) و(مَا رَأيتُ أحَداً)، فلو وَصَفْناه بمَعْرِفَةٍ لكُنّا قد جَعَلنا الذي هو جَمْعٌ واحِداً، وكَذلكَ لو وَصَفنا المَعْرِفَةَ بالنَّكِرَةِ لكُنّا قد جَعَلنا مَا هو واحِدٌ جَمْعاً، وهذا مُتَناقِضٌ"،وسَار على هذا النهجِ في التَّعْليلِ كَثيرٌ مِنْ النحاةِ(340).

    ورَدَّ ابنُ خَروف هذا التَعْلِيلَ بأنّه يَلزَمُهُم ألاّ يُبْدَلَ أَحَدُهُما مِنْ الآخَرِ بَدَلَ الشيءِ مِنْ الشَّيءِ وهما لشيءٍ واحِدٍ؛ مِنْ حيثُ لا يَكُونُ الواحِدُ جَمْعاً،ولا فَرْقَ في هذا بينَ النَّعْتِ والبدَلِ(341).

    وهناكَ مِنْ العُلماءِ مَنْ أَجَازَ مَا مَنَعه غَيْرُهم،فالأخفشُ أَجَازَ وَصْفَ النَّكِرَةِ بالمَعْرِفَةِ عندَ تَخْصِيصِها مُسْتَدِلاً بقولِه تعالى:" فَآخَرانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهم الأوَّلِيَّانِ " {المائدة 107 } ف(الأوَّلِيَّانِ) صِفَةٌ ل(آخَرانِ)(342)،وجَوّزَ بَعْضُهم العكسَ مُطْلقاً،وذَهَبَ ابنُ الطّرَاوَةِ إلى جوازِ وَصْفِ المَعْرِفَةِ بالنّكِرَةِ إذا كَانَ الوَصْفُ خاصاً بالمَوْصوفِ(343).

    وأَرَى أَنَّ أَمْرَ مَنْعِ وَصْفِ النَّكِرَةِ بالمَعْرِفَةِ والعكس لا يَتَعلّقُ بِكَونِ النَّكِرَةِ تدلُّ على جِنْسٍ، والمَعْرِفةُ تَدُلُّ عَلى مُفْرَدٍ،فالطّبيعَةُ العامَّةُ للنَّكِرَةِ والمَعْرِفَةِ لا عَلاقةَ لها بعِلّةِ المَنْعِ؛ بدَليلِ أَنَّ كَثيراً مِنْ النُّحاةِ قد أَجَازَ ذلكَ،كمَا أنَّ تعميمَ المَنْعِ غيرُ دَقيقٍ، فمَتى صارَتْ النَّكِرَةُ بمَنْزِلَةِ المَعْرِفَةِ وكانَ نَعْتُها بالمَعْرِفَةِ يُخَصِّصُها نُعِتَتْ،والعكس جائِزٌ، والذي أَراهُ أَنَّ الأمْرَ يَتَعَلَّقُ بطَبِيعَةِ المَعْرِفةِ والنَّكِرَةِ المَوْصُوفَةِ في النصِّ،ومَا يَدُلُّ على ذلك جَوازُ وَصْفِ النَّكِرَةِ المُخصّصة عندَ بَعْضِهم.

    أَمَّا إِذا أَرَدْنا أَنْ نَذْهَبَ إلى الأصولِ فهي تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ بَعْضِ مَا ذَهَبَ إليه الرّبْعي وابنُ الباذِش،فالأصولُ النَّحْويَّةُ تقولُ: إنّ الأصْلَ في المَعَارِفِ ألاّ تُوصَفَ مُطلقاً؛ لأنَّها مَوْضُوعَةٌ عَلى التَّخْصيصِ،لكنَّ طَبيعَةَ وَضْعِها ككَلِمَةٍ مَوْصُوفَةٍ جَعَلها تَحْتَاجُ إلى الصِّفَةِ،وهذه الطَّبيعَةُ هي أَنَّ هذِه المَعْرِفَةَ المُخَصَّصَةَ صَارَتْ تَحْتَاجُ إلى تَخْصِيصٍ جديدٍ،فأَشْبَهَتْ النَّكرةَ مِنْ هذا الوَجْه،فوُصِفَتْ بمَعْرِفةٍ، والأصْلُ في النَّكِرَةِ أَنْ تُوصَفَ لِكَونِها غيرَ مُخَصّصةٍ،والمَقصودُ مِنْ هذا الكَلامِ أَنَّ المَعْرِفةَ لا تُوصَفُ إلا لإزالةِ عَارِضٍ أَثَّرَ على تَخْصِيصِها السابقِ،أو تَنْعَتُها ثانياً وثالثاً لِتُؤكِّدَ تَخْصيصها،والنَّكِرةُ لا تُزيلُ العَارِضَ المَوجودَ، فلمْ تَنْعَتْ بها المَعْرِفَةَ، فقولك: (زيدٌ المُجتهدُ غائبٌ) مَيّزْتَ بالمُجتهدِ زيداً عن غيرِه من الزُّيودِ، فأَزَلْتَ الاشْتِراكَ،وإذا أَخَذْنا برَأْيِ الفارِسِيِّ وهو أنَّ المَوْصوفَ هو الصِّفَةُ في المَعْنى لقلنا: إنّ زيدأ هو المُجتهدُ،والمُجْتهدُ هو زيدٌ،وهذا غيرُ دقيقٍ،ويَرِدُ عليه بالإضَافَةِ إلى رَدّ ابنِ خَروفٍ أنّه لو كَانَ كَذلكَ لَمَا كانَ مِنْ الصِّفَةِ فائِدَةٌ، فهما واحدٌ،ولَمَا حَدَثَ تَبيينٌ وتَخْصيصٌ، وقد تحدث النحاة كثيرأ عن الخصوص والعموم بين النعت والمنعوت،فالأصل في "النعت أن يكون تعرِيفُهُ أنقصَ تعريفاً مِنْ المنعوت، ولا يجوز أن تنعت الاسم بالأخصّ " (344) ولِهذا كُلّه أَرى أَنَّ مَا ذَهَبَ إليه الرّبْعيُ وابنُ الباذِشِ صواباً، وهو رَأيُ جُمْلةٍ مِنْ النُّحَاةِ، مِنْهُم الوَرّاقُ(345)وابنُ خَروفٍ(346) والقَوّاسُ(347).

    العلة الرافعة للاسم

    استعملَ النُّحَاة للدَّلالَةِ على عَمَلِ الفِعْل في الفاعلِ عباراتٍ عِدَّةً، فابنُ السَّرّاجِ يَسْتعملُ مُصْطلحَ (البناءِ)،ويَرى أنَّ الفاعِلَ مَبْنيٌّ على الفِعْل، وأنّ هذا البناءَ هو العلَّةُ الرافِعَةُ للفاعِلِ،ويُوَضِّحُ ابنُ السَّرّاجِ مُرَادَه بهذه العِلَّةِ فيَقولُ(348): " ومَعْنى قَوْلي: بَنَيْتُه على الفِعْل الذي بُنِي للفاعِلِ، أيْ: ذَكَرْتُ الفِعْل قبلَ الاسمِ؛ لأنّك لو أتيتَ بالفِعْل بعدَ الاسمِ لارتفَعَ الاسمُ بالابتداء " فظاهرُ عبارَتِهِ يَدُلُّ على أنّ الرفعَ في الفاعِلِ حَصَلَ من الفِعْل لكَوْنِه قد أتى بعده، ويَدُلُّ كلامُه عَلى أنّه ليسَ للمَعْنى دورٌ في الرَّفْعِ، فالبناءُ عندَه تركيبُ ألفاظٍ مُرَتَّبَةٍ بطريقةٍ مُعيَّنةٍ، فإذا انتَقَضَ هذا الترتيبُ بَطُلَ الرفعُ بعِلَّةِ البناءِ، فالعلّةُ في رفعِ الاسمِ في: (حَضَرَ مُحَمَّد)ليست هي العلّةَ في رفعِ الاسمِ في: (مُحَمَّد حَضَرَ)،وهذا الرأيُ على خِلاف ما يَقْتَضيه المَعْنى.

