ثم عادت عائشة
قدرت الله شهاب
كلمة لا بد منها :
عندما أعلن عن قيام باكستان رسمياً في الرابع عشر من أغسطس عام 1947م تدفقت هجرات المسلمين من الهند إلى وطنهم الجديد باكستان ، حيث تعرضوا للقتل والنهب والسلب واغتصاب النساء على الحدود الهندية الباكستانية ، وهذه القصة تتناول هذه الأحداث .
عند منطقة "كوكراباد" الحدودية سمح رجال الجمارك الهندوس لعبد الكريم وزوجته بالعبور لكنهم احتفظوا لديهم بثلاثة أشياء لمزيد من التحقيق، هذه الأشياء الثلاثة هي: ماكينة الخياطة ماركة "سينجر"، ودراجة ماركة "هرقل" وعائشة ابنة عبدالكريم الشابة. وبعد يومين من التوسل والاستعطاف، وبصعوبة بالغة استعاد عبدالكريم أشياءه الثلاثة، لكن ماكينة الخياطة اختفت أكثر أجزائها، والدراجة عادت بغير مقعد أو إطارات خارجية وداخلية. وأما عائشة .... المهم أنها عادت .... وإذا أراد الله فإن ماكينة الخياطة يمكن أن نركب لها قطع غيار جديدة، والدراجة يمكن أن نأتى لها بمقعد آخر وإطارات أخرى، وأما عائشة ... كان الله فى عونها .. أما عبدالكريم الذى كان يؤمن بقوى الغيب الخفية فقد كشف عنه الحجاب اليوم أكثر من ذى قبل.
وعندما وصل عبدالكريم وزوجته وابنته إلى محطة القطار قام المتطوعون من أهل المنطقة بتوزيع أربعة أرغفة من الخبز الطازج عليهم مع طبق من إدام اللحم. فلما رأى عبد الكريم الخبز الأبيض الطازج ذا الرائحة الذكية المشوقة قرص زوجته من فخذها، وهمس فى أذنها بصوت خافت: ألم أقل لك يا أم عائشة، أترين، كم هو خبز طازج وجميل! ماذا كان فى بومباى العفنة، إننا لم نر الدقيق الأبيض مطلقاً منذ أربعة أعوام، سبحان الله، ما هذه العجينة الجميلة شبيهة الزبدة التى خلقها ربى. وعندما استقل عبدالكريم وزوجته وابنته القطار كان هناك بعض المسافرين منهمكين فى الحديث إلى معارفهم .... السلام عليكم ....وعليكم السلام ....ورحمة الله وبركاته .... هزّ عبدالكريم زوجته: يا أم عائشة .. أتسمعين هذه التحايا الحارة ... سبحان الله... حقاً إن للإسلام شأناً مختلفاً .... لقد أصمّ النشيد الوطنى الهندى آذاننا فى بومباى العفنة ... قسماً عظماً إن صدرى اليوم فى غاية الانشراح ... يا سلام ... سبحانك يا رب ... وراح عبدالكريم يصافح الركاب المجاورين له واحداً واحداً ويلقى عليهم السلام بصوت رنّان، ويعلم الله وحده إلى أىّ مدى كان من الممكن أن يواصل عبدالكريم عملية السلام هذه لو لم تمسك به زوجته وتعيده إلى مقعده.
