فيللا سعادة الباشا
غلام عباس

في ليلة قارصة البرودة، وفى حوالى الثالثة فجراً، استيقظ سعادة الباشا "صمصام الدولة" فجأة، لقد تناهى إلى سمعه صوت شيء سقط على الأرض فى حجرة الجلوس الملاصقة لحجرته، فى بداية الأمر اعتقد أن شيئاً ما سقط على الأرض بسبب الرياح الشديدة، لكنه تذكر فيما بعد أنه أغلق بنفسه أبواب ونوافذ الحجرة جميعها، وليس فى البيت أحد الحيوانات الأليفة كالكلب أو القط مثلاً بحيث يتصور أن شيئاً ما قد سقط بسبب جريه ولعبه فى الحجرة، ولهذا فقط أصاب القلق سعادة الباشا "صمصام الدولة"، فنهض من مضجعه، واتزر بمعطف فوق ملابس نومه، والتقط عصاه الغليظة ذات العقفة الفضية، واتجه إلى حجرة الجلوس ماشياً على أطراف أصابعه دون أن يوقظ السيدة حرمه والتى كانت تغطّ فى نوم عميق مصحوب بشخير خفيف.
يبلغ سعادة الباشا "صمصام الدولة" من العمر ما بين الخمسين والخامسة والخمسين تقريباً، وهو وإن كان قصير القامة إلا أنه كان قوى اليدين والساقين، كان لون بشرته أبيضا مشرباً بحمرة، عيناه واسعتان مشعتان، شواربه سوداء تشوبها بعض الشعيرات البيض ووجهه مستطيل يفيض حلماً ووقاراً.
توقف سعادة الباشا قليلاً عند باب حجرة الجلوس، ثم اختبأ خلف الستارة، ولما لم يسمع أى صوت آخر، ولم يلمح ظلاً يتحرك فى الظلام دلف إلى الحجرة، وضغط على زر اللمبة الكهربائية، فوجد الحجرة خاليه، إلا أنه لاحظ طاولة صغيرة ملقاة على الأرض، وفوقها سقطت مطفأة السجائر النحاسية مقلوبة على فوهتها. عندئذ تأكد سعادة الباشا أن لصاً قد تسلل إلى الفيللا فعلاً، وبدأ يبحث عن اللص بجرأة فائقة متفقداً حجرات الفيللا واحدة تلو الأخرى.
كانت الفيللا تضم أربع حجرات نوم إلى جانب حجرة الجلوس، واحدة من هذه الحجرات خصصها سعادة الباشا لنفسه وللسيدة حرمه، وظلت الحجرات الثلاثة الأخرى مغلقة، إذ أن نجله قد خرج فى تجارة إلى أحد البلاد البعيدة، واستقر هناك، فى حين تزوجت ابنتاه، وانتقلتا إلى بيتي زوجيهما، ولم يبق فى الفيللا الآن سوى سعادة الباشا والسيدة حرمه، ولم يكن فى الفيللا خادم بشكل دائم، وكل ما فى الأمر خادم وحيد يقوم ببعض الأعمال نهاراً، ثم يعود إلى بيته وقت المساء.
كان سعادة الباشا يعيش حياة قريبة من التقشف، فلا سيارة، ولا حتى حنطور، ومع ذلك فقد كان يُعدّ من أعيان المدينة ووجهائها، وغالباً ما كانت توجه إليه الدعوات للمشاركة فى احتفالات المدينة وذلك لرفعة نسبه وشرف أصله وشخصه. كان سعادة الباشا دائم الفخر بأن نسبه يلتقى بعدة طرق بالملك نادر شاه الأفشارى، وكان يمضى حياته هذه الأيام فى صمت وسكون، ولا يعرف أحد عن مشاغله شيئاً، كما أنه لم يكن أحد يعرف دخله هذه الأيام على وجه اليقين، فالبعض يقول أن أرضه تدرّ عليه مبلغاً محترماً من المال، والبعض الأخر يقول أن نجله يرسل إليه مبلغا كبيرا بين الحين والآخر. وكان الباشا بطبعه قليل الاختلاط بالناس، ومحباً للوحدة، ولا يذهب لزيارة أحد، ولا يأتى أحد لزيارته، يعيش بين جدران بيته مختلياً يعانق أسماء الأجداد فى عائلته.
تفقد الباشا حجرات النوم الثلاثة واحدة بعد الأخرى، ولكن لم يعثر على أثر للصّ، كان المطبخ أيضا خالياً، مشى إليه وأراد فتح بابه لكنه وجده مغلقاً من الداخل، عندئذ أيقن الباشا أن اللص داخل المطبخ لا محالة. طرق الباشا باب المطبخ بعصاه، ثم نادى بلهجة آمرة: من بالداخل، اخرج فوراً.
