أسرار صاحب الستر
رواية
الجزء السادس

ابراهيم درغوثي / تونس

أيام النكد
يوم الغضب الأكبر.

بدأت تظهر على أميري بوادر ما كانت لتروقني ، فأنا أعرف مزاجه منذ أن كان صغيرا يحبو ، ثم كبر في حجري وترعرع أمام ناظري ، وها هو الآن سيد
العالمين . ولكنني لم أره عكر المزاج كما هو هذه
الأيام ، فحتى في فترة محنته حين كان عمه هشام يسومه سوء العذاب ، ما كانت البسمة لتغيب عن شفتيه أبدا . فقد كان الكدر والقلق من الممنوعات التي لا يؤمن بها . إلا أن الأمر تغيرت كثيرا هذه الأيام .فقد بدأ صاحب الشرطة يكثر من زياراته للقصر . وكان في كل مرة يأتي محملا بأكداس من التقارير ، فيختلي بسيدي مدة تطول دائما حتى هبوط الليل ولا يخرج من عنده إلا ومزاج الأمير قد تعكر فيكثر من الصياح والصراخ والسب والشتم .
البارحة مثلا ، أطرد كل الندامى ، وضرب جاريتين راقصتين ، وقلب أواني الشرب ، ثم اختلى بنفسه يتكلم ، ولا يرد على كلام أحد إلى أن كان منتصف الليل ، فخرج من وحدته
ناداني بالاسم ، وهذه واحدة من عجائبه ، وطلب مني أن
أحضر له نسخة من مصحف قرآن ، فارتبكت بعض الشيء لأنه ليس من عاداته قراءة القرآن بالليل . ثم تداركت الأمر بسرعة ، فطلبت مصحفا من الجامع الكبير .
بعد زمن ليس بالقصير ، وصل خادم يحمل مصحفا قدمته
للأمير ، فطلب ماء وتوضأ فأحسن الوضوء . ثم فتح المصحف ، فصادفته هذه الآية :
" واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ."
فتغير لون الأمير ، واصفر وجهه ثم ابيض وارتعشت أصابعه وبدأ في صراخ مجنون :
- انصبوا هذا المصحف على الشجرة المقابلة لمجلسي ، هناك بعيدا عني وآتوني بقوسي ونشابي
وامتثل الخدم للأمير ، فعلقوا المصحف على أغصان شجرة زيتون . وأقبل الأمير يرميه بالسهام حتى مزقه .
ثم أنشد :

أتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد .
إذا قابلت ربك يوم حشر فقل يا رب خرقني الوليد .

وبقي واجما مدة طويلة ، ثم قرأ :
تلعب بالخلافة هاشمي بلا وحي أتاه ولا كتاب ،
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي .
فاستغفرت الله في سري ودعوت له بالهداية والغفران . والتفت ، فإذا الجواري والغلمان والخدم ونساء القصر قد تجمعوا في الساحة القريبة يراقبون المشهد مفزوعين .
وكان الرعب قد عم المكان . وترقبنا أن تنزل علينا صاعقة من السماء أو أن يدك القصر زلزال .... والأمير
يمشي جيئة وذهابا في أروقة القصر لا يلتفت لأحد ولا يكلم أحدا . ثم انفجر بغتة يسب أبناء عمومته ويشتم قواد جيشه وصاحب شرطته ويتهدد بني هاشم وجماعة " الحزب القادري " بالسحق والمحق .
ونادى صاحب الشرطة ، فحضر في لمح البصر ، فطلب منه أن يحضر إلى القصر ابن عمه سليمان بن هشام مكبلا في الأغلال .
وعاد إلى التمتمة والسب والشتم :
- أولاد الكلب ، يطعنون في توليتي ابني " الحكم " و " عثمان " ولاية العهد ، لمن يريدونني أن أوليها إذن ؟ أما يكفيني ما فعل بي هشام الأحول حتى أترك إبني لغول آخر من أغوال بني أمية ؟
والله لن يكون هذا أبدا ، وسأركب الجميع رغما عنهم .
وظل على هذه الحال إلى أن وصل صاحب الشرطة مصحوبا بسليمان بن هشام ، فصاح الأمير في وجهه :
- هيه ، أما كفاكم ما فعل بي أبوكم يا أولاد هشام حتى تحرضون علي الخلق وتشتمونني في الأسواق ، وتتحالفون ضدي مع أبناء عمكم الوليد ، وفي أعناقكم بيعتي .
والله سترون مني العجب يا طينة الكلاب .
ثم أحضر الجلاد ، فطلب منه أن يحلق لحية ورأس سليمان ، ثم أمره بجلده مائة سوط على مرأى من نساء القصر .
فانهالت السياط على الجسم الرقيق . وسال الدم ممزوجا بمزق من اللحم على الأرض .
وسمعت من خلال زفير الجلاد وأنين سليمان ، صوت الأمير مزمجرا :
لا أريد أن أرى بعد اليوم خلقة الكلبين سليمان وأخيه يزيد أمامي في دمشق .
أحبسوهما بعيدا في غور الأردن .