ولما تحرك القطار أطرق عبدالكريم بأذنيه جيداً إلى صوت عجلات القطار وخمن سرعته من أعمدة التليفونات المجاورة للسكة الحديد، ثم قال وهو يهز زوجته مرة أخرى: يا سلام ... ما قيمة قطار "الطوفان" ببومباى أمام هذه القطار .... حقاً، لقد استمتعت بركوبى هذا القطار ... يا أم عائشة، أنت أيضاً أخرجى مسبحتك، واذكرى الله على الملأ وأنت مطمئنة ... وهل يجرؤ أحدٌ هنا على أن يأتى من خلفك ويقطع رقبتك! وتتابعت المحطات واحدة تلو الأخرى، وكان القطار يتوقف فى كل محطة ثم يواصل سيره من جديد، والمسافرون ينزلون، ويركب آخرون، وعبدالكريم يطل برأسه من شباك القطار يضمّ البيئة المحيطة بقلبه وصدره وعينيه ... فهنا حارس بزيه النظيف وقبعة جناح على رأسه، وفى يديه أعلام حمراء وخضراء، وفى فمه صفارته ... وهؤلاء شيالون على الأرصفة ينقضون كالحدءات على المسافرين ... وتلك عربات الحلوى والأطعمة يحوم عليها الذباب بطنين مسموع ... وهذا ميدان فسيح ممتد إلى حدّ البصر ... وتلك أدخنة متصاعدة من البيوت الطينية والحجرية فى القرى المتناثرة هنا وهناك ... وهؤلاء نسوة يملأن جرارهن من ماء الترعة ويغسلن ملابسهن ... وأولئك أطفال حفاة عراة قد غبرت وجوههم الأتربة ... وتلك كلاب قد رفعت رؤوسها إلى السماء وهى تعوى ... وهذه جيف متعفنة لبعض الثيران والبهائم وتحوم حولها القطط والنسور .... وفى محطة "حيدر آباد" وقعت عين عبد الكريم أول ما وقعت على لافتة ملونة عليها إعلان عن فيلم مكتظ بمعارك يخفق لها القلب، فانفرجت أسارير وجهه، وعلى نفس الرصيف كان هناك بعض رجال البوليس وقد أحكموا قبضتهم على بعض المتهمين، وأحد القضاة يجلس على كرسى وقد نصب محكمته على الملأ، ويقوم بتغريم الذين يركبون القطار بغير تذكرة بغرامات باهظة ... لقد أثرت هيبة الحكومة هذه وجلالها فى نفس عبدالكريم؟، وكالعادة قرص عبد الكريم زوجته من فخذها ليلفت انتباهها قائلاً:
أم عائشة! إذا كان لا بد من نظام فهكذا يكون ... هل يجرؤ أى مفتش تذاكر فى بومباى العفنة على مجرد زجر من يركبون بغير تذكرة ... سبحان الله .. إن سليقة الحكم أيضاً فى دماء المسلمين وفطرتهم ... لقد كان رأيى دائما أن الحكم ليس فى استطاعة هؤلاء الهندوس.
كانت أم عائشة تجلس القرفصاء على مقعدها باطمئنان وسكينة، وأخرجت من جيبها مسبحتها ذات الألف حبة وحبة، وانهمكت فى ترديد أسماء الله الحسنى التسع والتسعين عليها. نادى عبدالكريم على ابنته: بنيتى عائشة.. أترين عظمة أمك .. يا سلام، ما أعظم الوطن .. بنيتى .. أخرجى لى أنا أيضاً قبعتى من ذلك الصندوق الأسود، ممن نخاف هنا؟!
فتحت عائشة الصندوق بطريق آلية، وأخرجت القبعة، وناولتها لأبيها، كانت قبعة قديمة سمراء كان عبد الكريم يضعها على رأسه أحياناً عندما كان يخرج للمشاركة فى المظاهرات الحماسية فى "بهندى بازار" وقد أصاب الصدأ "الهلال والنجم" المصنوع من النيكل والمثبت على القبعة من الأمام، واختلط لون الصدأ بلون القبعة. وضع عبدالكريم القبعة على رأسه وجلس نافخاً صدره وهو يرقب الغبار المتطاير من شباك القطار، وكانت عائشة هى الأخرى تنظر خارج القطار بعيون شاردة مستاءة لا تبدو أمامها بوادر على هدف محدد ...... كانت تحاول قراءة ورد "كنز العرش" فى قلبها ... لقد حل هذا الدعاء كثيراً من مشاكلها فى الماضى ...أما اليوم فإن ألفاظه ترتعش على شفتيها، ولا تكاد تصل إلى لسانها، كان قلبها يصرخ من الداخل بأن هذا الدعاء عظيم الأثر أيضاً لن يستطيع مساعدتها فى حل مشاكلها الآن ... لقد وصلت الآن إلى مرحلة لا تنفع فيها ألوهية الله .... استغفر الله، هذا كفر بواح ... الله قادر مطلق، وإن شاء فإنه يستطيع أن يعيد الأيام إلى الوراء، ويبدأ الزمن من جديد وكأنها لم تصل أصلاً إلى مكتب الجمارك الهندى بالقرب من حدود "كوكراباد".
