آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: القصة تكتب نفسها

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي القصة تكتب نفسها

    القصة تكتب نفسها (1 ـ 3)

    بقلم الروائي: محمد جبريل
    ................................


    " إن الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن "
    بوشكين
    " للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده "
    أندريه جيد
    إن الفن يزلزلنى ، عبارة لفلوبير ، أتذكرها كلما أنهيت عملاً ما . كانت الكتابة ـ فى تقدير فورستر ـ أمراً مريحاً ، وأعلن دهشته لعبارة " آلام الخلق " . وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلى نفسه . والكتابة ـ عند الكثيرين ـ هى مجرد تسلية . يغيظنى قول أحدهم ، رداً على اعتذارى عن موعد بأنى مشغول : يعنى مشغول فى ايه ؟. والكتابة : أليست مشغولية ؟ أليست هما يجب حشد النفس له ؟. أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضرباً من السحر ، وأنها تخلو من الجدية . عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها ، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول . وحين سئل وليم ستايرن : هل يستمتع بالكتابة ؟. أجاب : كلا بالقطع !. نعم ، إنى أشعر شعوراً طيباً عندما أجيد ، لكن ذلك الشعور يتخللهالألم الذى أعانيه كلما شرعت ـ كل يوم ـ فى الكتابة . بصراحة ، إن الكتابة جحيم !
    اللغة تقول إن الإبداع هو " إحداث شيء على غير مثال سابق " . وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليه ، فإن ناتالى ساروت تعلن " يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون " . ويقول سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً من قبلى لم يقم بهذه المهمة " . ولعلى أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هى أن تبين دائماً عن الجديد . الخطأ الأكبر الذى يقع فيه الروائى هو أن يكون سلفياً ، فيكرر ما اكتشفه ـ من قبله ـ الآخرون . القول بانه لا جديد تحت الشمس يحتاج إلى مراجعة . ثمة الجديد دائماً تحت الشمس ، وكل يوم هو إضافة ـ سلبية أو إيجابية ـ فى حياة الفرد والجماعة ، وفى حياة الكون جميعاً ، وإلا فماذا تعنى آلاف المنجزات التى تقدمها البشرية ، فى توالى الأيام : الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها ؟. يعجبنى قول جارثيا ماركيث " الكاتب الذى لا يعرف ماذا يعمل ، يسعى دائماً ألا يكون شبيهاً بالآخرين ، لكنه يصبح فى الحال غير متجاهل للكتاب الذين يحبهم ، أفضل من هجرهم نهائياً " . ودلالة قول هيراقليطس " أنت لا تستطيع أن تستحم فى مياه النهر مرتين " واضحة ، فمياه النهر فى جريان دائم ، بحيث يغتسل المرء دائماً فى مياه جديدة .
    والحق أنى لا أذكر متى كان تعرفى إلى الإبداع السردى ، كقارئ فى البداية ، ثم كواحد من الذين يطمحون لتقديم إضافة فى هذا المجال . كانت أيام طه حسين هى أول ما أذكره من قراءات مؤثرة ، قرأتها فى حوالى الثامنة من عمرى ، أحببت لغتها فى القراءة الأولى ، ثم ألممت بضمونها فى القراءة الثالثة ، وأفدت ـ بعد ذلك ـ كثيراً من مكتبة أبى . كانت تضم عدداً هائلاً من المؤلفات التى تعنى بألوان المعرفة الإنسانية ، والقصة والرواية ـ بالطبع ـ من بينها . وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى ، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطى والمازنى وهيكل وحقى وعبد الحليم عبد الله ومكاوى وغيرهم من أدباء جيل الرواد ، وجيل الوسط الذين أتاحت لى مكتبة أبى قراءة مؤلفاتهم [ تعرفت إلى نجيب محفوظ فى مرحلة تالية ] . وقد أقدمت فى سن باكرة على إصدار كتابين [ التسمية لا تخلو من تجاوز ] يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة ، وهما الملاك وظلال الغروب . أنت تجد فى كل فقرة ، وكل تعبير ، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار . كنت أنفذ ـ دون أن أدرى ! ـ نصيحة د . جونسون " انقل كتابات أدبائك المفضلين حتى تستطيع ـ ذات يوم ـ أن تكتب مثلهم " . كنت فى مرحلة الصبا ، لم أستقر على أسلوب ، وإن تعجلت ـ فى الوقت نفسه ـ أن أكون كاتباً . كانت " الملاك " أشبه بمقال رثائى لأمى التى اختطفها الموت قبل سنوات . أما ظلال الغروب فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة . وبالطبع ، فإنى أعتبر هذين النصين من ذكريات الصبا ، بل إنى أتردد كثيراً فى وضعهما تحت تصرف الدارسين ، حتى لا يصدموا فى سذاجات البداية . أما قصة البداية التى أعترف بها ، فهى يا سلام من مجموعة تلك اللحظة . كنت أسير فى شارع شريف ، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية ، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح ، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم فى أى مكان . ولأن مصر ـ أيامها ـ كانت تواجه عدوان 1956 ، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب . ثم كتبت العديد من القصص القصيرة ، قرأها أستاذى أحمد عباس صالح ، فنصحنى بأن أمزق معظمها ، وأنشر أقلها ، وبعضها لم أنشره فى مجموعتى الأولى .
    ***
    يقول نورمان بوردور فى سيرته الذاتية : " الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضاً ، ولا أحد ، حتى المحللين النفسيين ، يعرف القوانين التى تحكم حركتها أو توقفها . فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة ، وحتى الدراسة النقدية ، هى هناك ، حتى قبل أن يخط الكاتب كلمة واحدة على الورق . وفعل الكتابة أشبه بالمفتاح السحرى الذى يفتح الباب المغلق ، فيبدأ الإبداع فى التدفق " . وبالنسبة لى فإنى أخشى العمل الفنى قبل أن أبدأ فى كتابته ، يشغلنى ، ويلح على . أقرر ـ مرات كثيرة ـ أن أخلو إليه لأكتبه ، لكننى أتذرع بحجة ما ، فأتشاغل عنه ، وإن ظل يشغلنى إلى حد بعيد . ثم أبدأ فى الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحاً داخلياً يدفعنى إلى ذلك . ربما انشغلت ، أو تشاغلت ، فتفلت اللحظة الماسبة . وحين أتوهم ثانية أنها قد عادت ، تأتى الكلمات باهتة ، باردة ، كالوجبة التى لم تقدم وهى ساخنة . وفى معظم الأحيان ، فإن البدء والختام فى قصة قصيرة ـ أحرص أن يكون ذلك فى جلسة واحدة ـ تأتى أقرب إلى المفاجأة . ربما تطاردنى الفكرة شهوراً ، فأتناساها وأهملها ، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى ، ثم يجرى القلم على الورق دون تعمد . ولعلى أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية " إننى لا أضعها أبداً ، إنما هى تنمو ، فهى تقبل على ملحة فى أن أكتبها ، ولولا أننى أحببت موضوعاتها لحزنت ، وما كان لشيء أن يحملنى على كتابتها إطلاقاً . أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلاً ، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدنى أن أكتبها ، فقد تململت قليلاً ، ثم كتبتها " ( ت نبيل راغب ) . ويعرّف جورج مور الرواية بأنها " تتابع منظم للحوادث فى أسلوب إيقاعى منظم للعبارات " . ولعلى أعترف أنى أبدأ فى كتابة العمل ، وأواصل الكتابة ، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل ، وغير ذلك من التعريفات التى أعتبرها مخزوناً معرفياً ، أفيد منه بالضرورة ، ودون تعمد ، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات إلخ ، عفوية الإبداع لا تلغى ثقافة المبدع ، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقاً .
    أحياناً ، أهم بكتابة رسالة أو مقال صحفى ، فيتحول ـ منذ البداية ـ إلى القصة التى كانت تشغلنى وتشاغلنى . وعندما أنتهى من كتابة القصة ، فإنى أعيد النظر فيها بين حين وآخر ، حتى أطمئن ـ فى النهاية ـ إلى إمكانية نشرها . فإذا نشرت ، لم يعد لى بها بعد ذلك صلة . ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذى لابد أن يغادر بأكمله رحم أمه ، فإنى أكتب بسرعة ، دون توقف . ما يشغلنى هو التدوين فحسب . ربما أتوقف أمام كلمة ، أو جملة ، أو موقف كامله ، فأتجاوز ذلك كله ، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة ، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك ، فأحاول أن أسود بياضها . بعض أعمالى واتتنى [ هل ، على سبيل المثال ] وأنا فى حلم يقظة ، وحين قرأتها ، لم أضف إليها ـ ولا حذفت ـ حرفاً ، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى [ لم أكن قد تعرفت إلى الكومبيوتر بإمكاناته المذهلة ! ] . كنت أتردد فى البوح بذلك الأمر ، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء . أذكر قول همنجواى " يحدث لى أحيانا أن أحلم بالسطور نفسها ، وفى هذه الحالة ، فإنى أستيقظ وأكتبها ، وإلا ربما نسيت الحلم تماماً " . كانت كوليت تقضى الصباح كله فى كتابة جملة واحدة . وأنا أفضل أن أترك لهذه الجملة موضعها فى السياق ، ثم أتأملها ، أضعها فى بالى ، أحاول صياغتها فى حياتى العادية : فى البيت ، فى المكتب ، فى الطريق ، حتى إن تشكلت على النحو الذى أطمئن إليه ، ملأت بها الموضع الخالى من السياق . تعمد وصل الجمل بالمعانى الغائبة يضر بالعمل الإبداعى ، فأنت قد تقبل ـ لتكامل النص ـ كتابة ما ، قد يكون فى وعيك أفضل منها . أنا أكتب القصة القصيرة ، أو الفصل فى رواية ، فى جلسة واحدة . لا أترك القلم والورق قبل أن أنهى ما بيدى ، يملى النص ما يحمله . ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء فى الكتابة ، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها . لا أحاول التدخل ، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب . وعلى حد تعبير همنجواى ، فإن همى الأول ـ وأنا أبدأ فى كتابة الرواية ـ هو أن أنجزها . إذا صادفت قلقاً فى بعض المواقف أو التعبيرات ، أو حتى الكلمات التى تهب المعنى ، فإنى أتجاوزها ليظل الخيط متصلاً إلى نقطة الختام ، ثم أبدأ فى رتق [ وأعتذر لردءاة التشبيه ! ] ما أهملته من قبل ، أو يبدو لى غير منسجم مع النص . لا أترك القلم ، أعتبر النص منتهياً إلاّ إذا بدا النص جسماً مكتمل الملامح والقسمات والتكوين ، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال ، قطعة نسيج خلت من العيوب التى تقلل من قيمتها . لا أقصد من ذلك أنى أكتفى بمجرد وضع السواد على البياض ، أو على حد تعبير موباسان " اكتب أى هراء ، ولا يهمنى ماذا يكون ، ثم أنظر فيه بعد حين " . أنا أكتب بالفعل ، أحاول أن أعبر بقدر ما تواتينى الموهبة ، وحضور اللغة ، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة ، أو الفقرة ، حتى لا أفقد المواصلة ، ثم أعود إلى النص ، أطيل قراءته ، أعاودها ، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدل ، حتى أطمئن إلى أنى لم أخطئ فى صياغة جملة ، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف . وربما أقدمت على تمزيق النص ، لأن صورة المولود شوهاء ، فلن تجدى إعادة نظر . عموماً ، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل ، وهذه الفترات عندى حين أقود سيارتى ، أو عند ركوبى المواصلات العامة ، أو لحظات القراءة . تثيرنى معلومة ، فأسرح فيها ، وربما بعيداً عن المعلومة نفسها . قد تأتى لحظات التأمل تحت " الدوش " ، أو فى دورة المياه ، أو حتى أثناء تناول الطعام . إنها تأتى فى اللحظات التى أنعزل فيها ـ دون وعى دائماً ـ عن الآخرين ، أذهب إلى جزر قريبة ، وبعيدة ، أتنقل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية ، فى هذه اللحظات ، تواتينى فكرة الرواية ، أو القصة ، أستكمل الجملة الناقصة ، أحذف الكلمة الزائدة ، وربما الحرف الزائد . قرأت لفيلكس ألكرن إن قلمه كان يجرى على الورق بقدر ما تواتيه السرعة ، فهو يجعل بعض الكلمات إشارات وخطوطاً ، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته . ربما كان خط ألكرن جيداً ، فهو يكتب ـ بسرعة ـ كلمات وجملاً واضحة . أما خطى فهو سيء فى الكتابة العادية ، ويصعب على قراءته ـ أحياناً ـ بعد أن أكتب بسرعة ، ولولا أن عمل زوجتى بالتدريس لأعوام طويلة ، فخبرتها فى الخطوط طيبة ، ولولا أنى أفلح فى القراءة بالتذكر ، فلعلى كنت سأتخلص من الكثير الذى قرأته ، يأساً من قراءته .
    ***
    (يتبع)


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: القصة تكتب نفسها

    القصة تكتب نفسها (2 ـ 3)

    بقلم الروائي: محمد جبريل
    ................................

    يعرف بعض الأدباء " الإلهام " بأنه القدرة على أن يخلق المرء فى نفسه أنسب الحالات للعمل . ويقول أوستروفسكى : إننى مقتنع بشيء واحد ، هو أن الإلهام يأتى أثناء العمل ، والكاتب يجب أن يكون كالبناء فى هذا البلد ، أى أن يعمل فى جميع الأجواء ، سواء كانت سيئة أم حسنة " . أنا أتفق مع هذا الرأى تماماً ، فالقضية ليست فى " أنسب الحالات للعمل " ، ولكن فى مدى قدرتناعلى إيجاد تلك الحالة فى النفس . كذلك فإنى أتفق مع الرأى بأنه ينبغى على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام ـ وقد لا يأتيه ! ـ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه . من الخطأ ـ على حد تعبير جون برين ـ أن ننتظر الوحى قبل الكتابة ، لا لأن الوحى لا وجود له ، بل إنه لا يأتى إلا مع الكتابة . يكفى أن تكون لديك الصورة ، ليس من الحتم أن تكون عالماً بأصل الصورة ، المهم أن تكون لديك الصورة ، وهى لن تكون موجودة ، ومتبلورة إلى حد ما ، ما لم تكن قد اتخذت قراراً بكتابة القصة ـ أو الرواية ـ وهممت بكتابتها . ولعلى أشير إلى قول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكن لم أعرف القصة ، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث فى لمن تدق الأجراس ، أو وداعاً للسلاح .
