الاهداء
إلى الأديبة فايزة شرف الدين. مع عظيم احترامي.
رحل الشيخ مسعود في تلك الساعة كنسر حلق في الفضاء و لم يقع، كان حزني عليه خليطا من الانفعال، لم أميز بكائي عليه من رثائي لنفسي.
لم يطل تفكيري ، قررت الذهاب إلى الدولة، الأم الثانية ، كما قال المعلم أحمد:
ـ سوف تحضنك في ملجئها ، الدولة أم لمن لا أم له، و هي في نهاية الأمر أم الجميع.
و حملني ذات صباح في سيارته إلى المركز و قد استقبلنا المدير الذي كان صديقا له في ما بدا من خلال حديثهما، كانا يضحكان و أنا ضائع العينين في أبهة المكتب و كرش المدير المهتز لدى كل ضحكة يطلقها.
ضغط على زر فوق مكتبه فدخلت امرأة غمرنا عطرها الضبابي، و اشار إليها أن تأخذني و تطوف بي في أرجاء المركز، ففعلت في طاعة و لطافة، كان صوتها أقرب إلى الهمس، يدي في يدها، خطواتي متثاقلة فبدت كأنها تسحبني، كان شيء ثقيل يقيد رجلي و يقبض على مجامع قلبي، و كانت ضحكة المدير تفرقع في أذني ممتلئة بالصحة و الاعتداد بالنفس.
دخلت بي قاعات عديدة ، ثم أشرفت بي على قاعة طويلة واسعة و همست:
ـ هنا يمارس الأطفال هواياتهم ، ثم يكبرون و يغادرون تاركين بصماتهم .
و شدتني لوحة معلقة في الجدار: شجرة عظيمة يغوص جذعها في تربة قاحلة، ثم يتخدد و يتفرع في أغصان عجفاء ملتوية كالحة متطاولة تمزق فضاء اللوحة ، ثم فردة حذاء ممزقة ، و لا شيء غير أرض قاحلة تغيب في أفق مغبش مغبر.
ـ رسمها طفل كبر و غادر المركز، أنت أيضا ستكبر يوما و تغادر.
قالت ذلك ذات الصوت الهامس و عطرها يشنقني على الشجرة الخارجة من اللوحة، فوجدتني من غير أن أشعر أمد يدي أشد على طرف ثوبها الناعم، فتزيحها بلطف و تقودني إلى مجموعة من الصبية تحلقوا في الساحة يلعبون من غير ضجيج.
****************************
و كانت الليلة الأولى بين أمثالي، كان سريري إلى طفل شقي يدعى" كريم" أسر إلي و المراقب يطفئ الضوء و يغلق خلفه الباب خارجا :
ـ لا يخدعك ابتسامهم، هنا على كل خطأ حساب، لماذا جئت إلى هنا؟
رغم أني شعرت بألفة بيني و بينه لأول وهلة إلا أني أجبته مقتضبا :
ـ لم أجد مكانا آخر.
فقال مندفعا :
ـ لو أتيحت لي فرصة الدخول هنا في مثل سنك لاخترت أي مكان غير هذا، أنا فتحت عيني هنا، و كرهت البقاء هنا .
ـ لكنهم يقولون إنه مركز يوفر كل الحاجات.
ـ لا تصدق أحدا، صدقني أنا إنهم لا يكفون يخصون أنفسهم بأفضل ما يمنح لنا، و فوق هذا ضبط و ربط و حساب عسير عند أدنى خروج عن نظامهم.
تساءلت في حيرة :
ـ إلى أين يذهب الواحد منا إذن؟
ـ إلى أية جهة، سأتدبر الأمر ، هل تأتي معي ؟
ـ إلى أين ؟
ـ الأرض واسعة ، سنعمل في المقاهي، أو في المطاعم، هناك صبيان كثيرون في مثل سننا يعملون، و هناك من سبق أن هرب قبلنا.
ذكرني حديثه بالشيخ مسعود في اندفاعه فانعقدت بيننا أواصر محبة غريبة، كنا نتلازم في المطعم و في قاعة الألعاب، يمدني بالسجائر التي يجلبها من نادي جناح العجزة، ندخن في خفية عن عيون المراقبات ، يسر بعضنا لبعضنا هواجسه، قال لي ذات مرة فجأة:
ـ أتدري كيف يسمينا الناس؟
ـ الأطفال المسعفون.
فابتسم في هزء:
ـ هذا عندما يشفقون علينا، لكن عندما نغضبهم يقولون إننا لقطاء أولاد حرام.
و أضاف بعد سكوت:
ـ هذا يعني أنه يجب ألا تغضب أحدا حتى يظل يشفق عليك و لا يعيرك.
كنت صامتا، كنت أرى وجهي في وجهه المتمزق و في عينيه الهاربتين في كل اتجاه تبحثان عن شيء ما.
ثم قال في تنهد:
ـ قالوا لي هنا إنهم عثروا علي في القمامة ملفوفا أبكي ، تماما مثل هؤلاء الأطفال الرضع في الجناح ـ أ ـ أتدري ماذا يعني هذا؟
و استرسل يجيب من غير أن يمهلني
ـ هذا يعني أنه يستحيل علي أن أتعرف يوما على أهلي، بعض الأطفال هنا يعيشون على أمل لقاء ذويهم، مثل الذين وجدوا تائهين في الشوارع، أو الذين أودعوا هنا من قبل ذويهم لظرف ما، أما أنا فقد فصل في أمري" لقيط" لهذا كانوا دائما يمنعونني من المشاركة في الأبحاث العائلية و النداءات التي يقوم بها المركز باسم الأطفال إلى الأهالي .
ثم التفت إلي و عيناه تشتعلان بالغضب :
ـ أتدري ما معنى أن تكون لقيطا؟ معناه لا أحد يحبه، لا أحد يثق فيك، لا أحد يصاحبك ، معناه أنك
ملعون إلى الأبد
و آلمني كلامه ،و تذكرت كلام الشيخ مسعود حين يصف أحدا ما باللعنة، فإنه يطلقها مشحونة بكل الاشمئزاز و التقزز.
و خرجت من صمتي ، و لم أخرج من دائرة الشيخ مسعود
ـ و لكننا ذكور ، رجال لن نكون بعدها في حاجة إلى أحد
فضرب بيده على صدره.
ـ نعم، رجال ، و لهذا قررت أن أهرب من هذا المركز.
و حلمت ليلتها الشيخ مسعود ينتفض من قبره عملاقا، منفوش الشعر،عاري الصدر ، يشدني بين يديه و يهزني:
ـ كن رجلا، كن فحلا ، كن كبشا
و كنت مرعوبا من عينيه المطفأتين و كان يقهقه كحصان يصهل :
ـ الرجل ينكسر و لا ينحني
المفضلات