المتجردة، تشعل النار، وتمسك اللهب
د. فايز أبو شمالة
المتجردة، عنوان قصيدة المبدعة "رحاب ضاهر"، التي تتسلق على حبل الزمن لتأكيد أنوثتها، واكتشاف الواقع الراهن، بل والتجرد منه، وهي تعود إلى الماضي في محاولة لشد القارئ، والتناص التاريخي مع الشاعر العربي "النابغة الذبياني" الذي قال في زوجة "النعمان بن المنذر" قصيدته المشهورة (المتجردة) في ذاك الوقت العربي كان الرجل يحمل السيف ويقاتل في ساحات الموت، ولا يرتضي المذلة وطعام الخنوع، وكان يفتخر بذكورته مرتين، الأولى؛ في ساح المعركة وهو يقاتل دون خوف أو وجل، والثانية تحت الخيمة مع المرأة التي تعشقها، والتي ما كان عليها إلا أن تظهر الحياء والخجل، والتمنع، لتتمم وشم اللوحة الزمنية التي توجت الحب الرجولي الذي يرفض الضيم، ولكن النابغة الذبياني غاص في بحر القياس، والتفصيل، والحياكة لأدق معالم جسد المتجردة، قبل أن يطفو مع سفن الوصف على شواطئ خيرها الوفير، والتظلل بجمال أغصانها، وتذوق تمرها، ومع ذلك فقد ظل مطلع قصيدة النابغة الذبياني يصف حياء المتجردة، ويصوره بالحركة التي تظهر خشية المرأة، وحياءها لئلا يرى فتنتها الرجل، فتثير لدية الرغبة في التهور، يقول الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته، واتقتنا باليدِ
وذهبت مثلاً، إذ ظل الحياء مقياس الجمال في زمن فتوة الرجال وفحولتهم، ولكن اليوم في زمن هزيمة الرجل، فإن المرأة تجرأت عليه، وقد خذلته قوته، وفارقته رجولته، وصار أقل مكانة في بلادة التي تنتظر منه أن يشهر سيفاً فإذا به يرفع راية بيضاء دليل عذريته وطهارته يديه في المواجهة، لتنبري المرأة تعدل في مقياس الجمال بعد أن غير الواقع مقياس فحولة الرجال، فتركت الحياء جانباً ما دامت المشابهة مع الرجل قد تحققت، ليرتفع صوت الأنوثة في المرأة بعدما خفت صوت الرجولة، وباتت القدرة على الصمت وتحمل العذاب مقياس رزانة الرجل واتزانه وحكمته، لقد أشهرت أنوثتها وهي تقول وكأن لا رجل أمامها سيستثار، ويثأر لكرامة الرجال المهانة:
هذه أنا
الممتدة جزراً مسكونةً
باللؤلؤ والمرجان,
وحبات النار.
هذه أنا التي طبعتْ شفاهكَ,
وكلماتكَ على جسدها,
ونسيتَ في غمرة انشغالكَ
أن تكتشفَ شامة على ظهري.
رغم ما يلف القصيدة هنا من مظاهر الشكوى والتظلم والتوجع والخوف من نكران الرجل، ومن إهماله، ومن نسيانه، إلا أنها مصرة في ذات الوقت على أن تتجرأ عليه، وتقوم بتذكيره بما طاب له من مذاق العسل الشهي الذي ما تنكرت له الشفاه، وكون الشاعرة تكرر جملة (هذا أنا المتجردة) إنه أسلوب تحدي للرجل، واستخفاف بصلاحيته التي نفذ مفعولها، فهي لا تستثير ذاكرته وذكورته، وإنما تؤكد صلاحيتها هي، وتجهزها على تطوير قدرتها على التجرد من خجل الماضي، (هذا أنا المتجردة) فيها دعوة مفتوحة للحبيب أنى يشاء كي يغتسل من حزن المرحلة، وفيها تحدي أن يستطيع نسيان تلك المرأة التي وثقت من كفاءتها الجنسية إلى حد أنها تؤكد أنها هي التي تركت شفاهه وكلماته مطبوعة على جسدها، هي التي تحولت بفعل الحب إلى طرف موجب، ولم تقف صامتة، أو سلبية، لم تنتظر، تجرأت وتجردت، وتجبرت في إغرائها، وفي ذلك تحذير من زمن النسيان، أو أنها ترفض النسيان، وتركت ما طبعة باقياً في الوقت الذي أنسى الموقف الانفعالي صاحب الحظ الهارب أن يتنبه إلى تفاصيل الجسد، وأن يتنبه إلى الشامة التي يجب أن تلفت نظر من يطبع القبل، وفي رأيي فإن ذلك مؤشر إلى كم السطوة التي تمتلكه المرأة على الرجل إذا أحبته، فهي الأم والأخت والبنت، والحبيبة التي غفا في حجرها وشرب من ماء شوق صدرها حتى الظمأ الدائم لها.