ولما لم يأت جواب من الداخل. أخذ الباشا يوبّخ قائلاً: اسمع إن لم تخرج خلال دقيقة واحدة فسأغلق الباب من الخارج وأبلغ البوليس. وهنا سمع الباشا صوت فتح المزلاج من الداخل فأبتعد قليلاً من أمام الباب على سبيل الاحتياط، وكان قد قبض بقوة على عصاه فى وضع الاستعداد، إذ قد يهجم عليه اللص عند فتحه الباب ، إلا أن يدى اللص كانتا خاليتين من أىّ سلاح، وخرج من المطبخ بخطى وئيدة وهو محنىّ الرأس.
كان شاباً نحيفاً لا يتجاوز الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين من عمره يرتدى بنطالاً ومعطفاً، وقد لف حول عنقه التلفيحة بشكل جذاب، وصفف شعره على الطريقة الإنجليزية حتى عصعص الرقبة، ثم لفّه إلى الداخل فبدأ متكوراً، وكانت شواربه دقيقة، وسوالفه طويلة.
• يا ابن الناس لا يبدو من شكلك أنك لص، فاصدقنى القول، من تكون؟!.
هدأت لهجة الباشا الرقيقة من روع اللص فقال: من الأفضل أن تتفضل سعادتك فى حجرة الجلوس، وسأشرح لك الأمر . قال اللص هذا الكلام بصورة مهذبة، وبثقة كبيرة جعلت الباشا يقول: لا بأس، تفضل أمامي.
وفى حجرة الجلوس نظر الباشا إلى وجه اللص بإمعان فى ضوء المصباح فلم يلحظ عليه أى نوع من الغلظة أو علامات سوء الخلق، ولا حتى الخوف أو القلق، كانت عيناه تشعان ذكاء، وعلى شفتيه ابتسامه خفيفة. جلس فى غير تكلف على الأريكة، وبدأ يقول: تفضل سعادتك بالجلوس أيضاً حتى يعرفكم العبد الضعيف بنفسه. جلس الباشا على الكرسى وقد علت وجهه الحيرة والدهشة:-
• هذا العبد الضعيف اسمه "بشير على"، أعرف الأردية جيدا، وقليلا من الإنجليزية، وللأسف الشديد لم أستطع مواصلة تعليمي.
• يا بنى!، قال الباشا قاطعاً عليه حديثه : هذا الكلام نسمعه فيما بعد، أولاً قل لى لماذا دخلت إلى هنا؟!
أجاب اللص بجرأة بالغة: لقد جئت فعلاً بنية السرقة، ولكنى خدعت بشدة.
• خدعت؟!، كيف خدعت؟!
• لقد فكرت فى سرقة هذه الفيللا لما رأيتها فى مكان مقفر إلا حدّ ما، ومنفصلة عن باقى العمران، وهناك اللوحة المكتوب عليها اسمك على الباب: الباشا (البطل المغوار) صمصام الدولة تهور يار جنَّك بهادر، وقد زادتنى هذه اللوحة شوقاً إلى إتمام السرقة، كما لاحظت أنه لا يوجد هنا حارس أو حتى خادم، فقط سعادتك، والسيدة حرمك، وهذا الأمر يساعد فى موضوع السرقة كثيراً. لهذا عندما انتصف الليل قفزت من فوق سور الفيللا إلى داخلها والآمال تغمر قلبي، لكنى أؤكد لك يا سعادة الباشا أننى شعرت بحماقتى وقلة خبرتى فور أول خطوة لى هنا.
• كيف هذا؟!
• حقيقة الأمر يا سعادة الباشا، ومعذرة على رفع التكليف، هذه الفيللا مجرد خدعة من أولها إلى آخرها، خدعة فقط، ليس فيها شيء واحد يمكن سرقته، انظر إلى حجرة الجلوس هذه، هذه الأريكة المغرقة فى القدم، وهذه السجادة الأزلية الممزقة من كل جانب، هذه الطاولة المستديرة القديمة، وهذه الترابيزات الصغيرة القبيحة والتى بهت لونها، وهذا الكرسى الذى فرش بملاءة سرير قذرة، وهذه المخدات الحريرية القديمة، هذه الستائر المهترئة.... أى لص هذا الذى يرتكب حماقة سرقتها؟ وحتى لو فعل، فأين يذهب بها ؟!!.
اللصوص يا سعادة الباشا يرغبون أولاً فى النقود، ثم المجوهرات والحلي، ثم التحف والآثار والأوانى الفضية والذهبية، كذلك الساعات، سواءٌ ما كان منها للجيب أو للمعصم، ثم الملابس الحريرية، والساريهات البنارسية والملابس القطيفة الفاخرة، ثم الأسلحة النارية كالبنادق والمسدسات، أو الكماليات كالراديوهات والمسجلات ولا بأس بماكينات الخياطة رغم أنها ثقيلة الوزن قليلا. أما هنا فسامحنى يا باشا، لم أجد حتى قلماً ذا قيمة، فرجائى أن ترفع لوحة الاسم من على الباب، أو أن تغير أسمك، وإلا فإن الحمقى من اللصوص أمثالى سيضيعون كثيراً من وقتهم بالتسلل إلى هنا بغير داع. إن حجرات النوم الثلاثة الخالية فى الفيللا ليس فيها سوى بعض الأسرة الرخيصة المكسرة، حتى حجرة نومك أنت .....!!
• وهل تسللت إلى مخدعى أيضاً؟!.
• لم أتسلل إليها فقط وإنما قضيت فيها بصحبتك ساعتين كاملتين وطيلة هذا الوقت كنت تشخر أنت وحرمك بلا توقف، أنت بشدة، وهى أقل قليلاً. وعندما يئست تماماً جئت إلى حجرتك، فرأيت الخزينة، عندئذ انفرجت أساريري، وتأكدت أن جهودى لن تضيع سدىً، وأننى لن أخرج من هذه الفيللا بخفى حنين، وبعد جهد مضن لساعتين متواصلتين نجحت فى فتح الخزينة، لكنك يا سعادة الباشا لا تستطيع أن تتصور مدى اليأس الذى أصابنى عندما لم أجد فى الخزينة سوى بعض الأوراق المتناثرة، وأى أوراق هذه؟! ... لقد كانت ورقة شجرة العائلة، وعقود زواجك أنت وأنجالك .... لا تقلق يا سعادة الباشا، لقد أعدت الأوراق إلى الخزينة بحرص شديد، وبعد ذلك اتجهت إلى دولاب ملابسك، ولكنى لم أجد فيه سوى بعض المعاطف القديمة، والساريهات الممزقة التى طارت ألوانها، وتحسست جميع جيوب معاطفك، لكنى أقسم لك أننى لم أعثر فيها على مليم واحد، وبعد أن أصابنى اليأس والتعب خرجت من مخدعك إلى حجرة الجلوس لكى ألقى نظرة أخيرة قبل الانسحاب من هنا، ولكن لا مبالاتى وعدم اكتراثى جعلانى أصطدم بهذه الترابيزة الصغيرة والتى استيقظت أنت على صوتها، فاضطررت إلى اللجوء إلى المطبخ ... هذه هى كل حكايتى يا باشا.
ظل الباشا يستمع إلى اللص بإمعان، وعندما صمت سأله:-
• ألا تخشى أن أسلمك للبوليس؟!
• أبداً .... لأنى متأكد أنك- ومعذرة- لن ترتكب مثل هذه الحماقة أبداً. بالتأكيد كان الخوف من هذا الأمر يساورنى إلى أن تفقدت الفيللا جيداً، أما الآن فلا. فقد تنجح فى حبسى ستة أشهر أو سنة، لكن حقيقة ثروتك، ووجاهة العائلة وشرفها ستنكشف أمام الجميع، إذ أن رجال البوليس سيحضرون إلى مكان الحادث وبعد ذلك ستنشر الجرائد تصريحى هذا بأننى للأسف الشديد قد أهنت نفسى بغير داع، لأنه ليس فى فيللا الباشا "صمصام الدولة تهور يار جنك بهادر"شيئاً يستحق السرقة فبأى وجه ستقابل معارفك عند ذلك؟!.
ولم يستطع سعادة الباشا أن ينبث ببنت شفة، وساد الصمت لحظات، ولأن الليل كان قد مضى أكثره فإن الباشا سأل اللص مستفسراً عن حل لهذه القضية:- والآن يا بنىّ! ماذا تريد؟!.
• فقط تعطينى بعض النقود، وتأكد سعادتك يا باشا أننى لم أتناول طعاماً طيلة اليوم.
فكر الباشا قليلا ثم قال: حسن! ابق هنا بهدوء، وسوف أدبر شيئاً.
قال الباشا هذا ودلف إلى مخدعه. كانت السيدة حرمه ما زالت تغط فى نومها العميق المصحوب بشخير خفيف، أمسك الباشا بكتف السيدة ببطء وهزه: يا هانم، يا هانم، انهضى قليلاً.
تململت السيدة ثم نهضت جالسة: ماذا حدث يا باشا؟!.
• أحتاج بعض النقود!
• نقود .... ومن أين أتتنى نقود ؟!.
• ورقة الخمس روبيات التى أعطيتك إياها اليوم صباحاً، أين هي؟!
• أوه ... لقد نسيت ... هاهنا تحت الوسادة.
• اعطنى إياها بسرعة.
• ماذا ستفعل بها؟!
• سأعطيها لأحد أصدقائى.... المسكين فى مأزق كبير، ولذا جاء فى هذا الوقت الحرج ، أسرعى يا هانم، لا أريد أن يخرج هذا المسكين من هذه الفيللا يائساً خالى اليدين....