كانت أول مشكلة قابلتهم بعد الوصول إلى "كراتشى" هى البحث عن مكان يأويهم وسقف يظلهم. نظر عبد الكريم إلى ما يفعله المهاجرون أمثاله، وقام بوضع أمتعته على الرصيف بجانب المحطة، وأجلس عائشة وأمها بجانبها، ثم ذهب هو للبحث عن بيت، وعندما عاد فى وقت متأخر من الليل كان فى غاية التعب من التجوال طوال النهار تحت حرارة الشمس، ومع ذلك فقد كانت آثار البشاشة والطمأنينة تطفو على وجهه. قال عبدالكريم وهو يمدّ قدميه على الرصيف: يا أم عائشة! إن "بومباي"العفنة لا تساوى شيئا أمام مدينتنا "كراتشى" ، قسماً برأسك يا أم عائشة، لقد رأيت اليوم قصوراً وفيللات رائعة لم أر مثلها فى حياتى، وأما المليونيرات، فأقسم بحياتك يا أم عائشة أن الواحد منهم هنا يستطيع أن يضع عدة مليونيرات من "بومباي" فى جيبه، وأما السيارات، فلا أظن أن "بومباي" العفنة قد رأت مثل هذه السيارات الفارهة ... عندما تمرّ بالقرب منك تشعرين وكأن أحداً قد بسط ثوباً حريرياً على أرضية الشارع لا أكثر ... عندما نستقر قليلاً فسآخذكم فى نزهة للمدينة كلها، وسوف تستمتعون كثيراً برؤية جمال "كراتشى" ... وماذا عن موضوع السكن؟ لمست أم عائشة أرض الواقع.
فيم الاستعجال الآن؟ إذا أراد الله فسيدبر الأمر كله، اليوم تجولت فى المدينة، وسألت عن خلوات الشقق ... قسماً بالله يا أم عائشة إن "بومباي" العفنة ليست بشيء أمام "كراتشى" . إن الخلوات هنا مرتفعة بشكل ربما لن ير مثله أهل "بومباي" المساكين، ولا فى الأحلام ايضاً.
وأصبح من عادة عبد الكريم الآن أن يخرج كل يوم صباحاً على غير هدى أحيانا يستقل الأتوبيس، وأحياناً أخرى الترامواى، أحيانا يركب ركشة، وأحياناً أخرى ماشياً على الأقدام إلى منطقة كيمارى، وكلفتن وبندررود وفيرير بارك، ومجلس الشعب، والمحكمة العليا، ومنطقة السجون، وضاحية بير إلهى بخش، وضاحية خدا داد، وناظم آباد، ومنجهو بير، وضريح القائد الأعظم ... لم يترك منطقة إلا وذهب إليها، وأنعم النظر فيها وحللها تحليلاً عميقاً، ولم يكن هناك تحليل من هذه التحليلات لم يثر الدماء فى عروقه، والسعادة فى قلبه، حتى المتسولين فى "كراتشى"، كان عبد الكريم يراهم نجباء الطرفين ومن أصل عريق، فهم يطلبون الصدقة بأسلوب حسن عن طريق بيع علب الكبريت والجرائد، وليسوا مثل متسولى "بومباي" الذين يدور الواحد منهم ممسكاً بعصى غليظة فى إحدى يديه، وفى اليد الأخرى سلطانية، ويستجدى الناس وكأنه يهددهم ليؤدوا إليه دينه.