    واستعملَ الفَارِسِيّ وغيرُه مُصْطلحَ (الإسنادِ)، فالفاعِلُ مرفوعٌ لكون الفِعْل مسنداً إليه، قال(349): " وصِفَتُه أنْ يُسْنَدَ الفِعْل إليه مُقدّماً عليه، ومثاله: (جَرَى الفرسُ) و(غَنِمَ الجيشُ) و(يَطيبُ الخَبَرُ) و(يَخْرُجُ عبدُ الله) وبهذا المَعْنى الذي ذَكَرْتُ ارتَفَعَ الفاعِلُ لا بأنّه أحْدثَ شيئاً على الحقيقةِ "، والظاهرُ أنّ مُصطلحَ البناءِ كَما استعمَله ابنُ السَّرّاجِ يَخْتَلِفُ عن مُصْطَلحِ الإسنادِ عندَ الفَارِسِيّ،فالترتيبُ عندَ ابنِ السَّرّاجِ يَتَعَلّقُ بعمليةِ البناءِ،بينما قد يَكونُ الإسنادُ صحيحاً من غيرِ ترتيبٍ،وإنّما يَكونُ التَّقديمُ شرطاً في عَمَلِ الفِعْل في الفاعِلِ.

    ويَرفُضُ ابنُ الباذِش هذين التَّفْسيرين لِعَمَلِ الفِعْل في الفاعِلِ، فهو يَرى أنّ استِحْقاقَ الفاعِلِ للرَّفْعِ بسبَبِ تَفَرُّغِ الفِعْل له، وأنَّ المَعْنى الذي يَنْتَصِبُ به المَفْعُول هو اشتغالُ الفِعْل عنه بالفاعِلِ قبلَ وُصولِه إليه، قال(350):" فبِالتَّفرُّغِ والاشتِغالِ يكونُ الرفعُ والنصبُ لجَميعِ الأفعالِ لا بإسْنادِ الفِعْل لِما يَعْمل فيه ولا بِبِنائِه له ولا لأنّه وَقَعَ مَوْقِعَ الفِعْل من الاسم أو رُفِعَ به " وعَزا هذا الرأي إلى الخليل وسِيْبَوَيْه، قال (351): "هذا مذهبُ الخَليلِ وسِيْبَوَيْه ".

    والظاهرُ أنَّ مُصْطلحَ التفرُّغِ والاشتِغالِ يَرْتَبِطُ بالمَعْنى أكْثَرَ من ارتِباطِه بتَركيبِ الألفاظِ وتَرتيبِها،فابنُ الباذِش يرى أنّ تَقَدّمَ المَفْعُول على الفاعِلِ لا يُخْرِجُ الفِعْل عن أن يكونَ مُفرّغاً للفاعِلِ، فالتَقدّمُ لفظيٌّ، والأصلُ تقديمُ الفاعِلِ وتَأخيرُ المَفْعُول.

    ويَسْتَدلُّ ابنُ الباذِش على ذلك برَفعِ الاسمِ ونَصْبِه في بابِ ما لم يُسَمّ فاعلُه نحو: (أُعْطِي مُحَمَّد ثوباً)،فكلاهما مَبْنيٌّ له الفِعْل، كما اسْتدَلَّ في باب كانَ وأخواتِها،فالمَرْفوعُ والمَنصوبُ في قولك: (كانَ زيدٌ مجتهداً) لم يَتَعَلقا بالفِعْل من خلال عَمَليَّةِ الإسنادِ أو البناءِ، فالإسنادُ موجودٌ بينَ الاسمين (اسم كان وخبرها) وليس بينَ الاسمِ والفِعْل،لكنَّ تفرّغَ الفِعْل لهذا الاسمِ هو الذي رَفَعَه كما أنَّ اشتِغالَ الفِعْل بهذا المَرْفوعِ أدّى إلى نَصْبِ المَفْعُول(352).

    ويَرى ابنُ الباذِش أنّ مَنْ قالَ: إنَّ العِلَّةَ الرَّافِعَةَ لذلك بناءُ الفِعْلِ للاسمِ ليسَ بمصيبٍ، قالَ(353): "لأنّا إذا قلنا: (أُعْطِيَ زيدٌ درهماً) فإنّ هذا البناءَ صالِحٌ لكُلِّ واحِدٍ من الاسْمَيْن، فإذا كانَ الأمرُ كذلك فالفِعْلُ في ذلك مَبْنيٌّ للدِّرْهَمِ،وهو لم يَرْفَعْه، فدَلَّ ذلك على أنّ بِناءَ الفِعْلِ للاسمِ ليسَ رافِعاً له، وإنّما الرّافِعُ له الاشتِغالُ والتَّفْريغُ لا البناءُ ".

    ورَدَّ الشَّلوبين رأيَ أبي الحَسَنِ بنِ الباذِش فقالَ (354): "ولكنَّ هذا الذي قالَه أبو الحَسَن ليسَ بصَحيحٍ؛ لأنّه ليسَ صَلاحِيَّةُ الاسمِ أنْ يكونَ الفِعْلُ مَبْنِياً له هو بناءُ الفِعْلِ له، بل بناءُ الفِعْلِ للاسمِ أمرٌ آخَرُ غيرُ صَلاحِيَّتِه لأنْ يُبْنى الفِعْلُ له، فإذا قلنا: (أُعْطِي زيدٌ دِرْهَماً) وإنْ كانَ كلُّ واحِدٍ من الاسْمَين صالِحاً أنْ يُبْنى له (أُعْطِي) فإنّه لم يُبْنَ مِنْهُما إلا لِزيدٍ، والدَّرْهَمُ داخِلٌ في حَديثِه كَما أنّا إذا قلنا: (أُعْطِي زيداً دِرْهَمٌ) فإنّه لم يُبْنَ مِنْهُما إلاّ للدَّرْهَمِ،وزيدٌ داخَلٌ في حَديثِه، فبَطُلَ بذلك قولُه: إنَّ الفِعْلَ مَبْنيٌّ لكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما، ولم يَرْفَعْ إلاّ أحَدَهُما،وإنّما غَلطُه في ذلك صَلاحِيَّةُ كُلِّ واحِدٍ مِنْهُما لِبناءِ الفِعْلِ له ".

    وأرى أنّ جَميعَ هذه المُصْطَلحاتِ مِنْ مُصْطَلَحاتِ سِيْبَوَيْه إلاّ أنّ عَدَمَ تَحْديدِ سِيْبَوَيْه لِماهِيَّتِها سَبَّبَ هذا الخِلافَ بينَ النُّحَاة، أمّا مُصْطَلحا الإسْنادِ والبِناءِ فذَكَرَهُما في أوَّلِ كِتابِهِ، قالَ في بابِ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه (355): " وهُما ما لا يُغْني واحِدٌ مِنْهما عن الآخَرِ، ولا يَجِدُ المُتَكَلِّمُ منه بُدّاً، فمَنْ ذلك الاسْمُ المُبْتَدأ والمَبْنِيُ عليه وهو قولك: (عبدُاللهِ أخوكَ) و(هذا أَخوكَ)، ومثلُ ذلك: (يَذْهَبُ عبدُالله)،فلا بُدَّ للفِعْل من الاسْمِ كَما لم يَكُن للاسْمِ الأوَّلِ بُدٌّ مِن الآخَرِ في الابْتِداءِ ".

