صرخة لإنقاذ التعليم الجامعي في غزة

أ.د. محمد اسحق الريفي

دار حديث بين طالب جامعي وزميل له يجلس إلى جانبه في سيارة متجهة نحو إحدى الجامعة في غزة حول أحد الأساتذة. قال الطالب: أنا لا أحب هذا الدكتور وأدعو الله أن يريحنا منه، فهو يعاملنا بقسوة. فسأل زميله: وكيف يعاملكم بقسوة؟ فأجاب الطالب: إنه يطلب منا إعداد الأبحاث والتقارير، ويكلفنا بواجبات أسبوعية، ويعقد لنا اختبارات شهرية...

يا لها من مصيبة أصابت طلابنا وجامعاتنا! أهكذا ينظر الطلاب إلى أساتذتهم الذين يخلصون في عملهم ويجتهدون في تحقيق أهداف التعليم الجامعي وفق معايير الجودة الشاملة، ويحرصون على إكساب طلابهم خبرة حقيقية، ويعززون قدرات الطلاب على التفكير والاستكشاف والحل العلمي للمشاكل، ويطورون مهاراتهم وكفاءاتهم، ويمنحونهم فرصة لتطبيق ما يتعلمونه في الجامعة والربط بينها وبين المجتمع المحلي، ويحثون الطالب على الجد والاجتهاد، ويعطون الطلاب أدواراً فاعلة في العملية الأكاديمية؟

لقد عبر الطالب بوضوح عن اتجاهات نسبة كبيرة من الطلاب الجامعيين في غزة، وربما في العالم العربي كله، حول التعليم الجامعي، وهي اتجاهات سلبية محبطة تدل على أن جامعاتنا في خطر كبير، وأن نسبة كبيرة من طلابنا لا يسعون إلى تحصيل العلم والمعرفة، وإنما يسعون فقط إلى الحصول على الشهادات، كي يتمكنوا من إيجاد وظيفة، دون تأهيل حقيقي، فيصبحون عالة على المجتمع، ويسهمون في تراكم المشاكل الصحية والتربوية والاجتماعية والإدارية...

قد يبرر بعض الناس الاتجاه السلبي لذاك الطالب بالظروف الصعبة التي تعيشها غزة وشعبنا الفلسطيني، حيث الحصار والعدوان الصهيوني المتواصل وعدم الاستقرار السياسي، ما يصيب المواطنين عامة والطلاب خاصة بمشاكل نفسية عميقة، تصيب الجميع بالإحباط، وتثبط الهمم، وتنشر الهلع، ... وهكذا. ولكنني أجد في هذه المشاكل الكبيرة دافعاً للطلاب الجامعيين وأساتذتهم وإدارات الجامعات لأخذ مواقعهم في صراع الوجود بيننا وبين الصهاينة واليهود، فعلينا أن ننظر إلى الجامعات على أنها المحاضن التربوية والثقافية والتعليمية والتكنولوجية والعلمية التي تعد الشباب وتؤهلهم لأخذ دورهم الحضاري المهم في الصراع الذي نخوضه رغماً عن أنوفنا مع أعداء أمتنا الصليبيين الجدد والصهاينة، وفي صراع الوجود مع اليهود، الذين يسعون إلى إلغاء وجود شعبنا واغتصاب أرضه وتحويلها إلى وطن قومي لهم.

وأنا لا ألوم الطلاب لوحدهم في هذه النظرة البائسة للتعليم الجامعي، فإدارة الجامعات وأساتذتها يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية، خاصة أن إدارة الجامعات باتت الآن تتنافس فيما بينها على استيعاب أكبر عدد من الطلاب على حساب العملية الأكاديمية، وتكديسهم في القاعات الدراسية بطريقة تخالف معايير الجودة الشاملة، بل تضرب بهذه المعايير عرض الحائط ولا تتذكرها إلا عند تقديم مشاريع الحصول على تمويل وخصوصاً من الجهات الغربية!

على أي حال، النظرة السلبية للتعليم الجامعي هي انعكاس لمشاكل خطيرة نخرت عظام التعليم الجامعي وحولت الجامعات إلى مؤسسات ربحية على حساب جودة التعليم، وللخلل الكبير الذي أصاب العلاقة بين الطالب الجامعي وأستاذه وأضر بتوزيع الأدوار بينهما في إطار العملية الأكاديمية، وأهم هذه المشاكل: غياب التفاهم بين الطالب والأستاذ، ضعف اهتمام الجامعة بالعلاقات الأكاديمية بين الطالب وأساتذته، اضطراب مفهوم التعليم الجامعي لدى الطلاب، تكوين اتجاهات سلبية لدى الطالب حول الأنشطة الأكاديمية، عدم معرفة الطالب لدوره، ضعف قدرة الطالب على التمييز بين الأستاذ الجاد والأستاذ الذي يهتم فقط بعلاقته مع الطالب.

ومع الأسف الشديد، تنساق كثير من الجامعات وراء رغبات الطلاب الكسالى، فيضحون بالتعليم من أجل إرضائهم، فتفقد الجامعات جزءاً حيوياً كبيراً من دورها في النهضة والتنمية والمواجهة الحضارية، ما يستدعي هذه الصرخة التي ستتلوها صرخات لإنقاذ الطلاب والجامعات!

23/10/2009