ملاحظة :
أشار عليّ بعض الأصدقاء أن أكتب مقالاً عن قيام باكستان أولاً قبل مواصلة الحديث عن باقي الموضوعات ، وهو رأي استحسنته ، وها أنا أقدم هذا المقال الآن
قيام باكستان
وقع الاحتلال البريطاني الرسمي لشبه القارة الهند وباكستانية عام 1875م بعد فشل ثورة التحرير ، وإن كان هذا الاحتلال قد بدأ عملياً قبل هذا التاريخ بكثير ، وربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أنه بدأ منذ إنشاء شركة الهند الشرقية في البلاد عام 1600م ، فما الاحتلال إلا نهب ثروات البلاد ، واغتصاب خيراتها ، واستغلال أرضها ، وإذلال أبنائها ، وهو ما حدث بالفعل مع قيام هذه الشركة التي خططت - أو خطّط لها - بأن تكون بلاد شبه القارة جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس (1) ، وهو ما عبر عنه "اللورد ماكولاى : lord Macaulay" في مذكراته الشهيرة عام 1835م حين قال عن هدف الإنجليز في الهند بأنه " تكوين طبقة تقوم بدور المترجمين بيننا وبين الملايين التي نحكمها ، طبقة من الأشخاص هنود بالدم واللون ، ولكنهم إنجليز في الذوق والأفكار والأخلاق والسياسة " ، و " اللورد ماكولاي " هذا كان يشغل في تلك الفترة منصب وزير القانون بمجلس الرقابة على الشئون الهندية في الإمبراطورية البريطانية ، وكان أحد زعماء الحركة المنادية بجعل اللغة الإنجليزية وسيلة التدريس في الهند في ذلك الوقت . وسبق أن عبر عن هذا الأمر نفسه - وبصراحة - مديرو الشركة الشرقية في تعليماتهم إلى ممثلهم الرئيسي في " مدراس " أحد المراكز الرئيسية الثلاثة : " بومباي – كلكته – مدراس " للوجود الإنجليزي في البلاد عام 1687م يحثونه على : " إقامة حكم مدني ، وإنشاء قوة عسكرية ، وإيجاد الوسائل التي تكفل الحصول على دخل كبير لتحقيق هذين الهدفين مما يضمن بقاء الهند إلى الأبد مستعمرة كبيرة ذات نظم راسخة تحت السيطرة البريطانية " .
ومن هنا لم يكن الإنجليز ليتخلوا عن احتلالهم لشبه القارة أبداً بعد أن خططوا وفكروا ودبروا ، بل وأقدموا على احتلال بلاد أخرى مثل مصر عام 1883م لتحقيق هذا الهدف وضمان الاستفادة منه ، وعدم مشاركة غيرهم لهم في مغانمهم ، وخاصة فرنسا التي دخلت في صراع وحروب مريرة مع بريطانيا وخاصة في القرن الثامن عشر .
ولكن لكي تحقق بريطانيا هذا الأمر بشكل كامل كان لا بد لها من تنظيم احتلالها للبلاد ، وإصدار القوانين التي تجعل وجوده ثابتاً ، وقبل هذا كان عليها أن تنظر إلى أهل البلاد لتعرف من منهم يمكن أن يكون معها ومن ضدها ، من سيستكين ومن سيثور وينتفض ، وكان لا بد أن تقع أعينهم على المسلمين بالتحديد ، إذ اعتبرتهم الحكومة البريطانية المحرك الرئيسي للثورة التي كلفتهم الكثير ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن دين هؤلاء المسلمين يمنعهم من قبول الظلم والاستعباد ، ويحثهم على الثورة ضده ، و " الجهاد " في سبيل القضاء عليه ، وتكون نتيجة هذا الجهاد هي " النصر " أو " الشهادة " ، وهو ما يسعى إليه المسلم ، فكانت عقيدة الجهاد ترعب الإنجليز رعباً ، وبالتالي اختصوا المسلمين بفيض من كرمهم الاستعماري تمثل في الآتي :
1- حرمانهم من وظائفهم ومصادرة أملاكهم وثرواتهم .