    والحق أنى حين أبدأ فى كتابة عمل ما ، فإن صورته فى ذهنى لا تكون واضحة تماماً . إنى أكتفى بالفكرة دون تفصيلات ، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة ، لكننى أفضل أن يكتب العمل نفسه ، بمعنى أنى أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة ، حتى لحظة ترك القلم ، ذلك تعسف لا أتصور أنى أقدم عليه . وكما قلت ، فإنى أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح ، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة ، لأنها هى التى تهب تلك الملامح ، بإسهام من المخزون الذى أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات . عندما أبدأ الكتابة ، فإنى أعتمد كثيراً على الخبرات ـ خبراتى وخبرات الآخرين ـ الكامنة والمترسبة فى أعماقى . لا أجهد نفسى فى البحث ، ولا أحاول انتزاعها ، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق ، تظهر فى الوقت الذى تريده ، وعلى النحو الذى تريده ، دون تعمد ولا قسر من ناحيتى . وربما تكون الشخصية ، أو الحادثة ، غائبة تماماً ، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة .
    ***
    لفلوبير عبارة شهيرة هى " أنا مدام بوفارى " ، بمعنى أنه عندما نتحدث عن مدام بوفارى ، فإنه كان يتحدث عن نفسه . والمؤكد أنى لست موجوداً خارج أعمالى . ما أكتبه يتضمن وجهاً من وجوه حياتى : قراءة ، مشاهدة ، تجربة ، إلخ . من الصعب أن أجد ذلك فى كل ما كتبت ، مع أنى أجد نفسى فى الكثير مما كتبت . أجد ناساً عرفتهم ، التقيتهم ، صادقتهم ، عايشت خبراتهم وتجاربهم ، ولحظاتهم الهانئة والمأساوية ، أجد العديد من الأماكن والأزمنة التى اتصلت بحياتى ، بصورة وبأخرى . لاحظ الناقد " لاكان " فى دراسة له عن الكاتب الفرنسى الشهير أندريه جيد أن تفصيلات السيرة الذاتية لحياة الكاتب ومنمنماتها ، تشكل بعداً أساسياً فى أعماله الفنية [ لا يخلو من دلالة قول همنجواى ، أنا لا أعرف إلا ما رأيته ] . وأتصور أن هذا هو الدور نفسه الذى تشكله سيرتى الذاتية فيما كتبته ، وأكتبه ، من أعمال . أذكر حين أنهيت قصتى " القرار " مفاجاة القصة لى بأن الشقة التى اختارها الراوى للإقامة بعيداً عن مشكلات أخوته ، هى الشقة نفسها التى أمضيت فيها طفولتى وصبلى إلى بداية العقد الثالث ، فى الطابق الثالث ، البيت رقم 54 شارع إسماعيل صبرى بالإسكندرية . وأتذكر قول باشلار : " إن البيت الذى ولدنا فيه بيت مأهول ، وقيم الألفة موزعة فيه، وليس من السهل إقامة توازن بينها ، إذ هى تخضع للجدل ، فالبيت الذى ولدنا فيه محفور بشكل عادى ، وفى داخلنا ، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية " , ولعلك لاحظت شبهاً واضحاً بين الكثير من الشخصيات التى قدمتها فى أعمالى ، ذلك لأن معظم هذه الشخصيات تعبير ـ بدرجة وأخرى ـ عن شخصية الكاتب نفسه .
    القصة يجب أن تكتب نفسها . فعل الكتابة اكتشاف . أرفض التصور بأن الكاتب يبدأ قصته وهو يعرف تماماً صورتها النهائية . القصة تكتسب ملامحها وقسماتها أثناء ولادتها . قد يأتى المولود فى صورة غير التى كان يتوقعها الفنان . قد تبين القصة ، أو الأحداث ، عن ملامح ربما لم تخطر فى باله . كاتب القصة يختلف عن كاتب السيناريو ، فى أن الثانى عنده قصة جاهزة ، فهو يحول القصة إلى مشاهد . وفى كل الأحوال ، فإن كتابة القصة ينبغى ألا تخضع للمنطق الصارم ، للعقلانية التى قد تفقدها تلقائيتها . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته .
    أحياناً ، أبدأ فى تصوير الشخصية ، ولها فى مخيلتى ملامح محددة ، ثم تذوى الملامح التى تصورتها أثناء عملية الكتابة ، لتحل ـ بدلاً منها ـ ملامح أخرى ، فتأتى الشخصية مغايرة ـ سلباً أو إيجاباً ـ لكل ما تصورته . وربما بدأت فى كتابة عمل ما وفى داخلى وهم أنى أمتلكه ، أعرف البداية والنهاية . فإذا بدأت فى الكتابة ، أسطر قليلة أو كثيرة ، لم أعد سوى أداة للتسجيل . القصة تكتب نفسها ، كأنها الأمواج التى تذهب بالقارئ إلى شواطئ لم يكن يتوقع ربانه الوصول إليها . وكما يقول سيمينون : " أنا لا أعرف فى البداية ماذا سيحدث لأبطالى بعد قليل ، فإذا عرفت ذلك ، انتابنى السأم والملل . أنا لا أكتشف الوقائع دفعة واحدة ، بل أقع عليها وأنا أنتقل من فصل إلى آخر ، وكأنى أحكى قصتى لنفسى لا للآخرين " . وبالتأكيد ، فإن ما أريده بعد أن أتم كتابة عمل ما ، يختلف عن الصورة التى كتبته بها فعلاً ، تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أتصور أنها أساسية ، لتحل بدلاً منها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مختفية فى تلافيف الذاكرة ، ثم ظهرت فى وقت لم أحدده . انطلاقات الشعور لا تعرف الترتيب ولا المنطق ، ولا يحدها زمان ولا مكان ، فهى أشمل من كل زمان ومكان ، يختلط فيها الماضى والحاضر واستشرافات المستقبل . لم يبدأ همنجواى أياً من رواياته على أنها رواية ، لم يجلس إلى الورق ـ ذات يوم ـ ليكتب رواية ، لكنه كان يبدأ كل ما كتب على أنه قصة قصيرة ، قد تنتهى بالصورة التى أرادها ، وقد تطول فتصبح رواية . وقد بدأت روايتى من أوراق أبى الطيب المتنبى باعتبارها قصة قصيرة ، لكن اتساع القراءة فى الفترة التاريخية وسع كذلك من بانورامية الصورة التى يجدر بى تناولها ، فتضاعفت الصفحات القليلة ـ كما كنت أعد نفسى ـ إلى ما يزيد عن المائة والخمسين صفحة . وكانت تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ كتاباً أولياً ، يتكون من ثمانى قصص ، هى أقرب إلى الاسكتشات ، أو الرسوم التخطيطية ، لأعمال أشد اقتراباً من فن القصة القصيرة ، أشد اقتراباً من النضج . باختصار ، فقد وشت تلك اللحظة بطموحاتى بأكثر مما رسخت تلك الطموحات . وكان على بعدها أن أعطى لنفسى إجازة ، أعيد خلالها تثقيف نفسى ، وأعيد النظر فى أوراقى ، وأناقش إعجابى بالأساتذة الذين قرأت لهم : هل يقف عند حد الإعجاب ، أو أنه يمتد ـ أحياناً ـ إلى التأثر والتقليد ؟ وهل الكتابة الروائية والقصصية هى الفن الذى ينبغى أن أخلص له بالفعل ؟ وإذا كانت الصرامة القاسية التى ألزم بها أستاذنا نجيب محفوظ نفسه فى مجال الكتابة الإبداعية ، هى المثل الأوضح ، والأقرب ، بين أساـذتى من الأدباء العرب ، فإن الصرامة القاسية نفسها كانت مثلاً لى فى السيرة الذاتية لأديب فرنسا الأشهر جوستاف فلوبير [ 1821 : 1880 ] . رفض فلوبير تكرار التجربة الأدبية ، أو التأثر برؤى وتجارب الأخرين ، جعل همه أن يفرز أسلوباً مميزاً ، طابعاً أدبياً يسم أعماله ، وشغله ـ فى الوقت نفسه ـ وجوب الانطلاق فى كل إبداعاته من تجربة حسية عميقة ، فلا يكتفى بالقراءة أو الإنصات ، إنما هو يعانق الناس والأشياء ، يتعرف فيهم وفيها ـ بصورة مباشرة ـ إلى شخصيات وأحداث عمله الأدبى ، أياً تكن طبيعة ذلك العمل ، وبصرف النظر عن المكان الذى ينتسب إليه ، وينطلق منه . وبالقدر نفسه الذى تمنيت أن أكتب عملاً ملحمياً ، رواية أجيال ، أو نهر ، مثل ثلاثية نجيب محفوظ ، فقد تمنيت أن أكتب عملاً عبقرياً مثل مدام بوفارى التى أنفق فلوبير فى كتابتها لأكثر من عشر سنوات . ألتزم بالصرامة التى تبلغ حد " الرهبنة " ، أشاهد ، أتعرف ، أقرأ ، أحاول الاستيعاب والهضم والفهم والتفهم ، وتقديم محصلة ذلك كله فى أعمال فنية . وحتى الآن ، فإن العمل ـ أى عمل ـ يشغلنى ، وأفكر فيه ، حتى يدفعنى ـ فى لحظة يختارها ـ إلى كتابته . جاوزت هذه الفترة فى الأسوار ثمانى سنوات ، واقتربت فى أعمال أخرى من الفترة نفسها ، فى حين أن " المتنبى " ألحت كفكرة ، ثم ألحت فى الميلاد ، بما لا يجاوز بضعة أيام ، لكن الأحداث امتدت ، وتشابكت ، فصارت القصة القصيرة قصة مطولة ، أو رواية .
    كانت المتنبى روايتى الثالثة . شدنى فى سيرة الرجل ما كان يتناوب حياته من أمل ويأس ، حتى لقى مصرعه ـ بصورة مأساوية ـ فى دير العاقول ، لكننى اخترت من حياة المتنبى ما يجعله شاهداً على الحياة فى مصر أعوام إقامته فيها ، وإن ارتكزت إلى مقولة كروتشى " التاريخ كله تاريخ معاصر " ، بمعنى أن التاريخ هو رؤية للماضى بمنظار الحاضر ، وفى ضوء مشكلاته ، وكان ذلك هو الباعث أيضاً لكتابتى روايات أخرى : إمام آخر الزمان ، اعترافات سيد القرية ، زهرة الصباح ، قلعة الجبل ، ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله . وجدت فى استعادة التاريخ إضاءة لأحداث معاصرة .
    ***
    أعترف أنى أحاول ـ ما أمكن ـ أثناء كتابة العمل ، ألاّ أسيطر على الفكرة بصورة مطلقة . تخف قبضتى على العمل ، أترك له تلقائيته . أختلف فى باعث تقدير برسى لوبوك لرواية تولستوى " الحرب والسلام " ، وأنه كان " يعرف تماماً أين يذهب ، ولماذا ، وليس أى شيء فى أية لحظة يشير إلى أنه لا يمتلك السيطرة الكاملة المحكمة على فكرته ( صنعة الرواية ص 37 ) . ثمة قول " لا وجود فى الحلم لشيء اسمه الضمير ، فالقاتل قد يقدم فى الحلم على السرقة أو القتل أو الاغتصاب ، وهو لا يبالى أو يستشعر ندماً . ويقول فولكت : " لا تعرف الغرائز الجنسية فى الحلم أى نوع من الكبح ، فلا حياء ولا رادع ولا منطق ، بل إن الأشخاص الآخرين أيضاً الذين يراهم فى الحلم ، كثيراً ما يكونون فى صورة أخلاقية مريعة " . وفى قصة " رحلة بورين " لأندريه جيد لا يدرى بورين : هل ما يحياه هو رحلة حقاً أم لا ؟ . يقول : نحن ربما نعيش حلماً ، إنه خداع ، فليست هنا رحلة أصلاً " . وفى روايتى الصهبة لم أعن بتدبر السؤال : هل كان ما جرى حقيقة أم حلماً ؟.. وفى البحر أمامها تطمئن نجاة إلى تردد زوجها الراحل على البيت ، وتستغنى به عن الآخرين ، أما نجم وحيد فى الأفق فهى تنطلق من اختلاط المشاعر والرؤى والتصورات . الإحساس بالحياة والحلم يكاد يكون واحداً ، ثمة رابط كبير بينهما ، بحيث ينتفى الخلاف ، أو عدم التشابه . وكما يقول بورخيس فإن الحياة وسيلة للحلم ، أو وسيلة للحياة . مع ذلك فإنى حين أدعو لأن يكتب العمل الأدبى نفسه ، لا أقصد أن تنطلق القصة ، أو الرواية ، فى تهويمات ، أو تفقد المعنى ، أو تلجأ إلى الغموض والتلغيز ، ذلك لأن تسلح الفنان بثقافة موسوعية سيفيده ـ ولو فى النظرة النقدية المتأملة الأخيرة ـ فى تبين قيمة ما كتبه ، سلباً وإيجاباً .
    ***
    الكثير من أعمالى يبدو فيها البطل واضحاً ، مسيطراً ، لا يفارقنا منذ بداية العمل إلى نهايته ، نتعرف إلى ملامحه النفسية ـ والجسمية أحياناً ـ وظروفه الاجتماعية والثقافية ، ونوازعه ، وأفكاره ، وآرائه . وعلى العكس من ذلك ، فإن بقية الشخصيات تعانى الشحوب ، لأنها تؤدى أدواراً مساعدة تعمق من دور البطل ، توضحه ، تجسده ، تثريه . والحق أنى لم أكن أعرف أن هذا هو ما تعتمده ـ فى الأغلب ـ الحكايات الشعبية ، فقد حاكيت إذن تكنيك الحكاية الشعبية ، دون تعمد !. وعموماً ، فإنى أفضل أن أقدم من ملامح الشخصية ما يساعد على التعرف إليها ، على فهمها . أحترم الميراث الإبداعى الروائى الذى يمتد عشرات الأعوام ، أتفهم قول همنجواى إن الرواية مثل كتلة جليدية عائمة فى البحر ، ثلثاها مغمور فى الماء ، فأنا أكتفى برسم الملامح التى تهب الشخصية بلا ثرثرة ، ولا زيادات مقحمة ، ولا كلام مرسل ، أو سرد ممل . أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية وليس لمجرد تصوير الشخصية فى ذاته . وأحياناً ، فإن وصف الكائنات قد يقتصر على تقديم الدلالة الاجتماعية ، أو النفسية ، أو يصبح رمزاً ، أو معادلاً لما يمور به داخل الشخصية من انفعالات .
