قراءة في رواية «المينا الشرقية» لمحمد جبريل ( 1 ـ 3)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
................................
(1)
تدور الرواية على لسان عادل مهدي (السارد / الأستاذ) الذي يُدير ندوة أدبية يُحقق من خلالها الأدباء ذواتهم في الوجود على الساحة وإن كان وجوداً صوتيا ـ لا وجودا حركيا يشي بالحياة! ـ ويتمثّل هذا الوجود الصوتي في إلقائهم قصائدهم وقصصهم، والتماس مع بعض مفردات الحياة التي تشغلهم، أو تنقض عليهم! كما يتمثّل هذا الوجود الصوتي في مناقشاتهم التي تدور في مقهى "المينا الشرقية" بمدينة الإسكندرية:
"لم يكن يشغلني في الندوة قبل ثماني سنوات ـ من أتى، ولا من انقطع، ولا كيف تدور المناقشات. أتصور ـ أحياناً ـ أن كل واحد من الجالسين يريد أن يحقق نصراً. يعلو صوته، فيُسكت أصوات الآخرين. لا يدقق فيما يذكره من معلومات، ولا الآراء التي يعلنها. المهم أن تنتهي المناقشة بابتسامة يجيد رسمها على شفتيه"(1).
وقد بدأت هذه الندوة عام 1982م، وأقامها السارد الذي نعرف أنه هاوٍ للأدب، وليس أديباً "أعوامي الأربعون لا تجعلني أكبر المشاركين في الندوة. التصور بأنهم قد يفيدون من عملي، دفعهم إلى القبول برئاستي. كان الأدب شاغلي. يهمني أن أكتب ما أقدمه إلى الناس. أقرأه، وأنشره. يسبق ما أكتبه كلمة "بقلم". يضايقني أني أتحدث في الأدب ولا أمارسه. أكتب عن المؤتمرات والمهرجانات والمحاضرات والندوات، أحاور كبار المثقفين، أدير ندوة مقهى المينا الشرقية .. لكنني لا أكتب ما يقدمني كأديب، قصة، أو رواية، أو قصيدة، أو مسرحية، أي شيء يحقق لي صفة الأديب. جريت على القلم بما تصورت أنه يصلح للنشر. ثم أعدت قراءته، فتبينت سخفه، ومزقته"(2).
ويظل السارد فرحاً بندوته حتى يُقابَل بمفاجأة تُذهله، وهي أن ندوته مراقبة من قبل مباحث أمن الدولة.
وتبدّلت حياة السارد بعدما عرف ذلك، ولم تعد كما كانت. وأصبح الإحساس بالخوف يمضه، وربما انشغل ـ بالشرود ـ عن كتاب يقرأه، فيعود إلى ما كان قد قرأه، ثم يهزمه اليأس، فيطوي الكتاب، ويكتفي بالشرود، ولم يعد يشغله إلاّ أن يُقابل ذلك المجهول الذي لا يعرفه. ولم تفارقه فكرة أن أحداً ما يراقبه، يرصد كلماته وأفعاله، ويسجلها، لا يفلت حتى ما يصدر بعفوية.
وابتدأ السارد يشك فيمن حوله:
"داخلني إحساس بالمراقبة. ثمة من يتتبعني، لا يواجهني ولا أراه. أشعر به. ربما يلاحق خطواتي. تطل نظراته من خصاص نافذة، يراقبني في ناصية ميدان، أو تحت ظل شجرة، يتبعني في سيارة، يلتحم بصفوف المصلين في جامع أبو العباس .."(3).
ولذا فقد اعتاد التزام الحذر في التعامل مع الجميع، وتدقيق النظر جيداً فيما حوله، وفى الظلمة الشفيفة، ربما تبين ملامح لم يُفطن إليها في النظرة العابرة .. وقد أفزعت البطل فكرة المطاردة، فجعلته يُفرغ محتويات مكتبه، ويمزق الصور والأوراق التي لديه والمذكرة التي يضع فيها أرقام هواتفه، وقرر أن يستعين بذاكرته وحدها.
وتدور الرواية في هذا الجو من المُطاردة؛ حيث تملك الساردَ شعور بأنه ثمة من يراقب كل كلمة له، وكل تصرف. النظرات ترمقه ولا يراها، وإن كان يشعر بها. تحولت الأعين المحيطة به إلى عين كبيرة، واسعة، تربكه، فهو لا يستطيع الكلام أو الحركة بطبيعته. ويضع حساباً للعين التي لا تهمل كلمة أو تصرفاً. يخشى أن يقول ما لا ينبغي قوله، ما يؤخذ عليه، ويساء تفسيره. ومن ثم أصبح يلوذ بالصمت، ويتحصن به، فالصمت وحده يبعد الآذان المتنصتة، والتوقعات. وحتى القضية التي يجد لنفسه رأياً فيها، يكتم ما بداخله، ولا يُعلنه. وربما أجاب عن السؤال بإشارة صامتة، أو هزّة رأس، أو تعبير بالأيدي.. تاه في طرق متعرجة، لا يعرف إلى أين تنتهي، ولا كيف يخرج منها ..