2 - حرمانهم من الالتحاق بوظائف بالدولة بكل الوسائل ، حتى ولو كان بإلغاء اللغة التي يجيدونها وفرض لغة أخرى عليهم لا يعرفونها وجعلها شرطاً للالتحاق بالوظائف ، ثم إن كون هؤلاء مسلمين يكفى لحرمانهم من أية وظيفة.
3- العمل على تجهيلهم وتخلفهم من خلال القضاء على نظامهم التعليمي ، وعدم تقديم العون لهم في هذا المجال خصوصاً .
4- إثارة الفتنة بين المسلمين والطوائف الأخرى في البلاد وعلى رأسهم الهندوس ، ودفعهم إلى التصارع والتحارب المستمر.
5- تقديم أكابرهم ووجهائهم إلى محاكمات صورية لإعدامهم ، أو على أقل تقدير لنفيهم ومطاردتهم أينما كانوا ، وبدأوا بالسلطان المغولي الأخير " بهادر شاه ظفر " فنفوه إلى " رنجون " حتى مات بها عام 1862م ، وقتلوا أولاده ، وأصدروا أحكاماً بالإعدام على كثير بتهم ملفقة ، ولم ينج من مثل هذه الأحكام حتى العلماء والمشتغلين بالأدب والصحافة وغيرها .
هذا وقد وسيطرت بريطانيا على شبه القارة التى كانت تنقسم إلى جزأين رئيسيين هما : " الهند البريطانية والإمارات الهندية " ، وكان بالهند في فترة الاحتلال وحتى الاستقلال " 562 " إمارة تنتشر في كل أنحاء شبه القارة وتغطى حوالي خمس المساحة كلها ، وكان بعضها يعادل في مساحته دولاً كبرى في غرب أوروبا ، وكان أهم تلك الإمارات " إمارة جامو وكشمير ، وإمارة حيدر آباد ، وإمارة ميسور " .
أما الهند البريطانية فكانت تنقسم إلى مقاطعات بقى منها حتى الاستقلال إحدى عشرة مقاطعة ، وكانت كلكتا و مدراس و بومباى هى المراكز الرئيسية للحكم البريطاني ، وظلت كلكتا مقراً للحاكم العام والذي كان يطلق عليه أحياناً لقب نائب الملك حتى أوائل العشرينيات من القرن العشرين عندما نقلت عاصمة الهند البريطانية إلى مدينة نيو دلهى (2) .
ونتيجة طبيعية للوضع الذى وجد المسلمون أنفسهم فيه ، أصابهم قدر كبير من اليأس والإحباط ؛ اليأس من استعادة وضعهم السابق إذ كانوا حكاماً وأصحاب وظائف ومناصب رفيعة والأبواب مفتحة أمامهم (3) ، وإحباط من الوضع الراهن بعد أن أصبحوا هدفاً لاضطهاد الإنجليز وظلمهم في وقت يقربون فيه الهندوس ضد المسلمين بعامة ، وضد الحكم الإسلامى في الهند بصفة خاصة ، وذلك حين أقنعوا الغلاة منهم بأن هؤلاء المسلمين غزاة دخلاء أجانب استنزفوا ثرواتهم لمئات من السنين ، وبذلوا قصارى الجهد في القضاء على حضارتهم وثقافتهم ، فأدى كل ذلك إلى ابتعاد المسلمين عن التعليم الغربى ، وتقوقعهم في إطار ضيق من العلوم الدينية ، وعدم إقبالهم على تعلم اللغة الإنجليزية ، في الوقت الذي أقبل فيه الهندوس على التعليم الغربى ، وحرصوا على التقرب من الإنجليز للفوز بالوظائف والمناصب ، وبالتالى زادت الهوة بين المسلمين والهندوس اتساعاً .