يوم الندامة .
واستمرت أيام النكد ، فقد طلب مني الأمير أن أغلق أبوابه في وجوه كل أصحابه وأن لا أستثني إلا " القاسم بن الطويل العبادي " فهو لا يمكن أن يستغني عن صحبته
أبدا .
وصار الأمير يسهر الليل كله مع هذا الرجل ، فيشربان المسكرات حتى يخرجا عن طوريهما ، والأمير يستفتي هذا الرجل في أمر الدنيا والدين فيفتيه بما يرضيه .
وهكذا فرق الأمير بين روح بن يزيد وزوجته ، ورمى إخوته في الحبس . وضيق الخناق على يزيد بن الوليد لأنه رأى ميل الناس إليه ، هو المتعبد ، الزاهد ، المتنسك ، فوكل به صاحب شرطته فصار يؤذيه .
والتفت إلى الحزب القادري ، فبعث عيونه في كل مكان يترصدون أخباره ويخترقون تنظيماته ويقتلون أتباعه
ويرمون بالبقية في السجون والمعتقلات .
والعبادي يسطر القوانين والأوامر ، والوليد ينفذ .
وكان كلما أفاق من سكرته ، سأل عنه إلى كان يوما لا كبقية الأيام . يوم سأل فيه الأمير عن صفيه ، فما وجده .
وكأنما كان في ترقب هذه الساعة منذ بدء الخليقة ، فغضب كما لم يغضب من قبل وصاح بغلام كان واقفا على رأسه :
إأتني برأس القاسم بن الطويل العبادي يا سبرة .
ظل الغلام واقفا في مكانه لا يدري ما يفعل إلى أن فتح الأمير عينيه فوجده قائما كالصخرة الصماء فرماه بقارورة فارغة أدمته . وألح في طلب رأس العبادي .
نظر الغلام وراء الستر فرآني أتابع ما يدور بينه وبين الأمير ، فطلب مشورتي . لكنني تعاميت عنه وعن مشورته لأنني في دخيلة نفسي أكره هذا العبادي كرها شديدا لما رأيت من ملازمة الأمير له واستماعه لمشورته دون العالمين ، فتحركت في نفس الغلام الشهوة إلى الدم ، فذهب يطلب رأس الفريسة .
وجده في حانة غير بعيدة عن القصر يسكر مع جماعة من أصحابه ، فاستل سيفه من غمده ، وببرودة القاتل المحترف وضعه على رقبة الرجل واحتز رأسه ، ثم وضع الرأس في طست ، والدم مازال يشخب منه وترك بقية الجثة في مكانها ومضى في حال سبيله أمام دهشة الجميع . فمن يقدر على الكلام مع غلام أمير المؤمنين ؟
عندما وصل سبرة القصر ، كان الأمير نائما ، فوضع

الطست أمام سريره ، وعاد يقف في مكانه ، إلى أفاق من نومه فسأله عن العبادي فأراه الغلام الطست برأسها الملطخة بالدم .
كانت العينان المفجوعتان بالموت المفاجئ تبحلقان في وجه الأمير برعب اندهش له وأفجعه . فسأل عن الخبر ، فعرفه الغلام ما جرى ، فندم على ما فرط منه . ثم قام واقفا وانهال برأسه على حائط المجلس إلى أن سال منه الدم غزيرا . وطلب سبرة ، فهرب منه . وألح في طلبه ، فلم يجد له أثرا . فدخل مقصورته وهو يردد :
- والله لا أبالي متى جاءني الموت بعد الخليل ابن
الطويل .
ونام مع كوابيسه حتى المساء .


يوم القصاص .

