بسم الله الرحمن الرحيم
هذه سلسلة من الخواطر والمشاهدات لكل منها عنوان خاص بها ، وتشترك جميعاً في أنها تدور حول باكستان ، وتتناول أحداثاً وقعت على أرضها وكنت شاهداً عليها ، وأعترف أنني مسلم أحب وطني الصغير والأول مصر ووطني الكبير أمتي العربية ووطني الأكبر الأمة الإسلامية وعلى رأسها باكستان ، وهو اعتراف أفخر به ، وستعرف السر في ذلك لاحقاً بين ثنايا المقالات ، ولهذا أطلقت عليها اسم ( شاهد عيان يحب باكستان ) ، وأتمنى أن أستطيع نشرها في كتاب مستقل بعد التنقيح والتعديل الذي لا بد منه ، ولكني أحببت أن أعرضها أولاً على قراء ( واتا ) ، فأنا أثق فيهم جميعاً ، وعلى رأسهم الأستاذ الكبير ( عامر العظم ) ، وآمل أن أكون عند حسن الظن .
د . إبراهيم محمد إبراهيم

الفصل الأول :
عتاب ورجاء
اللغة الرسمية في باكستان
زرت باكستان لأول مرة في سبتمبر من عام 1985م ، وكنت إذ ذاك معيداً لم يمض على تعييني سوى فترة وجيزة ، ثم سافرت إليها فيما بعد دارساً للماجستير والدكتوراه ، ثم مرافقاً لزوجتي د . تبسم منهاس منذ الأول من يوليو 2006م وحتى تاريخ كتابة هذه السطور ( 6 سبتمبر 2009م ) ، ولا بد أنني سئلت أسئلة كثيرة من عامة الناس في باكستان وخاصتهم – وتحديداً عندما كنت أدرس للماجستير والدكتوراه - فيما يتعلق ببلدي ، وسياسة بلدي ، واقتصاد بلدي ، ولغة بلدي ، وغيرها من الموضوعات ، ولم يبق في ذاكرتي من هذه الأسئلة شيء ، إلاّ سؤال واحد علق بذهني ولم يبرحه ، وهو : لماذا تدرس اللغة الأردية ؟! (1) .
أذكر أنني عندما سمعت هذا السؤال لأول مرة اهتز داخلي كما لم يهتز من قبل ، وكنت كمن أصابته صاعقة على غير توقع منه . والسؤال في حد ذاته كما ترى لا يلفت الأنظار ، ولا يدخل في باب الصواعق كما يبدو لأول وهلة ، وهذا صحيح إذا لم يكن السؤال مصحوباً بالقدر الذي لمسته من الدهشة والاستغراب على وجه السائل ، ثم نظرة التعجب والشفقة التي بدت في عينيه ، وكأن السؤال الذي أراد أن يوجهه إليّ وفضّل ألاّ يفعل نظراً لحساسية الموقف هو : هل اللغة الأردية تستحق أن يكون لها قسم خاص بها تدرّس فيه ، ثم يتجشّم أحد ، ومن ورائه جامعة ، ومن ورائها حكومة عناء السفر إلى بلد " في آخر الدنيا " ليتعمق فيها وفي أدبها ، ويحصل على الماجستير والدكتوراه ؟!.
وأنا هنا لا أستنتج المضمون الخفيّ للسؤال ، وإنما أرتّب حلقات الإجابة أمامك بعد أن جمعتها من ثنايا الأسئلة التي تكررت على مسامعي ، وكلها تدور حول نفس المعنى بوضوح سافر تارة ، وعلى استحياء ظاهر تارة أخرى ، وغالبيتها على هذا النمط :
• لماذا اخترت الأردية للدراسة ؟!.
• ما هو المستقبل الذي ينتظر دارسي الأردية ؟!.
• هل هناك عمل في مصر لمن درس الأردية وتخصص فيها ؟!. " وعلمت فيما بعد أن هذا السؤال بالذات يخفي وراءه رغبة كامنة من السائل في الحصول على فرصة عمل في مصر ، باعتبار أنها توفر عملاً لأبنائها ، حتى أولئك الذين درسوا الأردية !! بينما دارسو اللغات الحية في باكستان ذاتها لا يجدون عملاً ، فما بالك بدارسي الأردية ؟!! " .