كما لعب الإنجليز بمهارة على وتر التفرقة العنصرية بين المسلمين والهندوس ، وكان أخطر مظاهر هذه التفرقة ما حدث من إثارة مشكلة اللغة الأردية والهندية ، وتحريض الهندوس على طرد اللغة الأردية والقضاء عليها باعتبارها رمزاً من رموز الحكم الإسلامي في البلاد ، أو على الأقل تشويه صورتها وتغيير معالمها وكتابتها بالخط " الديوناكرى " بدلاً من الخط العربي ، وتغيير مسماها ، والزمن – مع جهودهم الحثيثة بالطبع – كفيل بمحوها نهائياً ، وبذا يتخلصون من أبرز مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي في البلاد . وما أسرع ما طفت هذه النوايا على السطح ، فلم يأت عام 1867م حتى بدأ الغلاة من كبار الهندوس في مدينة " بنارس " بحركة تطالب بإلغاء التعامل باللغة الأردية بخطها العربي من المحاكم ، واستبدالها بالهندية ذات الحروف " الديوناكرية " . وحاول المسلمون قدر استطاعتهم مواجهة هذه الحركة .
ومن جانب آخر فإن القوانين التي سنّها الإنجليز لتنظيم شئون حكم شبه القارة الهندية بداية من قانون المجالس الهندية الصادر عام 1861م ، ثم قانون الحكم الذاتي المحلى الصادر عام 1882م ، وقانون المجالس الهندية الثاني الذي صدر عام 1892م ، كل هذه القوانين وغيرها ساعدت في تمهيد الظروف – ولو بشكل غير مباشر – لقبول مبدأ الانتخاب في الهند لتكوين المجالس السابقة ، وانتخاب أعضاء هنود لتمثيل البلاد فيه ، وهو ما جاء برداً وسلاماً على قلوب الهندوس باعتبارهم الأكثرية ، فقد كان مبدأ الانتخابات يعنى في أبسط معانيه فوز الأغلبية بمقاليد الأمور في البلاد ، وهذا يعنى على الجانب الآخر خروج المسلمين من الساحة تماماً باعتبارهم أقلية ، وإن كانوا يمثلون ما يزيد على ثلث سكان البلاد ، ولم تكن كل هذه القوانين السابقة تعترف بقومية منفصلة للمسلمين أو ضرورة تمثيلهم في كل المجالس المزمع تكوينها تمثيلا منفصلاً مستقلاً .
ثم اتخذ الهندوس خطوتهم التالية بمساعدة الإنجليز عام 1885م فأسسوا حزب " المؤتمر الهندي " تحت زعم رعاية مصالح أهل الهند جميعاً بلا تفرقة ، والتعبير عنها أمام سلطات الاحتلال ، ولكن النزعة الهندوسية سيطرت على الحزب ، وبدا واضحاً أنه يعبرعن القومية الهندوسية في كثير من الأحيان متجاهلاً مطالب المسلمين .
لقد أحسن المسلمون في شبه القارة صنعاً حين استشفوا بقوة بصيرتهم استحالة التعايش مع الهندوس ، ووجوب الاعتماد على النفس – بعد الله – في خلق الموقع الملائم والمكانة التي يستحقونها ، فاغتنموا فرصة إعلان السيد " جون مورلى " وزير شئون الهند في 20يوليوعام 1906م عن بعض اقتراحات بزيادة المقاعد المنتخبة في المجلس التشريعي ، فالتقى " السيد آغا خان : 1877م / 1957م " مع وفد بقيادته يضم أربعاً وثلاثين من كبار زعماء المسلمين في ذلك الوقت بالمندوب السامي البريطاني " اللورد منتو : 1845م /1914م " في الأول من أكتوبر عام 1906م ، وقدموا له قائمة بمطالب المسلمين ومنها حقهم في انتخابات مستقلة منفصلة ، وأيد " اللورد منتو " هذا المطلب العادل وأكد على أنه سيتم وضعه في الاعتبار
. وفى 30 من ديسمبر عام 1906م انعقد الاجتماع السنوي لمؤتمر " مسلمي عموم الهند " في " دكا " ، وفى الجلسة الختامية أعلن عن تشكيل حزب جديد للمسلمين باسم " حزب الرابطة الإسلامية لعموم الهند : All India Muslim League " (4) يهدف إلى الدفاع عن حقوق المسلمين ورفع مطالبهم إلى السلطة الحاكمة . ولم يلبث المسلمون أن حققوا نصراً سياسياً حين وافقت الحكومة البريطانية على حق المسلمين في قوائم انتخابية مستقلة عام 1909م فيما يعرف بإصلاحات " منتو مارلى " .