"ملأني الإحساس بـأن شيئاً ما خطيراً يوشك أن يحدث، أتوقع ما لم أحدد صورته، ما يصعب تصوره. غابت العفوية في الكلمات. أتأمل وقعها، وأتدبره. ربما ـ إن أصبحت سطوراً على الورق ـ تحمل ما لا أريده من المعنى، وتورطني فيما لا أقصد قوله. تبدو التصرفات بريئة، ولا تثير الشك، لكنها ليست كذلك، ويجب أن أتنبه إليها. حاولت أن أعود إلى مألوف مشيتي، فلم أوفق. حتى خطواتي أشعر بارتباكها لتصور الخطوات المتابعة ..
كنت أدرك ـ منذ كلمني الرجل ـ أن الأعين المبثوثة تراقبني. ربما ليس في الندوة وحدها. أتوجس من النظرات في الجريدة، وعلى الرصيف المقابل للبيت، وفى محطة الأوتوبيس بميدان المنشية"(4).
وهذا الذي يقولـه السارد عن نفسه لا يعدو الحقيقة، يقول الأديب الأستاذ وديع فلسطين (في رسالته المؤرخة في 7/3/1982):
"شكراً على رسالتك المؤرخة في 3/3(/1982) التي سلمت من عبث البريد المُسلَّط على رسائلي "بفضل" النجاسات البوليسية! وشعاري في الثلاثين عاماً الأخيرة منتحل من بيت المتنبي القائل "والحُرُّ ممتَحَنٌ بأولادِ الزنا"! فإن رأيتني ألعن "أولاد المتنبي"، فلقد عرفت من هم "الأولاد" الذين أعنيهم. وهؤلاء جاثمون على صدري منذ عهد عبد الناصر الأفسق وإلى هذا العهد الأطهر، وقد فقدت كل أمل في (أن) يُغيِّر القوم رأيهم فيَّ، على الرغم من أنني لا أتعامل بلغة الظفر والمنقار والناب والنعل التي تنصحني بأن أُخاطب بها الناس!(5)، والقصة طويلة وكريهة، وأُعفيك من حلقات هذا المسلسل (المُقرف) الذي عشته ومازلت أعيشه، ولا ذنب لي إلا ما نسبه أبو شادي من ذنب إلى الدكتور إبراهيم ناجي حين قال:
أتُرى كلُّ ذنــــبِهِ أنَّــه شــاعرٌ شعرْ
فاعرف ـ إن كنت لم تعرف ـ أن أكبر جريمة في أمتنا العربية هي جريمة الفكر، وهي جريمة تُحاربها جميع دولنا العربية مهما تعدّدت أنظمتها … فأنا وأنت مُجرمان، أو لعلنا ـ في القليل ـ مشروعٌ لمجرم!، فهيئ نفسك للنجاسات البوليسية التي تمرستُ عليها، واخشوشن جلدي تلقاء مناخسها! وإن رأيتني غائباً عن الحياة الأدبية في مصر من ثلاثين عاماً وإلى آخر العمر، فقد عرفت سبب غيابي"(6).
ويقول في مكان آخر: "الحياة قد توَّبتني عن طلب الشهرة في مصر، بعدما رأيت أن الهيئتين الوحيدتين اللتين تحاسبانني على هذه الشهرة همـا هيئة الضرائب بما تتوهّمه من عشرات الآلاف التي تعود عليَّ من الأدب كل عام، وهيئة مباحث أمن الدولـة العليا التي مازالت تسلِّط عليَّ مخبريها وتراقب تليفونـاتي وبريدي وكأنني أعتى مجرمي الدنيا"(7).
(2)
يقوم الوصف بدور بنائي لافت في هذه الرواية، وهو وصف يتحرك في سرعة من الداخل إلى الخارج، ثم ينعكس على سلوك الشخصية قولاً وفعلاً وحركة.
انظر إلى هذا المقطع في نهاية الفصل الأول:
« نبهني محمد الأبيض إلى أن وقت الندوة انتهى قبل ساعة. أسندت المظروف الأصفر، الكبير، إلى صدري، وقمت ..
اعتذرت للباقين بموعد فى المنشية. أسرعت فى خطواتي لألغى فرصة مرافقتي. ألفوا الأسئلة وردودي عليها، حتى أصل إلى محطة ترام 4 المتجه إلى بحري. ملت من شارع الغرفة التجارية المفضي إلى محطة الرمل. ثم ملت فى التقاطع، وعدت ثانية ناحية طريق الكورنيش ..
تأكدت من إحكام الجاكت على رقبتي، ومضيت فى تعالى زفيف ريح، ينبئ بعاصفة قادمة..
كانت الميناء الشرقية خالية من المراكب، فغطس البحر فى سواد، ماعدا الأضواء البعيدة، المنبعثة من السلسلة ..» (8).