    فالمُلاحَظُ في نَصِّهِ أَنَّ الإسْنادَ والبناءَ بمَعْنىً واحِدٍ، ويَقْصِدُ بهِما ارْتِباطُ اسْمٍ بآخَرَ أو كَلِمَةٍ بأُخْرى، ولا يَسْتَغْني أَحَدُهُما عن الآخَرِ، وهذا يَنْطبِقُ على المُبْتَدأ والخبَرِ، والفِعْلِ والفاعِلِ 0

    أَمّا ما فَهِمَهُ ابنُ الباذِش فهو ما جاءَ في قولِ سِيْبَوَيْه(356): "هذا بابُ الفاعِلِ الذي لم يَتَعَدَّهُ فِعْلُهُ إلى مَفْعُولٍ، والمَفْعُولِ الذي لم يَتَعَدَّ إليه فِعْلُ فاعِلٍ،ولم يَتَعَدَّه فِعْلُهُ إلى مَفْعُولٍ آخَرَ، والفاعِلُ والمَفْعُولُ في هذا سواءٌ، يَرْتَفِعُ المَفْعُولُ كَما يَرْتَفِعُ الفاعِلُ؛ لأنّك لم تُشْغِلْ الفِعْلَ بغَيْره، وفَرَّغْتَهُ له كَما فَعَلتَ ذلك بالفاعِلِ "،فالفاعِلُ ونائِبُهُ رُفِعا لأنّك قد فَرَّغْتَ الفِعْلَ لهُما، ونُصِبَ المَفْعُول لأنّك قد شَغَلتَ الفِعْلَ بالفاعِلِ.

    والمُلاحَظُ أَنَّ هناك كَثيراً مِن العُلماءِ يُفَرِّقونَ بينَ هذه المُصْطَلَحاتِ،ويَرَونَ أنّ لِكُلِّ مُصْطلحٍ مَعْنىً خاصاً به واسْتِعْمالاً مُحَدَّدا يَخْتَلِفُ عن غيرِه مِن المُصْطلحاتِ، وهناك مَنْ لم يُفَرِّقْ بَيْنَها، ومِنْهُم ابنُ أبي الرَّبيعِ فقد صَرَّحَ في البَسيطِ أنّ هذه الألفاظَ مُتَرادِفَةٌ، قالَ (357): "فما ذَكَرْتُه مِن الإسْنادِ إليه وتَفْريغِ الفِعْلِ له وبِناءِ الفِعْلِ للإسنادِ إليه،وهذه الألفاظُ كُلُّها مُتَرادِفَةٌ لمَعْنىً واحِدٍ، وقد أتَى بِها سِيْبَوَيْه في مَواضِعَ فدَلَّ ذلك على أنّها على مَعْنىً واحِدٍ ".

    وأَرى أَنَّ خِلافَ ابنِ الباذِش مَعْ غيرِهِ مِنْ النُّحَاة في هذه المَسْأَلَةِ مَرَدُّهُ إلى عبارَةِ سِيْبَوَيْه المُبْهَمَةِ، فقد ذَكَرَ سِيْبَوَيْه المُصْطلحاتِ الثلاثَةِ ولم يُحَدِّدْ مَعْنى أَيٍّ منها،ولم يَعْتَمِدْ مَفْهوماً أو مُصْطلحاً واحِداً، وهذا التَّنَوُّعُ في الاصْطِلاحِ أو التعبيرُ المُبْهَمُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبابِ الخِلافِ، وهذا ما سَنَراهُ في جُمْلَةٍ مِنْ المَسَائِلِ 0

    علة منع عمل اسم الفاعل مصغّراً

    في إِعْمالِ اسْمِ الفاعِلِ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً خِلافٌ بَيْنَ البَصْريِّين والكُوفيِّين، فالبَصْريُّون والفَرّاءُ يَمْنَعونَ إِعْمالَهُ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً،ويُجِيزُ ذلك الكِسائيُّ وجُمْهورُ الكُوفيِّين، ووافَقَهُم في إِعْمالِه النَّحَّاسُ(358).

    ونَسَبَ الأزْهَريُّ إلى ابنِ الباذِش أَنَّ عِلَّةَ المَنْعِ كونُ التَّصْغِيرِ وَصْفاً في المَعْنى، فمَنَعُوه مِنْ العَمَلِ كَما مَنَعوا إِعْمالَه مَوْصُوفاً(359).

    والحَقُّ أنَّ هذه العِلَّةَ لمَنْ سَبَقَهُ مِنْ النُّحَاة ولَيْسَت له، قال الفَارِسِيّ في التَّكْمِلةِ (360): " تَصْغيرُ الاسْمِ بمَنْزِلةِ وَصْفِهِ بالصِّغَرِ، فقَوْلُنا: (حُجَيرٌ) كقولنا: (حَجَرٌ صَغيرٌ)، ويَدُلُّ على ذلك أَنَّ مَنْ أَعْمَلَ اسْمَ الفاعِلِ نَحْوَ: (هذا ضَارِبٌ زَيداً) إذا صُغِّرَ فقال: (ضُوَيْرِبٌ) لم يَسْتَحْسِنْ إِعْمالَهُ في المَفْعُولِ بِهِ كَما لا يَسْتَحْسِنُ إذا وَصَفَه فقال: هذا ضَارِبٌ ظَريفٌ زَيداً "،فالواضِحُ مِنْ هذا النَّصِّ أَنَّ الوَصْفِيّةَ عِلَّةٌ للمَنْعِ عندَ الفَارِسِيّ.

    ويَبْدو لي أنَّ هذا اخْتِيارٌ لابنِ الباذِش، وليسَ رأياً له، وهو اخْتِيارُ جُمْهورِ البَصْرِيِّين في التَّعْليلِ لمَنْعِ عَمَلِ اسْمِ الفاعِلِ مُصَغَّراً أو مَوْصُوفاً (361).

    أمّا العِلَّةُ الثانِيَةُ وهي عِلَّةُ مَنْعِ المَوْصُوفِ أو الصِّفَةِ عن العَمَلِ فيَرى النُّحَاة أنّ الأسْماءَ العامِلةَ إذا وُصِفَت انْعَزَلت عن العَمَلِ؛ وذلك لبُعْدِها عَنْ مُشابَهَةِ الفِعْلِ (362)،قال الرضي (363): "إنّما لم يُصَغَّرْ الاسمُ العامِلُ عَمَلَ الفِعْلِ لغَلبَةِ شَبَهِ الفِعْلِ عليه، إذن فكَما لا يُصَغَّرُ الفِعْلُ لا يُصَغَّرُ مُشْبِهُهُ ".

    علّة مجيء (أي) الموصولة بعد المستقبل

    ذَكَرَ الكِسائِيُّ أنَّ (أَيَّ) المَوْصُولَةَ لا يَجُوزُ أنْ يَكونَ عَامِلُها إلاّ مُسْتقبلاً، وقد جرَت بَيْنَ الكِسائِيِّ ومَروانَ بنِ سَعيدٍ المُهلَّبيِّ مُنَازَعَةً في هذه المَسْأَلَةِ (364)،وفيها قالَ مَروانُ للكِسائِيِّ: فَكَيْفَ تَقولُ: (ضَرَبْتُ أيَّهُم في الدارِ)؟ قالَ: لا يَجُوزُ، قال: لِمَ؟ قالَ: (أَيُّ) كَذا خُلِقَتْ. فلم يَذْكُرْ الكِسائِيُّ عَلَّةً لِوُجُوبِ كَوْنِ عامِلِ (أَيّ) مُسْتقبلاً.