    ولعل فى مقدمة ما أعنى به أثناء الكتابة : تلك اللحظة التى يبدو فيها العمل قد انتهى ، فهو فى غير حاجة إلى حذف أو إضافة ، أو تدخل من أى نوع . أستطيع نقله على الآلة الكاتبة [ الكومبيوتر ] باعتباره مسودة نهائية ، أدفع بها إلى المطبعة ، وأنتظر ـ مطمئناً ـ آراء القراء والنقاد . أتذكر قول جراهام جرين : " هنالك لحظة فى الكتابة ، عندما يصل المرء إليها يشعر بأن الطائرة ، بعد أن قطعت ممراً طويلاً ، معبداً ، قد أقلعت ، وخرجت قليلاً عن السيطرة . عانيت طويلاً من تلك المشاعر التى لم تكن ـ بالتأكيد ـ مقصورة على ، لعلها المشاعر نفسها التى عاناها العديد من الأدباء ، والتى تدفعه إلى الهمس لنفسه : فلننتظر قليلاً ، أو : أنا لست على استعداد ، أو : إن تصورى لم ينضج بعد ، أو : إننى لم أجد بعد النغمة المطلوبة ، إلخ .. وكل التعبيرات للشاعرة الوسية الشهيرة " فيرا أنبر " ، فهى قد عانت تلك المشاعر إذن . وذات يوم ـ لا أذكر إن كانت قد سبقته إرهاصات ، أم أنه كان وليد اللحظة ـ قررت أن أتخلى عن التردد والوسوسة ، أن أنهى الإضافة والحذف والتعديل ، وأبدأ فى " تبييض " كومات الأوراق التى كتبت فى مدى سنوات وسنوات ، بخط ردئ للغاية ـ هو خطى ! ـ فهى لا تزيد عن مسودات يصعب أن تفتح مغاليقها إلا لكاتبها . المشكلة التى عبّرت عنها الشاعرة الروسية ، لما بلغت السن التى كان على الزمن أن يراعى فيها بكل عناية " فى هذه المرحلة من الحياة ، ينبغى على المرء ألا يقول : سأفعل كذا أو كذا يوماً ما ، بل عليه أن يفعل ما يجب عمله فوراً ، وإلا أصبحت عبارة " يوما ما " ، مطلقة وأبدية . وكان نقل " المسودات " على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر هو الفعل الآنى الذى كان علىّ أن أحرص عليه . لم يكن ثمة سبيل آخر لمواجهة كومات الأوراق التى تكاثرت ، وتضخمت ، حتى أنى كنت أبذل جهداً فى تذكر بعضها .
    ***
    (يتبع)


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: القصة تكتب نفسها

    القصة تكتب نفسها (3 ـ 3)

    بقلم الروائي: محمد جبريل
    ................................

    يقول ألان روب جرييه : " إن القصة هى التى تبتدع أسسها الخاصة " . التكنيك وسيلة لنقل معنى العمل الفنى إلى القارئ ، كلما أجاد الفنان اختياره ، كان ذلك فرصة لتقديم أقصى قدر من المضمون ، أوالتكنيك الذى أكتب به عملاً ما ، هو سر يستغلق حتى علىّ شخصياً . العمل يفرض صورته وأسلوبه وطريقة تناوله . من الصعب تفسير ذلك فى ضوء رؤى فنية أو نقدية محددة . ثمة العديد من الاعتبارات التى ربما غاب بعضها عن الكاتب نفسه . أحياناً ، يغيب الوجود المستقل للزمان أو المكان ، فهما وحدة متكاملة ، ليس ثمة عقدة ولا حبكة ، وربما لا تتخلق رواية ـ بالمعنى التقليدى ـ على الإطلاق . لا أعنى إهمال الشكل ، فالشكل مهم جداً ، ذلك لأن الفرق كبير ـ ذكرت هذا المثل فى مقدمة كتابى مصر فى قصص كتابها المعاصرين ـ بين شكوى فى رسالة ، وقصة فى رسالة ، مقابلاً لوعى الفنان الحاد بقضايا مجتمعه وعصره ، والتزامه بالتعبير عنها . ومع أن حقيقة وجود القاص تبدو واضحة لنا ، فإنه يميل إلى البقاء فى الظل كما لو أنه أطل من نافذة ، يشاهد العالم من تحته ، فجاءت شخصيته مجسدة فى ساحة مضاءة ، دون أن يتبين القارئ ملامحه بدقة . وكما يقول كيتس ، فإن " الفنان الأصيل هو الذى لا يفرض شخصيته عليك ، لأنه هو نفسه بلا شخصية " . ويذهب هنرى باير إلى أن من نقاط الضعف فى الرواية الفرنسية تلك المراقبة الشديدة للذات ، والتى تصل إلى حد تسلط الروائى على شخصياته ، لكن الفرنسيين أصبحوا يضيقون بتلك الشخصيات التى يكبلها الفنان بأفكاره ، دون أن يترك لهم حرية التصرف والمغامرة الذاتية . أزعم أنى كنت مؤمناً بذلك الرأى قبل أن أقرأه ، وقبل أن أقرأ لهنرى جيمس الرأى نفسه ، وإن زاد فدعا إلى اختفاء الفنان من عمله . الفنان مطالب بأن يخفض صوته إلى حد الهمس ، حتى يتحقق الإيهام بالواقع ، ولا يتحدث الفنان نيابة عن شخصياته ، وعلى حد تعبير فلوبير ، فإن الفنان فى عالمه الروائى صاحب القدرة على كل شيء ، رغم أنه لا يكشف عن ذاته . لعلى أتفق كذلك مع الرأى الذى يؤكد أن " كل القواعد التى توضع لفن ما ، إنما توضع لتخرق .. إن الشكل ينبثق من التجربة انبثاقاً طبيعياً . وعلى العكس ، يكون مقلداً بقدر ما يحاول أن يصب التجربة فى قالب جاهز مصنوع مسبقاً " ( الحياة ـ 28/11/1989 ) .