وغيرها من الأسئلة التي تدور في نفس الإطار . وشعرت عندها بأنني ربما أكون قد أخطأت الاختيار ، وأنني قد أضعت مستقبلي من حيث لا أدري . ورغم أنني كنت في غاية السعادة في ذلك الوقت ، لأنني معيد ، وأدرس الماجستير والدكتوراه في بلد اللغة الأردية " على حدّ ما نردده نحن وغيرنا ممن هم على شاكلتنا حتى صدقناه واعتقدنا بصحته " ، لكن داخلني شعور مخيف أخذ يطارد ضميري مفاده بأن " السكينة سرقاني " ، و " بكره تروح السّكره وتيجي الفكره " ، وما شابه ذلك من الأمثال والحكم التي تعبر عن مثل هذه المواقف ، ولم تشتهر من فراغ .
ومضت سنون كثيرة حتى انتهت " السّكره " التي كانت على ما يبدو حتى الثمالة " طينه كما يقولون " ، وإلاّ فكيف استغرقتني " السّكرة " هذه السنين الطوال حتى أفقت منها ، وبدأت " الفكره " ، ووجهت إلى نفسي سؤالاً حاولت الإجابة عليه مستعيناً ببعض بقايا " السكره " وفلولها ، والسؤال هو : إذا كانت اللغة الأردية على هذا القدر من الأهمية التي تصورناها ، والتي جعلتنا نصل بها في خيالنا إلى عنان السماء ... إذا كانت هكذا ، فلم لم تتخذ منها باكستان لغة رسمية لها حتى يومنا هذا ؟!.
تصوّر !!. اللغة الأردية التي نسجنا حولها هالة من العظمة والقوة والرومانسية ، لدرجة أننا كنا نعلن في المحافل الرسمية وغير الرسمية بأنها اللغة الثانية في العالم بعد اللغة الصينية من حيث عدد المتحدثين بها ، وأوصلنا عدد المتحدثين هؤلاء إلى مليار نسمة – وهو قريب من الصحة – منهم خمسمائة مليون مسلم في باكستان والهند وبنجلاديش ونيبال والتبت وغيرها ، وخمسمائة مليون من غير المسلمين في الهند التي فاق عددها المليار كاملاً ، هذه اللغة الأردية التي قيل وكتب عنها أنها " لغة عظيمة ذات أهمية أعظم !! " ، وأن " الأمم المتحدة على وشك أن تدخل الأردية ضمن اللغات المعترف بها داخل هيئتها الدولية ، وربما أدخلتها في إحدى إداراتها بالفعل " ، وأن " مجموع ما كتب بالأردية في القرن العشرين يفوق ما كتب بالعربية والفارسية والتركية مجتمعة في الفترة ذاتها " ، وأن " اللغة الأردية مرشحة حتى عام 2050م لتصبح لغة عالمية ، في الوقت الذي ستتراجع فيه لغات عالمية كبرى إلى الصفوف الخلفية حتى ذلك العام " ، وأن " الأردية ذات جرس موسيقي لا تدانيه فيه لغة أخرى ، وذات مقدرة تعبيرية قلّ أن تجد لها نظيراً " ، وغيرها مما قد يكون صحيحاً في جانب كبير منه ، هذه اللغة لم تتخذ منها باكستان لغة رسمية لها حتى اليوم !!. بالرغم من أن كفاح مسلمي شبه القارة الهندية منذ عام 1857م – وهو العام الذي انضمت فيه شبه القارة الهندية بصفة رسمية إلى صفوف الدول التي يظلها التاج البريطاني بظلّه وذلّه – وحتى قيام باكستان عام 1947م حدّد لنفسه أهدافاً من بينها تحقيق الحرية للمسلمين في العبادة : بإنشاء وطن مستقل لهم هو " باكستان " ، وفي الكلام : بحماية اللغة الأردية من محاولات التشويه والإبادة ، نظراً لما تحمله من تاريخ مجيد وتراث عريق ، وذلك بأن يتم إرضاعها لهذه الدولة الوليدة منذ اليوم الأول لخروجها إلى الدنيا ، حتى تنتشر في أوردتها ، وتتوزع في شرايينها ، وتندمج بنسيجها ، فتشب وتكبر ناطقة بها معتزة بوجودها ، وتتخذ منها لغة رسمية في المحافل الدولية دون خجل أو مواربة . ولكن الذي حدث هو أن شيئاً من هذا كله لم يحدث !!. وكأن أحدا تسلل إلى المطبخ الذي كانت تعدّ فيه الرضعات لهذه الدولة الوليدة ، وسكب ما في " البيبيرونه " من لبن الأردية ، ودس فيها خليطاً من السوائل ما بين " إنجليزية " ، " وبنجابية " ، " وسندية " ، " وبلوتشية " ، " وبشتو " ، مع قطرات من الأردية ظلت عالقة بجدران زجاجة الرضاعة ، وذلك كله كيفما اتفق ، وبغير نسبة أو تناسب !! .
