حدثنا مفجوع الزمان الجوعاني ، وهو من ضحايا القمع المجاني ، فقال : بين تزوير الحقائق وحقائق التزويرْ ، طرحت أسئلة الحاضر والمستقبل والمصيرْ ، وتأملت في الماضي وشهادات من عاشوه بقلب مريرْ ، فما وجدت للأمل فسحة بالحق تستنيرْ ، وما ألفيت للحق طريقا به يسيرْ ، ونقبت فيما حولي من دراسات وتحقيقات وتقاريرْ ، فرأيتها تطرق أبواب التنبيه والتحذيرْ ، وتكشف عورات بلد يأبى حروف التغييرْ ، وتفضح حبل الكذب والكذب حبله قصيرْ ، ولما وجدتني أمام بحر فيه الغارق بالميت يستجيرْ ، أرخيت سمعي علني أسمع خيرا عبر الأثيرْ ، فأصغيت جيدا لكل حركات الشهيق والزفيرْ ، وتتبعت بحرص عبارات المجاهيل وإشارات المشاهيرْ ، فما تلقفت أذناي إلا يأسا يطغى على التعابيرْ ، و سخطا ينطق به الكبير والصغيرْ ، وغضبا يستعر في بيت كل فقيرْ ، وتكذيبا لكل شعار من فوقه وعود ترفرف وتطيرْ ، وما سمعت إلا إجماعا على أزمة علينا جميعا تغيرْ ، واتفاقا على وضع جد جد خطيرْ ، وذما للحال أشد وأبلغ من ذم الفرزدق لجريرْ ، .... ولأنني لم أفهم ما يدور ويجرِي ، ولم أستطع كظم غيظي بصبرِي ، لعنت الظلام الذي في عروقي يسرِي ، وخرجت من داري الشاهدة على بؤسي وقهرِي ، واتجهت نحو مجمع خلي وصاحب عمرِي ، ابن أبي الرعاية الحمرِي ، صاحب حكاية " وجوه الخبز القسرِي " ، فألفيته في سوق الجبر الكسرِي ، يتوسط حلقية مليئة بالبشرْ ، يحكي للناس بما لذ وطاب من أثرْ ، ما يخفف عنهم هول الحر وكوارث المطرْ ، وما إن رآني أطيل النظرْ ، حتى ترك ما بين يديه من خبرْ ، وتأسف عن عدم إكمال حكايته واعتذرْ ، ثم قال وكأنه فهم ما جال بالخاطر واستقرّْ ، : << لسان الحال أبلغ مما تأتي به الدفاترْ ، ودوام الحال محال يا عبد القادرْ، وعند الشدائد يعرف الرجل الماهرْ ، وعلى الباغي تدور الدوائرْ ، ووعزة الله الواحد القاهرْ ، إنه لمجنون بل هو خاسرْ ، من ظن في يوم عابرْ ، أن حجب المواقع سيحجب الواقع الحاضرْ ، ويمنع وصول الحقيقة للأحرار بشكل مباشرْ ، وإنه لجاهل ومغفل وغافل ومتكبرْ ، من حسب أنه بالقمع على العقول سيسيطرْ ، وأنه بالضحك على الذقون للشؤون سيسيرْ ، وأنه بحروف التسويف وحركات التخويف لمصير الشعب سيقررْ ، فما بالقمع تتقدم الدول والأمصارْ ، وما بالفلاح والنجاح تأتي سياسات الهبل والإستهتارْ ، وما بالنفع تجيئ أساليب الحجب والحصارْ ، وقد أسمعت من لسماع الحق في هذه الحياة يختارْ ، لكن لا حياة لمن تنادي في عز النهارْ ، ولا حياء لمن تقلدوا زمام الأمور في هذه الأقطارْ ، فإن تعجب لهم فالعجب منهم يحتارْ ، وإن تبكي فقد جفت الدموع من هول الأخبارْ ، وإليك مني ما يسبر بعضا من الأغوارْ ، واصبر لعلقمها وإياك ثم إياك أن تنهارْ ...
بلدي يا مفجوعا لخيبات الآمال يجترّْ ، بلد إذا تكلمت عنه فتذكر الخط الأحمرْ ، وإذا ما رمت وصفه فاستخذم اللون الأصفرْ ، وابتعد عما يريدونه أن يُغـبرْ ، ولا تفضح أمرا يجلب عليك أخطارا لا تعد ولا تحْصرْ ، يضمن لك عيشا بالذل والبؤس والحرمان يزهو ويفخرْ ، ويتلو على قبر حياتك " إن أعطيناك الكوثر ْ " ، ....
بلدي يا سيدي فيه إبليس ينهى عن المنكرْ ، والجاهل يستفتى في اليابس والأخضرْ ، والرويبضة يفتي بلا علم يذكرْ ، والعالم يخرس ويمنع من صعود المنبرْ ، والداعية يشمع بيته ويعنف ويُنذرْ ، فلا تستغرب إذا رأيت غسيل الجهل علينا يُنشرْ ، ولا تتعجب إذا رأيت العلم بيننا يشنق وينحرْ ، والكلام عن ذا الأمر ممنوع يسدل عليه الستار ويسترْ ، وإذا ما أردت النقد بصراحة للخوف تقهرْ ، فاعلم أن " شانئك هو الأبترْ " ...
بلدي بلد بلا موازين يسيرْ ، فيه تنشط جمعيات تهتم بالحميرْ ، ويرخص لأحزاب الهمم الخاوية في وقت يسيرْ ، وتعلو قممه رايات للأباطيل تديرْ ، حين تراها يرتد عليك البصر وهو حسيرْ ، العدل غائب عنها فلا هو في العير ولا هو في النفيرْ ، والنزاهة لا تسأل عنها كيف تصيرْ ، والعبث منه كل عقل سليم يستطيرْ ، والطبقية سيدة عندنا تسود على رغم أنوف الجماهيرْ ، فعشرة يملكون الشجرة بما أثمرت من خير وفيرْ ، ويتحكمون في الملايير ويبذرونها أبشع تبذيرْ ، وحصة الشعب من الشجرة جزء من قطميرْ ، وتلك مفارقة من مفارقات وطن لا يرحم البائس والفقيرْ ...
بلدي يا أخي موازينه لواحة للبشرْ ، مهرجانات لا تبقي ولا تذرْ ، عنوانها ضحك على من غاب واستغفال لمن جاء من النفرْ ، بالأمس نهبت ملايين الشعب الأبرّْ ، وقتلت اجتهاد الطلبة والتلاميذ بليالي السمر والسهرْ ، وقالت ذاك قضاء وقدرْ ، واليوم تحولت إلى جحيم وسقرْ ، أزهقت الأرواح مع اقتراب السحَرْ ، وحين سألنا قالوا الذنب ذنب من حضرْ ، والله يرحم الأحد عشرْ ، كذاك يشفي من له قلب أو عظم بغير قصد انكسرْ ، ....
بلدي يا صاحب النظم المنثورْ ، فيه جامعات يتخرج منها المجاز والدكتورْ ، وعاصمة يلتقي بها طلبة العلم المنشورْ ، ليأخذوا نصيبهم وحظهم الموفورْ ، عصي يلوح بها كل عبد مأمورْ ، ليكسر العظام والجماجم التي على ظلم السياسة التعليمية تثورْ ، وليحول الشهادة العلمية إلى شهادة بالدم تفورْ ، أو إلى ورقة تحمل حاملها إلى حفر القبورْ ، وتأمل معي ثم اسأل بصوت مستورْ ، ما ذنب المتخرج وما حجة المأمورْ ...
بلدي يا سائلا عن المحذورْ ، قوانينه قديمة قدم السنين والشهورْ ، قيل أنها جمعت في كتاب يدعى الدستورْ ، وهو مؤلف صاغه أصحاب الحال لحماية ما لهم من بطون وظهورْ ، فصوله تأبى فواصل التعديل وما يلفها من قشورْ ، وبنوده خطوط عريضة الطول غريبة بما تحويه من أمورْ ، لو عدل بما يرتضيه الشعب من غير بهتان أو زورْ ، لكنا ننعم بالخير والهناء والسرورْ ، لكن تجري الرياح بعكس ما تشتهيه سفن هذا الشعب المغمورْ ، ويبقى الوضع بما يتناسب مع كل مختال وفخورْ ....
بلدي يا أيها الخل الصابرْ ، ديموقراطيته عرجاء تسوء السرائرْ ، أساسها انتخابات صورية عليها التزوير ساهرْ ، والفساد في مراحلها جلي وظاهرْ ، أما الحكومة التي بها المخزن يفاخرْ ، فهي مشلولة مشوهة تشكو غياب الضمائرْ ، دورها تلقي القرارات وتنفيذ الأوامرْ ، وما بين التشريعية والمحلية عزوف وابتعاد قاهرْ ، يعرف أسبابه الصبي قبل السياسي الشاطرْ ، ... لقد فهم الشعب اللعبة وشعبي ليس بقاصرْ ، وهاهو يدفع ثمن الفهم بالمباشر ...
بلدي يا عبد الستارْ ، بلد شعبه جبارْ ، فيه الصالحون وفيه الأشرارْ ، فيه الأبرار وفيه الفجارْ ، فيه عسل وفيه قارّْ ، فيه جنة وفيه نارْ ، فيه قصور وناطحات سحاب وفيه بيوت من قصدير وشقق من طين وفخارْ ، فيه برد وسلام وفيه بركان وإعصارْ ، فيه خلايا نحل مستيقظة وفيه خلايا نائمة بالصوم كما بالإفطارْ ، فيه باطل لكن ليس فيه حق يستشارْ ، فيه وزير وأمير وسفير ومدير وسكرتيرلكن ليس فيه مستشارْ ، فيه جار ومجرور وقاهر ومقهور وآمر ومأمور لكن ليس فيه من يجيد صنع القرارْ ، فيه من كل المفارقات ما يفوق حدود الإعتبارْ ، وبه من المتناقضات ما لا تصدقه نفوس الأحرارْ ، وعليه توجد أضداد تشيب لها الولدان لما تحمل من خبايا وأسرارْ ....
في بلدي تغيب النصيحة لله وللرسول وللأميرْ ، وتلك مصيبة جلبت وتجلب علينا كل أمر خطيرْ ، وفيه يولى الرجال المسؤولية من غير معيار أو تقديرْ ، وتلك كارثة نتربع بها دوما على عرش الصف الأخيرْ ، وفيه تسرق الخيرات الكبرى ولا يلقى اللصوص سوء المصيرْ ، وذاك أمر يغضب الأنفس ويؤلب والله كل جمع غفيرْ ، وفيه ما ذكرت وما تعرفون وما خفي أعظم من هذا العرض الضريرْ ...
في بلدي إذا تكلمت عن الفساد والإفساد بالليل أو بالنهارْ ، فلأنني على هذا البلد الجميل أغارْ ، ولأنني للنور لا للظلام أختارْ ، ولأنني أبتغي عيشة الأحرارْ ، وإذا تكلمت عن الداء دون دواء يزيل الأعراض والأضرارْ ، فسأكون كمن يحمل على ظهره حملا من الأسفارْ ، أو كمن لا يتقن إلا صناعة الأصفارْ ، والحل في نظري كما في نظر بعض الأخيارْ ، هو فتح حوار يتبعه حوار وحوارْ ، يستدعى إليه كل من يريد الإبتعاد بالبلد عن سياسات الخوارْ ، ويشارك فيه كل من يخشى على البلد من الجرف الهارْ ، حوار أمام أعين الشعب لا خلف كواليس الستارْ ، توضع فيه النقط على الحروف من غير استهتارْ ، وتناقش فيه كل القضايا من غير حصر أو اعتذارْ ، وتوصف فيه الحلول المعقولة بعيدا عن أسطوانات الإجترارْ ، أما غير ذلك فلن يعود علينا إلا بالوبال والخسارْ ، ولن نكون إلا كمن يمثل مسرحية بئيسة الأطوار خبيثة الأدوارْ ، عنوانها التكرار والتكرارْ ، وتفاصيلها شديدة الإحمرارْ ، ونهايتها مآسي تعجز عن وصفها تقنيات الإشهارْ ، وهذا ما لا نرجوه لبلد ينتسب لطه المختارْ .
المفضلات