وذات يوم جمعة ذهب عبد الكريم لأداء الصلاة فى المسجد الجامع، كان هناك زحام شديد من المصلين حيث جاءت إلى كراتشى وفود من مصر والشام والعراق والحجاز وإيران للمشاركة فى أحد المؤتمرات، وبعد الصلاة ألقى أعضاء الوفود كلمات وخطبات رنانة مؤثرة بمناسبة قيام باكستان وارتفعت الأصوات بهتافات الله أكبر فى أنحاء المسجد، كان الناس يعانقون المؤتمرين ويقبلون أيديهم وسيطر على المكان منظر عجيب من الحماس والنشوة ... رأى عبد الكريم هذا المنظر فانفجرت عيناه بالبكاء فرحاً، وعندما خرج الجميع صلى عبد الكريم ركعتى شكر لله تعالى.
فى "بومباي" كان عبدالكريم يعيش فى كوخ خلف "بندى بازار" ، وكان هذا الكوخ عبارة عن حجرة مظلمة موحشة لا فرندة أمامها ولا فناء، ولا يدخلها الهواء الصحى المتجدد، ولا أشعة الشمس، وناهيك عن التهديد والوعيد الذى كان يوجهه له مندوب المالك إذا لم يؤد إيجار هذه الحجرة والذى يبلغ عشر روبيات ونصف بالتمام والكمال فى اليوم الأول من كل شهر..... أما اليوم فعلى العكس من ذلك، فهو يستمتع بحياته فى "كراتشى" ... لقد قام بجمع بعض الأخشاب، وثبتها إلى بعضها البعض، وبعض الأجولة القديمة وصنع منها ستارة وشدها إلى بعضها مع الأخشاب، وصنع من كل هذا عشة على مساحة بطول اثنى عشر قدماً وعرض عشرة أقدام على نفس الرصيف الذى استقر عليه منذ اليوم الأول لمجيئه .. كان الهواء يملأ العشة والشمس والضوء ليس هناك ما يمنعهما من دخولها، وبالقرب منها عامود الإنارة الكهربائي، وضوء مصباحه يسقط فوق العشة تماماً، ولم يكن صنبور المياه بعيد، وفوق ذلك فلا وجود لمصيبة الإيجار ولا لصراخ مندوب المالك كل شهر، ولحسن الحظ كان جيران عبد الكريم من أصحاب العشش المجاورة أناسا طيبين يعيشون فيما بينهم باطمئنان ووئام.
فى "بومباي" عمل عبدالكريم فى مجالات ومهن مختلفة، وفى نهاية المطاف عندما أصدرت حكومة الكونجرس الهندية قراراً بمنع تداول الخمور صار هذا القرار بمثابة وسيلة رزق دائمة له، إذ نشأت بينه وبين موظفى جمارك الكحوليات وأصحاب معامل الخمور المحلية ومتعاطى الخمور بغير إذن قانونى علاقات طيبة، فكان يقدم إلى هذه النوعيات الثلاثة الخدمات المناسبة، فيدر ذلك عليه دخلاً شهريا ما يقرب من 250 روبية، فلما جاء عبد الكريم إلى كراتشى واستفسر عن هذه الأمور علم أن الحكم بتحريم الخمر فى عاصمة الدولة المحروسة لم ينزل بعد ، عندئذ بدأ سوء الظن يعرف طريقه إلى قلبه، وبالرغم من أنه كان يعمل فى السوق السوداء للخمور فى "بومباي"، إلا أنه كان موقناً بحرمتها، ولم تلمسها شفتاه فى يوم من الأيام، فلما أصدرت حكومة الكونجرس الهندى قانون حظر تداول الخمور كان عبد الكريم يفاخر أصدقائه قائلاً:
لقد أخذ الهندوس هذا الحكم من دين المسلمين، أما اليوم فقد أصابته صدمة نفسية حين رأى هذه الحال المتدنية فى كراتشى. لقد استفسر من كثيرين عن حقيقة هذا الموضوع، لكن أحداً لم يستطع إقناعه.