وشبّت باكستان حتى بلغت من العمر أكثر من ستين عاماً ، لكنها لم تعترف بالأردية كأداة تعبير رسمية لها !!. فإذا تحدث الباكستانيون فيما بينهم قسّمتهم اللغات الكثيرة التي رضعوا خليطها منذ الصغر ، فمجموعة تتحدث " البنجابية " ، ومجموعة تتحدث " السندية " ، ومجموعة تتحدث " البلوتشية " ، ومجموعة تتحدث " البشتو " ، وتعلو أصواتهم وترتفع حتى تتحول إلى صراخ بلا جدوى ، فلا المجموعة الواحدة منهم تستطيع التفاهم فيما بينها برغم اللغة الواحدة ، وذلك بسبب الإزعاج الذي يسببه صراخ المجموعات الأخرى ، ولا تستطيع هذه المجموعات التفاهم فيما بينها لاختلاف اللغات ... فإذا ما كان من الضروري أن يتحدثوا معاً ، ولا مفر من ذلك ، تحدثوا بالأردية ، وبمجرد انقضاء الضرورة عاد كل منهم إلى صراخه ، و " تعود ريما إلى عادتها القديمة " ، و " كأنك يا أبو زيد ما غزيت " ...
وهكذا بقيت اللغة الأردية بمثابة اللغة الاحتياطية التي تلجأ إليها باكستان عند الضرورة فقط . ورغم أن حياة باكستان كلها ضرورات قصوى ، ولا منقذ لها من هذه الضرورات إلاّ الأردية ، إلاّ أنها لم تشأ - لشيء في نفس يعقوب ، ومعنى في بطن الشاعر – أن تجعل من هذه " الدجاجة التي تبيض ذهباً " دجاجة رسمية لها ، أقصد لغة رسمية لها ، وتمنحها حقها المشروع في أن تجري على ألسنة الحكام والمحكومين على السواء ، وفي كل مجالات الحياة .
وظل السؤال : " لماذا لم تتخذ باكستان من الأردية لغة رسمية لها حتى الآن ؟!! " يثور في أعماقي من آن لآخر ، إلى أن جاء وقت طفا فيه السؤال – ومعه الأعماق – إلى السطح ، وغاص السطح إلى الأعماق ، فكان لا بد أن أطرح السؤال على الباكستانيين أنفسهم ، وخاصة أولي الأمر منهم .
وواتتني فرصة مأدبة عشاء في بيت السفير الباكستاني في القاهرة (2) دعا إليها الذين يحملون على عاتقهم عبء الأردية في مصر (3) . وفي غفلة من رسمية السفراء ألقيت عليه السؤال بوجود جمع من الباكستانيين بينهم بعض أساتذة الأردية :
* لماذا لم تتخذ باكستان من الأردية لغة رسمية لها حتى الآن ؟!.
