ماذا يريد الكاتب ؟ (1- 4)
بقلم: محمد جبريل
.....................
" الفن .. مقلق أبداً ، ثورى دوماً "
هربرت ريد
" الأدب عالم مغاير "
الفيلسوف بومجارتن
" لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب . إنه الكائن الذى يقود ، يعمل بريشته ، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف "
مقولة فرعونية
" إن الكلمات هى غدارات محشوة "
الكاتب الفرنسى بريسباران
" لست إلا أديباً ، ولا أستطيع ، ولا أريد أن أكون شيئاً آخر "
فرانز كافكا
لماذا أكتب ؟
لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسى أو مناقشته . نشأت فى بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة ، مكتبة زاخرة بمئات الكتب ، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته ، ومناقشات لا تنتهى فى السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبى وأصدقائه . أشارك فيها ـ أحياناً ـ بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب ، أو بما يدفع أبى إلى إسكاتى ، لسذاجة آرائى .
نشأت وأنا أقرأ وأكتب ، فغاب السؤال ، لأن الفعل سبق تقصى البواعث . وحين واجهنى السؤال ، بدأت التفكير فى إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل ، ولا تدبرتها ، لأنى حين بدأت القراءة الأدبية ، فالكتابة ، لم أكن طرحت على نفسى أسئلة من أى نوع .
والحق أنى لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى . كانت أيام طه حسين هى أول ما قرأت من أعمال أدبية . أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة . أما بدايتى الأدبية ، أول ما كتبت ، فإنى لا أذكر متى ولا كيف ، وهل عرضت محاولتى على آخرين ، أو أنى لجأت ـ عقب الكتابة ـ إلى تمزيقها .
***
كانت القصيدة الشعرية هى أول ما كتبت . لم أكن تعلمت الأوزان ، فلجأت إلى المحاكاة . قصيدة الرثاء التى كتبها شوقى ـ مثلاً ـ تتحول إلى قصيدة مناجاة للحبيبة ، القصيدة البرمكية الشهيرة : قل للخليفة ذى الصنيعة والعطايا الفاشية .. وابن الخلائف من قريش والملوك العالية .. إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية .. صفر الوجوه عليهموا حلل المذلة بادية .. إلخ ، كتبت على منوالها : قل للحبيبة ، وكلمات أخرى باعثها التقليد ، فبديهى أن ابن الثامنة ، أو التاسعة ، لن يكون قد تعرف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدى ، أو حتى الأفلاطونى .
ثم كتبت العديد من القصص وأنا فى المرحلة الأولية ، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال ـ فى المرحلة السنية نفسها ـ يفعلونه ، لا شبهة نبوغ ، أو تفرد ، القضية هى فيما يلى هلاميات البداية .
كنت أكتب قصصاً مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال ، فتنشرها بعد أن تهذبها ، أو تعيد كتابتها ، وقرأت محاولاتى لتلاميذ ـ وأحياناً : أساتذة ـ مدرسة البوصيرى الأولية . وعجل زميلى فى الدرج المجاور باحترافى ، حين أصر أن أكتب له قصة ، فلا يقرأها سواه ، ودفع المقابل مليمين ، كنت أسعد الناس بهما ، لا للقيمة المادية ، بل لأنى تقاضيت أجراً عما كتبته !
***
كانت الملاك روايتى الأولى ، المطبوعة . توليفة مقلدة للمنفلوطى وطه حسين والمازنى والسباعى وعبد الحليم عبد الله وغيرهم ، تلتها رواية ظلال الغروب . توهمت ـ دون وعى حقيقى ـ أن الجنس مهم فى العمل الفنى، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة ، وغير مبررة ، فى حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة ، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها . قصة أتيح لى معايشتها ، وكانت الفتاة الراحلة هى طرف العلاقة الآخر . ثم كتبت رواية باسم أين الطريق ؟ ، لا أذكر شيئاً من أحداثها ولا شخصياتها ، وإن كنت أذكر ـ بحب ـ محاولة صديقى المهندس صلاح شاهين ـ أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية ـ طباعتها على نفقته .
إرهاصات ، أحتفظ بها فى مكتبى ، من قبيل الذكرى ، ولتلمس خطوات البداية . أما القصة التى أعتبرها بدايتى الحقيقية ، فهى " يا سلام " ، كتبتها فى 1956 ، ونشرتها ضمن مجموعتى " تلك اللحظة " .
حاولت ـ بالطبع ـ أن أنشر محاولاتى الباكرة فى صحف الإسكندرية . قدمت الفصلين الأولين من روايتى " أين الطريق " إلى رئيس تحرير جريدة " العهد الجديد " ، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفاً ، ونشر الفصل الأول من الرواية فى الجريدة ، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثانى إلى جريدة أخرى اسمها " الاتحاد المصرى " ، فنشرته . وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوّد بياض الصفحات ، ولأن القارئ الذى يتابع كان غائباً ، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين فى الأخرى مسألة واردة ، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التى تحقق لها الربح المسبق .
بالمناسبة : لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة . ومع أن صديقى صلاح شاهين قد تكفل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته ، ولم يطبع الجزء الباقى لتكاسل منى ، لا لتقصير منه .. مع ذلك ، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو فى ذاكرتى الآن كالأصداء البعيدة ، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها !
***
الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل المودة ، أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة ، لكن الإبداع الروائى والقصصى فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته بلا عوز مادى ، فيسافر ، ويتأمل ، ويقرأ ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه ، دون خشية من الفقر ، وما يضمره من احتياجات .. لكن المقابل المحدد ، والمحدود ، الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمناً لعمله ، يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة .
لقد اعترف الروائى الإنجليزى فرانسيس كنج ـ فى بساطة وصراحة ـ أن السبب الحقيقى فى اتجاهه للنقد ، هو أنه من الصعب ـ فى بريطانيا ـ أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب ، ومن ثم فقد اتجه ـ وعدد آخر من الروائيين البريطانيين ـ إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية . فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون فى الغرب ـ لظروف اقتصادية كما ترى ـ فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون ـ مقابلاً لأعمالهم ـ بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة ؟! [ هذه الكلمات ، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة ، بالإضافة إلى تفشى جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلاً من مكافأتهم ، ولو ببضع نسخ ! ]
من هنا ، كان اختيارى ـ أو لجوئى ـ للصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً . وكنت أتذكر المازنى وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن وحده شاغله وهواه ، وكتبت فيما أعرفه ، واستعنت ـ بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر ـ فيما لم أكن أعرفه . ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بكتابة عمل أدبى : رواية النظر إلى أسفل مثلاً ، ورواية الأسوار ، ورواية الخليج " ، ورواية صيد العصارى " ، ورواية كوب شاى بالحليب وغيرها ، لكن الأدب ظل ـ بالرغم منى ـ تزجية فراغ . أحاول الكتابة إن وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً . لذلك كان ترحيبى ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان ، للإشراف على إصدار جريدة " الوطن " . وكنت أمنى النفس بأن أدخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن ، أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى بالفعل ، فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ـ ما أمكن ـ فإن " مصر " ، الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ، هى الشخصية الأهم فى كل إبداعاتى . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها ، نبض كتاباتى جميعاً ، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب ، وكانت حصيلة ذلك ـ كما تعرف ـ عشرات المقالات التى تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية ، بدءاً بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى كتاب " مصر المكان " ، وربما إلى كتب أخرى تالية .
لم تكن الصحافة إذن مدخلى إلى الأدب ، لكن الأدب كان مدخلى إلى الصحافة . أحببت الأدب ـ كما قلت لك ـ فى سن باكرة ، لا أستطيع تحديدها تماماً . ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها ، كانت الصحافة هى المهنة الأقرب إلى اهتماماتى الأدبية . أذكر قول أرسكين كالدويل : " لم يكن لدى طموح فى أن أجعل الصحافة مهنتى فى الحياة ، لكن عمل الصحافة هو الكتابة ، وكانت الكتابة هى الشيء الذى كنت أريد أن أتعلمه " ( ت سيد جاد ) . أقدمت على العمل فى الصحافة وفى خاطرى قول همنجواى " إن العمل الصحفى لن يؤذى الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه فى الوقت المناسب . وكنت أدرك ـ كما أدرك تولستوى دوماً ـ أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعنى من الأدب . عاهدت نفسى ـ مثلما فعل كالدويل من قبل ـ على أن أى عمل أشتغل به غير الكتابة ، سوف يكون مؤقتاً ، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار فى العيش ، والاحتفاظ بسقف فوق رأسى ، وبكساء فوق جسدى .
قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسى نفسه ، وارتمى فى أمواجها . اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب ، وإلى اهتماماته ، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل ـ بطل ستندال ـ فأواجه دائماً تلك المشكلة الأليمة التى تتمثل فى الوجبة التالية ، ومن أين آتى بها . إذا كنت قد حاولت الإجادة ، فلأنى أحاول الإجادة فى أى عمل أوافق على أدائه ، حتى لو لم أكن أحبه . مع ذلك ، فإنى أحاول أن أجعل معظم وقتى للأدب ، وأقله للصحافة . علمتنى ذلك تجربة السنوات التسع التى قضيتها مسئولاً عن تحرير " الوطن " . وحتى الآن ، فإن حلم كافكا يراودنى فى أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتى ، لكى أفرغ لكتابة عمل آخر . حينذاك تكون كل آمالى فى الحياة قد تحققت .
(يتبع)
المفضلات