وذات يوم كان عبد الكريم يجلس فى عيادة الحكيم "نجيب الله" ينفخ نفسه مثرثراً مع المتواجدين فى العيادة، فتطرق إلى موضوع الخمر، وكان الحكيم "نجيب الله" يعد من العلماء الممتازين فى الحيى، وكان يقدم خدماته المتعددة فى الفتاوى والفقه إضافة إلى خدماته فى الأدوية والعلاج، كما كان ماهراً فى علاج مرض الهستيريا عند النساء بالطرق الروحانية فقط وبغير أدوية. وعندما سمع الحكيم نجيب الله شكوك عبد الكريم وتساؤلاته ابتسم، ثم تحدث فى بلاغة وفصاحة منعدمة النظير ملقياً الضوء على الخمر بالأدلة العقلية والنقلية من الجانب القرآنى أيضاً. وقال: يوجد فى كل شيء طريق الخير وطريق الشر، وكلاهما مفتوحان، وعظمة الإنسان هى أن يدير ظهره للشر ويختار طريق الخير، وهكذا فإن الخمر فيها منافع وآثام أيضاً ، وهنا يكون الاختبار لقوة إرادة الإنسان، وحرمان الإنسان من هذا الاختبار بفرض حظر قانونى على الخمر أمر ضد المشيئة الإلهية تماماً.
تأثر عبد الكريم كثيراً بهذه التفسيرات الدينية، وبدأت غوامض الإسلام والإيمان والقرآن تتضح أمامه، فقال لزوجته: يا أم عائشة ، إن حياة العبودية لا تعتبر حياة أصلاً، لقد مضت علينا خمسون عاماً ونحن نعيش فى "بومباي" العفنة ، صلينا، وتعلمنا القرآن الكريم، ولكن لم يضيء نور الإيمان صدورنا أبداً كما هو لدينا الآن، لقد انكشفت لنا أسرار جديدة بمجيئنا هنا، صدق من قال: إن متعة الإيمان تكمن فى ظل الحرية، ومن أجل هذا جاء فى الحديث الشريف أنه حتى صلاة الجمعة غير جائزة فى البلاد المحتلة! .
اطمأن قلب عبد الكريم بخصوص موضوع الخمر، وبحث عن أعمال أخرى، ولكن لم يجد مجالاً مناسباً يستفيد فيه من خبراته السابقة فى السوق السوداء، فالخمر متاح للجميع، والدقيق أكوام على الملأ بسعر قرشين للكيلو، أما الأقمشة فما أكثرها، والسكر متوفر، فأى سلعة هنا يمكن أن تقوم لها سوق سوداء .. حاول عبدالكريم فى البداية أن يبيع "البان" والدخان، ثم جرب حظه فى التجول بعربة "آيس كريم" وفواكه، وأخيراً فتح دكاناً صغيراً للأقمشة كان يدّر عليه بشكل أو بآخر بعض الدخل يكفى الحياة العادية، ولكن لم يعد هناك طعم للحياة الكريمة. وملّ قلب عبد الكريم من الذهاب يومياً إلى الدكان وكثرة الجلوس فيه، لقد كان يبحث عن عمل يمتلئ مخاطر، ولا يكون إلا سراً، من نوعية تلك الأعمال التى أنفق فيها عبد الكريم أجمل سني عمره، ولكنه هنا لم يعثر لمثل هذا العمل على أثر حتى الآن، ولهذا فإن شعوراً من الملل والتعاسة الدائمة قد عشش فى قلبه وعقله.