فإذا بالرجل يسمعني خطبة في مدح الإنجليزية والثناء عليها والتسبيح بحمدها ، ويشرح في استفاضة كيف استفادت الهند على سبيل المثال من المعرفة بالإنجليزية في تقدمها التقني ، وخاصة في مجال الكمبيوتر !. فلما علّقت بأنني لا أقصد أن تقطع باكستان علاقتها مع الإنجليزية ، وكيف لها ذلك وهي لا تستطيعه ، مثلها كمثل باقي دول العالم الإسلامي ، شاءوا أم أبوا ، بل على العكس من ذلك ، فأنا أدعو إلى أن يتعلم الناس في بلادنا اللغات ، وخاصة ما كان منها ذا طابع " دولي " ، ولكن ليس معنى هذا أن ننصّب من هذه اللغة صنماً نعبده ، وننسج منها " تاجاً " على رؤوسنا ، بينما ينسج منا أصحابها " نعالاً " لها ، وفي نفس الوقت ندفع بلغتنا " القومية " إلى الخلف كخادم ذليل لا يحقّ له أن يجلس في مكان واحد مع مخدومه ، أو يأكل معه على منضدة واحدة – بله طبق واحد – كما هي العادة عند أهل شبه القارة الهندو باكستانية كلها ، وربما في الدنيا كلها أيضاً ، أقصد أن لا يجلس الخدم في مكان واحد مع المخدومين ، ولا يأكلون معهم ، حتى وإن كان الطرفان أصحاب دين واحد ، ولغة واحدة ، ووطن واحد ... وكلكم لآدم ، وآدم من تراب .
على أية حال وجد الرجل أن الخناق قد ضاق عليه ، وأن الموقف دخل في مرحلة الحرج ، وخاصة حين أيدني أساتذة الأردية الباكستانيين الضيوف على المأدبة معنا ، عندئذ اعتذر السفير لنا بأن عليه أن يجري مكالمة تليفونية ، ثم نكمل الحديث أثناء العشاء ، وترك حلقتنا إلى حلقة أخرى من الضيوف في البيت ، وبالطبع لم يجر الرجل مكالمة تليفونية ، ولم نستكمل المناقشة أثناء العشاء ، وإن كنا استكملنا العشاء نفسه بالطبع !!.
وعلى نفس المنوال حدث الشيء نفسه مع سفير باكستان الذي جاء بعده (4) ، وكان ذلك حين عقد قسم اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة عين شمس ، ندوة عن العلامة " محمد إقبال " ، بالتعاون مع جمعية الصداقة المصرية الباكستانية ، وكان على رأس ضيوف الشرف السيد سفير باكستان ، والسيد المستشار التعليمي بالسفارة الباكستانية بالقاهرة (5) ، وجمع كبير من المتخصصين في الآداب الشرقية ، بالإضافة إلى عدد من الطلاب الباكستانيين بمصر ، وكنت واحداً من المشاركين بمقال في هذه الندوة .
وبعد انتهاء أعمال الندوة أراد القائمون على برنامج " صباح الخير با مصر " إجراء حوار مع السيد السفير الباكستاني عن العلامة " إقبال " و " باكستان " ، وطلبوا مني أن أقوم بترجمة الحوار ، ولم أمانع بالطبع ، وفوجئ الجميع بطلب من السيد السفير بأن يكون الحوار باللغة الإنجليزية ، بينما يرى القائمون عن البرنامج أن يكون الحوار باللغة الأردية ، لغة الشعب الباكستاني الذين يمثلهم السيد السفير في مصر ، لكن السفير أصرّ على أن يكون الحوار بالإنجليزية (6) ، وحجته في ذلك أنه يخاطب الشعب المصري الذي لا يفهم الأردية ، ومن المناسب أن يكون الحوار بالإنجليزية حتى يفهم المصريون ماذا يقول . لكن القائمون على البرنامج وضحوا له أن الشعب المصري لا يعرف الإنجليزية بالقدر الذي يمكنه من متابعة ما يقوله السفير دون ترجمة إلى العربية ، وترجمة بترجمة ، فالأحرى أن يتحدث السيد السفير بالأردية ، ويترجم الحديث إلى العربية ، وسيكون لهذا بالتأكيد طعم آخر .
ولما رأى السيد السفير أنه دخل " خانة اليك " مال عليّ قائلاً : أنا لا أعرف اللغة الأردية جيداً (7) ، ولهذا أرجو أن تقنعهم بأن يكون الحديث باللغة الإنجليزية . وأوصلت المعلومة المفاجئة إلى القائمين على البرنامج بطريقة تقلل من حدة تعجبهم ، وتم الحوار بالإنجليزية ، بينما جلست الأردية في ركن الحجرة تلطم الخدود ، وتشق الجيوب ، وتنعي حظها قائلة " قلبي على باكستان انفطر ، وقلب باكستان عليّ حجر " ، مع الاعتذار للمثل .