صباح هذا اليوم ذهبنا إلى المقبرة . كان الجو كئيبا جدا ، فقد هطلت الأمطار بغزارة لم نعتدها في هذه المدينة ، وعصفت رياح شديدة اقتلعت في طريقها حتى الأشجار المعمرة من عهد الرومان . ونزل البرد كثيفا ، مما أخر موكب دفن الأميرة " سلمى " ، زوجة أمير المؤمنين الوليد بن يزيد .
سلمى الجميلة تذهب هكذا بدون استئذان وترحل على القصر ، والقصر في أشد الحاجة إليها .
تذهب سلمى لتترك الوليد لفاجعة أخرى لم يحسب لها حسابا . فاضطربت أحوال القصر وصاحبه اضطرابا شديدا لأنها كانت زهرة بستانه وعندليب أغصانه . فهي الملاذ الأخير الذي كان الأمير يعود إليه كلما أغلقت في وجهه أبواب الرحمة .
لكل هذا رفض الأمير تقبل التعازي فيها .
قال : سلمى لم تمت ، فلا تتعبوا أنفسكم في تقديم العزاء

فيها .
وعاد إلى القصر على قدميه . وما أن وصل حتى نادى
رئيس الشرطة وقائد الحرس الأميري ، وقائد جند الخليفة ، ومجموعة كبيرة من الجواسيس ، وطلب منهم وصوته يعلو
شيئا فشيئا مهددا متوعدا أن يأتوه حالا ب"الموت ".
لا يهم " قال لهم ، جيئوني به حيا أو ميتا .
ابحثوا عنه في كل مكان ،
في شقوق المقابر ،
فوق أسرة المرضى ،
داخل القبور ،
في عيون الأطفال المحتضرين ،
تحت عكاز شيخ ،
في سيف الجلاد ،
بجانب حبل المشنقة ،
تحت أسوار المقبرة ،
المهم أن تجدوه وأن تعودوا به إلى القصر ، مهانا ، مكبلا بالأغلال والأصفاد .
ثم وضع رأسه فوق كفيه ، واتكأ بمرفقيه على خديه ، وأجهش بالبكاء .
فبكى كل من كان في القصر .
ولم يهدأ البكاء والعويل إلا عند منتصف الليل .
فما أتعسك يا أميري وما أتعس حالك هذه الأيام .
قبل سنوات ، عندما كانت أيامك زاهية ، وأنت ولي
للعهد ، طلقت أختها " سعدة " ، فأغضبت بطلاقها الأقربين من أهلك . ثم سعيت إلى " سلمى " ، شقيقة لروحك كما كنت تقول .
عشقتها من النظرة الأولى حين جاءت تزور أختها
" سعدة " في قصرك ، فعلقها قلبك وتمكنت من شغافه . وترقبت موت أبيك لتسعى إليها سعي التقي إلى ربه والمؤمن إلى معبده .
جعلتها قبلتك وصليت نحوها ، فشغلتك عن صلاتك الأخرى . وصرفتك عن صيامك وحجك ، فطفت بها ساجدا راكعا .
حولتها يا مولاي إلى كعبة ، كالكعبة .
وما كنت تشبع من حبها أبدا .
ترقص لك الجواري ،
ونغني لك المغنيات ،
ويطبل لك المطبلون ،
ويزمر لك المزمرون ،
ويضحكك المهرجون ،
ولكن نظرة واحدة من " سليمى " تساوي كل هذا ، وتزيد .
عندما طلقت " سعدة " ، وهي من هي مكانة ورفعة على العالمين ، قلت :
- هذا الفؤاد لا يتسع للأختين .
واخترت " سلمى " ، فردك أبوها .
قال لك معنفا ، وعمك أمير المؤمنين " هشاما " يحرضه عليك :
- أتريد مني أن أجعلك فحلا لبناتي ؟

ثم أضاف :
- والله لن تشم صخابها يا ولد .
فقلت له :
ومن يك مفتاحا لخير يريده
فإنك قفل يا سعيد بن خالد .
وعدت تطلب " سعدة " ، فنفرت منك وتزوجت عدوك وابن عمك بشر بن الوليد لتزيد في عذابك . وهجت إلى مدينة رسول الله حتى لا تطالها يدك .
وتركتك لأحزانك ،
تشرب الخمر ، فلا تسكر .
وتنظم فيها الأشعار ، وتبكي ...
ولا من يرحم بكاءك وتحنانك .
ما أشقاك يا أمير المؤمنين : عذاب عمك هشام ينخر
قلبك ، وذكرى سعدة تذبحك ، وحبك لسلمى لا يبقي ولا يذر . حتى أنك قلت ، وقد اشتدت عليك ضربات اليأس :
- أنت طالق بالثلاث يا سلمى لو تزوجتك بعد موت عمي
هشام .
ثم تعود عن يمينك .
تبحث لك عن أعذار وفتاوى ، فتجد من يفتيك في أيمانك ويجد لك آلاف الأعذار .
فتطمع في رؤيتها والنظر إليها ولو من بعيد .
أذكر مرة كيف بلغك " عيونك " أنها في زيارة لقصر
والدها بالفدين قريبا من دمشق . واستعلمت عن والدهافقيل

لك أنه خارج القصر .
فقلت لي : هيا بنا لعل ربك ييسر لي لقياها .
وبعث لك ربك بائع زيت ، فأبدلته ثيابك بمسوحه وحصانك بحماره ، ودخلت القصر تبع الزيت وتنادي :
من يشتري زيت هذا الفقير ؟
لمن أبيع قلب هذا المعنى ؟
فعرفتك سلمى ، وطردتك الجواري .
فربحت ، وأنت الخاسر .
ثم يموت هشام ، فتشرق لك شمس الهناء وتحوز سلمى في قصرك سلطانة على عرش قلبك .
ولكن الموت يخطفها منك ...
فخسرت وأنت الرابح .

يوم المؤامرة .
أخيرا اجتمع زعماء " الحزب القادري " في المنزل الذي كان على ملك صالح بن سويد ، وتباحثوا في الأمر
طويلا .
قال واحد منهم إن الوليد عند حسن ظننا به ، فلم يطلق الأسرى ، ولم يكف عن ملاحقة أتباعنا ، ولم يعدل بين العرب والموالي . بل فعل أكثر من ذلك ، فقد مد يده
ل" حزب الجبر" ، وعاد لسيرة أجداده . وإنه لم يتبع خطى مولانا " غيلان " إلا يوما واحدا ، ثم حاد عن الطريق القويم . لهذا وجب قتله ، فلن ينفع سكوتنا عنه في شيء .
ودامت الخصومة بين أصحاب هذا الرأي وحزب " العميان والبرصان والمجذومين والعرجان " طويلا . فدافع أتباع هذا الحزب عن الإامتيازات التي تحققت لهم في هذا " العهد السعيد " ، عن طيبة قلب " أمير المؤمنين " ، وكيف أنه لم يدع واحدا منهم للفقر والخصاصة ، ومتعهم بمن يقود خطاهم في ظلام الأبدية الطويل . وأكدوا أنهم سيقفون كالأسوار العالية المنيعة في وجه من تخول له نفسه الأمارة بالسوء بالاقتراب من سيدهم .
وأنهى زعيمهم مداخلته بنشيد وطني يمجد خصال الخليفة ، الوليد بن يزيد .
ورأى البقية أمام بداية تصدع " جبهة الخلاص والإنقاذ " أن لا فائدة من مواصلة الحديث ، فتواعدوا على لقاء آخر وفي نيتهم نقل الاجتماع إلى مكان ثان لن يقدر العميان على الوصول إليه . وشددوا على أن لا يحضره سوى الأعضاء العاملين في " الحزب القادري " .
فكان لهم ما أرادوا :
اتفقوا على الثورة على الأمير الفاسق الذي خان وصايا مولاهم " غيلان الدمشقي ". واختاروا من بينهم وفدا طلبوا منه الاتصال بالأمير الثائر " يزيد بن الوليد " على أن يكون هذا الأمير غطاء يحكم من ورائه الشعب نفسه بنفسه ، خاصة بعد أن تيقنوا أنه يعتنق مذهبهم ويقسم بخروجه من ملة الإسلام إن لم يساو بين العرب والعجم والعبيد
والموالي .
وصار الظن يقينا بعد أن زار الوفد الأمير خلسة ، فوجد أنه يعلق فوق رأسه صورة للخليفة العادل " عمر بن عبد العزيز " . فبدأوا من يومها في الدعوة ليزيد بن الوليد ،
وفي تكديس السلاح ، وفي شراء ذمم الناقمين والغاضبين والعبيد وكل من يقدر على حمل السلاح .
ونشط الخليفة الوليد بن يزيد في مقاومتهم ، فبث عيونه في كل مكان ، وشدد الحصار على يزيد بن الوليد ، وأرغمه على الإقامة في بيته ، ومنع عنه الزيارة ، وفكر في إعدامه بتهمة التآمر على أمن الدولة كما نصحه بذلك خلياه " القاسم العبادي " قبل وفاته .
ولكن مشيئة ربك كانت لها وجهة أخرى .
وهل الإنسان غير ذلك العبد المسكين الذي لا حول له ولا قوة أمام إرادة الرب القاهرة ؟ على رأي أصدقاء دولتنا وفقهاء أمتنا أصحاب " حزب الجبر " .
فقد اجتاح الطاعون عاصمة الخلافة ، فأهلك خلقا كثيرا . وخاف الأمير من هذا الوباء ، فهرب من دمشق . وتشتت أولاد مروان في كل مكان من بلاد الشام ، فاستغل أنصار " الحزب القادري " هذه المحنة للقيام بعملية انقلابية على الخليفة .
و كان لهم ما أرادوا ، بعدما جيشوا الجيوش وحرضوا على قتل أمير المؤمنين .
ولم يكتفوا بالقتل ، فقد تحدثت الإشاعات هنا في دمشق على أن واحدا من الانقلابيين أدخل رأس سيفه في أست
الأمير .
ثم نصبوا مكان الخليفة " الوليد بن يزيد الأموي " ،
" يزيد بن الوليد الأموي " .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
ولا حول ولا قوة إلا بالل


خبر من كتاب " الكامل في التاريخ "
وثيقة شعرية
دعوا لي سليمى والطلاء وقينة وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج وعانقت سلمى ما أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ثباتا لا يساوي ما حييت عقالا
وخلوا عناني قبل عير وما جرى ولا تحسدوني أن أموت هزالا

الوليد بن يزيد الأموي


... فلما دخل القصر ، وأغلق الباب ، أحاط به عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ، فدنا الوليد من الباب وقال :
- أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء : أكلمه ؟
قال يزيد بن عنبسة السكسكي : كلمني .
قال : يا أخا السكاسك ، ألم أزد في أعطياتكم ؟ ألم أرفع المؤن عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم زمناكم ؟
قال : ما ننقم عليك في أنفسنا ، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم
الله ، وشرب الخمر ، ونكاح أمهات أولاد أبيك ، واستخفافك بأمر الله .
قال : حسبك يا أخا السكاسك ، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت ، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت .
ورجع إلى الدار ، وأخذ مصحفا فنشره يقرأ فيه وقال :
يوم كيوم عثمان .
فصعدوا على الحائط ، وكان أول من علاه ، يزيد بن عنبسه ، فنزل إليه ، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه . فنزل من الحائط عشرة منهم منصور بن جهور وعبد السلام اللخمي والسندي بن زياد بن أبي كبشة . فضرب السندي الخليفة على وجهه ، ثم احتزوا رأسه

وسيروه إلى ابن عمه يزيد بن الوليد .
فأتاه الرأس وهو يتغدى ، فسجد .
وحكى له يزيد بن عنبسه ما قاله للوليد . وأن آخر ما سمع منه :
" الله لا يرتق فتقكم ، ولا يلم ثعثكم ، ولا تجتمع كلمتكم . "
فأمر يزيد بنصب رأسه . فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة :
- إنما تنصب رؤوس الخوارج ، وهذا ابن عمك وخليفة ، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ويغضب له آل بيته .
فلم يسمع منه ، ونصبه على رمح فطاف به دمشق . ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد . فلما نظر إليه قال :
- بعدا له . أشهد أنه كان شروبا للخمر ، ماجنا ، فاسقا ، وقد أرادني في نفسي .
وكان سليمان ممن سعى في أمره .
وكان مع الوليد ماك بن أبي السمح المغني وعمزو الوادي المغني أيضا ، فلما تفرق عنه أصحابه وحوصر قال مالك لعمرو :
- اذهب بنا .
فقال عمرو :
- ليس هذا من الوفاء ، نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل .
فقال مالك :
- والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد فبلي وقبلك ، فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس ، انظروا من كان معه في هذه الحال ، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا .
فهربا ...
وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة .

وكانت مدة خلافته سنة وثلاث أشهر ، وقيل سنة وشهرين واثنين
وعشرين يوما .
وكان عمره اثنتين وأربعين سنة ، وقيل قتل وهو ابن ثمان وثلاثين
سنة ، وقيل إحدى وأربعين سنة ، وقيل ست وأربعين سنة .
والله أعلم .


الكامل في التاريخ
المجلد الخامس
ابن الأثير