إن خوف عادل مهدي من المُطاردة لا يجعله يُحس بالوقت، وعندما ينبهه محمد الأبيض فإنه يحتضن المظروف الأصفر الكبير، وكأن هناك من يهدد باختطافه، فهو يحتضنه، وكأنه يحتويه في قلبه، حتى لا يتطفّل عليه أحد أو ينتزعه منه. ثم هو يريد أن يتسلل، ويمشي وحيداً فلا يرافقه أحد. ويمضي مؤكداً على جغرافية المكان ـ كأنها تميمة، تحميه من المُطاردة. إلى أن يتنبه في نهاية الفقرة إلى السواد الذي يُحيط به: «كانت الميناء الشرقية خالية من المراكب، فغطس البحر فى سواد، ماعدا الأضواء البعيدة، المنبعثة من السلسلة ..».
لقد جعلته المُطاردة ـ أو توهُّمُها ـ يظن في الجميع أنهم مطاردوه، وها هو يتوجس من الكثيرين تلك المُطاردة. نتوقف أمام وصفه لأحدهم، ويستدعي صورة أحدهم:
«الرجل ذو البذلة الكاملة طيلة أيام السنة. يقارب الستين، أو تخطاها. رأسه الضخم يتناقض مع عوده القصير، ويتناثر في وجهه نمش داكن. تبدو التقطيبة الدائمة على وجهه كأنها جزء من وجهه، وأضفى عليه شاربه الكث مهابة. لاحظت مداومته على تحريك عقدة رباط الرقبة. تصورت أنه ينوي فكها، ثم أدركت أنها عادة له. ألفت رؤيته يجلس بمفرده على آخر طاولات المقهى ناحية اليسار. يقرأ جريدة، ويرشف القهوة، ويرمى بنظرات غير متأملة ناحية البحر ..» (9).
وهكذا تجعل منه المطاردة متوجساً الشرَّ من الجميع، يحملق فيهم، ويحفظ سماتهم، ويخافهم.
(2)
البطل متوجس من كل الناس الذين يعرفهم، اكتفى بالقليل من الكلمات، وما يُفكر فيه من حوارات مع الناس صار يُجريها بينه وبين نفسه:
«ماذا يُريدون من المراقبة؟
حياتي بين البيت والمكتب، مصادري معروفة. لا أتردد إلا على الأماكن التي تمارس نشاطاً ثقافيا. لا شأن لي بالسياسة. لعن الله ساس ويسوس. أدركت أن الأسئلة ستضيف إلى مخاوفي. استقرت في داخلي حالة من الانتظار والتوقع. أحسستُ أني مهزوم، وأني فقدتُ القدرة على فعل شيء.
تحولتُ إلى أذنين تصيخان السمع لكل الأحاديث العالية والهامسة، تلتقطان حتى ما يبدو عفويا في العبارات والكلمات، أتأمل معانيه المضمرة، وكنت أتصور مواقف وأُجري حوارات مع شخصيات تستدعيها الذاكرة، أو وهمية، يهمس صوتي أو يعلو، تُشارك يداي في التعبير، وأحيا في الجزر المنفصلة. أفطن إلى ما أعمله، أو تنبهني عينا أمي القلقتان، تكشفان ما يمور في داخلي من مشاعر صاخبة، فأُداري ارتباكي»(10).
.. وتدور الرواية في أجواء من المُطاردة البوليسية، ونحس طوال الرواية أن البطل يُعاني من وطأة هذه المُطاردة. ومن ثم فالرواية يُمكن اعتبارها رواية سياسية، تتماس مع السياسة في أكثر من أفق:
"قال رأفت الجارم:
ـ المؤسف أن يكون ثمن انتصارنا في أكتوبر .. التحالف مع أمريكا، والصلح مع إسرائيل ..
قال نادر البقال:
ـ لكننا استعدنا سيناء ..
وداخل صوته أسى:
ـ وإن كنا لا نستطيع أن نحرك فيها جندياً واحداً ..
قال رأفت الجارم:
ـ مشكلة هذا البلد أنه ترك المسئولية لشخص واحد .. هو الذي يقرر متى نحارب، ومتى نقبل السلام ..
قالت أسامة صابر:
ـ أنا لا أدين اليهود .. يعتدون ويعرضون السلام .. أنا أدين من سكت عن الاعتداءات ورحب بالسلام الذي عرضوه ..
لماذا يحرص رأفت الجارم على أن يتقافز فوق حقل الألغام؟ هل يلقى طرف الخيط، فنلتقطه، ويجد ما ينقله ؟..
قلت:
ـ ألم نتفق على عدم التحدث في السياسة ؟..
قال يحيى عباس :
ـ كلام السياسة مثل شعر الذقن .. نتخلص منه فيعود ثانية ..
كنا نتحدث في الأدب، لكن الأحاديث كانت تفضي إلى السياسة. نسأل، ونجيب، ونناقش، ونسترجع ما مضى، ونطرح التوقعات."(11).
(يتبع)
المفضلات