وفى التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1930م عقد حزب الرابطة الإسلامية لعموم الهند جلسته السنوية الهامة في 29 ديسمبر عام 1930م بمدينة إله آباد برئاسة العلامة " محمد إقبال " ، وتعد تلك الجلسة نقطة تحول كبرى في تاريخ المسلمين في شبه القارة ، حيث أعلن إقبال في خطبته أمام المؤتمر قائلاً : " إنى لأود أن أرى البنجاب وولاية الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوجستان تتحد في دولة واحدة يكون لها حكم ذاتي ، سواء في إطار الإمبراطورية البريطانية أو خارج إطارها ، إذ يبدو لي أن تكوين دولة إسلامية متحدة في شمال غربي الهند هو المصير النهائي للمسلمين في شمال غربي الهند على الأقل " ، وكانت فكرة باكستان .
وليس من المستبعد أن يكون هناك العديد من الشخصيات الإسلامية الهامة قد قدمت مثل هذا الإقتراح من قبل ، ولكنه بكل تأكيد لم يكن على مثل هذا المستوى الشعبى الذى ضمن له التنفيذ في وقت يعد قياسياً في نشأة الدول ، هذا بالإضافة إلى الثقل الكبير الذى يمثله العلامة إقبال في وجدان مسلمى شبه القارة ، بل وأهلها على وجه العموم حتى من غير المسلمين .
وما كان لهذا الإقتراح أن يدخل حيز التنفيذ لو لم يقيض الله لمسلمى شبه القارة قائداً عظيماً بحق هو " محمد على جناح " الذي استطاع بحنكته السياسية وخبرته في التعامل مع المواقف الصعبة ، وشخصيته القوية أن يضع الأمور في نصابها ، ويبعث في المسلمين روح التضحية والفداء ، بعد أن رأوا حلمهم الكبير في الاستقلال قد أوشك على التحقيق .
وتوفى العلامة إقبال عام 1938م قبل أن يرى حلمه قد أصبح حقيقة واقعة ، وفي الثالث والعشرين من شهر مارس عام 1940م انعقدت الجلسة السنوية لحزب الرابطة الإسلامية بمدينة لاهور التاريخية بقيادة " محمد على جناح " ، وتقرر فيها بالإجماع المطالبة بقيام وطن مستقل للمسلمين في شبه القارة ، وأطلق على هذا القرار " قرار لاهور " أو " قرار باكستان " ، وقدمه في هذه الجلسة الزعيم البنغالى " مولوي فضل الحق " ، وبذا دخل الكفاح السياسى لمسلمي شبه القارة مرحلة جديدة اعتمدت على الترويج للقرار ، وإعداد المسلمين في أرجاء البلاد من أجل تنفيذه ، ونجح حزب الرابطة في هذه المهمة نجاحاً كبيراً ظهر جلياً في فوزه بكل القاعد التى تقدم لها في انتخابات الجمعية التشريعية المركزية المنعقدة في ديسمبر عام 1945م ، وكذا في انتخابات مجالس المقاطعات التى أجريت في فبراير عام 1946م .
ولم تجد بريطانيا حينئذ مفراً من الموافقة على مطالب المسلمين بعد أن حاولت بكل ما تملك الإبقاء على وجودها في البلاد بأية صورة من الصور ، كما لم يستطع الهندوس مواجهة عزم المسلمين وإصرارهم على تنفيذ مطالبهم ، والتي كانت الدعوة إليها نتيجة طبيعية لاستبداد غلاة الهندوس وتصميمهم على الاستئثار بحكم البلاد وتجميع السلطات كلها في أيديهم وتجاهل مصالح المسلمين ، بل وعدم الاعتراف بهم كأمة مستقلة .