    وتَابَعَ رَأيَ الكِسائِيِّ أَبُو الحَسَنِ بنِ الباذِش حَيْثُ ذَهَبَ إلى أَنَّه لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ (أَيُّ) هذه أَبَداً مَعْ الماضي،وإِنَّما تَكونُ بَعْدَ المُسْتَقبَلِ، وزادَ ابنُ الباذِش على ذلك بأنْ ذَكَرَ عِلَّةَ مَجيئِها بَعْدَ المُسْتَقبَلِ فقالَ(365): "(أَيُّ) مَوْضُوعَةٌ للإبْهامِ، والإبْهامُ لايَتَحَقَّقُ إلاّ في المُسْتَقْبَلِ الذي لا يُدْرى مَقْطَعُه ولا مَبْدَؤُه بِخِلافِ الماضي والحالِ فإِنَّهُما مَحْصُوران، فلمّا كانَ الإبْهامُ في المُسْتَقْبَلِ أَكْثَرَ مِنْه في غَيْرِه اسْتُعْمِلت مَعَه (أَيُّ)المَوْضُوعَةُ على الإبْهامِ ".

    ورَدَّ الشلوبين هذه العِلَّةَ بأنْ قالَ (366): " وهذا لا مَعْنى له "، كَما رَدَّها الرَّضيُّ بقوله (367): " ولَيْسَ بشَيءٍ؛ لاخْتِلافِ الإبْهامَيْن ولا تَعَلُّقَ لأحَدِهِما بالآخر " والمَقْصُود بالإبْهامَيْن الإبْهامُ المَوجودُ في (أَيِّ) والإبْهامُ المَوجودُ في المُسْتَقبَلِ.



    رابعاً:توجيهات قرآنية

    توجيه قوله تعالى:) ولا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلي لَهُم ({آل عمران 178}

    في هذِه الآيَةِ قِرَاءاتٌ عِدَّةٌ، واضْطَرَبَتْ أقوالُ النُّحَاةِ في تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ،وأَنْكَرَ قِرَاءَتَهُ جَمْهَرَةٌ مِنْ النُّحَاةِ حَتّى عَدَّها أبو حَاتِم لحْناً(368)، قالَ النَّحَّاسُ(369): " وتَابَعَه عَلى ذلكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ".

    أَمَّا قِرَاءَتُه فهي: "ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا " بالخِطَابِ وفَتْحِ البَاءِ والسِّين(370)، قالَ الأزْهَرِيُّ (371): " ومَنْ قَرَأ)ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا (لمْ يَجُزْ عِنْدَ البَصْرِيِّين إلاّ كَسْرَ أَلِفِ (إِنَّ) المَعْنى: لا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُوا إمْلاؤُنا خَيْرٌ لَهُم، ودَخَلَتْ (إِنَّ) مُؤَكّدةً، وإذا فَتَحْتَ صَارَ المَعْنَى:ولا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَروا إِمْلاءَنا ".

    هذا هو رَأيُ البَصْرِيِّين، فهُم لا يُجِيزُونَ في قِرَاءَةِ حَمْزَةَ إلا كَسْرَ هَمْزَةِ (إَنَّ)، قالَ الفَارِسِيّ (372): " قَوْلُه (الَّذينَ كَفَرُوا) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بأَنَّهُ المَفْعُولُ الأوَّلُ،والمَفْعُولُ الثانِي في هذا البابِ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ في المَعْنى، فلا يَجُوزُ فَتْحِ (إِنَّ) ".

    وذَهَبَ كَثيرٌ مِنْ النُّحَاةِ إلى جَوازِ فَتْحِ (أَنَّ)،ومِنْهُم ابنُ الباذِش(373)،فهو يَرى أَنَّ قَوْلَهُ (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُم خَيْرٌ لأنْفُسِهِم) بَدَلٌ مِنْ (الَّذينَ)،والمَفْعُولُ الثانِي عِنْدَه مَحْذُوفٌ،قالَ (374): "ويَكُونُ المَفْعُولُ الثانِي حُذِفَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَليه، ويَكُونُ التَّقْديرُ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَروا خَيْرِيَّةُ إِمْلائِنا لَهُم كَائِنَةٌ أو واقِعَةٌ ".

    وقد رُدَّ هذا الرَّأيُ بأَنَّ حَذْفَ المَفْعُولِ الثانِي في هذِه الأفْعَالِ لا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدً، قالَ السَّمينُ(375): " وهذا الرَّدُّ ليسَ بِشَيءٍ".

    إعراب قوله تعالى:) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلونَ أنفُسَكُمْ ({البقرة 85}

    للعُلَمَاءِ في إعْرابِ هذِه الآيَةِ آراءٌ عِدَّةٌ (376)،مِنْها رَأيٌ لأبي الحَسَن بنِ البَاذِش نَقَلَهُ عَنْه تِلْمِيذُه ابنُ عَطِيَّةَ الأندلسي،قال (377): "قالَ الأسْتاذُ الأجَلُّ أبو الحَسَن بنُ أحْمَدَ شَيْخُنا: (هؤُلاءِ) رَفْعٌ بالابْتِداءِ، و(أَنْتُم) خَبَرٌ مُقَدَّم، و(تَقْتُلُونَ) حَالٌ بِها تَمَّ المَعْنى،وهي كَانَتْ المَقْصُودَةَ،فهي غَيْرُ مُسْتَغْنى عَنْها،وإنّما جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ تَمَّ الكَلامُ في المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إليه كَما تَقُولُ: (هذا زَيْدٌ مُنْطَلِقاً)، وأنتَ قد قَصَدْتَ الإخْبَارَ بانْطِلاقِه لا الإخْبَارَ بأَنَّ هذا هو زَيْدٌ ".

    وقد خَالَفَ ابنُ الباذِش في هذا الرَّأيِ سِيْبَوَيْه وغَيْرَه مِنْ نُحَاةِ البَصْرَة حَيْثُ يَذْهَبُ سِيْبَوَيْه إلى أنّ(أَنْتُم) مُبْتَدأ و(هؤُلاءِ) خَبَرٌ و(تَقْتُلُونَ) في مَوْضِعِ الحَالِ(378).

    ويَتَعَجَّبُ أَبُو حَيَّانَ مِنْ رَأيِ ابنِ الباذِش فيقولُ (379): " ولا أَدْري مَا العِلَّةُ في عُدُولِه عَنْ جَعْلِ (أَنْتُم)مُبْتَدأ و(هؤلاءِ) الخَبَرَ إلى عَكْسِه "، ولَعَلَّ في رَأْيِ ابنِ الباذِش شَيْئاً مِنْ الصَّوابِ إِذ لَمِ يُرِدْ اللهُ سُبْحانَه وتعَالى الإشَارَةَ إِلَيْهِم، إِنَّما أَرَادَ الإخْبَارَ عَن مَاهِيَّتِهِم وتَصَرُّفَاتِهِم مِنْ قَتْلِ النّفْسْ وسَفْكِ الدِّمَاءِ وغَيرِ ذلك،فالمَعْنى المُرَادُ مِنْ الآيَةِ: أَنْتُم تَقْتُلُونَ أَنْفَسَكم وتَسْفِكُون دِمَاءَكُم،ولِتَوضِيحِ المَعْنى نُفَرِّقُ في المَعْنى بَيْنَ (هؤلاءِ أَنْتُم) و(أَنْتُم هؤلاءِ)، ففي الجُمْلَةِ الأولى الإخْبَارُ عَنْ اسْمِ الإشَارَةِ، أيْ:الإخْبَارُ عن المُشَارِ إليه بضَمِيرِه، أي:بِذَاتِهِ، ولَيْسَ هذا هو المُرَادُ في الآيَةِ، وإِنَّمَا المُرادُ الإخْبَارُ عَنْ ذَاتِهم أنَّهُم يَفْعَلُونَ كَذا وكَذا، كَقَولي لَكَ: أَنْتَ هذا تَأكُلُ وتَشْرَبُ، والمَعْنى يُوحِي أَنَّ اسْمَ الإشَارَةِ تَوْكيدٌ للضَّميرِ، وهذا المَعْنى هو الّذي دَفَعَ ابنَ الباذِش إلى القولِ بهذا الرَّأيِ، وأَرَاه صَواباً، والله أعلم.

