لماذا كوردستان آمنة؟


بعد حرب الخليج الثانية ونجاح انتفاضة آذار 1991م في كوردستان العراق وهزيمة قوات نظام صدام حسين العسكرية والأمنية وميليشيا حزبه قررت الحكومة العراقية آنذاك سحب كافة موظفيها وخبرائها وفنييها ودوائرها من كل المدن والبلدات والمعامل والمزارع والجامعات بما يعيق نجاح شعب كوردستان وقياداته السياسية والعلمية والإدارية في إدارة تلك المدن والمحافظات وما يتعلق بحركة الحياة والمجتمع، وفرضت حصارا شديدا على الإقليم بعد أن طوقته بعشرات السيطرات والمفارز الراجلة التي كانت تلاحق المواطنين الداخلين والخارجين منه واليه، وتمنع دخول ابسط أنواع المواد الغذائية والخضراوات في واحدة من أقسى عمليات الحصار التي تواجهه الشعوب والدول إضافة إلى الحصار الاممي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق عموما، وبذلك أدرك شعب كوردستان حجم التحدي الذي سيواجهه في اختياره الفيدرالي والديمقراطي بعيدا عن السلطات المركزية للنظام.

كانت أولى التحديات هي تحصين الجبهة الداخلية وتنقية المجتمع من شوائب السلطة ونظامها الفكري وثقافته الشمولية قبل إعادة تنظيم الإدارة وهيكلتها، فقد ترك النظام وراءه مئات الآلاف من المرتزقة المسلحين الذين جمعهم من خلال شيوخ العشائر والأغوات في أفواج لمقاتلة أبناء جلدتهم في قوات الثورة والذين عرفوا في كوردستان بـ ( الجته أو الجحوش ) ولدى الدولة بقوات الفرسان، حيث تجاوزت أعداد أفواجهم الخمسمائة فوج كما صرح بذلك وزير الدفاع العراقي الأسبق أثناء محاكمته أمام محكمة الجنايات العراقية الكبرى، هذه الأفواج من البشر التي احتاجت سنوات من الجهد والصبر في إعادة تربيتهم من جديد وبنائهم وطنيا وإنسانيا من خلال احتوائهم وإشراكهم وأبنائهم في عملية البناء والاستقلال الذاتي التي تطلبت إصدار عفوا عاما مشروطا بعدم العودة تحت أي شكل من الأشكال والظروف إلى النهج السابق واعتباره خيانة عظمى للوطن والشعب يحاكم عليها مرتكبيها بأقسى العقوبات.

لقد كانت الخطوة الأولى باتجاه البناء القويم والاحتواء الوطني والإنساني لمئات الأفواج من المرتزقة وجلهم من القرويين السذج الذين يأتمرون حتى الموت بأوامر أغواتهم وشيوخهم المرتبطين بالنظام وأجهزته في كوردستان ولا يعرف الكثير منهم سوى انه لن يخدم في الجيش وانه يلبي رغبات وأوامر شيخ عشيرته ليس إلا، وإزاء ذلك كانت الجبهة الكوردستانية التي تقود العملية السياسية والإدارية في كوردستان قبيل إجراء الانتخابات الأولى في 1992م وانبثاق أول برلمان كوردستاني أمام مسؤولية تاريخية ليس أمام الشعب بل أمام الرأي العام العالمي في كيفية مواجهة وحل مشكلة هذه القوات التي فقدت قدرتها وأصبحت في حكم الأسر بعد نجاح الانتفاضة بل واستثمار التحول الكبير في الأداء الوطني لكثير منها بالمشاركة المهمة في الانتفاضة ومساعدة قوات الثورة، لتكون الخطوة الحضارية الأولى لبناء تجربتها في الإدارة الذاتية وإعادة اللحمة إلى بناء المجتمع وتحصينه داخليا لمواجهة تحديات الخارج سواء ما كان منها من النظام نفسه أو من الدول الإقليمية، وذلك من خلال إلغاء فكرة الانتقام تدريجيا في ذاكرة الناس والبدء في إحلال فكرة العفو والتسامح مع المهزوم والمغرر به والذي تم اعتباره ضحية هو الآخر من ضحايا ذلك النظام الدكتاتوري، وبهذا الأسلوب تمكنت تلك القيادات من ضبط المجتمع وإشاعة السلم الداخلي رغم كل التحديات الخارجية التي نجحت في ظروف معقدة لإشعال نيران الحرب الأهلية بين القوتين الرئيسيتين التي كادت أن تحرق الأخضر واليابس.

ويبقى أهم ما فعلته القيادات السياسية والعسكرية في تحصين الجبهة الداخلية بعد قرار العفو عن المتورطين في عمليات القتال ضد قوات الثورة والعمل من اجل احتوائهم وإشراكهم في عملية بناء وإدارة الإقليم هو تحصين مؤسسات الدفاع والداخلية والقوات المرتبطة بهما من البيشمه ركه والاسايش من الاختراق بأي شكل من الأشكال وتحت أي من الظروف بما يحفظ هذه المؤسسات ونقائها في الولاء والدفاع عن تجربة وامن وسلامة الإقليم ومؤسساته، ويحفظها من أي عملية اندساس أو اختراق لأي سبب كان سواء من عناصر تلك القوات المنحلة أو المشبوهين في علاقاتهم المريبة مع النظام السابق، حيث تفرغت تلك المؤسسات لخدمة الأمن والسلام الاجتماعيين وحفاظ امن الإقليم وسلامة أراضيه ومجتمعه من حواضن الإرهاب والجريمة.

أن أهم ما يواجه العراق اليوم في إشكالية الأمن والسلم الداخلي يتعلق بأداء قوات وزارتي الدفاع والداخلية التي بنيت على أسس ارتجالية ومحاصصة مذهبية وعرقية بعيدة عن مبدأي المواطنة والولاء المطلق للعراق الجديد الذي يفترض عدم إشراك بقايا النظام السابق بأي شكل من الأشكال في مؤسسات هاتين الوزارتين تحديدا حتى انجاز تطهير البلاد من عصابات الإرهاب والجريمة المنظمة وتحقيق الأمن والسلام الداخلي والخارجي.




عن ايلاف
التآخي