نظريّاً ...

د. شاكر مطلق
تَعلَّمنا ، منذ الصِّغر ، أنَّ الكثيرَ من الأشياء والأمور والحقائق موجودةٌ ، نظرياً ، وإن كنّا لا نراها دوماً ، وأحياناً لا نستطيع حتى أن نرى ظلالَها أو نثبتَ وجودها ، وهنا يبرز لنا كثيرٌ من التّساؤلات التي تذهب بالوعي وبالعقل إلى متاهات العبثية ، وربما إلى العدَميَّة أيضاً ، مع العلم أن العقلَ البشري _ نظرياً _ يمثل قمّةَ هرم " النُّشوء والارتقاء " والكمال ... ولكن :
ـ كيف يمكن للإنسان الذي هو _ نظرياً _ " الكائن الأسمى " وعلى حدِّ تعبير الفيلسوف والشاعر الألماني " فريدريش نيتشهْ " _ الذي فقد عقله في أواخر أيامه_ يمثل ما سماه بـ " أوبَرْمِنْشْ " أي " السّوبرمان " _ ولكن ليس بالمفهوم " الأمريكي _ الهوليودي " طبعاً _ كيف له أن يُلحقَ كل هذا الأذى والخراب والمآسي بأخيه الإنسان وبقريبه الحيوان وبأمه الطبيعة ، وهو القادر فعلاً على محوهم _ عملياً _ من خارطة الوجود ؟! ...
ـ في صراعات الغرائز والخِصاب تتصارع الحيوانات الذّكورية بعنفٍ من أجل أن يوصلَ الأقوى منها مورِّثاتِه إلى الزمن القادم ، ويحققَ _ نظرياً _ مسألةَ الخلود ، ويُحلّ
– نظرياً - إشكاليّاتها المعقدة ، وإذا شعر الخصم عندئذٍ بضعفه ، في الصراع هذا ، فإنه يلجأ _ في حالة الذئاب مثلاً إلى الاستلقاء أرضاً ويعرض رقبتَه لغريمه الذي يتوقف فجأة عن العضِّ والقتل المؤكد ، بدافع داخلي قويِّ محافظٍ على النوعِ من الانقراضِ ، ويدعه مهزوماً يذهب سبيلَه بسلام ، بينما يقوم الإنسان بمتابعة العضِّ والضّرب والرّفس ولو كان غريمُه قد أمسى جثةً هامدةً لا تهدّده ولا تعرّضه لأي أذى كان . مثلَ هذا نراهُ يَحدث على الأرض العربيةِ وغير العربيةِ في التّلفاز يومياً ، نراهُ في الأرض المحتلة ، وفي سجون " أبو غريب " و" أبو قريب " وفي معسكر العار والدمار البشَريّ الذي أقامته ( أمّ ) الدّيموقراطيّة الجديدة على أرض " كوبا " المستقلة في موقع " غوانتانامو " سيئ الذِّكر وفي غير مكان من جهات الأرض المُحاصَرةِ بانفلات القوّة الطاغية من جميع القوانين والنّواميس والأعراف ... فلماذا ؟! ...
ـ الإنسان يولد _ نظرياً _ حرّاً ، ولكن كيف جرى أن أصبح هذا الحرّ عبداً لأخيه الإنسان وعبداً للخرافة والأيديولوجيات والشّهَوات القاتلة والعنف والشر بعامة ، برغم وجود المراجع المهذِّبة للنفس البشرية من علم وأدب وفنون وموسيقى ورياضة ... إلخ ، ناهيك عن المراجع الأخرى المعروفة في العرف والتقاليد والأديان ، سواء كانت سماوية أو لم تكن ، ورحم الله " ابن الخطاب عمَراً " آنَ تساءَلَ – منذ عشرات القرونِ وقبل مفاهيم حقوقِ الإنسان الراهنة قائلاً " متى استعبدتم الناس وقد ولَدتهم أمْهاتُهم أحراراً " ؟! ...
الفضيلةُ – نظرياً - هي الأصلُ في طِباع البشر - كما يعلّموننا - ولكن : عمليّاً على أرض الواقع والوقائع ، نجِد أنّ السائدَ المُهيمنَ على أفعالنا هو الشّر وهي الرذيلة و بعامة هو السّلبيّ وليس السّويِّ المعقولِ ، وبأنّ الوصولَ إلى الفضيلة ، وليس بالضّرورة إلى تخوم أو بوّابة المدينة الفاضلةِ ، وإلى صفة الإنسان السَّويّ العاقل تقتضي من الكائن البشريّ المجاهدةَ حقاً ، وبذل الجهدِ الدّؤوب الصادق للانتصار على الكثير من الرّغائب الشّريرة فينا وعلى الوَساوس والمُغرِيات السّلبية الكثيرة التي تجلبُها الحياة معها وبخاصة فيما يتعلق بالمَلِكِ وبالمُلْك والملكِيّة وبالسّلطة والقوّة وبالعفة والعَفاف ، وهذا - نظرياً - من سِمات ومكوّنات الإنسان العاقل عقلانياً وليس عاطفياً تلقائياً أو عفوياً .
التّساؤلُ الأكبرُ والأهمّ الآنَ هو: هل هذا الموجود فينا وبيننا هو المعقول حقاً والمقبول أخلاقياً والّلائق إنسانياً ؟ ، وهلْ لا بدّ " للكائن الأسمى " من عبور " درب الكشف " الكاشِف والتّنوير المُنير والمحبّة المُحبّبة والصّدق الصّادق والرأّفة الرّؤوفة والرّحمة الرّحيمة والعدالة العادلة... حيال كلّ الكائنات التي تُشاركنا الحياةَ على هذا الكوكب المقهور المُستزَف ، لكي نصل مرحلَةَ الكَيْنونة الإنسانيّة بعد هبوطنا عن الشّجرة وخروجنا من زمن المغائر العاتمة وهَدر طاقاتنا ومواردنا وحيواتنا القصيرة في الصّراعات الزّائفة والحروب العَبثيّة المدمِّرة والتّشرنق الأعمى في شَرَك معتقداتٍ وإيديولوجيات متشنّجة ومفاهيم فاسدات وممارسات لا تليق أبداً بمن يسمّي نفسه – نظرياً – بـ " إنسان " العصر المُعاصِر وريث الحضارة البشريةِ وطفلِ المستقبلِ الواعدِ بالخلاص وبالنهوض وبحضور تلكَ المومسِ الأزليةِ المسماةِ بالحريةِ ، حاملة سيف العدالةِ والمساواة والأخوّة في الإنسانية الحقّة .
===========================
حمص- سورية