    ويَرى بَعْضُ الكُوفِيّين أَنَّ(هؤلاءِ)مُنادى حُذِفَ مِنْه الأداةُ،وقد نَسَبَ الرَّضِيُّ هذا الرَّأيَ لَهُم مُعَلِّلِينَ بأَنَّ اسْمَ الإشَارَةِ مَعْرِفَةٌ قَبْلَ النِّداءِ، فلِذلكَ جَازَ حَذْفُ الأدَاةِ قبلَ اسْمِ الإشَارَةِ (380)، وبَعْضُهُم يُجِيزُ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الإشَارَةِ بمَعْنى الأسْمَاءِ المَوْصُولةِ، فيُصْبِحُ مَعْنى الآيَةِ:أَنْتُم الذين تَقْتُلونَ(381).

    وقيلَ في الآيَةِ: إِنَّ (هؤلاءِ) مَنْصوبٌ عَلى الاخْتِصَاصِ (382).

    وقيلَ: (تَقْتُلونَ) جُمْلَةٌ مُسْتَأنَفَةٌ(383).

    وقيلَ:(هؤلاءِ) خَبَرٌ، ولكن بتَأويلِ حَذْفِ المُضَافِ، أي:مِثلَ هؤلاءِ (384).

    توجيه قوله تعالى: " تِلْكَ عشرةٌ كاملةٌ " {البقرة 196}

    نَقلَ لنا أبُو حَيَّانَ في تَفْسِيرِه رَأياً لابنِ الباذِش في تَوجيهِ قولِه تعالى: "تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ " فقالَ(385): " فقالَ الأستاذُ أبُو الحَسَن عَليّ بنُ أحمدَ الباذِش مَا مَعْناه: أَتَى بِعَشْرَةٍ تَوْطِئةً للخَبَرِ بَعْدَها، لا أنّها هي الخَبَرُ المُسْتَقِلّ به فَائِدَةَ الإسْنَادِ، فجِيءَ بِهَا للتوكِيدِ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ " يَعْني في هذا الكَلامِ أَنَّ المَقْصُودَ هو الإخْبَارُ بالصَّلاحِ، وجِيءَ بِرَجُلٍ تَوْطِئةً،إذْ عُلِمَ أنَّه رَجُلٌ، وفي هذِه الآيَةِ عُلِمَ أَنَّها عَشْرَةٌ حَيْثُ قالَ: " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذا رَجِعْتمُ "، فهو لمْ يُرِدْ الإخْبَارَ أنَّها عَشْرةُ أيَّامٍ،إِنَّمَا أَرَادَ الإخْبَارَ بكَمَالِها.

    وفي هذِه الآيَةِ آراءٌ أخْرى (386)، فمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّ المَقْصُودَ بِقَولِه (كَامِلَةٌ) إِزَالَةُ التَّوَهُّمِ ورَفْعِ الَّلبْسِ،إذْ قد يَظُنُّ القارِىءُ أَنَّ الواوَ في (وسَبْعَةٍ) للتَخْييرِ، فَأَزَالَ هذا الاحْتِمَالَ، وهذا رَأيُ الزَّجَّاجِ(387).

    وذَهَبَ الأخْفَشُ إلى أَنَّ (كَامِلة) جِيءَ بِها للتوكِيدِ(388)، وأَخَذَ بهذا ابنُ جِنِّي في خَاطِرِيّاتِه(389).

    ويُلاحَظُ في رَأيِ ابن الباذِشِ في هذه الآيَةِ ومَا سَبَقَهَا بالمَعْنى، فتَوْجِيهُه للآيَةِ كَانَ مُعْتَمِداً عَلى فَهْمِه للآيَةِ بِكَمَالِهَا لا نَظْرَةً مُقْتَصِرَةً عَلى التَّرْكِيبِ، فإِعْرَابُه لِهذا التَّرْكِيبِ كَانَ ضِمْنَ نَصٍّ كَامِلٍ، فاللهُ سُبْحَانَه وتَعَالى لَمْ يُرِدْ أَنْ يُخْبِرَهُم أَنَّها عَشْرةُ أَيَّامٍ، فهُم يَعْرِفُونَ أَنَّها عَشْرَةُ أَيَّامٍ، ولا حَاجَةَ لإخْبَارِهِم عَنْها، وإِنَّما أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَهُم عَنْ كَمَالِها،فلا أَرَى رَأياً مِنْ هذِه الآراءِ أَقْرَبَ إلى المَعْنى مِنْ رَأيِ أبي الحَسَن بنِ الباذِش.

    الفصل الثالث: خلافه مع ابن الطراوة

    خِلافُه مَعْ ابنِ الطَّراوةِ

    قيلَ: إنَّ لابنِ الطَّراوَةِ مُؤَلَّفاً خَصّه بمَسْألةِ نَحويّةٍ جَرَتْ بينَه وبَينَ ابنِ الباذِش(390)، ولا نعلمُ حَقيقةَ هذِه المَسْألةِ، فلَمْ يُشر إلى فَحْواها مَنْ ترجَمَ لابنِ الطَّراوَةِ أو لابنِ الباذِش، ويَبدو أنَّ بَينَ العَالِمَيْن خِلافاً لا يقفُ عندَ حدودِ مَسالةٍ نَحويَّةٍ.

    ويُمْكِنُ أَنْ نَتِعَرَّفَ عَلى أَبْرزِ نُقاطِ الاخْتِلافِ بينَ الشَّخْصِيَّتَين مِنْ خِلالِ نَهْجِ الحَياةِ العِلميَّةِ في ذلك العصرِ،فقد كَانَ اهتِمامُ نُحاةِ الأندلسِ بجُمْلةٍ مِنْ كتبِ أهلِ المَشْرقِ، منها كتابُ سِيْبَوَيْه والمقتضَبُ للمبَرّدِ وأُصولُ ابنِ السَّراجِ وجُمَل الزجّاجِيّ الذي زادَت شروحه الأندلسية عن خَمسين شرحاً، كما ذاعتْ كُتُب الفَارِسِيّ كالإيضاحِ وكتبُ ابنِ جنِّي كاللُّمَعِ الذي اهتِمامَ علماءِ الأندلسِ، ومِنْ الكتبِ التي نَالتْ اهتِمامَ العلماءِ كتاب الكافي لأبي جعفر النَّحاس.