وفى 20 من فبراير عام 1947م أعلن رئيس الوزراء البريطاني السيد " كلمنت آتلي " أن حكومته تنوى اتخاذ الخطوات الضرورية لنقل السلطة إلى أيدي أهل الهند قبل يونيو 1948م ، ووصل اللورد " مونتباتن " إلى الهند فعلاً في 22 مارس عام 1947م لبحث تنفيذ هذا القرار ، وتم الإعلان عن تقسيم البلاد في 3 من يونيو عام 1947م على أساس الأكثرية الدينية في الأقاليم ، بحيث تشمل باكستان الأقاليم ذات الأكثرية المسلمة ، والهند الأقاليم ذات الأكثرية الهندوسية ، وإجراء استفتاءات في المناطق الأخرى ، وخاصة في إقليم " سرحد " و " سلهت " ، واستصدار قرارات من برلمانات بعض المقاطعات في هذا الصدد مثل " البنجاب " و " البنغال " ، ووافق البرلمان البريطاني على هذا في 4 يوليو ، ثم وافق عليه مجلي العموم في 15 يوليو ، وتمت الموافقة الملكية في 18 من الشهر نفسه .
ورغم التجاوزات التي ارتكبها الإنجليز والهندوس ، إلا أن نتائج قرارات المقاطعات والاستفتاءات كلها أكدت على صواب قرار المسلمين بقيام دولة مستقلة لهم ، وأنه لا بديل عنه ولا مجال للمساومة فيه ، كما أثبتت خطأ القائلين بضرورة بقاء الهند موحدة بعد أن رأى المسلمون من العذاب والظلم على أيدى الإنجليز وغلاة الهندوس ما جعلهم يرون هذا الاتحاد مستحيلاً يفوق كل المستحيلات . وقرر برلمان " السند " الانضمام إلى باكستان ، وكذا فعل أهل " سرحد " و " سلهت " في استفتائهم ، وصوّت برلمان " البنجاب " و " البنغال " لصالح التقسيم ، مما حدا بالحكومة البريطانية إلى تشكيل لجنة لوضع الحدود بين الهند وباكستان في هذين الإقليمين بقيادة السيد " سيرل ريد كلف " الذي واجه ضغطاً عنيفاً من اللورد " ماونت بيتن " بتحريض من زعماء المؤتمر الهندى نتج عنه زيغ شديد عن الحق في وضع الحدود لصالح الهند ، مما حرم باكستان من عدة مدن كبيرة ذات أكثرية مسلمة ، كما جعل أمر التحكم في مياه أنهار " ستلج " و " بياس " و " الراوى " في يد الهند ، وهى الشرايين الحيوية للمياه في باكستان ، ثم كان الأخطر من كل هذا وهو أن التقت حدود الهند مع حدود " كشمير " مما سهل أمر الخيانة الكبرى بإعلان الحاكم الكشميرى إنضمام إمارة " كشمير " إلى الهند رغماً عن الأكثرية المسلمة ، وهى المشكلة التى لم يتم حلها حتى يومنا هذا رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على وقوعها .
وقبل دقيقة واحدة من تمام الساعة الثانية عشرة من ليلة الرابع عشر من أغسطس عام 1947م أعلنت الإذاعة أنه في منتصف الليل تماماً ستظهر على خريطة العالم دولة جديدة هي " باكستان " ، وفى الثانية عشرة تماماً انطلق صوت : هنا إذاعة باكستان " باللغة الإنجليزية " ثم " باللغة الأردية " ، وتولى القائد العظيم " محمد على جناح " منصب الحاكم العام للبلاد ، والسيد " لياقت على خان " رئاسة الوزراء ، و " القاضي عبد الرشيد " منصب قاضي القضاة ، و " السير فريدرك بورن " حاكماً للبنغال الشرقية ، و " السير فرانس مودى " للبنجاب ، و " الشيخ غلام حسين " للسند ، و " السير جورج كتجهم " لإقليم سرحد ، والسيد " جيوفرى براير " لمنطقة " بلوجستان " التي لم تكن قد أصبحت إقليماً في ذلك الوقت . وضمت الوزارة الجديدة برئاسة " لياقت على خان " كلاً من " سردار عبد الرب نشتر ، وراجه غضنفر على خان ، وفضل الرحمان ، وآئى آئى جندريكر ، وغلام محمد وجوكندر ناتهـ مندل " .
واعترفت مصر بباكستان كدولة مستقلة في 16 أغسطس ، وأصبحت باكستان عضواً في الأمم المتحدة في 18 أغسطس ، وبدأ العمل في المصالح الحكومية من 19 أغسطس ، وفى 18 نوفمبر من العام نفسه أصبحت كراتشى أول عاصمة لباكستان ، وصدرت العملة الباكستانية في 17 فبراير 1948م .
وعلى الجانب الآخر تم إعلان استقلال الهند في 15 أغسطس 1947م ، وتولى منصب الحاكم العام للبلاد اللورد " ماونت بيتن " بعد أن تخلى عن منصبه كنائب للملك البريطاني ، وتولى رئاسة الوزراء " جواهر لال نهرو "
من هذا العرض السابق يتضح لنا أن كفاح المسلمين و نضالهم من أجل إقامة وطن لهم في شبه القارة قد استمر ما يقرب من قرن كامل ذاق فيه المسلمون مرارة الذل و الاستعباد ، ورأوا فيه من الأهوال ما يفوق طاقة العباد ، ومع قيام باكستان أتيح للمسلمين عبادة الله بحرية ، وأتيح للأردية أن تنطق بها الألسنة دون خوف ، وأن يظلها سقف يحميها من وابل سهام لم ينقطع على مدى ما يقرب من قرن كامل من الزمان ، وانتقلت الأردية بكل ثقلها الحضارى والثقافى إلى معقلها الجديد باكستان .
وتوفى القائد المؤسس " محمد على جناح " فى 11 سبتمبر 1948م ، وتولى بعده " خواجه ناظم الدين " ، ونشبت الحرب بين باكستان والهند فى كشمير فى نهايات عام 1948م ، وانتهت باحتلال الهند لثلثي كشمير بعد أن استطاع جيش الدولة الوليدة بمشاركة رجال القبائل في تخليص ثلث كشمير من المصير الذي آل إليه الثلثان ، وأعلن قيام " كشمير الحرة " ، وتم اغتيال رئيس الوزراء " لياقت على خان " فى 16 أكتوبر 1951م فى مدينة راولبندى ، وتولى " خواجه ناظم الدين " رئاسة الوزراء ، كما تولى منصب الحاكم العام السيد " غلام محمد " ، ثم أقاله رئيس الوزراء ناظم الدين من منصبه فى 17 أبريل 1953م ، وتم تعيين " محمد على بوكره " سفير باكستان فى أمريكا فى ذلك الوقت رئيساً للوزراء بدلا منه ، ثم استقال الحاكم العام " غلام محمد " من منصبه فى 19 سبتمبر 1955م ، وتولى الجنرال " سكندر ميرزا " بدلا منه ، وصدر الدستور الأول لباكستان فى مارس من عام 1956م ، ثم انتخب الجنرال " سكندر ميرزا " كأول رئيس للبلاد فى 4 مارس عام 1956م .