ولأني كثير الاختلاط بالجالية الباكستانية في مصر بحكم أن زوجتي باكستانية ، ولأن السؤال كما قلت طفا إلى السطح ، ولم يعد بإمكانه العودة إلى الأعماق ثانية ، لذلك صرت أطرح السؤال على كل باكستاني أعرفه في مصر (8) ، وليس بينهم بطبيعة الحال شخص واحد متخصص في الأردية وأدبها :
* لماذا لم تتخذ باكستان من الأردية لغة رسمية لها حتى اليوم ؟!.
وكانت إجاباتهم جميعاً تدور حول محور واحد وهو : الإنجليزية هي اللغة العالمية ، وهي سبيلنا إلى التطور . وتتفاوت إجاباتهم في أسلوبها ما بين متردد يقول : ربما تكون المصلحة فيما عليه الوضع الآن ! وبين مكابر يقول : وما الفائدة التي تعود على باكستان إن اتخذت من الأردية لغة رسمية لها ؟! وبين جاهل يقول : الإنسان يتجه إلى العلم المفيد الذي يجلب عليه الربح الوفير ، وأين الأردية من هذا كله ؟!.... بيني وبينك كلنا في أعماقنا نعتنق هذا الاتجاه وإن كان الكثيرون منا لا يستطيعون تحقيقه .
وكان لا بد أن أبحث أنا عن الإجابة معتمداً على قراءاتي ، وخبراتي ، ومزاجي العصبي ، ولم أجد أمامي سوى الاعتقاد بأن هناك سببين جعلا حكومات باكستان المتعاقبة تدير أظهرها للغة الأردية وهما :
1 – اللعبة السياسية : وخاصة إذا مارسها الذين لا علم لهم بها ، فتصير قراراتهم صخرة ضخمة مثبّتة بسلاسل في أرجل الشعب ، وتقف به على شفا حفرة من نار ودخان وظلام . وما زلت حتى الآن لا أجد مبرراً مفهوماً لأن ينص دستور باكستان على أن لباكستان لغتين قوميتين هما الأردية والبنغالية - وكان هذا بطبيعة الحال قبل عام 1971م ، وهو العام الذي انفصلت فيه باكستان الشرقية " بنجلاديش " عن جسم باكستان – بضغط من المتظاهرين في البنغال بحجة أن البنغالية لغة قديمة ، وأنهم – أي البنغاليون – يمثلون الأكثرية العددية في البلاد ، بينما رفض القائد المؤسس " محمد علي جناح " رفضاً باتاً أن تكون هناك لغة أخرى تشارك الأردية على عرش اللغة الرسمية سواء كانت البنغالية أو غيرها ، بل وأكد بوضوح وإصرار أمام جموع الطلاب والعامة الذين خرجوا في مظاهرات عنيفة مطالبين بجعل البنغالية لغة رسمية ، فاضطروه إلى السفر الطويل من " كراتشي " إلى " دكّا " برغم اعتلال صحته في ذلك الوقت لكثرة الأعباء التي كان يحملها على أكتافه ، أكد في وضوح وإصرار أنه إذا أراد الشعب الباكستاني أن يعيش في اتحاد وعزّ وتقدم ، وأن تتبوأ باكستان لنفسها مكانة مرموقة على خريطة العالم ، فعليه أن يتمسك بالأردية لغة رسمية له ، ولا يجوز أن تكون لباكستان لغة رسمية غيرها ، نظراً لأنها هي الأجدر والأولى ، فهي اللغة التي يفهمها الشعب الباكستاني في ربوع البلاد كلها ، وهي اللغة الحيادية البريئة من التعصب لأرض أو قومية بعينها كما هو الحال مع " البنجابية " لغة البنجابيين ونتاج أرضها ، و" السندية " لغة السنديين ونتاج أرضها ، وهكذا في باقي اللغات المحلية ، بينما لا تنتمي الأردية داخل باكستان إلى مكان بعينه أو قومية بعينها ، ولهذا يتقبلها الجميع بصدر رحب .
لم يكن القائد العظيم " محمد علي جناح " عليه رحمة الله يدري بأن الصدور قد فقدت رحابتها ، وضاقت عليها الأرض ، وصارت كأنما يصّعد أصحابها إلى السماء ، فتقوقعوا في قومياتهم الضيقة ، وأغفلوا الأردية ضرورتهم القصوى .