    أَمَّا الخِلافُ بينَ العَالِمَين فيُمْكنُ تَبَيُّنُهُ مِنْ خِلالِ مَوْقِفِهِما مِنْ هذِه الكتبِ، فابنُ الباذِش عَالِمٌ مُلتَزِمٌ بعِلمِ القدَمَاءِ،مُعْجَبٌ بجُهُودِهم، ولا يُحاولُ الخُروجَ عَنْ النَّهْجِ الذي رَسَموه، فهو يُتابِعُ سِيْبَوَيْه في كُلِّ مَسألةٍ،وقد قيلَ عنه (391): " كانَ مِنْ أحفظِ النّاسِ لِكِتابِ سِيْبَوَيْه وأَرْفَقِهم به "، وكَانَ ابنُ الباذِش أَكثرَ النّاسِ إعْجاباً بالفَارِسِيّ وإيضاحِه حَتَّى قالَ فيه:

    أَضِعْ الكَرى لِتَحَفُّظِ الإيضاحِ وصِلْ الغُدُوَّ لفَهْمِه برَواحِ

    ومَنْ كَانَ مُعْجَباً بالفَارِسِيّ وكتبِه أُعْجِبَ بابنِ جِنِّي وكتبِه، فلابنِ الباذِش شرحٌ لأحَدِ كُتبِهِ، وهو المُقتَضَبُ مِنْ كلامِ العربِ، وهو كتابٌ صَغيرٌ مختصرٌ في اسْمِ المَفْعُولِ مُعْتلِّ العين،كما شَرَحَ ابنُ الباذِش جُمَل الزَّجّاجِيّ،ولَمَسْتُ في هذا الشَّرْحِ عِدَّةَ انتِقاداتٍ لآراءِ الزَّجّاحِيّ،أمّا مَوقفُ ابنِ الباذِش مِنْ كتابِ الكافي لأبِي جعفر النحاس فهو مُخْتلفٌ عن مَوقفِه مِنْ بَقِيَّةِ الكُتُبِ، فلابنِ الباذِش نَقدٌ على هذا الكتابِ يُبَيّنُ فيه وَهْمَ أبي جعفر النحاس في أكْثَرِ مِنْ مئةِ موضعٍ.

    أَمّا ابنُ الطَّرَاوَةِ فقد اخْتَلفَ في نَهْجِه عنْ نَهْجِ ابنِ الباذِش، فقامَ بنَقدِ كِتابِ سِيْبَوَيْه الذي يَعُدُّه ابنُ الباذِش حُجَّةً، وذلكَ مِنْ خِلالِ كتابِه "المُقَدِّمَات" فقد حَفلَ هذا الكتابُ " وبصورَةٍ واضِحَةٍ بنَقدِ سِيْبَوَيْه، فَأثارَتْ هذِه الصورةُ مُعَاصِريه عليه" (392).

    أمّا كتبُ أبي عَليّ الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي فهو يَرى أَنَّها " كتبٌ لا تَتَضَمَّنُ جَديداً، وأَنَّها لا تعدو أَنْ تكونَ أسْماءً خاليَة مِنْ المَضْمونِ، وأنّ الأجْدَرَ صَرْفُ هِمَمِ الناشِئينَ إلى كتابِ سِيْبَوَيْه والجُملِ للزَّجّاجِيّ والكافي لابن النحاس، فهذِه كَمَا يقولُ تواليفُ مُسْنَدةٌ ذاتُ قوانينَ مُقيَّدةٍ، وأمّا هذا السيلُ الجَارِفُ المنسوبُ إلى الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي فهو إلى أنَّه لا يُفيدُ جديداً قد خلا مِنْ شَرْطِ النقلِ عن الثقةِ "(393).

    ويَبدو واضِحاً أَنَّ بينَ العَالِمَيْن ندّيّةٌ شَديدةٌ، فابنُ الباذِش يؤلّفُ كتاباً يَنْتَقدُ فيه كتابَ الكافي، ويُخطّىءُ النَّحَّاسَ في نحو مئةِ مَسألةٍ، وابنُ الطَّراوَةِ مُعْجَبٌ بكتابِ الكافي،ونَجِدُه يؤلفُ كتاباً يَنْتقدُ فيه كتابَ الإيضاحِ الذي يُدافِعُ عنه ابنُ الباذِش، والسَّبَبُ في تأليفِ ابنِ الطَّرَاوَةِ لكِتَابِهِ " الإفصاح " هو في الحقيقةِ مَا ظهرَ في عَصْرِه من إعجابٍ بهذا الكتابِ والمَقصودُ مِنْ ذلكَ كلِّه أبو الحَسَن بنُ الباذِش، يقولُ ابنُ الطَّراوَةِ في الإفْصاحِ (394): "وكَانَ الذي حَدا إلى النَّظرِ في هذا الكتابِ تهافتاً في تفضيلِه عَلى غَيْرِه منْ المُخْتصَراتِ المَرْوِيَّةِ، وتظاهُرَ المُصَحِّفين لتقديمِه على التواليفِ المُسندَةِ خُروجاً مِنْ شَرطِ النقلِ عَن أهلِ الثقَةِ والإسْنادِ إلى الأئِمَّةِ ".

    ويقولُ في موضعٍ آخرَ مفضِّلاً كتابَ سِيْبَوَيْه والجُمَل والكافي ومُعرّضاً بكتبِ الفَارِسِيّ وابنِ جِنِّي (395): " وغَبُنَ رأيُه مَنْ عدلَ عن التواليفِ المُسندةِ والقوانينِ المُقيَّدةِ كالجُمَلِ والكافي وكتابِ سِيْبَوَيْه الشافي، وفَرَغَ للإيضاحِ والشيرازياتِ والخصائصِ والحلبياتِ، ترجَمَةٌ تَروقُ بلا مَعنى، واسْمٌ يهولُ بلا جسمٍ إلا تَشدُّقاً بالكتبِ وإحَالةٍ على الصُّحُفِ، وإنَّ هذا لهو الخسرانُ المبينُ " وهذا هو التنافسُ والنِّدِّيَّةُ.

    وخُلاصةُ القولِ في الخِلافِ النَّحْوي بَيْنَهُما أنَّ ابنَ الباذِش لا يَرى في كتابِ الكافي للنحاس شيئا يمكنُ أنْ يقدِّمَه على كتابِ الإيضاحِ،والأمْرُ ضِدَّ هذا عندَ ابنِ الطَّرَاوَةِ،أمّا كتابُ سِيْبَوَيْه فالذي أراه أنَّه خِلافٌ في فهمِ عِبارَةِ الكتابِ لا في تقديرِ الكتابِ نفسِه، فكِلاهُما يُجِلُّ سِيْبَوَيْه ويُقَدِّرُ كتابَه.

    وهناكَ قضيَّةٌ أخْرى لها أكبرُ الأثرِ في الخِلافِ النَّحْويّ الذي دارَ بينَهما، وهذه القضيَّةُ تَتَعَلقُ في نَشأتِهما، فابنُ الباذِش نَشَأ في أُسْرةٍ مُتدَيِّنةٍ،وبَقِي مُحافِظاً عَلى هذا النَّهْجِ حَتَّى بَلَغَ درجَةً عاليَةً بينَ عُلماءِ الدينِ، فأصبحَ إمامَ الفَريضَةِ في جَامِعِ غَرْناطَةَ،وقد ذَكَرْتُ سابقاً أنَّ لابنِ الباذِش مُشارَكَةٌ في علومِ الحديثِ والقرآنِ، فهذِه النَّشأةُ تَجْعلُ مِنْ ابنِ الباذِش عالِماً مُلتَزِماً مُقدِّراً لجُهودِ القُدمَاءِ العلميّةِ.

    أمّا ابنُ الطَّرَاوَةِ فلمْ تكُنْ له أيُّ مُشارَكةٍ في المَعارِفِ الإسلاميَّةِ، وتَجَاوَزَ ابنُ الطَرَاوَةِ هذا الأمْرَ بأنْ كانَ " لا يَحولُ بينَه وبينَ أنْ يَأخُذَ مِنْ الحَياةِ بشَيءٍ مِنْ المُتْعَةِ وأنْ يكونِ له مَجْلسُ شُرْبٍ وندامى، وأنْ يَحمِلَهُ الطَّربُ عَلى أنْ يقولَ الشعرَ فيمَنْ يَهوى ويُحِبُّ، وكانَ قد جَاوَزَ الشبابَ والكهولةَ"(396).

    وأرى أنه لا اتفاقَ بينَهما في النَّشْأةِ،وهذا ولّدَ عندَهُما شَيئاً منْ التنافُسِ والنِّدِّيَّةِ،وقد تكونُ وَصَلتْ إلى دَرَجَةِ الكَرَاهيةِ، وهذا ظاهِرٌ مِنْ الكَلامِ الذي بَدَأ به ابنُ الطَّراوَةِ كتابَه الإفصاح، ولذلك أرى أنّ هذه النَّشأةَ كانَ لها الأثرُ الكبيرُ في الخِلافِ بينَهما.

    نَتائِجُ البَحثِ وخَاتمتُه

    يَتَّضِحُ مِنْ عنوانِ هذا البحثِ (أبو الحَسَن بنِ الباذِشِ الغرناطي وأثرُه النَّحْويّ) أنّ الباحِث يَهْدِفُ إلى التعرُّفِ على شَخصيَّةِ هذا العَالِمِ مِنْ خِلالِ دِراسَةِ آرائِه واخْتِياراتِه النَّحْويّة، فتحدّثَ في البدايةِ عن عصرِ هذه الشَّخْصيَّةِ والحَياةِ التي عاشَتها،ثمّ تناولَ ما نُسِبَ إليه مِنْ آراء واختياراتٍ وتوجيهاتٍ نَحْويةٍ،وتحدّثت في الختام عن خلافِ ابن الباذش معْ ابنِ الطَّراوَةِ.

    ويودُّ الباحثُ هنا أنْ يُشيرَ إلى ما اسْتطاعَ التوصُّلَ إليه مِنْ نَتائِجَ يَجْدرُ به أنْ يُوجزَ أهمُّها:

    أوّلاً: لا يَتّفقُ واقِعُ الحَياةِ السياسيّةِ في الأنْدَلُسِ في القَرْنِ الخامسِ وبدايَةِ القرنِ السادِسِ الهجري مَعْ مَا شَهِدَته البِلادُ مِنْ ازدِهارٍ في الحَياةِ العِلميَّةِ،فالأنْدَلسُ كانَت تُعاني مِنْ فوضى واضطِرابٍ سِياسِيّ،وهذا الواقعُ السياسي لا يَسْمحُ بالتفرّغِ لطلبِ العِلمِ، فهناك نقيضان:اضطرابٌ سياسي متمثِّلٌ بتمزّقِ الأندلس،وازدهارٌ علمي.

    ثانياً:عاشَ ابنُ الباذِشِ في أسْرَةٍ مُحبَّةٍ للعلم،والظاهر أنّ لقبَ الباذِشِ لقَبٌ للأسْرَةِ لا لهذا العالم وحده،فالأصل في اسمه:"أبو الحسَن علي بن أحمد بن خلف الباذِش"، وعُرِفَ ابن الباذِشِ بورعه وحبّه للعلم، فأخَذَ من العلوم كافة،ويشهد على ذلك شيوخُه وتلامِيذه، وعُرفَ منها بعلمي النحو والقراءات،أمّا علمُ القِراءاتِ فأخَذَه عنه ولدُه أبو جعفر، وصَنّفَ كتابَ الإقناعِ في القراءاتِ السبع فكانَ مِنِْ أحسنِ الكتبِ في هذا العلمِ كما يقول أبو حيان في تفسيره،وفي هذا الكتاب وضع أبو جعفر جميع ما أخذه عن والده، فعرضه عليه واستنار برأيه،كما ذكره في هذا الكتاب ما يزيد على خمسين مرّة.

    ثالثاً:أمّا علمُه في النحو فكانَ له الجُهدُ الكبيرُ فيه،فقد نُسب إليه جملة من الشروح، منها شرح كتاب سيبويه والأصول وإيضاح الفارسي وجمل الزجّاجي وغيرها،ولم يصلنا شيء من هذه الكتب، وعُرِفَ بحبه لإيضاح الفارسي الذي امتدحه بأبيات عِدّة.

    رابعاً:كانت مَنْزِلةُ أبي الحَسَن بنِ الباذِش عندَ النَّاسِ منزلةً رَفيعَة؛ وذلك بسببِ وَرَعِه وزُهْدِه، فكانَ إمامَ الفريضةِ بجامعِ غَرناطة،ومِنْ حُبّ النّاس له ازدحامُهم عندَ وفاتِه حتّى كسروا النعشَ،وكانت وفاته سَنَة ثمانٍ وعشرين وخمسمائة هجرية، ومولدُه سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

    خامساً: مَنْهَجُه النَّحْويّ: مِنْ الصعبِ تَحْديدُ وتَبَيُّنُ جَميعِ عَناصِرِ المَنْهَجِ النَّحويّ لشَخْصِيَةٍ نَحْويةٍ مِنْ خِلالِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ آرائِهِ القليلةِ، فلا يُمكنُ الحُكمُ عَلى مَوقِفِه مِنْ القِياسِ أو السَّمَاعِ أو العِلَلِ وغيرِها بدِقَّةٍ،وأحاولُ في هذا الموضع تَلَمُّسَ بعض عناصِرِ هذا المنهج، فاتَّضَحت بعضُ المَعَالِمِ مِنْ مَنْهَجِ ابنِ الباذِش أورِدُها فيما يأتي:

    1 إِنَّ مِنْ أهَمِّ المَلامِحِ التي وَضُحَتْ في مَنْهَج ابنِ الباذِش مَوْقفَه مِنْ بعضِ النُّحَاةِ، فقد ظهرَ جَليّاً أنَّ ابنَ الباذِش يَسيرُ عَلى خُطى سيبويه لا يَتجَاوزُه إلى غيرِه من العلماءِ، ولمْ أجدْ في هذه الآراءِ مَا يُخَالفُ فيه سِيْبَوَيْه،فتابَعَه في كلِّ مَسألةٍ، ولم يَقفْ الحَدُّ عندَ مُتابَعَتِه لآراءِ سِيْبَوَيْه بل تَجاوَزَ الأمْرُ إلى تَلمُّسِ تفسيرٍ وفهمٍ خاصٍّ لعبارَةِ سِيْبَوَيْه المبهمةِ، وقد وَضُحَ ذلكَ مِنْ خِلالِ حَديثِه حول العِلَّةِ الرَّافِعَةِ للاسْمِ وإيضاحِ مَعْنى المُضَارَعة والقولِ في عَلاماتِ الإعرابِ، وغيرها من المَواضِعِ، ويُحاوِلُ دَوْماً إيجادَ تسويغٍ لحُكمِ سِيْبَوَيْه النَّحويِّ، ويُكْثرُ ابنُ الباذِش مِنْ نَقلِ آرائِهِ والأخْذِ بِها،وهذا الأمْرُ نَجِدْه مَنْثوراً فيما نَقَلَهُ أبُو حيَّانَ مِنْ شَرْحِ ابنِ الباذِش للجُمَلِ في تَذْكِرتِه.