ثم توالى تغير الحكومات ، واستقال " محمد على بوكره " من رئاسة وزراء باكستان فى 8 من سبتمبر عام 1956م ، وتولى مكانه " حسين شهيد سهروردى " ، واستقال هذا الأخير من منصبه فى 11 أكتوبر عام 1957م ، وتولى " آئى آئى جندريكر " رئاسة الوزراء مكانه ، ثم استقال هو الآخر فى 11 ديسمبر من العام نفسه ، وتولى " فيروز خان نون " مكانه . وفى السابع عشر من أكتوبر عام 1958م استولى الجيش على السلطة بقيادة الجنرال " محمد أيوب خان " ، وأعلن الأحكام العسكرية ، وأقال الحكومة وأوقف العمل بالدستور ، وحل المجالس النيابية ، وبقى " اسكندر ميرزا " فى منصبه وعين الجنرال " محمد أيوب خان " فى منصب رئيس الوزراء بتاريخ 24 أكتوبر 1958م ، وفى السابع والعشرين من نفس الشهر قام بتفويضه فى كل السلطات ، وبالتالى تولى " أيوب خان " منصب الرئيس ، وتم إلغاء منصب رئيس الوزراء ، والعمل بالنظام الرئاسى فقط ، وفى عهد " محمد أيوب خان " هذا صدر الدستور الثانى لباكستان .
ثم نشبت الحرب بين باكستان والهند فى سبتمبر من عام 1965م ، واستقـال الرئيس أيوب خان من منصبه فى 25 من مارس عام 1969م بعد أن عهد بأمور البلاد إلى الجنرال " يحيى خان " الذى أعلن الحكم العسكرى فور توليه السلطة ، وحل المجالس النيابية والشعبية وكذا الحكومة ، وبدأت الخلافات السياسية على أشدها بين الرئيس " يحيى خان " والشيخ " نجيب الرحمن " رئيس حزب الشعب البنغالي ، وتداعت الأحداث حدثاً تلو الآخر حتى تدخلت الهند بكل قوتها العسكرية فى حرب شاملة ضد باكستان فى نوفمبر وديسمبر من عام 1971م أدت إلى انفصال باكستان الشرقية كدولة مستقلة باسم " بنجلاديش " بقيادة نجيب الرحمن سابق الذكر ، واستقال الرئيس " يحيى خان " ، وتسلم بدلاً منه وزير خارجيته " ذو الفقار على بوتو " فى 20 من ديسمبر عام 1971م .
ورغم أن انفصال البنغال فى دولة مستقلة عن باكستان كان أمراً متوقعاً بالنظر إلى خريطة البلاد حيث تفصل بين باكستان الشرقية " البنغال " وباكستان الغربية مساحات شاسعة من أرض الهند العدو التقليدى لباكستان إضافة إلى النفوذ الهندى القوى فى البنغال الذى فرضته عوامل القرب والجوار ، لكن المقطوع به هو أن السياسة الداخلية لباكستان فى تلك الفترة قد لعبت دوراً مؤثراً فى سرعة حدوث هذا الانقسام الذى وقع ولم يتعد عمر باكستان على خريطة الدول أكثر من أربعة وعشرين عاما ليس إلا ، وكان من المفترض أن تعمل الحكومة الباكستانية فى تلك الفترة على حل المشاكل الداخلية بحكمة وعناية حتى تتجنب فى النهاية هذا الجرح الغائر فى جسد الدولة الوليدة والذى لم يندمل حتى الآن، لا أن تعتمد على مسكنات انقلبت إلى مشارط تقطع وتفتت .
على أية حال لم تكد الأمور تستقر فى البلاد حتى ثارت الاضطرابات بشدة بعد انتخابات عام 1977م ، والتى أجريت طبقاً للدستور الجديد ، وساءت الأمور كثيراً حتى استولى الجيش مرة ثالثة على السلطة فى البلاد وذلك فى الخامس من يوليو عام 1977م بقيادة " الجنرال ضياء الحق " ، وأوقف العمل بالدستور الجديد .
ثم حكم على " ذو الفقار علي بوتو " بالإعدام ، وتم تنفيذ الحكم في يوليو من عام 1979م ، وفي 17 أغسطس من عام 1988م سقطت الطائرة C. 130 التي كان يستقلها الرئيس " ضياء الحق " بالقرب من " بهاولبور " التي كان الرئيس في طريقه إليها ، ومات " ضياء الحق " ومعه عدد كبير من قادة الجيش الباكستاني والسفير الأمريكي لدى باكستان .
ثم تولت السيدة " بينظير بوتو " رئاسة وزراء البلاد مرتين منذ عام 1988م بعد فوز حزب الشعب الذي أسسه والده " ذو الفقار علي بوتو " في الانتخابات ، ولم تكمل حكومتها في المرتين المدة المقررة لها ، إذ أقالها رئيس البلاد بتهمة الفساد ، وتولى نواز شريف رئاسة الوزراء ، وأقيل هو الآخر ، ثم أعادته المحكمة الدستورية العليا إلى الحكم ، إلى أن جاء الجنرال " برويز مشرف في 12 أكتوبر عام 1999م " بانقلاب عسكري أطاح بحكومة " نواز شريف " الذي نفي إلى المملكة العربية السعودية ، وعاد منها بعد سبع سنوات كاملة .
ثم فاز حزب الشعب في الانتخابات البرلمانية التي عقدت في 18 فبراير 2008م ، وشكل الحكومة برئاسة السيد " يوسف رضا جيلاني " ، وعلى إثر ذلك استقال " برويز مشرف " من رئاسة البلاد ، وتولى مكانه السيد " آصف على زرداري " زوج الراحلة " بينظير بوتو " ، ولا يزال في منصبه هذا حتى تاريخه ( 6 سبتمبر 2009م ) .
ولا شك أن قيام باكستان كان أحد الأحداث العظيمة التي شهدها القرن العشرين على المستوى السياسي ، كما كان نقطة تحول كبرى فى تاريخ اللغة الأردية على المستوى المحلى وعلى المستوى الدولى أيضاً ، فقد خرجت باكستان باللغة الأردية من المحلية إلى العالمية ، وعملت على نشرها خارج حدود أرضها ، وخاصة فى العالم العربى والإسلامى ، وكانت مصر من أوائل الدول أدخلت الأردية فى جامعاتها ، وكان الأزهر الشريف صاحب الفضل الأكبر فى هذا الصدد حين أنشأ قسمين مستقلين للغة الأردية ؛ واحد بفرع البنين ، وآخر بفرع البنات ، ولا تتوانى الحكومة الباكستانية فى إمدادهما بالكتب والأساتذة والأجهزة العلمية من آن لآخر ، وهكذا أصبحت اللغة الأردية رباطاً قوياً هاماً يربط بين البلدين الشقيقين الكبيرين " مصر وباكستان " .
هوامش
1 - في قمة توسعها وصلت الإمبراطورية البريطانية إلى أن تغطي ربع مساحة اليابس ، وأن تحكم ثلث سكانه ، أو نحو ما يزيد عن أربعة عشر مليوناً من الأميال المربعة ، وألف مليون نسمة على الترتيب في انتشار مطلق حول الكرة الأرضية كلها .
2 - وتعني " دهلي الجديدة " ، وواضح أن الأصل أن تكون " نيو دهلي " ، ولكن " دهلي " حرّفت إلى " دلهي " بينما اسمها في الأردية " نئى دهلى " .
3 - كان المسلمون قبل الاحتلال يحتلون المواقع العليا في الجيش وإدارة البلاد والمؤسسات العلمية ، لكن اضطهاد الإنجليز المتعمد لهم كان منذ بداية الوجود الإنجليزي في البلاد ، إذ أعلن الحاكم الإنجليزي الأول لإقليم " البنغال " بعد إخضاعه وهو " اللورد كلايف : 1725م / 1774م " رسمياً أنه لن يسمح لأحد من المسلمين أن يتولى ولو وظيفة " ساع " في مصلحة ، أو " كاتب " بها ، وبالطبع كان قرار تغيير اللغة ، والذي صدر في عهد " اللورد وليم بينتكـ : 1774م / 1839م " ضربة كبيرة للمسلمين هناك .
4 - بعد قيام باكستان عام 1947م لم يعد يسمى حزب الرابطة الإسلامية لعموم الهند ، وأصبح اسمه " حزب الرابطة الإسلامية " فقط .