هل يمكن ان نكتب عن تجربة دون ان نعيش بعض فصولها
قيض الله لي ان اعيش في عائلة ذات اتجاهات قومية منها البعثيون والحركيون(الحركة الاشتراكية العربية) ومنهم الناصريون...الخ ولم تخل عائلتنا من البعض ذوي الاتجاهات الماركسية... كنت صغيرا عندما قامت 14 تموز 1958 واتذكر كيف سحل الملك والوصي ونوري السعيد... كانت ثقافة لم نعهدها, ثم وانا صغير رأيت في عام 1959 كيف رفع الشيوعيون شعاراتهم وكانت الحبال عنوانها ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) ورأيت كيف سحل في الشوارع احد الموظفين الاداريين الكبار (عن طريق المقاومة الشعبية الشيوعية) وذنبه توجهه قومي، كما كنت واقفا في زاوية ورأيت الشيوعيون يسحبون احد البعثيين والحبال في رقبته وارادو ان يرموه في كورة من نار ليحترق الا ان الشرطة انقذته في اللحظة الاخيرة من بين ايديهم... كنت ارى والدي جالسا يحمل سلاحه وهو الرجل صاحب الشهادة العليا منتظرا لحظة هجوم الشيوعيون على بيتنا ليقاتل ويدافع عن نفسه وعنا... وانقذنا واياه الساعي في عمله (نسميه فراش العمل الذي كان من ضمن عمله ان يحمل متطلبات بيتنا اليومية) وكان عضوا قياديا في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي, وقف ضد اعدام والدي (كما عرفنا لاحقا) ثم انقذنا بان قام بتهريبنا ليلا... ذكريات طفولة انطبعت في ذاكرتي لتثير اسئلة كثيرة لاحقا...
عام 1963 وفي ايام 14 رمضان وفي منطقة كنت اعيشها في بغداد من سماتها انها منطقة للطبقة المتوسطة كان لدينا جيران من الشيوعيين بيوت معروفة بتوجهاتها وتنظياماتها وكان بعضهم قياديين... جاء احد اقربائي يوم 15 رمضان وهو قيادي في الحرس القومي في حينها الى بيتنا بسيارة عسكرية ومعه رفاقه, فضن الجيران من الشيوعيين ان سيارة الحرس القومي اتت لاعتقالهم حسب ما فهمت لاحقا, وكان قريبي يعرف انتمائهم الشيوعي, الا انه جاء فقط لزيارتنا ولم تتعرض أي من هذه العوائل لاعتقال او ملاحقة, الا واحدا او اثنين من منطقتنا هربوا الى الاتحاد السوفييتي لاحقا.
هل تم قتل بعض الشيوعيين... نعم من حمل السلاح ضد البعثيين اثناء وبعد 14 رمضان 1963 ومن ضمنهم سلام عادل (اسمه الحقيقي حسين الراضي/ ايراني التبعية)... هل كان عددهم بحجم ما يذكروه... لا... هل تمت تجاوزات نعم ولكن ليس بحجم ما كتب ...كان الهدف من التضخيم هو ادانة التيار القومي وعلى راسه حزب البعث العربي الاشتراكي... هل قام الحزب بمراجعة لما حصل في 14 رمضان 1963... نعم... مراجعة تنظيمية وفكرية وكانت المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس عام 1963 صياغة لبرنامج الحزب ومنطلقاته الثورية واهدافه في الوحدة والتحرر وبناء المجتمع على اسس اشتراكية علمية, كما ان معظم ان قيادات الحزب عام 1963 قد انتهى دورها بعد هذا العام.