    2 خَالفَ ابنُ الباذِش الفَارِسِيَّ في عِدَّةِ مَواضِعَ، ولا يَعْني مدحُ ابنِ الباذِش للفارِسِيِّ وكِتابِهِ مُتابَعَتُه له في كُلِّ آرائِه، والظاهِرُ لي أنَّ الفَارِسِيّ لمْ يَصِلْ إلى مرتبةِ سِيْبَوَيْه عندَ ابن الباذِش، فلا شكَّ أنَّه مُعجبٌ بالإيضَاحِ، وقد عَبَّرِ عَنْ هذا الإعجابِ في القصيدَةِ السابقةِ،وانتقدَ ابنُ الباذِش الزَّجّاجِيَّ في شَرحِه للجُمَلِ في عِدَّةِ مَواضِعَ، وهذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هذِه الشخصيَّةَ لها تَمَيُّزُها واسْتِقلاليتُها، أمّا مَا لَمَسْناه مِنْ مُتابَعَتِه لسِيْبَوَيْه فهو في الحَقيقةِ إضافةُ فَهْمٍ جَديدٍ ونَظْرةٍ مستقلةٍ جديدةٍ لعبارةِ سِيْبَوَيْه.

    3 يَتَّضِحُ ممّا سبَقَ أنَّ ابنَ الباذِش بَصْرِيُّ المذهبِ، ولمْ أجِدْ للكُوفِيّين نَصِيباً كبيراً في تَفْكيرِ ابنِ الباذِش النَّحويِّ، ومَعْ ذلكَ وَجَدْتُه يَعْرضُ كَثيراً مِنْ آرائِهم دونَ نقدٍ أو تَعليقٍ،فها هو يَعْرضُ آراءَهم في الحُروفِ التي تَنْصِبُ المُضارِعَ، ولا أَجِدُه يُصَرِّحُ في مُتابَعَتهِ لرَأيٍّ مِنْ آرائِهم، ولعلَّ هذه القضيَّةَ مِنْ قضايا الخِلافِ بَيْنَه وبَينَ ابنِ الطراوَةِ الذي تابَعَ الكوفيين في مَجموعَةٍ كبيرةٍ مِنْ آرائِهم.

    4 لمْ يَتَّضحْ موقفَ ابنِ الباذِش مِنْ السَّماعِ أو القِياسِ، ولكن هُناكَ إشاراتٌ تَدُلُّ على أنَّه كانَ يَأخُذُ بمَرْوِيّاتِ الكُوفيين (397)،وهو يأخُذُ بالقِرَاءاتِ الشاذَّةِ،ويَعْتَدُّ بها،فيجْعَلُ منها أصْلاً في السماع، وذلكَ كَمَا في قِراءَةِ "قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرِينَ "، فَأَجَازَ بهذِه القِراءَةِ نَصْبَ التابِعِ في النداءِ حَمْلاً عَلى المَوْضِعِ،وهو رَأيُ المَازني.

    5 يَهْتمُّ ابنُ الباذِش بالعِللِ الأولى، ولا يأخُذُ بالثواني ومَا يَليها مِنْ عِلَلٍ، فهو كَبَقِيّةِ النُّحَاةِ في الأخْذِ بالعِلةِ،وقد ذَكَرْتُ له جُمْلةً مِنْ العِللِ، مِنْها عِللٌ خَاصَّةٌ بابنِ الباذِش كعِلَّةِ مَجيءِ (أيّ) المَوصولةِ بَعدَ المُستقبلِ، فالكِسائِي تَرَكَ الأمْرُ دونَ تَعْليلٍ وتَصَدّى لتعليلِها ابنُ الباذِش مُحاولاً إيجَادَ تفسيرٍ لهذا الحُكمِ أو ذاك،ومِنْها عِللٌ قديمةٌ بثوبٍ جَديدٍ، وهي ضِمْنَ المُحاوَلاتِ لفَهمِ أو تفسيرِ الأحْكامِ المَوْجودَةِ في كتابِ سِيْبَوَيْه، ومن ذلكَ العِلَّةُ الرَّافِعَة للاسْمِ وغيرها، ومنها ما هو مُتَابَعَةٌ لغيرِه في التعليلِ.

    6 وجدتُ ابنَ الباذِشِ يَتفردُ في بَعضِ الأحْكامِ النَّحْويَّةِ، ويقوم بترجيحِ الرأي المناسب معتمداً على الأصولِ النحوية وقوّة البرهان، وأذكُرُ في هذا المَوضعِ بعض الأحكام التي تفرّد بها ابن الباذش:

    تَوْجيهُ رأيِ سيبويه في العِلَّةِ الرَّافِعَةِ للاسْمِ.

    عِلَّة مَجيء(أيّ) الموصولة بعد المستقبل.

    العامل في المضاف إليه.

    تَعلّقُ لام المستغاثِ له.

    جواز التنازع إذا كان المتنازع فيه سببياً مرفوعاً.

    تأويله لإفراد كاف الخطاب عند خطاب الجماعة.

    دلالة ربّ.

    جواز (هما يفعلان) للمؤنُّث.

    علمية جُمَع وكُتَع.

    سادساً: هناك خِلافٌ بينَ ابن الباذِشِ وابنِ الطراوَةِ يتَمَثّلُ في أنّ ابنَ الباذِشِ معْجبٌ بالفارسيِّ وإيضاحِه وكتبه الأخرى، وينقدُ كِتابَ الكافي للنحّاسِ،أمَّا ابنُ الطّراوَةِ فهو مُعْجَبٌ بكُلِّ الكتبِ النَّحْويّةِ، وقامَ بمَدْحِ كتابِ سيبويه والمقتضبِ والأصولِ والجُمَلِ والكافي في كِتابِه الإفصاح، وذَمَّ كتبَ الفارِسِيِّ وابنِ جِنِّي، هذا هو الخِلافُ النَّحْويُّ الظاهري المَوجودُ بينَ الشَّخْصِيَّتَيْن،والذي أَرَاهُ أنَّ الخِلافَ بينَهما في النَّشأةِ،فابنُ الباذِشِ كانَ عالماً وَرِعاً مُلتزِماً،وكانَ إمامَ الفَرِيضةِ في جَامِع غرناطةَ، أَمَّا ابنُ الطَّراوَةِ فلمْ يَنْشأ هذه النَّشْأةَ التي نَشَأها ابنُ الباذِشِ،والذي يُروَى عنه أنَّه كَانَ له مَجْلسُ شربٍ، وكانَ يقولُ الشعرَ فيمن يهوى، وهذه النشأةُ ولّدَتْ عندَهما شيئاً مِنْ التنافُسِ والنِّدِّيَّةِ، وأرى أنّ لها الأثرَ الكَبيرَ في الخِلافِ بينهما.

    ________________________________________

    http://www.uqu.edu.sa/majalat/shariaramag/mag23/f18.htm


    هذا البحث متاح في الشابكة:

    http://www.dahsha.com/viewarticle.php?id=30772


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية yakupcivelek
    تاريخ التسجيل
    30/09/2006
    المشاركات
    59
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي وأثره النحوي


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الأخ الأستاذ الكريم جمال الأحمر

    الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

    شـكــرا

    وبارك الله فيك

    لك مني أجمل تحية .


  3. #3
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية جمال الأحمر
    تاريخ التسجيل
    10/07/2008
    المشاركات
    1,626
    معدل تقييم المستوى
    17

    Smile رد: أبو الحسن بن الباذِش الغرناطي وأثره النحوي

    أخي الفاضل؛ الأستاذ يعقوب جيفليك

    حياكم الله يا أخي...وجازاكم خيرا...

    إنما البحث عن هذه الشخصية النحوية الأندلسية المنسية، بحث في هوية مغمورة، على الرغم من تألقها الحضاري الساطع...

    لا بد أن تبقى صورة الأندلس في نفوسنا نقية، جميلة، ساطعة...

    وكل تشويه لصورتها يصب في مصلحة الغدو الغاصب...

    شكرا لكم على ذوقكم الحضاري السامق، وتوجهكم النحوي الراقي...

    لك مني تحية أخوية أندلسية خالصة...والسلام عليكم


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •