القصيدة القصيرة في الشعر العربي الحديث
إعداد : محمد أحمد ابراهيم
في بعض الآداب تحتل القصيدة القصيرة منزلة متميزة حتى لتعد نوعا من الشعر له خصائصه الفارقة، لا من حيث عدد الأبيات أو ( الأشطار ) أو عدد التفعيلات وحسب، بل من حيث ارتباطها أيضا بموضوع رئيسي في اغلب الأحيان، واستقلالها باسم خاص بها.
وقد أخذت هذه القصيدة تبرز في الشعر العربي الحديث على نحو يشير إلى ان اختيار هذا الشكل أمر متعمد لكنها لا تستقل باسم، وربما لم تتحدد بموضوع، فما هي هذه القصيدة ؟ ومن هم ابرز المقبلين على نظمها ؟ وهل سلكوا بها مناحي مختلفة أو اقتصروا على منحى واحد، وبأي الموضوعات ارتبطت، وبأي مؤثرات – خارجية أو داخلية – تأثرت ؟
القصيرة في الأدب العربي القديم
عرف الشعر العربي منذ نشأته حتى اليوم المقطوعة ولكن ليس هناك تحديد متفق عليه لعدد أبياتها فالذين رأوا ان القصيد قد تكون ثلاثة أبيات ( الأخفش مثلا ) أنكروا ضمنا وجود المقطوعة والذين رأوا ان أبيات المقطوعة قد ترتفع في العدد إلى عشرة بل إلى خمسة عشر الغوا الفارق بين القصيدة والمقطوعة من حيث الطول، وتوسط آخرون فقالوا ان المقطوعة لا بد ان تكون اقل من عشرة أبيات، ولكن جميع هؤلاء لم يحددوا لها غرضا أو موضوعا مستقلا،فهي تؤدي ما تؤديه القصيدة في هذا المجال .
وكثيرا ما يحس القارئ بالاكتفاء إذا قرأ بيتين أو بضعة أبيات تعبر عن نقد اجتماعي أو تصوير هجائي كتصوير ابن الرومي مثلا فان هذا الشاعر الذي يجمع بين طرفي الإطالة المسرفة والإيجاز الشديد يثبت ان الأمر في الطول والقصر لا يمثل اختلافا فنيا كبيرا، إذ ان سخرية حادة يوردها في بيتين قد تكون ارسخ أثرا من قصيدة ذات عدة أبيات مثل قوله :

ان كنت من جهل حقي غير معتذر = أو كنت من رد مدحي غير متئب
فاعطني ثمن الطرس الذي كتبت = فيه القصـيدة أو كفـارة الكذب

ولا بد ان يكون الاكتفاء بالمقطوعة كما تجيء( دمن حذف ) عائدا إلى عدة أسباب منها ما يتصل بطبيعة موهبة الشاعر نفسه. فهي موهبة لا صبر لها على الإطالة، ومنها ما يتصل بطبيعة القصيدة القصيرة وأنها مفضلة لأنها أسرع شيوعا وأسير في الناس واسهلا حفظا، ومنها ما يتصل بطبيعة الموضوع كان يكون موضوعا يتطلب الإيماء واللمح وتذهب روعته إذا طال كالنكتة نفسها.
القصيدة القصيرة في الشعر العربي الحديث
مضت سنوات تقارب عقدين حتى استأنف الشعراء انتباههم إلى قيمة القصيدة القصيرة وفاعليتها في إبلاغ رسالة الشاعر إلى الجمهور فقد أصبحت القصيدة الطويلة تؤدي بعض دورها في تقريب الشاعر من الجمهور في الموضوع. ولكنها تساعد ما بين الاثنين في طريقة التعبير والتصوير فالعودة إلى القصيدة القصيرة كانت تمثل نسبة كبيرة من الوضوح ؛ لأن طولها لا يسمح بتدافع الصور وتكثفها ولان الحدة الغالبة عليها تتطلب مشاركة بين القارئ والشاعر في القبض على سر اللمحة الدالة ؛ ولهذا ولأسباب أخرى ازداد ميل الشعراء إلى القصيدة القصيرة نظراً لطبيعة العصر وتماشيا مع إيقاعاته السريعة. وقد نشأت القصيدة القصيرة وترعرعت في أحضان الغنائية، وهذا يربطها بالإيقاع ربطا مباشرا إذ تسمى " القصيدة القصيرة في العادة غنائية ، وكان ذلك في الأصل يعني قصيدة من القصر بحيث يمكن تلخيصها وغناؤها في فترة متعة " ( عز الدين إسماعيل ، الأسس الجمالية في النقد العربي ) وغنائية القصيدة القصيرة لا تعتمد على قصرها فحسب، بل تقوم على أساس ومضها وسرعة إيقاعها، واكتفائها بذاتها في اسطر قليلة، وربما في كلمات، تمتلك أقصى درجات الكثافة، وتكتمل دلاليا لإحاطتها بالمعنى من كل جانب دون الحاجة لأية إضافات أخرى .
نص تطبيقي
" النظام العالمي الجديد " للشاعر اليمني " احمد ضيف الله العواضي "
الإشارة خضراء ،
والوقت منقبض في الفضا
طار سرب القطا
فرأى أمماً في البعيد ،
دمها مالحُ ويداها وعيد !

الإشارة صفراء
مرّ السلام المخبأ في الشاحنات الحديد .

الإشارة سوداء !
مرّ جنود الخرافة في كلّ زينتهم،
وحشوا في بنادقهم طلقات النظام الجديد

العنوان:هذا العنوان غاية في التشابك والتعقيد، بل ربما كان من اخطر المسائل المطروحة على بساط البحث الفكري والفلسفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في نهاية القرن .
بنية القصيدة :
تنقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع بوساطة شبكة من الإشارات الملونة ( الخضراء والصفراء والسوداء ) وتحتل كل إشارة منها سطراً مستقلا معزولا عن بقية القصيدة ، وتحتل هذه الشبكة ثلث حجم القصيدة مما يولد ثقل وطأة هذه الشبكة.
ان هذه الإشارات الملونة تستدعي إلى الذهن التحم الصارم بأية حركة تتم في اتجاه من الاتجاهات ، وبما تمثل سطوة السلطة التي تعتبر أية مخالفة لأوامرها خروجا على القانون يستوجب المساءلة .
ولننبه إلى ألوان الإشارات في القصيدة فقد جاءت على الترتيب التالي " الخضراء ثم الصفراء ثم السوداء " وقد افتتح الشاعر القصيدة باللون الأخضر بما يعنيه من حرية الحركة والحيوية وهذا يعني ان العالم قبل النظام العالمي الجديد كان اكثر حياة رغم كال المنغصات والمآسي .
ان ترتيب الألوان في القصيدة جاء مغايرا لما يقوله أرباب النظام العالمي الجديد وبذلك فإن ترتيب الألوان وحده يحمل موقف الشاعر بكل صراحة ووضوح ، ونجد عند القارئ توقع الترتيب ( خضراء وصفراء وحمراء ) إلا ان الشاعر كسر أفق التوقع عند الإشارة الثالثة فقال الإشارة " سوداء" مما يعني ان مسيرة النظام العالي لا بشكل طبيعي بل هي تتجه إلى نفق مظلم .
لقد غيب الشاعر اللون الأحمر وهو تغييب مقصود ، وهو غائب حاضر ومن تداعياته الحرية ولذلك فان غيابه إشارة إلى غياب الحرية وهو ما سيؤول إليه العالم وغيابه يعني ان الشاعر عنده الرغبة الدفينة في الثورة على هذا النظام وقد جاء توظيفه في النص ليعطي مزيدا من الإشعاعات الإيحائية التي يتكامل بها
المعنى العام للنص الشعري .
والذي يمعن النظر في مقاطع القصيدة يرى ان كل مقطع معزول عن الآخر وكان القصيدة مقطعة الأوصال ذلك ان مساحة البياض بقدر سطر كامل وكأنه يرمز إلى المجتمع البشري الذي يعل النظام العالمي على تقطيع أوصاله .
المقطع الأول هو أطول المقاطع وأغناها بالصور وهو يستغرق أربعة اسطر في حين ان المقطع الثاني يتكون من سطر واحد وسطرين للمقطع الثالث وهذا يعني ان المقطع الأول يمثل المشهد الأكثر حياة ، ومن البدهي ان الأكثر حياة لا يعني انعدام المنغصات فذلك مناقض لواقع الحال . ولذلك قال الشاعر ان الوقت منقبض ولكنه منقبض في الفضاء حيث ما زال سرب القطا ان يطير ويستشرف المستقبل رغم هذا الدم المالح الذي يذكر بملوحة الصدأ الذي يعتري الأجسام المعدنية.
وفي ذروة هذا الترقب المتوتر كتوتر السائقين أمام إشارة المرور الصفراء يأتي الوعد من النظام العالمي بالسلام ولكنه محمول على آلته العسكرية ولذلك ينزلق العالم المقطع الثالث تحت أقدام أرباب هذا العالم ، إلا ان الشاعر في المقطع الثالث يستخدم تقنية جديدة هي تكرار فعل ( مرّ) في مطلع كل من المقطعين ، مما يعني ان فعل " مرّ" الثاني ملازم لفعل " مرّ " الأول وهو نتيجة طبيعية له .
حقول الدلالة
توزعت ألفاظ القصيدة في مجموعتين ، الأولى غلب عليها الألفاظ التي توحي بالحياة والحرية والانطلاق ( الفضاء – طار – سرب – القطا – رأى – أمم – البعيد ) وهي التي حركت المقطع الأول . أما المجموعة الثانية فقد غلب عليها الألفاظ الخاصة بالخوف والقمع ( المخبأ – الشاحنات – الحديد – جنود – حشوا – بنادق – طلقات ) وهي التي ألقت بظلالها على المقطعين الثاني والثالث .
الإيقاع
تشيع تفعيلة ( فاعلن ) في القصيدة شعور الأسى الذي لف القصيدة بمجملها ، وما ولدته القافية الممدودة في ( الفضا ، القطا ) في المقطع الأول ، من مشاعر الحنين والشجن ومن الإحساس بالامتداد وبالعمق ، وكذلك ما تتركه القافية الساكنة الوحيدة في نهاية كل من المقطعين الثاني والثالث من تأثير يعزز اليقين بأن النظام العالمي الجديد يدفع العالم دفعا في اتجاه وحيد إلى الهاوية المحتمة .

--------------------------------------------------------------------------------