جاءت حركة 18 تشرين 1963 ليستولي عبد السلام على السلطة وقبلها بايام كانت هناك حركة عسكرية في 11 تشرين, عكست الحركة صراعا بين اجنحة الحزب ليستغل عبد السلام هذا الصراع ويستولي على السلطة... وكانت مقاومة الحرس القومي للعملية الانقلابية مشهود لها حيث قتل عشرات الآف منهم واعتقل عشرات آلاف منهم وكانت اشرس مقاومة للحرس القومي في منطقة الفضل وسط بغداد ( وهي نفس المنطقة التي هاجمها المالكي قبل فترة قصيرة واعتقل الكثير من اهلها كما اعتقل بعض قادة الصحوات كما انها نفس المنطقة التي كانت قلعة من قلاع المقاومة العراقية بعد الاحتلال والتي لم يستطع ان يدخلها لا الجيش الامريكي ولا قوات الحكومة حيث كانت خسائرهم فيها لاتعد قبل انشاء الصحوات والتي تكلمنا عنها سابقا في مقالة منشورة).
بعد حركة تشرين اعتقل معظم كوادر حزب البعث واحيلوا الى محاكم واعدم الآف منهم, كما شهد الحزب انقسامات عديدة فانشات لجنة تنظيم القطر والتي انتهى وجودها خلال فترة, وبعد حركة شباط 1966 في سوريا انقسم الحزب وكان اكبر انقسام يشهده, فصار هناك جناحان هما جناح تنظيم سوريا وجناح تنظيم القيادة القومية, علما ان البعض من اعضاء القيادة القطرية قد تركوا الحزب سابقا وانشئوا تنظيمات ذات توجه قومي وناصري, كالركابي والصالح..وآخرون.
من المفيد ان نعرف ان التنظيم البعثي المرتبط بسوريا كان لديه امكانيات مالية ولوجستية عديدة لان سوريا تدعمه كما انه بدأ يطرح نفسه كتيار يساري قريب من المفاهيم الماركسية اللنينية, في حين ان تنظيم القيادة القومية كان يعتمد على قوة كوادره وانضباطهم ومساهماتهم وكان يقود العملية التنظيمية للحزب صدام حسين وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان.
كما لا ننسى ان هناك انشقاقات حصلت في الحزب الشيوعي العراقي, واهمها تنظيم اللجنة المركزية الذي دخل في جبهة مع البعث بداية السبيعينات وتنظيم القيادة المركزية الذي اختط الكفاح المسلح كبرنامج لعمله بقيادة عزيز الحاج وهو كردي فيلي ذو اصول ايرانية ( والذي خروجه من المعتقل في بداية السبعينات, عينه البعث ممثلا للعراق في اليونسكو لسنوات طويلة, وبعد الاحتلال كان جزءا ممن دافع عن الاحتلال وعن المحاصصة الطائفية).
كانت الاحداث تموج في المنطقة العربية بعد نكسة حزيران 1967 والعراق الذي عرف بتنوع الاحزاب فيه وصراعها وهي خارج السلطة او فيها بحيث تصل الى مستوى التناقضات التناحرية التصفوية وتبادل الاتهامات فيما بينها (كان العراق ولا زال مدرسة سياسية للكثير من العرب تدربوا فيه من المغرب العربي حتى الخليج العربي), والصراع بين هذه القوى بكل ابعاده كان سياسيا في الدرجة الاولى ولم يحمل أي صفة طائفية رغم وجود بعض التنظيمات السياسية الدينية المدعومة من ايران ومن الغرب, الا انها لم تكن مؤثرة على الساحة العراقية.
كان الوضع في العراق عام 1968 يغلي وكانت انتخابات نقابة المعلمين شاهدا على الوضع حتى ان طلبة الثانويات والجامعات ساهموا فيها بالدعاية, وكانت الاضرابات في الثانويات والجامعات تعكس توتر الوضع العام, خرجت مظاهرتان كبيرتان في ذكرى النكسة يومي 4 و 5 حزيران 1968 في بغداد احدها يقودها حزب البعث والاخرى تمثل تيارات سياسية ... كان الوضع يشير الى ان شيئا ما سيحصل... كان عبد الرحمن عارف رجلا ضعيفا في ادارته للحكم... قرر حزب البعث القيام بحركته في 17 تموز 1968 وبلغت كوادر الحزب بذلك وتم تجميعها في مكانين نادي الاعظمية ونادي الكرخ في المنصور... ونجحت الحركة وكان اوائل المقتحمين للقصر الجمهوري صدام حسين وتم اعتقال عبد الرحمن عارف وتسفيره بطائرة الى تركيا وسميت بالثورة البيضاء بسبب عدم اراقة اية نقطة دم فيها... وكان لنجاح الحركة ثمن وهو دخول بعض الضباط العسكريين والعاملين في القصر الجمهوري فيها من خارج الحزب وهما النايف والداوود, وتمت الحركة التصحيحية في 30 تموز 1968 أي بعد ايام حيث اعتقل هؤلاء الضباط وتم تسفيرهم الى خارج العراق وقاد عملية التصحيح صدام حسين شخصيا.
تلك لمحة من الوضع في العراق وفق ما عايشته لمرحلة معينة واتمنى من له ملاحظات او تصحيح ان يكتبه اما ما واجهه الحزب بعد عام 1968 فهو معروف ومن لم يعرفه فاتمنى من الاخوة ان يوضحوه وكيف صعدت التيارات الدينية وخصوصا المدعومة من ايران ان كان في وقت الشاه واستمرت نفسها في وقت الخميني لتشكل تهديدا للوضع في العراق.
هل تمت اعتقالات لبعض القوى الساسية التي رفعت راية الهجوم على البعث ... نعم الا ان معظمها قد دخلت جبهة مع البعثيين واكثر من90% ممن كانوا مع تنظيم سوريا اما رجعوا الى صفوف الحزب او تركوا العمل السياسي...
في ذاكرتي صورة... خرج الشيوعيون في بداية السبيعينات من القرن الماضي بمظاهرة انتهت في ساحة النصر/ قرب تمثال السعدون في الباب الشرقي كنت واقفا انظر للمظاهرة كان شعارهم (جيم جيم جبهة...جبهة وطنية) ويكرروها عدة مرات وهي تعني نريد جبهة وكان ضمن المتظاهرين سعاد برتو ونزيهة الدليمي (اول وزيرة بلديات في العراق) وهن قياديات في الحزب الشيوعي, ومن قوة التدافع بين المتظاهرين كن سيقعن على الارض فقمت بسحبهن حتى لا يصبن بأذى... استجاب حزب البعث لمطلب الشيوعيين واعلن الجبهة...
كان الحزب اول من اعترف في المنطقة بالحقوق القومية للشعب الكردي ببيان آذار عام 1970 ومنحهم الحكم الذاتي, ثم كان تمرد البرزاني عام 1974 بدعم وتوجيه ايراني وتآمر دولي حتى وصل الامر ان العراق لا يمتلك في مخازن الجيش الا ثلاث قنابر لان روسيا امتنعت عن تزويد العراق باي اسلحة كما ان الغرب بالتعاون مع شاه ايران كان يدعم التمرد عسكريا ولوجستيا... قام صدام حسين باتفاق آذار عام 1975 مع شاه ايران والتي سميت اتفاقية الجزائر بترتيب من قبل هواري بومدين, بعد اتفاق الجزائر بيوم واحد بدأ كل المتمردين بالنزول من الجبال وتسليم اسلحتهم, كنا نرى في التلفزيون خطوطا بشرية متحركة تنزل من الجبال... التقيت بعد عام احد الاخوة الاكراد الذي كان ضابطا في الجيش العراقي والتحق بالتمرد الكردي وكان يقود مقاتلين ويسمى آمر هيز (قائد فرقة) وارجعته الدولة كموظف مدني في احد الدوائر حيث صدر عفو عنهم مع توقيع اتفاقية الجزائر... قال لي هذا القائد الكردي كنا نتصور اننا حركة تاريخية وان قادتنا التاريخيون يدافعون عن حقوقنا واذا بنا خلال 24 ساعة ياتينا امر من قيادتنا بالتسليم, وقال لا وجود لقرار سياسي كردي مستقل بل هو يرسم خارج العراق... كانت المرارة والالم تغلفان حديثه
تلك بعضا من ملاحظاتي والتي عايشتها... ولي عودة واتمنى ان اكون قد القيت بعض الضوء وفق ما عايشته.
تحياتي
المفضلات