فى بومباى عندما كانت تعترى عبد الكريم مثل هذه الحالة من الملل والتعاسة كان يذهب إلى محل إحدى الغانيات، يستمع إلى الغناء فيروح بذلك عن نفسه، لقد مضى على مجيئه إلى كراتشى عدة أشهر، ودرس كل شبر فى المدينة، ولكن إلى الآن لم يعثر على مثل هذه المحلات التى يستطيع أن ينفث فيها عن متاعبه لبرهة من الوقت، فلما استفسر عن الأمر قيل له أن المواخير محظورة قانوناً، وكما أن الخمر ممنوع فى بومباي فإن العهر أيضاً محظور فى "كراتشى" ... فأسر عبد الكريم هذا الخبر بكل سذاجة وحسن نية إلى أم عائشة، وجلس الاثنان على الرصيف أمام عشتهما على الأريكة يتحدثان عن القرآن والإيمان بحديث يسمو بالروح ويعلو بها.
وأثناء استفسار عبدالكريم فيما يتعلق بالمواخير والحانات اتضحت له حقيقة أن فرص إقامة سوق سوداء فى هذا المجال كبيرة، وهكذا تعرف على بعض الأشخاص ممن لهم باع طويل فى هذا الخصوص، واتفقوا على أن يجعلوا من عبد الكريم شريكاً لهم ، وأن يعطوه عمولة معقولة طبقاً لخبراته السابقة فى هذا العمل، وكان قوادُ أعور يبدو أنه قد رأى عائشة ذات مرة، لذا فقد أشار على عبد الكريم أنه إن أشركها فى هذا العمل فسيجنى من ورائها مئات الألوف، وليس الآلاف فقط، فلما تبين عبد الكريم سوء نيته خلع حذائه من فوره وأشبع هذا الأعور ضرباً وركلاً أمام الجميع، ثم توجه إلى المسجد وظل ساجداً لربه طيلة الليل وهو يجهش بالبكاء لمجرد أنه فكر فى أن يعمل بهذا العمل الذليل قائلاً: يا الله، يا غفور، يا رحيم، هذا هو جزاء تفكيرى المشين، فقد بدأ الناس يصوبون أنظارهم إلى عائشة ... أتوب إليك واستغفرك.
وظل عبدالكريم طيلة الليل يستغفر الله فى خضوع وخشوع حتى خفّ قلبه وصار كالوردة. وفى الصباح عندما عاد مباشرة إلى البيت وجد زوجته فى انتظاره وقد غلبها النوم فنامت على الحصيرة، أما عائشة فكانت منهمكة فى قراءة القرآن بعد فراغها من صلاة الفجر، كانت الحرقة تملأ صوتها الحزين، وعندما كانت تتلو كلام الله بتؤدة وتجويد فإن حالة من العرفان العجيب كانت تنتشر فى الفضاء المحيط. جلس عبد الكريم فى أحد أركان الغرفة وظل يستمع بهدوء وصمت وهو يفكر: هذه هى ملاك البراءة التى أراد لها ذلك القوّاد البلطجى أن تمارس الرذيلة.
وظهرت كرامة استغفار عبد الكريم ودعاء عائشة، فراجت سوق دكانه للأقمشة، ولم يمض وقت طويل حتى اشترى عبد الكريم بيتاً أسمنتياً من حجرتين بأربعة آلاف ونصف روبية فى ضاحية "بير إلهى بخش". كانت هذه هى المرة الأولى فى حياة أم عائشة، إذ قدر أن يكون لها بيت ملك لها، كانت تحتفظ به نظيفاً كالمرآة، وتغسل أرضيته الأسمنتية عدة مرات فى اليوم الواحد، وتزيل الأتربة من على جدرانه، وتقوم برش الفينيك صباح مساء داخله وخارجه فلا يستطيع الذباب التسلل إلى الداخل. كانت زوجة عبد الكريم تنشغل دائماً كل صباح بتنظيف البيت، وفى نفس الوقت تجلس عائشة لقراةء القرآن، أما عبدالكريم فكان يظل على سريره لفترة مأخوذاً بهذا الجو العرفانى فى البيت، وعندما يتناول إفطاره المعتاد من الفطير والشاي، ثم يفتح دكانه، كان يبدو دائما مستريحاً ومطمئناً ظاهراً وباطناً. ومع الأيام بدأ الخطاب يفدون لخطبة عائشة، ويوم أن تمت خطبتها ظلت طيلة الليل تبكى على سجادة الصلاة، وفى يوم زفافها كان يغمى عليها أحياناً من شدة البكاء أما عبد الكريم وأم عائشة فكان حالهما لايختلف عن حال عائشة كثيراً.