لم يكن القائد العظيم " محمد علي جناح " عليه الرحمة يدري – وهو الذي رفض رفضاً باتاً تغيير مسمى اللغة الأردية إلى اللغة الباكستانية ليعرفها الناس بباكستان ، ويعرفون باكستان بها ، مراعاة لما يحمله لفظ " أردو " من تاريخ إسلامي حافل ، ومغزى حضاري عميق – لم يكن يدري بأن بعض خلفائه من بعده سيتهاونون في الأمر ، فلا يستشعرون خطورته ، وينصون في الدستور على أن تكون البنغالية لغة قومية جنباً إلى جنب مع الأردية ، وقد صار هذا الاعتراف بلغتين نذير شؤم كشفت عنه الأيام فيما بعد عام 1971م حين أصبحت هناك دولتان هما : " بنجلاديش " بلغتها البنغالية ، و " باكستان " بمعجون لغاتها ، وفقدت باكستان جناحها الشرقي لأسباب عدة من أبرزها عدم الاستقرار بإخلاص على لغة رسمية للبلاد ، وما حققه المسلمون في شبه القارة الهندية بعد كفاح مرير ضد الإنجليز والهندوس استمر تسعين عاماً من 1857م إلى 1947م بتأسيس دولة باكستان ، حققه المسلمون في باكستان الشرقية " بغير كفاح " – إلاّ من الهند – ضد إخوانهم المسلمين في باكستان الغربية في لحظات بانفصال دولة بنجلاديش (9) ، وكانت اللغة هي مستصغر الشرر الذي اندلع منه مستعظم النار .
2 – التبعية الفكرية والثقافية للإنجليز الذين احتلوا شبه القارة الهندية تسعين عاماً ولم يتركوا خلالها سلاحاً يعينهم على مسخ المسلمين في البلاد وتركيعهم وتحويلهم إلى مجرد تابعين مهملين قانعين مستكينين - بل وفخورين بهذه التبعية – إلاّ استعملوه ، وضموا البلاد إلى التاج البريطاني ضماً مباشراً ، وصار ملك إنجلترا يدعى " ملك بريطانيا والهند " ، وأصبح للملك نائباً له على الهند ، وأصبحت كل الوظائف القيادية من أكبرها إلى أهونها في أيدي الإنجليز ، والوظائف الدنيئة من أهونها إلى أكثرها هواناً من نصيب المسلمين ، وربما لم تتح لبعضهم بعض منها ، بينما كان الوسط في أيدي الهندوس ، فذاق المسلمون الأمرّين : مرّ الإنجليز ، ومرّ الهندوس ، وتسرّب ما ذاقه المسلمون إلى أمعائهم ودمائهم فاستكانوا ورضوا ، ولم يفيقوا إلاّ حين قيّض الله العلامة " محمد إقبال " رحمه الله تعالى الذي أخذ بتلابيبهم ، وأمسك بأذيال سراويلهم ، وهزّهم هزّة عنيفة ، ووضع فمه على أذنهم ، وصرخ فيهم صرخات مدوية ، فانتبهوا ، وثاروا . وبقدر ما بقيت صرخات " إقبال " قوية مدوية في آذانهم ، بقدر ما بقيت ضمائرهم تدفعهم إلى التقدم والتطور والتمسك بكيانهم المستقل ، فما أن هدأت صرخات " إقبال " بفعل بعدهم عنها ، وعدم تأصلها وتمكنها بداخل الأجيال اللاحقة بتقادم الزمن – رغم أنه لم يمض زمن حتى نقول بتقادمه ، فقد مات " إقبال " عام 1938م قبل قيام باكستان ، وقامت باكستان عام 1947م ، وفي عام 1948م بدأت المظاهرات في البنغال تطالب باتخاذ البنغالية لغة رسمية للبلاد – ما أن هدأت صرخات " إقبال " ، وتوفي القائد المؤسس " محمد علي جناح " حتى عاد المسلمون إلى سابق عهدهم من السبات العميق ، والركون إلى " الأفيون الغربي " ، والرضا بقيادة أصحابه ، وكأن " إقبال " لم يعش يوماً بين أظهرهم ، وكأن " محمد علي جناح " لم يكن من بني جلدتهم ، وفقد المسلمون جزءً كبيراً من شخصيتهم ، ورأوا في الإنجليزية سبيل التقدم والرفعة ، وإن شئت الحق ، والثراء ، وأنه لا حاجة للناس إلى الأردية طالما أن التقدم والرقي لا يكونان إلاّ بغيرها . أليس هذا باتجاه عجيب ؟!!.
