و رأينا أنفسنا في الشاشة نوجه نداءنا بالأسود و الأبيض و المدير يمسد بطنه.
كم كانت عيناي مخطوفتين! و كم كان وجهي يتمزق، و الكلمات تخرج مني متأتأة متقطعة... و ذلكم العرق الذي نزت به جبهتي !!! كأنما ألقي علي القبض متلبسا بخطيئة ما.

لم أحتمل توزع عيني الحائرتين، انفتح بداخلي أخدود، كأنما الزلزال شق كياني، دارت الأشياء دورة، و سمعت صوت الكراسي تسقط، و شيئا من الهرج و الرؤوس المنحنية عليّ، ثم في العيادة ممددا وسط البياض، و ممرض متضخم يقضم شاربه و يدس عينيه في كتاب بين يديه.

حين دخلت نوارة أشرقت شمس شديدة الوهج، انساح وجهها ببسمة عذبة.
كانت ترتدي فستانا أحمر أبرز قوامها الممتلئ، انحنت علي فانسدلت خصلة فاتنة على عينيها و انهمر عطرها يغمرني أمواجا ترشني بالحنين و الحنان.
لمست جبيني فأحسست كفها رطبة باردة فوددت لو أبقتها عليّ قليلا، أخرجت من حقيبة يدها وردة حمراء ملفوفة في السيلوفان:
ـ لا بأس عليك إن شاء الله ، و هذه هدية لك لنتائجك الرائعة في المدرسة.
تهدج صوتي و لم أعرف كيف أشكرها، لا أعرف كيف أسمي تلك المشاعر التي خالجتني ساعتها ؟ فقد خيل إلي أن الملائكة تبتسم لي من خلال وجهها الصافي.
كبرت نوارة في عيني و قلبي، لم أعد أطيق فراقها، أحن إليها في كل لحظة غياب. و كان هذا يورثني خجلا مرا من نفسي.
في المدرسة أستعجل الساعات أن تنقضي فنلقاها عند البوابة مع الحارس و قد قدم لها كرسيا، أراها من بعيد في جلستها الهادئة المتزنة تحادث الحارس، فأعرف أنها تحادثه بضبط دقيق لكلماتها و بصورة رائعة في الإصغاء إليه. تسبقني قدماي إليها، ثم أنتبه و أضبط قدمي و أسير إليها وسط رفاقي.
كانت حريصة على أن لا تميز بيننا، تشعرنا أنها شيء مشترك لنا، هو ما نفتقده جميعا.
و كنت في أعماق نفسي أغار عليها من أصحابي، أريدها لي وحدي، و قد يكون كل واحد منا يريدها له وحده، إذ كنا نتسابق في كسب مودتها، في لفت نظرها، و يصل بنا الأمر أحيانا إلى العراك ثم الإسراع إليها يشكوا بعضنا بعضا.

كانت تتقبل نزاعنا بحلم و سعة صبر، ترشدنا إلى أننا إخوة لا ينبغي أن يكون بنا حقد أو كره، على قلوبنا ألاّ تخفق إلاّ بالحب و تتلو علينا قوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة." و قول الرسول(ص): " مثل المؤمنين في تواددهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى."
تجمعنا في حلقة و تقرأ لنا قصة من قصص كليلة و دمنة، ثم تسألنا واحدا واحدا عن مغزاها، عما يقابل تلك الحيوانات في دنيا البشر. و يجتهد كلنا في أن يعبر و يفصح أحسن من الآخر، و تصغي إلينا.
أجيبها أنا، أتلعثم قليلا، أحدق في وجهها إذا ما كان التلعثم يزعجها، أو يفقدها الصبر على الإصغاء إليّ .لا أرى شيئا من ذلك، عينان عميقتان سوداوان صامتتان شبه مبتسمتين، يتلعثم لساني كثيرا، أسكت، أطلب إليها أن تأذن لي في الإجابة كتابة، فكانت تأذن لي أياما أقرأ عليها ما أكتب فتتسع عيناها إعجابا، كنت أشعر إذ أكتب أن لي قوة عجيبة في التعبير و صياغة الأفكار.
و كانت تعلق:
ـ هذا رائع، لكن لا ينبغي الاعتماد على القلم وحده، نحن في حاجة أيضا إلى اللسان، اطلق سراح لسانك.
و تضحك، و يبكي قلبي، فقد صار لساني حبيسا أمامها، أريد أن أبوح لها بأشياء لست أحددها، أشياء مبهمة تتزاحم في نفسي، كلمات لو أخرجتها صارت بلا معنى، كأن أقول لها... سيدتي نوارة أريد أن أغطي وجهي قليلا بفستانك، أن أشبك أصابعي في شعرك، احمليني على ظهرك و امشي بي في الشارع الضيق إلى المدرسة، سيدتي نوارة اكشفي لي عن صدرك أنظر فيه، أريد أن أكون عقدك في عنقك فالشمس إذ تنعكس عليه يتلألأ عجيبا يخطف البصر، أو انتعليني حذاء، إنك إذ تمشين على الرصيف تحدثين إيقاعا رائعا، أريد أن أكون المشط الذي تسرحين به شعرك، أو محفظتك الجلدية الناعمة ، أو خصلة شعرك الهفهافة التي تنسدل على عينيك حين تراقبين كراساتنا ثم تسوينها فتنسدل فتسوينها فتنسدل فتسوينها... سيدتي أريد أن أضع قبلة على خدك موضع الحفرة حين تبتسمين...
و كان حديثي إليها في نفسي عواء و أنينا، أنين "سحاب" إذ تكور على نفسه و أدخل رأسه في بطنه حين قوضه الألم ساعة كان يموت في ليلة باردة، كان يموء، يقطع الصوت، يريد أن ينطق، أن يفصح فيشكو لي ما به. و ما كنت أقدر على إسعافه إلاّ أن أدثره بمعطفي المهلهل.
في ليالي المركز صرت أنشج ، أتكور في الإزار ، يأخذني الأرق ... أأكون بدوري كلبا يموء لا أحد يفهمه ؟ و يلقي علي المركز معطفه الرث هذا ؟ ... أفتح عيني على السؤال ، ألا يمكن أن تكون نوارة بالصدفة أمي ؟ ما حدبها و عطفها علينا ؟ ما حرصها على نجاحنا و أخذها إيانا بالجد و الصرامة و تكليفها نفسها من أجلنا ما لا يطالبونها به في المركز إذ تتنازل عن عطلتها الأسبوعية و تحضر معنا تراجع لنا دروس الأسبوع ، أو تقرأ علينا فصلا من كتاب كانت قد برمجته لنا ، أو تطلب إلينا عرض ما أوصتنا بحفظه من القرآن و جميل الشعر ... ما تعلقي بها و نشيجي في الليل العميق ؟ ... لم ذاكم كله إن لم تكن هي أمي ؟؟؟
أعلم أني كنت أتشبث ، أريد أن أعلق ، أن أمسك بشيء ما ، بأي شيء ، حتى لو كان وهما ، حتى لو كان طرف فستان نوارة ...
إن شيئا ما ينمو في داخلي ، يتسلق جدران روحي الكتوم ويريد أن يطل على الهوة ، الاخدود العـميق حيث تنام الجثة تنخرها الغربان السود ... و أسوار المركز عالية إسمنتية كالحة ... و أنا أحاور روحي بلغة الانين و المواء...
أقطع الصوت في جوف ليالي السرير الحديدي المزقزق لدى كل تقلب يند عن الجسد حين يغمره الشعور بالانفصال الرهيب عن كل شيء ، حتى عن الازار الرث الذي يدثرني تمبعث منه رائحة الصنان وتعتق الليالي المتعاقبة ، تشبه الليلة أختها ، فأخاف قدومها حين تطفأ الأنوار علي مبكرا مع غروب كئيب ،فأتمنى لو يطول اليوم كله نهارا مشرقا بوجه نوارة. وكان غروب نوارة كل مساء ظلاما في قلبي على ظلام يحيل المركز إلى جدران خرساء و كراسي باردة و أروقة موحشة .
بصوت متأتئ أخجلني تقدمت منها ذات مرة أشكو لها أرقي في الليل ، رأيت ذلك التعبير النبيل على وجهها و سهوم عينيها بالشفقة و الرثاء ، أو الحيرة ؟ لا أعلم ، فعاودني شعوري الحاد بالانفصال ، و ندمت على ما تأتأت به ، لكنها سرعان ما مسحت وجهها ببسمة مشرقة و قالت لي :
_ إن لك نفسا رقيقة تعذبك ، و أنت كتوم ، وهذا ما يسبب لك الأرق ، سأعطيك كراسا خصصه للكتابة ، اكتب ما يخطر في بالك وإحتفظ به لنفسك في خزانتك ، إن هذا سيخفف عنك الأرق ، وفي النهاية سيتألف عندك كراس ثمين ، فيه مشاعرك وعواطفك و أفكارك ، فيه أنت ، هكذا يفعل الفنانون ، إن الموسيقار إذ يشعر بالأرق يغزف لحنا فيرتاح وكذا الرسام يقوم إلى لوحته يصب فيها مشاعره ، و الراقص إلى الفسحة من المكان فيعبر بجسده ما لا يستطيعه بلسانه .
وتذكرت رقصتها ذات ليلة في المركز حين أخذت الجميع بجسدها فأدركت صدق قولها ، لكنها ماذا كانت تقول ساعتها فوق المنصة ؟
في اليوم الموالي جائتني بكراس و كتاب ، وقالت إنها إستأذنت لنا المدير في أن يؤخر إطفاء الانوار إلى الساعة العاشرة في النادي لمن يرغب في المطالعة و التسلية ، وقد قبل المدير. أوصتني أن استغل تلك الساعة فيما نصحتني به .
استلمت منها الكتاب فرحا "عذراء قريش" لجورجي زيدان .
عندما أظلم الكون كنت أعد نفسي بسهرة ممتعة ، أقبلت على الكتاب لا أستطيع أن أفك منه نفسي، وما أشعر إلا و الساعة تدق لندخل المرقد وتطفأ الأنوار، أتكور تحت الإزار و أواجه نفسي بعيون مفتحة .
و اهتدت نوارة إلى فكرة رائعة ، أعطتني مصباحا يدويا وقالت :
_ اقرأ حين تطفأ الأنوار في المرقد .
وكنت أقرأ تحت الإزار أقرأ بنهم حتى تتراقص السطور بين عيني فأطفئ مصباحي ، وأنام متوسدا كتابي .
كانت نوارة تزودني بالكتب ومعها بطاريات المصباح.
كنت أقرأ بانفعال ، سكبت دموعا حارة على نهاية عذراء قريش ، وبكيت مع المنفلوطي في الفضيلة، و ماجدولين ، و العبرات ، مع بؤساء فيكتور هيغو ، ولكم أحببت "كوزيت" و أشفقت عليها ، كنت أرى فيها نفسي وفي الشيخ جان فالجان صورة الشيخ مسعود ، تألمت مع "فارتر"في آلامه لجوته ، و مع الطفل "دافيد كوبر فيلد" ، وقلبت عيني مع حي بن يقظان ، عند قوائم أمه الغزالة مدهوشا مما حل بها من الموت متسائلا أكان الشيخ مسعود على دراية بهذه القصة حين قال لي بأن أمي نعجة من النعاج وأنني كبش من الكباش ؟
كنت أشعر بالعزاء و أنا أقرأ قصص هؤلاء ، أحسهم إخواني في الشقاء ، كنت و أنا مندمج في عذاباتهم أنسى شعوري بالانفصال فأحسني واحدا منهم أضحك لهم وأتألم معهم .
قالت نوارة وقد بان لها تأثري بما أقرأ:
_إن دمعة نسكبها من أجل الآخرين خير و أصدق من آلاف الدموع نرثي بها أنفسنا .
وعلى يديها قرأت كثيرا لمن كانوا يغمسون ريشتهم في قلوبهم و يكتبون ، كنت أحسهم أقرب ما يكونون مني ، أفهم عنهم من غير وساطة ، ينفذ حديثهم إلى أعماق قلبي ، ينفخ في روحي أسمى المعاني و أنبل العواطف .
قالت نوارة :
_هذه عصارة النفس الانسانية المرهفة ، الروح إذ يتألم . إن للأدباء نفوسا نبيلة فإحرص على أن ترافقهم في كتبهم.