كان زوج عائشة مهاجراً من مدينة "بجنور"، ويعيش فى مدينة "تندو آدم خان" حيث يمتلك محلاً للبيع بالجملة، ومنذ أن انتقلت عائشة إلى بيت زوجها أصبح بيت عبد الكريم خالياً مهجوراً ، وفي اليوم التالي لزفاف عائشة استيقظ عبد الكريم كعادته، لكن لم يسمع صوت عائشة، فتقلب فى سريره ونام مرة أخرى، فلما استيقظ وقت الضحى كان يشعر فى جسده بخدر شديد كأنه مدمن أفيون ابتعد عنه، أو كأنه سكير لم يحتس الخمر منذ فترة . قام عبد الكريم متحاملاً على نفسه وغسل وجهه، وتناول إفطاره وبدّل ملابسه ثم توجه إلى دكانه، وفى الدكان أيضاً لم يشعر عبد الكريم براحة نفسية، لذا فقد أغلق الدكان قبل الموعد المعتاد وخرج ليتمشى قليلاً ترويحاً عن نفسه، ثم عاد إلى البيت فى وقت متأخر من الليل ونام بغير عشاء.
والآن أصبح من عادة عبد الكريم أن يستيفظ متأخراً، ويتناول إفطاره متأخراً ويذهب إلى دكانه قرب انتصاف النهار، وبعود إلى بيته عند انتصاف الليل، وبعد فترة وظف عاملاً فى الدكان، أما هو فينام النهار بطوله ويبقى خارج البيت الليل بطوله، وعند المساء تمتلئ فرندة بيته بقوادين ودلالين بأشكال مختلفة، وكان من بينهم ذلك الدلال الأعور الذى أشبعه عبد الكريم ذات يوم ضرباً بحذائه على الملأ، ولقد استفسرت أم عائشة من عبد الكريم عدة مرات عن هؤلاء الناس، لكنه كان يماطلها فى الجواب بمهارة شديدة قائلاً : يا أم عائشة، لقد بدأت هذه الأيام بعض الأعمال، وإن شاء الله يكتب لى فيها النجاح ... هيا يا أم عائشة، أسرعى بتقديم الماء والشاى لهؤلاء الرجال الصالحين.
وبالفعل ازدهرت أعمال عبد الكريم الجديدة، وخلال اشهر معدودة ترك عبد الكريم بيته فى ضاحية "بير إلهى بخش"، واشترى بدلاً منه منزلاً آخر من طابقين فى شارع "بندر"، وعلق على البوابة الرئيسية للبيت لافتة كتب علها: (رجل الأعمال عبد الكريم البومباوى)، واشترى سيارة، وكذلك استخدم شغالين وخدماً فى البيت، واليوم أصبح لدى أم عائشة وقت فراغ وراحة، فكانت تستيقظ فى منتصف الليل للعبادة والتهجد، وتردد ورد أسماء الله التسع وتسعين على مسبحتها ذات الألف حبة وحبة، وتدعو الله بأن يطرح البركة والسعة فى رزق زوجها.
وذات ليلة عندما عاد عبد الكريم إلى البيت جلست أم عائشة تدلك قدميه ثم قالت: أودّ أن أقول.... أتسمعنى؟! كان عبدالكريم متعباً ويشعر بالكسل من كثرة العمل طول النهار، فردّ عليها بلا مبالاة قائلاً: ما الأمر يا أم عائشة؟! قالت أم عائشة: جاء رسول من تندو آدم خان .... لقد أنعم الله على المحروسة ابنتك وستصبح أنت جداً الشهر القادم.
• الحمد لله والشكر له، يا أم عائشة! أطعمى اليتامى فى الملجأ يوم الخميس القادم، وسواء تذكرت أنا أم لا، اذكرى أنت ذلك.... وبالمناسبة يا أم عائشة، أعدى بعض الملابس والحلى قدميها لابنتك عندما تذهبين إليها بالسمن والكشري، لا تذهبى إليها خالية اليدين، ليحفظنا الله، الآن لدينا بعض المال، فلماذا لا نحقق آمال ابنتنا.
• يا سلام ... قالت أم عائشة ذلك بدلال، ثم أتبعت: ما هذا الذى تقول، إلى أين أذهب بالسمن والكشرى؟.. إن ابنتى حفظها الله قليلة الخبرة بالحياة، ساذجة لا تعرف شيئاً .. لقد أرسلت إليها لتكمل حملها عندنا هنا، وسوف تصل إن شاء الله فى قطار بعد الغد ظهراً، وستذهب أنت لاستقبالها على المحطة بالسيارة.
هب عبد الكريم واقفاً من على سريره عندما سمع هذا الخبر، ثم جلس، كانت عيناه كأنما أصابهما بعض خيوط من عش عنكبوت، وشعر وكأن جدران المنزل وأبوابه تصرخ فى وجهه غاضبة إن عائشة قادمة الآن..... عائشة قادمة الآن....
ظل عبد الكريم يتململ فى سريره طيلة الليل، واستيقظ صباحاً قبل موعده المعتاد، اغتسل وبدل ملابسه وأفطر ثم اتجه إلى دكانه مباشرة وجلس هناك، وعندما رأى العامل عبد الكريم قادماً خاف واضطرب، فلقد ظل وحده يسيّر الدكان بطريقته الخاصة منذ ثمانية أشهر مضت، لكن عبد الكريم لم يسأله عن الحساب، وظل جالساً فى الدكان ساهماً طيلة النهار .... جاء العديد من أصدقائه وأحبابه للبحث عنه حتى وجدوه فى الدكان، لكنه اعتذر إليهم جميعاً بلطف بحجة انشغاله بأحد الأعمال. وعند العصر جاء الدلال الأعور باحثاً عنه كعادته، وفور أن رآه عبد الكريم فقد أعصابه، والتقط ماسورة حديدية وهرول ناحيته كالمجنون: حذار أن تأتى إلى دكانى مرة أخرى وإلا حطمت ساقيك ... أيها اللقيط. نشرت قذارتك فى أرجاء كراتشى .... اغرب عن وجهى وإلا استدعيت البوليس أيها القواد العفن.
وعند المساء أغلق عبد الكريم دكانه واتجه إلى المسجد مباشرة، وظل يبكى فى سجوده ويئن، كانت ألفاظ الدعاء تأتى على لسانه، ثم ترتعش فوق شفتيه وتعود من حيث جاءت، وكأنها حمامة تأتى إلى عشها مرات ومرات، وفى كل مرت تجده خرباً فتحوم حوله تم تعود من حيث جاءت.
ربما غلب عبد الكريم النعاس وهو فى سجوده، فنام كما هو ، فلما أيقظه أحد المصلين كان الوقت وقت الفجر، وكان المؤذن يؤذن، وكان النوم لا يزال يدور برأس عبد الكريم وهو يشعر بأن الصوت ليس صوت الآذان، وإنما هاتف يناديه من بعيد: عائشة قادمة الآن ... عائشة قادمة الآن .... عائشة قادمة الآن.