من الذي جعلهم يفكرون هكذا ؟!. ألم تكن الآلاف التي ضحت بأرواحها من أجل باكستان واللغة الأردية من أهلهم وأقاربهم وأبناء ملتهم ؟!!. هل نسوا تاريخهم وتضحياتهم ؟!!. الحقيقة أنهم لم ينسوا ، وإنما هناك أيدي تلعب بذاكرتهم لكي ينسوا ، ولا يزال هناك من يدسّ " الأفيون " في وعيهم حتى يغيبوا وإن بقيت أعينهم مفتوحة ، إذ أن العيون المفتوحة ليست دليلاً قاطعاً على أن صاحبها يرى أمامه ، أو أنه يرى الحق حقاً والباطل باطلاً ، وإلاّ فكيف نصدق أنهم يعتقدون فعلاً أن تقدم الدول الآن لا يكون إلاّ باتخاذ الإنجليزية لغة رسمية !!. وهل تقدمت اليابان وألمانيا والصين وغيرها من الدول المتقدمة فعلاً ، أو التي تسير على طريق التقدم عندما جعلت الإنجليزية لغة رسمية لها ؟!. إن الواقع يكذب هذا الكلام وينفيه ، فما أكثر ما نسمع – ويسمعون هم بالطبع – عن تمسك الألمان واليابانيين والصينيين وغيرهم بالحديث بلغتهم حتى وإن أجادوا الإنجليزية ، بل وإصرارهم على ألاّ يتحدثوا بغيرها حتى مع السائح الذي ربما لا يعرف لغتهم ، هذا بالإضافة إلى أن دولة من هذه الدول لم تتخذ من الإنجليزية لغة رسمية . وهل هناك دولة تجاهلت لغتها القومية التي يعرفها الشعب كله ، واتخذت من لغة أخرى غيرها لغة رسمية حتى ولو كانت الإنجليزية ، ثم تقدمت وحققت تطوراً ؟!!. الإجابة : لا . فلماذا إذن تصر باكستان على أن تبقى الإنجليزية لغة رسمية للدولة بينما لغتها القومية تجري في شوارع البلاد وحواريها وبيوتها حافية القدمين حاسرة الرأس تحقق التواصل للشعب مع الحياة دون أن يجرؤ أحد على أن يتخذ قراراً شجاعاً بإنزالها منزلتها اللائقة بها ، والتي تستحقها عن جدارة ؟!.
بعض المخلصين يصرون على أنه إذا كانت الطبقة الحاكمة ، والأثرياء – ومن بينهم بعض رجال الدين – يتلقون تعليمهم في أوروبا وأمريكا ، ويحيون حياتها ، ويتجهون وجهتها ، مما يجعلهم في غير حاجة إلى الأردية التي لا يحتاجها إلاّ الفقراء الذين لن يحكموا البلاد يوماً ، ولن يصيروا أغنياء إلاّ من التعفف ، فمن المصلحة إذن أن تبقى الإنجليزية لغة رسمية حتى يستطيع أولاد الحكام والأغنياء وذراريهم القيام بواجبهم المقدس في حكم البلاد على مرّ الأجيال وتعاقبها !.... إنهم يقولون إن الأردية لغة الفقراء !!... يا إلهي !!... هل توغل نظام الطبقات في البلاد إلى هذا الحد ؟!!!.
الحقيقة أننا لسنا في حاجة إلى أن نؤكد على أن تقدم الإنسان دائماً يكون في لغته ، حيث يتفرغ الذهن للإبداع ، بدلاً من أن ينشغل نصفه بفهم لغة أخرى والحديث بها ، والنصف الآخر – بطبيعة الحال – بتقليد أهلها . إنما القضية قضية الاعتزاز بالهوية والثقافة والحضارة في مقابل ضعف الشخصية وذوبان الهوية وعدم الثقة في الثقافة والحضارة ، والنظر إلى ما في أيدي الغير على أنه أفضل مما في يدي ، طبقاً للمثل الأردي القائل فيما معناه : " دجاجة البيت كالعدس " . وهنا يجب أن نعترف أن دول العالم الثالث ، والإسلامي منه بخاصة يندرجون في الغالب تحت راية هذا المثل المعبّر ، مع تفاوت ليس بكثير في النسبة والتناسب :
لماذا لم تتخذ باكستان من الأردية لغة رسمية لها حتى اليوم ؟!.
وفقد السؤال معناه من كثرة ما سألناه ، وخمدت الثورة ، وانطفأت النار وصارت رماداً ، وبنت اللامبالاة عشّاً فوق وجوهنا ، وساعدها في ذلك تقدم عمرنا بما لم يعد يسمح لنا بمسايرة الحماس بداخلنا ، والأعباء التي نحملها فوق كواهلنا من بيت وأبناء ومصاريف وغلاء ومواصلات وعراق وفلسطين وأفغانستان ، هذه الأعباء التي قصمت أظهرنا ، فلم يعد لنا ظهر نركن إليه ، ولم يعد باستطاعة أحد منا أن يغامر ولو " بجنيه واحد " ، وحمدنا الله على المرتب ، ودعوناه أن يطيل في عمرنا إلى ما بعد المعاش بمعاش ، لنستفيد بالمعاش ، وبمكافأة نهاية الخدمة ، وأن يكفينا شرّ الموت قبل الستين ، أو بعد الستين بقليل ، حتى نشفي غليلنا من الحكومة حين نستمتع بالمعاش ونحن جالسين في بيوتنا بين أكوام الأدوية ، وتلال الآلام ، وكميات من الدعاء بأن يريحنا الله من هذه الحياة ، ويقبضنا إليه فنريح ونستريح !!!.

هوامش
1 - جدير بالذكر أن هذا السؤال لا يزال يتردد على ألسنة أهل اللغة الأردية كلما قابلوا طالباً أجنبياً يدرسها .
2 - هو السيد السفير أنور كمال ، وكان رجلاً مهذباً بشوشاً . وما نقوله هنا لا يقلل من شأن سيادته كسفير لباكستان في مصر أدى ما عليه من واجب دبلوماسي بين مصر وباكستان ، وكان سفيراً ناجحاً بكل المقاييس .
3 - كان من بينهم زوجتي السيدة الدكتورة تبسم منهاس ، ودكتور نجيب الدين جمال وآخرون .
4 - هو السفير عارف أيوب .
5 - هو السيد إياز خان ، وكان محباً للأدب الأردي ، ومن المبدعين فيه ، وإن لم ينشر أياً من إبداعاته حتى وقت كتابة المقال ( 2005م ) ، وكان يتميز بأسلوب فكاهي راق يذكرنا بأسلوب أديب الفكاهة الباكستاني الكبير بطرس بخاري ، ووجه التشابه بينهما أن كلاً منهما عمل في السلك الدبلوماسي ، وصاحب إبداعات أدبية خلاقة ، مع الوضع في الاعتبار ما ناله بطرس بخاري من شهرة كبيرة لم ينلها السيد إياز خان ، وأظن أن السيد إياز لو وجد الوقت الكافي للإبداع الأدبي لوجد مكاناً مناسباً في صفوف كبار أدباء الأردية . ولا بد من الإشارة إلى أن السيد إياز خان كانت له إبداعات شعرية جيدة ، وقد نقل بردة الإمام البوصيري إلى اللغة الإنجليزية .
6 - كان هذا النقاش بين القائمين على البرنامج والسيد السفير يدور باللغة العربية من جانب ، وباللغة الأردية من جانب آخر ، وكنت أقوم بالترجمة بين الجانبين من العربية إلى الأردية وبالعكس .
7 - ربما كان هذا صحيحاً لأن سيادته كان من المناطق التي يعيش فيها أهل لغة البشتو ، وأنه تلقى تعليمه بالإنجليزية ، وربما أراد أن ينهي الموقف الذي أخذ يتعقد شيئاً فشيئاً ، والله أعلم .
8 - بعضهم كان يعمل بالسفارة الباكستانية بالقاهرة ، والبعض الآخر كان يعمل بالمدرسة الباكستانية الدولية بالقاهرة .
9 - كان ذلك في ديسمبر من عام 1971م .