    النثر ـ فى تقدير همنجواى ـ ليس مجرد زخارف على الهامش ، لكنه بناء معمارى فنى شديد الحيوية ، العمل الفنى يتألف من عناصر فنية ، لكل منها وظيفته المحددة ، والمرتبطة عضوياً بوظائف العناصر الأخرى ، بما يحقق التفاعل بين كل العناصر ، تحقيقاً لعمل فنى يسعى إلى التفوق . ومن ناحيتى ، فقد كنت أريد أن أمتلك صوتاً خاصاً بى فلا أقلد أحداً ، أحاول ـ فى كل ما أكتب ـ أن أرتاد آفاقاً ربما تكون مجهولة لى فى الأقل ، إن لم تكن مجهولة للكثيرين ، وكما يقول فرانسوا مورياك ، فإن على كل روائى أن يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص ، وإن كل رواية هى مثل كوكب آخر ، له قوانينه مثلما أن له نباتاته وحيواناته الخاصة . كل رواية مثل كوكب آخر ، لكننى أتصور ـ فى الوقت نفسه ـ أن الفنان لا يخترع أسلوبه الخاص ، وتكنيكه الخاص . أرفض كلمة " يخترع " ، فبالإضافة إلى الموهبة ، فإن الأسلوب والتكنيك ينبعان من داخل العمل نفسه ، هو الذى يفرضهما ، والأسلوب ـ والتكنيك ـ الذى قد يكتب به الفنان رواية ما ، قد يبدو مجافياً لرواية أخرى . تعجبنى النصيحة التى وجهتها شاعرة أمريكية إلى همنجواى : دع الناس فى حياتهم ، لا تقل شيئاً عنهم ، بل دعهم هم وحدهم يتكلمون . ويقول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكننى لم أكن أعرف القصة " . وكان مشهد فتاة صغيرة فوق شجرة دافعاً لأن يكتب فوكنر مئات الصفحات ، هى روايته الرائعة الصخب والعنف . وكنت حين بدأت كتابة روايتى الصهبة أعلم بأمر واحد فقط ، هو طقس الهبة نفسها ، عملية نزع النقاب . وفيما عدا ذلك ، فلم أكن أعرف شيئاً ، اخترت للرواية أن تكتب نفسها ، كلما أضفت صفحات توضحت شخصيات ، وظهرت شخصيات لم تكن موجودة ، وتخلقت أحداث ربما غابت عن تصورى ، بحيث اكتملت فى النهاية رواية لم أكن أعرف من شخوصها سوى الفتاة المنقبة فى الصهبة ، والشاب الذى نزع نقابها ، أما بقية الشخصيات والأحداث فقد تخلقت أثناء كتابة العمل نفسه ، لم تشغلنى الحبكة ، ولا العقدة ، ولا اختلاط الواقع والخيال ، ولا تداخل سيرتى الذاتية بالسير الذاتية للآخرين ، ولا الأحداث القديمة بالأحداث المعاصرة ، والتفكير بالسرد .. كل ما تريد الرواية أن تكتبه ، كتبته حالاً .
    مع ذلك ، فإن " الحدوتة " هى النطفة التى يتخلق منها العمل الفنى . وعلى الرغم من اختلافى مع أرنولد بينيت بأن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات ، ولا شيء سوى ذلك ، فلعلى أتفق تماماً أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى البناء الروائى ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أولاها ـ أو هذا هو المفروض ـ الحدوتة ، وإن تصور بعض الروائيين والنقاد أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها . وكانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، إلى غير ذلك من المسميات ، هى الباعث الحقيقى لأن تتحول روايتى الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث وشخصيات ، ثم تخلقت فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ أثناء عملية الكتابة ـ سماتها النهائية . الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وتشمل عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى الفنون الأخرى . أتصور أن ذلك يتبدى ـ بدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار ، وانتهاء بأهل البحر . إن على الفنان أن يثرى إبداعه السردى بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه تلك الفنون من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى . ثمة التحقيق المطول [ إمام آخر الزمان ] والتقارير البوليسية [ قاضى البهار ينزل البحر ] والرواية التاريخية التى تدعى الاجتهاد [ قلعة الجبل ] وتقنية القص واللصق [ الأسوار ] ومخاطبة الآخر [ النظر إلى أسفل ] واليوميات [ من أوراق أبى الطيب المتنبى ] وتداخل الزمان والمكان [ الخليج ] واختلاط الواقع بالحلم [ الصهبة ] والتبقيعات النثرية [ مد الموج ] والاعترافات [ اعترافات سيد القرية ] والواقعية التسجيلية [ الحياة ثانية ] وتعدد الرواة [ بوح الأسرار ] والحكى السردى [ صيد العصارى ] وتوظيف التاريخ [ الجودرية ، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ] وتوظيف التراث الشعبى [ زهرة الصباح ] واللوحات المنفصلة ، المتصلة [ رباعية بحرى ] وتقنية الموسوعة [ أهل البحر ] .
    وأحياناً ، فإن ضمير المتكلم ـ كما تقول ناتالى ساروت ـ أفضل وسيلة لإرضاء الكاتب والقارئ سواء بسواء ، إنه يهب إحساساً ـ ولو ظاهرياً ـ بالتجربة الحية والأصالة ، مما يقلل من شك القارئ ، ولكى يجذب الكاتب قارئه إليه ، فقد " جعل البطل يتحدث بضمير المتكلم ، واتضح بالفعل أن هذه الوسيلة أفضل الوسائل وأكثرها فاعلية فى هذا الصدد ـ لذا لجأ إليها الكثيرون ، ولازالوا يلجأون ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الأول ص 235 ) . سبقنى إلى فنية تعدد الرواة ، أو تعدد الأصوات [ قصتى متتابعات لا تعرف الانسجام ، حولتها ـ فيما بعد ـ إلى رواية باسم بوح الأسرار ] أدباء كثر : فوكنر فى الصخب والعنف ، فتحى غانم فى الرجل الذى فقد ظله ، نجيب محفوظ فى ميرامار ، جبرا إبراهيم جبرا فى السفينة ، لورنس داريل فى رباعية الإسكندرية ، وغيرهم .. لكن حاجتى لتعدد الأصوات فى بوح الأسرار لم تكن لمجرد رواية ما حدث ، أو التعليق عليه ، الاتفاق أو الاختلاف ، وإنما لإعادة اكتشاف الحدث ، إعادة تفسيره ، تعميقه بالأضواء والظلال ، بما يهب القارئ فرصة حقيقية للتعرف إلى سيرة بطل الرواية محمد أبو عبده .
    ***
    الفن ـ مهما يخلص فى تصوير الواقع ـ فإنه يظل أقل واقعية من الواقع نفسه . الواقعية التامة مستحيلة فى الفن ، فالفن انتقاء يخضع لموهبة الفنان ورؤيته . يشير ديهاميل إلى أن بلزاك قد خلق نماذجه بنفسه ، فهو لا يصور الأشخاص الواقعيين ، إنما يعيد خلق هؤلاء الأشخاص . العناية بتفصيلات الزمان والمكان ، وإجادة رسم الجو والشخصيات .. ذلك كله يشكل ما يسمى الإيهام بالواقع ، شريطة أن يحتاجه العمل الفنى فعلاً ، فلا يأتى مجرد تزيدات ، أو نتوءات ، أو حواشى قد لا يحتاج العمل إليها . ومع ملاحظة أن نتاج الفن ـ كما يقول جوتة ـ يختلف عن نتاج الطبيعة ، فهو لا يكررها صورة طبق الأصل " النتاج الفنى هو طبيعة ثانية " . المتلقى حين يعلن ـ بينه وبين نفسه ـ : هذه الشخصية الروائية تشبه شخصية فلان الذى أعرفه ، يؤكد ـ ضمناً ـ أن الشخصية الروائية ليست من الخيال تماماً ، حتى لو تصور الفنان نفسه ذلك .
