إبحار في قصيدة أنهار لا تعرف الخوف
بقلم لميس الامام
( قراءة تحليلية )
قصيدة للشاعر جمال مرسي كما أراها... .جدارية كبيرة مرسومة في سقف مدخل أجمل معلقات الشعر الحديث ، الذي بات محطة لقاء للمبدعين والادباء الكبار.
اثبت الشاعر جمال مرسي وببراعة فائقة في نظمه لهذه القصيدة الرباعية المحاور، التي تتجلى فيها الاخيلة والمفردات المتميزة ، مؤكدا استعمال الكلمة بشكل فضفاض كانسياب الانهار الخالدة التي لا تعرف الا العطاء منذ آلاف السنين ، وبنوارسها التي تَعُّبُ من ماء الخلود محلقة بماءه المتقاطر من اجنحة لا تعرف الكلل في الدنو والارتفاع بقوة حجر العقيق، الذي يقاوم الدهر ولا يتغير ، لتنتابه مشاعر دهشة صورها كافتغار تويجات اقحوانة ، دون مساءلة لدلالات اللغة الاصطلاحية; الا حين تظهر بعض التلميحات الجغرافية وادوات الحروب، لكن بمقاصد سياقية متمكنة بحتة..يدل فيها انه غير قابل للهزيمة أمام متطلبات الابداع.
نراه قد اثبت ذلك أكثر من مرة باستخدامه لغة الجمال ، اليقين ، الخلق والابتكار في تصوير خلود تلك الأنهر وهذا يتضح وبقوة من خلال مفردات ترمز ولا تقول ها انا ذا.. ليبدو لنا في قصيدته كمن يلاحق الحياة في بلاد الانهر تلك بدنوه القارئ تارة الى جمالها وتارة نراه يأخذه بعيدا متعمقا في ملاحقها الاغوائية بدءاَ من معزوفته الاولى انتهاءا بآخر شطرة في القصيدة ; معددا الأغراض المعنوية متفردا بوصف الأنهار وجمالياتها من نوارس وقبرات وعاشقين هائمين على ضفافها .. وكأنه دعا بيت القصيد ان يلون تلك الجدارية بألوان الحياة ; ظلمة ونورا ، بهاءا وسناءا ..
وهذا حاد بنا الى مرابع الجمال للمعانى الفلسفية للكلمة، وبهذا التطويع تمكن شاعرنا من أن يبرع في نظمها كبديل للنثر; فسلطة الشاعر فوق كل شيء، لأنه يملك سلطة الشعر وأدوات اللغة من مفردات ووصف وبلاغة ليصبها في النهاية بالشكل الذي يراه عملا إبداعيا يأخذ شكل قالب متميز..
لغة القصيدة:
.أمّا اللغة التي عبر عنها الدكتور جمال مرسي في قصيدة أنهار لا تعرف الخوف ، فهي لغة عربية شديدة الصفاء الا من بعض المفردات (الأواكس – الميج – بدون انا.)( وللقارئ نقول انه كلمة الاواكس هي اشارة الى طائرات الشبح الاستطلاعية المتسخدمة في التجسس اثناء الحروب والميج ايضا من الطائرات الاجنبية الصنع تستخدم في العمليات الحربية القتالية ، حيث ذيل كلمة ميح باضافة انا فاصبحت ميجانا وهي نمط غنائي تراثي لساكني جبال بلاد الشام ..) أعود فأقول بعد هذه المداخلة، إن لغة الشاعر جمال مرسي جاءت هنا بلا رتوش بلاغية زائدة ، وهي في الوقت نفسه ليست لغة بسيطة ، بل معتدلة وذات قوة تعبيرية كبيرة .هي لغة يمكن مقارنتها بتلك التي ترافق الرثاء والغناء . وبهذا المعنى فإنه ليس من السهل أن تتناغم لغته مع لغة الشعر عند شعراء آخرين من رواد الشعر الحديث .
ينطلق الدكتور جمال مرسي من ثنائية الأدب والنص( شعر ونثر في آن واحد) مؤكدا أن بوسع الشاعر تطويع الكلمة الى نص أدبي مرن واسع المدى كما أنه وببراعة المتمكن من اللغة ،استخدمها لللتحليق بجناحيها عاليا حيث أجاد بالخيال اللغوي وأسلوب نظمه لهذه القصيدة بمفردات كما وكيفا حسب ما جاءت الدلالة اللغوية والاصطلاحية لها مساوية لمقاصده السياقية والمفهومية ..
اسلوب القصيدة:
أن خطوات الشاعر الدكتور جمال، الرشيقة انساقت في الانتقال من محور الى محور في هذه القصيدة على سلالم لها غير أحادية الاتجاه ، وهذا ما اُطْلِقُ عليه أنا شخصيا،السمو المنطلق الاضطراري ، وهكذا كلما وصل الى معنى من المجموعة الرابعة جره الى نص متن الأولى والثانية والثالثة ليضيف في حلق الذائقة ما يجعل اللقمة الفريدة مستساغة ..
الرؤية المستطردة في القصيدة:
هي لقطات تصورها النوارس بما تعبه مناقيرها من ماء النهر الى عقيق جناحيها الى دهشة ترتسم فوق محياه تحاكي جرأة زهرة الاقحوان عاكسا صورة الخلود والمجد المرْوِّيِّ من مياه تلك الأنهر برمزية فريدة, صور الضفاف التي تلون الانهر والتي تعكس جمالياتها بحيث نرى أن الفارق كبير بين الصور البلاغية باعتبارها تطبيق شكلي لأفكاره وخياله وبين الرموز التي أدرجها في القصيدة باعتبارها مجموعة اختيارات مُلِّحْة.
تختلط في خطوط القصيدة ملامح الرسام المقتدر الى مشاعر العاشق الملتهبه، الى الصوفي المتبتل في محرابه ..لتسيل اللغة من بين يديه كما الصور والمعاني بسلاسة متناهية كمسار الانهر السلس ....وأحيانا يتماهى الشاعر الجميل جمال مرسي في لعبة افتراس العالم المادي القهري المؤلم في بعد لغوي باتجاه صياغة تأملية لما ينبلج عنه خياله حتى تكون أقرب الى الفكرة التي أراد ان يوصلها الى القارئ بأسلوب متحرر من الاعلان عن كامل مراده سردا..
لا نستطيع أن ننفي بأنّ ما كتب الدكتور جمال هنا شعراً - لأنه مختلف عن النثر بقوة لغته الرمزية ومتانة صوره وتتابع ورودها المرتبط بقوة بالصورة - سواء الصور التي تألقت في رائعته هنا كفوتغرافية حركية أو كالرسم بالكلمات. لذا فإن الشخصيات المجزأة التي تتحرك على محاور قصيدة الشاعر جمال مرسي تبدو وكأنها خيال وظل وحركة انسايبة كما بدى بين مقاطع المحاور متخليا عمداً عن الوزن والقافية والايقاع الموسيقيّ بأسلوبه الذي اعتدنا الاستمتاع به من خلال قصائده العمودية الرائعة..
قام الشاعر بتقسيم هذه التحفة الفنية الى أربعة محاور بدت لنا كصدى لحياة ماضية وحياة حاضرة ، فقد تمكن الشاعر في هذه القصيدة من إيجاد لغة رمزية خاصة به موحية برحلة الى بلاد تلك الأنهر بلدا بلد موغلا بنا في أعماق المعاني الشاعرية والدينية والوطنية بأسلوب مميز لم يدلف سراديبه شعراء من قبله -نعرفهم على الاقل- لأن الشاعر لم يصرح علناً عن مواطنها وهنا ، يكمن الحذق في النظم والسرد والترميز.. الغير فوضوي على الرغم من اختلاف جماليات تلك الانهر ومواطنها الاصلية.. وخلوها من الإشارات الزمنية كأسلوب لا نعدمه في مضمون القصيدة المتعددة المسارات ... الاسلوب المباشر في القصيدة المتعارف عليها..
أخيرا واعذروا تماديي في القراءة والابحار فقد كانت على جدارية الشاعر الكبير جمال مرسي نوارس تطير بيضاء ترمز لسلام لا يبدو أنه سيحل على هذه الأرض في يوم ما وها نحن بعد أكثر من خمسين عاما لانبصر الا ارواح الشهداء والضحايا الابرياء وهي تطير بدلا من النوارس والقبرات....
دمت شاعرنا الكبير جمال مرسي بهذا التفرد والالق..
لميس الامام
المفضلات