نظرية العولمة في فكر إقبال
د . إبراهيم محمد إبراهيم
بالنظر إلى مصطلح " العولمة " من الناحية الثقافية يتبين لنا أنه قد ينطوي على ثلاثة مفاهيم ، أولها : توحيد البشر جميعا في عالم واحد بدين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة ، وهذا المفهوم مستحيل التحقيق ، لأنه مخالف لأصول الفطرة البشرية،إذ أن البشر مختلفون في أصل الخلقة باعتبار العرق والجنس والدين واللغة والثقافة وغيرها .
والمفهوم الثاني هو فرض ثقافة وحضارة ودين ولغة واحدة ، ومثل هذا المفهوم لا يمكن قبوله ، وإن كتبت له السيادة لزمن بفعل القوة والعنف والضغوط المختلفة . وأما المفهوم الثالث فهو أن تطرح كل الثقافات والحضارات واللغات ، بل وكل الأديان على ساحة الفكر الإنساني ، فيسود منها ما يحمل بين طياته عوامل البقاء والخلود ، ويتبوأ الآخرون المكانة التي تليق بهم علي ما يكمن فيهم من هذه العوامل دون التدخل بقوة أو عنف أو ضغط لنصرة أي منها ، وهو مفهوم خيالي بقدر مثاليته ، فإن البشر بأصل خلقتهم يميلون إلى ما يخصهم ، أو يتعلق بهم ، ويتعصبون له ، حتى وإن لم يكن مستحقا لأي تعصب أو اعتزاز ، وبالتالي سيعمل كل على حماية فكره ولغته وحضارته ونشرها بقدر ما يملك من قـوة وطـاقة ، مما يـؤدي – في النهاية – إلى تصادم وصراع قد يورد البشرية – في النهاية – مورد الهلاك .
لكن المفهوم الذي نتمنى أن يشمله مصطلح العولمة ويعبر عنه هو المفهوم الذي ورد في الآية الكريمة : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " . بمعنى أن يكون التعارف والتفاعل والتقارب هو الهدف الأساسي للعولمة ، مع التسليم بالاختلاف والفردية والخصوصية ، حتى تقل العداوة والبغضاء ، وينزوي الغرور والتكبر ، وينعم البشر بحياة تملؤها المودة والإخاء ، ولا ندري إن كنا في قولنا هذا حالمين خيـاليين ، أم أنـه من الممكن فعـلا تحقيـق هـذه الأمـور كلها ولو بنسبة من النسب ؟ .
لقد فتح المسلمون – من بين ما فتحوا – شبه القارة الهندو باكستانية أواخر القرن الأول الهجري ( 712 م ) ، واستمر حكمهم للبلاد حتى عام (1857م ) ، أي ما يزيد على ألف عام ، ولم يذكر لنا التاريخ أية محاولة من قبل حكوماتهم المتتابعة تجاه فرض دين ولغة وحضارة المسلمين عنوة ، بل إن التاريخ يذكر أن من دخل في الإسلام من أهل هذه البلاد دخل فيه عن رضى وقناعة ، وهذا يفسر لنا القلة العددية للمسلمين فـي شبـه القـارة الهندو باكستانيـة عند نهايـة الحكـم الإسلامي لها عام 1857م ، رغم استمرار هذا الحكم أكثر من ألف عام تقريبا كما سبق أن أشرنا ، ذلك أن الفاتحين المسلمين كفلوا – بقوة عقيدتهم ومدنيتهم – دخول شعوب البلاد التي فتحوها في ملتهم دون إرهاق أو عنت ، والإقبال على حضارتهم ، بل والعمل على ازدهارها في همة وعناية على ما قال به المؤرخون المنصفون من غير المسلمين ، وفيهم الهنادكة ، ولذا تحقق الجانب الحسن من مفهوم العولمة داخل هذه البلاد - التي تمثل عالما بذاته - في عصر الحكـم الإسلامي لها ، وعلـى الأخـص في عصر الدولـة المغوليـة ( 1500م - 1857م ) حين تفاعلت الحضارة الإسلامية مع الحضارة الهندية ، وقدمت لنا نموذجا حضاريا جديدا تبناه أهل البلاد ، وتمثل في فن العمارة المغولية ، واللغة الأردية .
وقد استشعر إقبال مخاطر العولمة هذه قبل أكثر من خمسين عاما من ظهور مصطلح العولمة ، وذلك لأنه عاش في بلد أشبه ما تكون بنموذج يمثل العالم بأكمـله ، حيث تضم هذه البلاد أديان وثقافات وحضارات مختلفة ، ورأى إقبال بعينه المحاولات المستميتة من الهندوس – وكذا الإنجليز - للقضاء على المسلمين ، ولفرض دينهم وثقافتهم وحضارتهم عليهم ، ولهذا شعر بخطر يواجه هؤلاء المسلمين وهو خطر الذوبان في الأغلبية الهندوسية ، وفقدان الهوية ، ولذا فقـد قـدم فكرا وفلسفة كان هدفها الرئيسي هو الحفاظ على الشخصية المسلمة ، وخلق مجتمع مسلم قوي يستعصي على الزوال والفناء ، وفحوى هذه الفلسفة هو أنه لا بد من تربية الفرد تربية صحيحة حتى نستطيع أن نخلق في النهاية مجتمعا طيبا ، فإذا ما تم ذلك كان على المجتمعات المسلمة المتناثرة هنا وهناك أن تتحد وتتفق حتى تستطيع أن تصمد في هذا العالم ، وتثبت وجودها ، وتدافع عن كيانها ، لأن كل هذه المجتمعات تكون – في الحقيقة – أمة واحدة يربطها دين واحد وثقافة واحدة حتى وإن اختلف النسل والعرق ، فأسس الاتحاد والأخوة قائمة :
أنا أعجمي الدن لكن خمرتـي صنع الحجاز وكرمها الفينان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهـم لكن هذا الصوت من عدنان
وهذا الاتحاد في رأي إقبال لا يتأتى إلا بتحرير الأوطان والنفوس والعقول أولا :
الخطوة الأولى لنهضـة أمة تحريرهـا بالعزم والإصرار
لو أمكن التطهير أمكن بعده أن يسهل التعمير للأفكـار
ويتوازى العمل مع تحرير الأوطان والأنفس ، ومن هنا كان للعمل أهمية كبرى في شعر إقبال ، فنراه يحض عليه ، ويدعو إليه :
وبالأعمـال دنيا الناس تبقى جحيما للخلائق أو نعيما
فكن في غرسها النامي ربيعـا وأرسل في حدائقها النسيمـا
ولكي يؤتي العمل ثماره ، وتثبت القوة ولا تزول ، لا بد من العدل ، فهو أساس الملك :
ضياع الأمن في شرق وغــرب شيوع الفرق في عبد ومولــى
عقاب الفطرة العليا أليــــم إذا لم تحسنوا في الناس عدلا
إن إقبال يؤمن إيمانا تاما بعدالة الإسلام وصدقه ، وأن حضارته هي الباقية ، لأنها حضارة السماء ، وتكمن بداخلها عوامل القوة والسيادة ، لأنها هي الحق ، والحق لا بد أن يسود في النهاية ، ويرى أن الحضارة الغربية وإن اشتملت على بعض الجوانب الحسنة ، لكنها خلت من عوامل البقاء والدوام ، لأنها حضارة تخلو من الروح ، وقبلتها هي المادة ، ولهذا فإنها لا بد زائلة وإن بدت براقة لامعة . إنها حضارة قائمة على المساواة بين الحلال والحرام ، والخداع والاعتداء على الآخرين ونهب ثرواتهم :

يستوي الحل والحرام لدى القوم وأين الدجى من الأنوار
فأساليبهم مخادعة الخلق وتعميرهم خراب الديار
دولة تعتدي على دولة ظلما وقطر يبغي على الأقطار
كادح يزرع الحقول فيأتي غيره عاجلا لجني الثمار
ويصر إقبال على كشف مكنون هذه الحضارة ، وتحذير أبناء الشرق منها ، وحضهم على الاتحاد والتسلح بقوة الدين والعلم ، مذكرا إياهم بما ارتكبه الغرب من مآس في حق بلادهم وأبنائهم :
تئن الخـلائــق في الأرض طرا وقد سامها الغرب عسفا وجورا
فيا أمم الشرق فيم التوانـي لقد آن أن يصبـح الشـرق حرا
...............................................
أكـاد أرى ثورة في النفوس تشـد الحياة إلى المجـد قسرا
مضى الليل وانجاب عهد الظلام وبعد الدجى يعقب الليل فجرا
......................................
وما برح الغرب يختال تيها ويحترف الكيد للعالمين
لينشر في الكون إلحاده وينشئ دنيا على غير دين
..............................................
يرى الغرب أن يستغل البرايا كما يشتهي دون قيل وقال
يرى الآدمييـــن مثل القطيع فهم لفـم الذئب رزق حلال
...............................................
فكن في متاجره زاهـــدا ففيها الخسارة والمغرم
نسيج بلادك أقوى خيوطـا وقطنك مـن خزه أنعم
................................................
وكم بعت من محصول زرع له رخيصا ، وأنت غدا مشتريه
يعود بأضعاف ما نلتـه بربح سخي لمستورديه
.............................................
كأنك لم تشق من أجله ولا كنت في الأرض من زارعيه

وهكـذا كلما طالعنا شعر إقبال بعمق وجدناه يكاد يعبر عن وضع العالم الآن من غرب مستغل ، وشرق مستضعـف مستذل ، وهو شعر يزرع في النفوس حماسا للحق ورغبة في وحدة أمة المسلمين حتى يقـوى كيانهم فلا تستطيع قوة أن تتخلص منهم أو تكيد لهم ، ومن هنا كانت أهمية أشعار إقبال والحاجة الماسة إلى ترجمتها إلى كل لغات المسلمين ، وعلى رأسها اللغـة العربية ، وبالفعل استشعر المصريون هذا الأمر ، فكانوا أول من عرف العالم العربي بإقبال ، فترجموا شعره باللغة الفارسية إلى العربية شعرا ونثرا ، وسنظل نذكر بكل تقدير صاحب السبق في هذا الميدان المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام ، والمرحوم الأستاذ الدكتور حسين مجيب المصري ، والمرحوم الشيخ الصاوي علي شعلان ، وغيرهم ممن ترجموا لإقبال عن الفارسية والأردية ، ونتمنى أن يقيض الله لما تبقى من أشعار إقبال الأردية بغير ترجمة من يترجمها إلى العربية ويقدمها إلى عالمنا العربي ليطلع عليها ويأخذ منها ما يعينه على تثبيت أقدامه في ظل عولمة قائمة لا تعني إلا بالخلاص من الضعيف والاستعظام على حطامه .