    ***
    اللغة ـ فى تعريف نقدى ـ هى أداة التعبير فى فن الأدب ، فهو إذن فن لغوى . الكلمات أهم أدوات الكاتب ، ومن هنا تأتى عنايته باللغة ، أو هذا المفروض . يقول العماد الأصفهانى : " لا يكتب إنسان كتاباً فى يومه إلا قال فى غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر " . لقد حاولت أن أعمل بالنصيحة نفسها التى تلقاها همنجواى من أحد نقاده ، فأتخلص من كل الألفاظ " القنبلية " ، وأصف الأشياء ببساطة أشد ، وأضع الكلمة المناسبة فى الموضع المناسب .
    معانى الكلمات مهمة جداً ، لكن إيقاعاتها وإمكاناتها الصوتية مهمة أيضاً ، وربما أرجأت نقل قصة لى على الآلة الكاتبة / الكومبيوتر ، لأن إحدى كلماتها تبدو نشازاً ، أو غير متسقة ، مع بقية الكلمات . وكما يقول فلوبير فإن " جملة نثر جيدة حقاً ، تساوى فى جودتها بيتاً من الشعر ، وبالدرجة نفسها من الإيقاع والجزالة " .
    أذكر أنى بدأت حياتى الأدبية شاعراً ، مثلما بدأ الكثير من الأدباء . الأدق أنى أحببت الشعر ، وحاولت أن أسبح فى بحوره ، وكتبت بالفعل بضع قصائد تحاكى محاولات شعراء قدامى ومعاصرين ، لكنها لم تكن تعبيراً بأية حال عن موهبتى الخاصة . فلما أدركت أنه من الصعب أن تكون لى موهبة حقيقية فى مجال الشعر ، عنيت بالكتابة القصصية والروائية ، وإن ظل حبى للشعر ، أحاول الإفادة من خصائصه اللغوية تحديداً فى كتاباتى النثرية . ولعلى أستعير قول لورنس ديرل بأنى شاعر تعثر فكتب نثراً ، أو أنى روائى شاعر ، يشغلنى التوتر فى الجملة ، الصورة ، التداعيات الداخلية ، إلخ .
    والحوار مهم أيضاً فى الرواية . إن حواراً قصيراً ، مكثفاً ، بين شخصيات الرواية قد يغنى عن سرد مطول يفتقد المعنى . وفى العديد من رواياتى إفادة مؤكدة من درامية الحوار ، فهو جزء من البنية الدرامية للرواية ، لا تستقيم بدونه ، جسر يستحيل إلا أن تمضى عليه بين فقرات السرد . لقد طالما حذر موباسان روائيى عصره أن يحكوا كل شيء " فذلك أمر غير ممكن ، لأنه يلزمك مجلد كامل كى تروى ما حدث لشخص واحد ، فى يوم واحد " . وكان رأى شوبنهاور أن على الكاتب أن يكتب ما يستحق ذلك بالفعل ، ويتحاشى التفصيل الممل عن أشياء يستطيع كل امرئ أن يعرفها ، أن يفرق بين ما هو لازم ، وما هو من قبيل التزيد الذى لا لزوم له . ويقول تشيخوف " الإيجاز توءم الموهبة " ، ويكتب فى إحدى رسائله : " قد يبدو غريباً أننى أحب ـ لدرجة الجنون ـ كل ما أتى مختصراً ، بل إنى لم أقرأ بعد ـ فيما كتبته ، أو ما كتبه غيرى ـ ما أطلبه من الإيجاز . وبالطبع ، فإن الإيجاز لا يتصل بطول العمل . ثمة فرق بين الإيجاز والتركيز . من المستحيل ـ على سبيل المثال ـ أن نتصور ثلاثية نجيب محفوظ فى غير الحجم الذى صدرت به ، مثلما أنه من المستحيل تصور الحرب والسلام ، والأبله ، والجريمة والعقاب ، فى صفحات أقل مما صدرت فيها . باختصار ، فإنه إذا كان التكثيف مطلوباً ، فإن الاختصار المخل غير مطلوب . وعلى حد تعبير بيرسى لبوك فإنه مما يدمر القصة هو الإفراط فى معالجتها ، أو التقصير فى هذه المعالجة " .
    وإذا كنت أشدد على أهمية اللغة ، فإنى أشدد كذلك على أهمية الجوانب الأخرى للعمل ، أن يكون العمل فناً له وهج الفن ، وخصائصه ، وقيمته ، وجدواه . " الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى ، وكما يقول أرسكين كالدويل " هناك العديد من الكتاب الذين يملكون سيطرة كاملة على الشكل والتكنيك ، لكن ينقص قصصهم الإحساس ، أعتقد أن ذلك مهم " ( كيف أصبحت روائيا ص 85 ) .
    ***
    إذا كان تولستوى يذهب إلى ضرورة أن يتقمص الأديب شخصان ، هما الكاتب ذاته والناقد ، فإنى أفضل أن يبدأ دور الناقد بعد انتهاء الكتابة الإبداعية . القول بأن الناقد أديب فاشل دعابة سخيفة ، فالنقد الحقيقى ، المطلوب ، هو ما يمارسه الأديب على فنه ، وما يرتفع بمستوى أديب عن سواه ـ بالإضافة إلى الموهبة ـ هو ارتفاع حسه النقدى . المبدع الذى يفتقر إلى ملكة النقد ـ والرأى للروائية الإنجليزية إليزابيث بوين ـ لا وجود له ، بل إن مهنته كروائى لا تتحمل مثل هذا النقص . طبيعى أن الفنان لا يرضى تماماً عن نفسه ، ولا عن عالمه ، لأن الحدود بين الواقع والمثال هو المسافة التى تنطلق فيها جياد إبداعاته .
    مع ذلك ، فأن يكون الفنان صاحب عمل ما ، فذلك لا يعنى أنه هو أجدر الناس بفهم عمله . ربما كان الناقد أكثر فهماً للعمل من الفنان نفسه ، أكثر استنباطاً لمعانيه ودلالاته . استمعت فى البرنامج الثقافى الإذاعى إلى حوار بين نعمان عاشور ومحمد مندور . بدأ نعمان فى تلخيص مسرحيته عيلة الدوغرى . قاطعه مندور ـ بعد لحظات ـ فى بساطة : أخشى أنك لن تحسن تلخيص عملك ، أنت لم تفهم العمل بالصورة الممتازة التى فهمتها . ولخص مندور المسرحية ، وأذكر أنه كان أكثر قدرة على تسليط الضوء على مسرحية نعمان عاشور بأكثر مما حاول الفنان . وكان أبو الطيب المتنبى يحيل السائلين عن شعره إلى شارح ديوانه وناقد شعره ، أبى الفتح عثمان بن جنى ، ويقول : عليك بابن جنى فإنه أعرف بشعرى منى .
    ***
    تقول بيرل باك : " لكى تكون كاتباً جيداً ، فعليك أن تكد ، بمعنى أن تنهض فى الصباح ، وتبدأ فى الكتابة مبكراً ، والذهن صاف ورائق ، فضلاً عن أن تبدأ الكتابة حتى لو لم يكن الذهن رائقاً وصافياً . عادات العمل ضرورية للكاتب مثلما هى ضرورية للعامل ، وربما أكثر ، لأنه ليس ثمة من يجبر الكاتب على العمل ، وليس هناك من يساعده فى أداء عمله ، إنه رئيس نفسه ، وهذا الرئيس هو عامل فى الوقت نفسه . وتقديرى أنه على الفنان ألا يرجئ عمل اليوم إلى الغد ، بحجة أنه مشغول ، فالوقت لن يكون فى حوزته ـ ذات يوم ـ بصورة مطلقة . وعلى الرغم من حرصى على عادة الكتابة اليومية ، فإنى أتذكر ـ دوماً ـ قول روبرت هنرى " إن كل شخص يحترم الرسم يشعر بالخوف كلما بدأ لوحة " ، وأثق أن هذا الشعور يحياه كل مبدع بصرف النظر عن طبيعة إبداعه . ولعلى أتذكر كذلك قول أوراثيو كيروجا : " لا تكتب وأنت تحت تأثير الانفعال . اتركه يزول . استدعه مرة أخرى " .