إن المرأة إذا عشقت ذابت، وإذا صدق عشقها أهلكت كأنثى النحل ذكرها بعد الوصل، أو أكلت كأنثى العقرب ذكرها بعد الوصل، رغم أنها تصرخ وتستغيث، وتنادي الرجل الذي يقدر لها هذا البركان الثائر، هي الأنثى التي تسقط الآن مطر الحب، وتنتظر الأرض التي تتقد معها بالنار، تحولت هذه الأنثى بالحب من متلقي وفق الفطرة إلى مرسل، لم تعد امرأة تنتظر من الرجل الاشتعال، هي التي تشعل النار، وبعد أن تصطلي بها، وتتلوى من دخانها، تنادي على الرجل كي يتدفأ، هي التي تدلق نارها عليه كي يذيب ثلج الطريق عن كتفيه، هذا اللون من الاحتراق جديد في الشعر العربي، والسبب وفق تقديري هو حالة العولمة التي افترشت حياة الجميع وتغطت به، وأذنت للمشاعر الإنسانية أن تتشاجر مع بعضها قبل العناق، لا بد من قوة واحدة تسيطر، قوة جبارة لا يقف في طريقها أحد، ولا تحدها الحواجز، قوة السلاح الفتاك الذي يحدد معالم المرحلة، لتوقد نار الأنثى، وتبعث فيها القوة بعد أن انطفأت نار ذكرها، ألم يفر من ساح المواجهة، وينطفئ؟ إذن على المرأة أن تشعله، وأن تستفز ذكورته، أو أن تنظر إليه بأحسن حال على أنه مثلها، في مرحلة سبقت من مراحل المجتمع الذكري، نحن الآن في حالة جديدة، فقد الذكر فيها مهمته بالسيطرة وحماية الظعن، وأخلى الميدان الخارجي للغزاة، فعندما انكفأ إلى البيت مهزوماً مهرولاً نافضاً يده من المرحلة، تجردت المرأة، وأشعلت نار أنوثتها، وإلا فسوف يظل بعلها منطفئاً، هنا تستغيث المرأة برجل له صفة الرجال، فقد عز الرجال، وهذا ما يدفعها إلى أن تصرخ بأعلى صوتها، مكررة:
هذه أنا المتجردة
المزروعة أمامك مسلة مصرية
فاكتب على ظهري قصيدة عمودية,
وعلى نهديّ قصيدة دائرية,
وعلى كفي نقوشاً سومرية.
فهي مزروعة مسلة مصرية، ولم تقتلع من تربتها، بل تضرب في عمق التاريخ، وظهرها جاهز لمن يكتب عليه قصيدة باللغة العربية، وفي هذا تذكر بما كان للمرأة الشرقية من دور في بناء المجتمع، ومقاومة الغزاة، وتذكر بالامتشاق، والرجولة الغائبة، فما زالت النقوش السومرية عالقة بكفها، ومع كل ذلك لم تخن أنوثتها، ولم تخن حبيبها الذي تنادي عليه؛ تعال نتمازج، كلانا واحد، منذ الآن لا فرق بيني وبينك، ولكي يتم انطفائي لا بد من ترتيب عودة اشتعالك، لا بد لأحد الاثنين أن يشتعل إذا انطفأ الآخر، وأن يصرخ إذا صمت الآخر، وان يحضر إذا غاب الآخر، لتقول له:
هذه أنا
فتعال نتداخل كما الليل والنهار,
ونتمازج حتى لا نميز الخيط الأبيض من الأسود.
أنا المتجردة
أحبني حتى يتم انطفائي,
أحبني حتى يعاد اشتعالي,
حتى يكتمل انفجاري,
أحبني حتى أتساقط حمماً بركانية.
أحبني حتى تطلع الشمس من مغربها,
وينشق القمر وتقترب الساعة.

في هذه الفقرة ثلاث عتبات تفضي إلى صالون الوجد المفتوح على مصراعيه:
العتبة الأولى تقول فيها: تعال، فإن جئت ذقت ما خبرت وما لم تخبره، تعال، فعل أمر يحمل مخزون الخوف الذي أفصحت عنه فيما بعد.
العتبة الثانية، ما ميز الفقرة من مفارقات تصويرية، في (مطلع ومغرب، وانطفائي واشتعالي، والشمس والقمر، وتطلع وتتساقط) وما في ذلك من دلالة على حالة الصراع التي تعيشها، وتعكس بالتالي التخوف من غروب شمس الحب التي تعطيها الضياء.
العتبة الثالثة، تكرار فعل الأمر (أحبني) وكأنها لن تسمح له بغير ذلك، هذا حب مسيطر على المعشوق وعلى العاشق، ولا يؤذن بطريق آخر ( حب متسلط، جارف، يكتسح من أمامه كل المعيقات، يدمر يسحق) ومن الحب ما قتل، ومن الحب ما يضيق عنه صدر المحب فيضطر إلى الصراخ، وهنا تصرخ الفتاة، وتطلب حباً غير عادياً، حباً يتجاوز المألوف من العلاقة بين الرجل والمرأة، حباً ليس محكوماً بزمن، إنه الإطلاق على مساحة الشهوة الفائرة على نار الجوى.