    على الفنان ـ إن اعتبر الإبداع قضية حياة ـ أن يحاول الإفادة من كل ما يسمح به الوقت ، حتى لو كان مجرد دقائق قليلة ، أنا أطمئن إلى ما كتبته فى تلك الأوقات العابرة ـ إن جاز التعبير ـ ، أوقات ما بين عملين ، أوقات الانشغال فى عمل لا يتصل بالإبداع ، وأوقات الفراغ والضيق واللاجدوى . أجرى بالقلم على الأوراق لمجرد الاقتراب من الفن ، وربما وضعت نقطة الختام لعمل كنت قد أهملت إلحاحه منذ فترة طويلة . كانت روايتى مد الموج إبداع ما بين أوقات العمل الإدارى نائباً لرئيس اتحاد الكتاب لمدة عامين . وكانت قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون محصلة ضيق نفسى فى أيام الغربة ، حاولت رفضه فى استقالة ، فعبرت عنه فى قصة قصيرة . وكانت قصة أحاديث النفس المتداعية امتداد يوم صحفى كامل ، بدأ فى السابعة صباحاً ، إلى الثانية من صباح اليوم التالى . انصرف الجميع ، وخلوت إلى نفسى . أغرانى الورق الأبيض بأن أخط عليه كلمات ، كتبت جملة وشطبتها ، كتبت جملة ثانية ، استدعيت بقية الجمل ،حتى فرغت من كتابة القصة فى الصباح نفسه .
    حاولت ـ منذ تعرفت إلى الكتابة الأدبية ـ أن أكتسب عادة الكتابة اليومية ، بصرف النظر عن كل شيء ، حتى الأيام التى كان الإجهاد يلفنى فيها تماماً ، بعد تواصل عمل شاق ، كنت أحرص أن أكتب ، ولو بضعة أسطر . أتذكر قول جوجول : " لابد للكاتب أن يسيطر على قلمه ، كما يسيطر الرسام على فرشاته ، يجب أن يكتب شيئاً كل يوم ، فاليد ينبغى أن تألف الطاعة العمياء للأفكار . وكان استندال يرغم نفسه على العمل كل يوم ، وحاول كازنتزاكس ـ لما اشتد عليه المرض ـ أن يملى إبداعاته ، لكنه أخفق : مستحيل !.. لا أجيد الإملاء !.. عندما أمسك بالقلم فقط تأتينى الأفكار . والواقع أن الإملاء ـ بالنسبة للكاتب الذى تعود الكتابة ـ مسألة مستحيلة ، ذلك الاتصال العجيب بين الأفكار فى الذهن ، والقلم الذى يجرى على الورق . عملية الكتابة باليد ـ بالنسبة لى ـ مهمة للغاية . قد أملى موضوعاً صحفياً ، لكن العمل الإبداعى لابد أن ينطلق من الذهن إلى الورق ، عبر الوجه، والرقبة ، والكتف ، والذراع ، والأصابع . وكان الشعور الأقوى عند همنجواى أن أصابعه تقوم بالجزء الأكبر من تفكيره .
    أعترف أنى حاولت أن تكون لى عاداتى المصاحبة للكتابة ، مثل شرب القهوة والسجائر ، وسماع الموسيقا ، والتحكم فى مساحات الضوء ، فلم أوفق . تكفينى المعادلة السهلة : فكرة + مكان للكتابة + أوراق + قلم ، لا يشغلنى ـ بعد ذلك ـ أى شيء ، حتى الشاى تعرفت إليه متأخراً . كنت قد حاولت ـ قبلاً ـ أن تكون لى ـ مثل بقية الناس ـ هوايات أمارسها ، لكن الفشل كان هو الجدار الذى اصطدمت به كل محاولاتى . أوافق جون برين على أن إرادة الكتابة تخلق لك جو العزلة الذى تريده ، ليس بوسعك الانتظار حتى تتوافر لك الظروف المناسبة للكتابة : الجو الهادئ ، والضوء المناسب ، والموسيقا الخافتة التى تساعد على الكتابة ، والتخفف ـ ما أمكن ـ من الهموم الحياتية الخاصة . لن أنسى قعدة بيرم التونسى فى قهوة شعبية بشارع السد ، منشغلاً بإبداعاته عن الزحام الصاخب حوله ، كأنه يحيا فى جزيرة منفصلة عن الأمواج المتلاطمة من النداءات والدعوات والابتهالات والشتائم والصرخات . الكاتب يجب أن يعمل فى كل الأجواء ، بصرف النظر إن كانت حسنة أم رديئة ، وكما يقول نيكولاى استروفسكى ، فإن " الإلهام يأتى فى أثناء العمل " . كان مكتبى فى الجريدة ضمن ثلاثة عشر مكتباً ، فى مساحة حجرة متوسطة الحجم ، ومخزن لأوراق رئيس التحرير ، وبضعة دواليب للصحف ، وما يبيعه السعاة من سجاير وبسكويت وأقلام إلخ [ تغيرت الظروف ـ بعد عناء سنوات طويلة ـ إلى الأفضل ] مقولة . وكنت أتذكر فى ذلك اللغط مقولة همنجواى : إن المرء يستطيع أن يكتب فى أى وقت يتركه الناس وشأنه ، ولا يشوشون عليه ويقاطعونه . كانت الشوشرة فضل الزملاء المقيمين فى الحجرة ، والمترددين عليها لتناول فطورهم ، بعيداً عن الأعين فى الصالة الواسعة ، فضلاً عن السعاة الذين تتعالى أصواتهم ـ بلا انقطاع ـ فى طلب احتياجات الزملاء فى الصالة.
    الإخلاص للفن قد يدفع الفنان " إلى التضحية بنفسه ـ القول لبوريس بوريسوف ـ والابتعاد عن أى شيء يعرقل عملية الإبداع لديه ، بل إن الظروف قد تضطره لأن يتجاهل مصالح المقربين له ، والتصرف معهم بقسوة " . الفن يحتاج إلى ضحايا ، تلك مقولة شهيرة ، لكنها لا تتجه إلى الفنان وحده ، وإنما تشمل القريبين منه أيضاً . وإذا كنت ـ فى أحيان كثيرة ـ قد أهملت البعد الاجتماعى ، من حيث المشاركة فى الحياة العامة ، والخروج إلى المجتمعات ، فإن ذلك قد انسحب بالضرورة على القريبين منى ، زوجتى وابنىّ ، وأصدقائى الذين أحبهم ، لكننى لا أستطيع أن أبذل لهم وقتى على النحو الذى يريدونه ، وأريده أنا أيضاً .
    ...............................................
    نشرت فى مجلة "فصول" بعنوان " كتبت ما تريده الرواية " ـ العدد الأول صيف 1998


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •