الأخطار التي تهدد المسلمين


من غريب الأمر أن نجد جمهورا عريضا من الكتاب قد انهمكوا كل الانهماك يوجهون إرشاداتهم ورسائلهم نحو أخطار العولمة والعلمانية.. كأنهم يحاربون السراب بالخيال! فلا المتلقي يعي ماذا أراد الكتاب بهذا مثلا، ولا حتى المثقف يتمكن من الخروج على الأقل بفكرة ما!.. وهذا راجع إلى عدم وجود أخطار في العولمة والعلمانية ما يُهدّد المسلمين بمفهوم ذي أبعاد! وكيف يُمكن أن نحارب ما نحن نرتدي ثيابه!؟ وكل شيء فرض نفسه علينا! يجب أن نتعايش معه طبقا لما أملته علينا الشريعة الإسلامية... أما الأخطار المدمرة الحقيقية التي تهدد المسلمين تتجلى في اللغة، والتعليم، والدين، والاقتصاد. هذه الأركان الأربعة هي أعمدة بيت كل دولة إسلامية لمن أرادت أن تبني سقفها الذي يُعدّ الركن الخامس، والذي هو منهاج الحياة.

فكل ركن من هذه الأركان الأربعة يحذرنا مؤشره الذي بدأ يخترق حدود الخطوط الحمراء معلنا عن دائرة الخطر التي سوف تتربص بالمسلمين إن لم يتيقظوا ويستيقظوا ويعودوا إلى فطرتهم التي خلقوا عليها أول مرة.. ولنا في كل ركن تاريخا، وتأريخا، وتراثا... ما يمكننا من نقد عقلنا التاريخي لكي نخرج من دوامة الضعف، والهزيمة، والرذيلة...

إن اللغة العربية إبان عصور الازدهار.. كانت لغة علم وحضارة، كانت لغة تعبر عن أفكار المسلمين العلمية، والأدبية، والفقهية، والفلسفية.. تعبيرا منحوتا من قدرات ومهارات وطاقات.. إلا أن اللهجات، والعامية، وتبني اللغات الأجنبية، وقتل الكلمات العتيقة من طرف النخبة المثقفة.. أصبحت ظاهرة تنذر أجراسها بالخطر...
لقد كان الشعر في الجاهلية وفي العقود الأولى للإسلام مكانة تعدّ بمثابة أجهزة الإعلام؛ إذ كان الشاعر بمقدوره أن يقلب موازين وقيم المجتمع الذي يسمع قصائده ويحفظها.. كما كانت لهم تأثيرات نفسية جد عميقة على عقول الأفراد... ومن شدة طاقاتهم وقدراتهم الخيالية استطاعوا بأشعارهم أن تحافظ بعض المجتمعات البدوية على تقاليدها بدل أن تتحضر...
هذا إن دلّ عن شيء فإنما يدل على قوة الشاعر وقوة الفرد في فهم اللغة العربية ببيانها ومحسنات بديعها.. والدليل على ذلك أن حتى النساء كانوا شاعرات، وكان حتى من الرعاة من ينحت قصائدا شعرية لا مثيل لها.. وهذه الظاهرة البلاغية لم تُعجزها سوى بلاغة القرآن الكريم...
لكن في عصرنا الحالي انتشرت قصائد شعر العامية، والنثر الدارجي، والزجل... وأغلب كلامهم عن الحب والغرام والفراق... وعندما نقرأ هذه الكلمات أو نسمعها لا تحرك فينا ساكنا لأنها ببساطة كلمات لا توجد في قاموس فطرتنا!
وعندما نلتقي بأساتذة في اللغة العربية ونعرض عليهم موضوعا أو رواية تراهم يشطبون على بعض الكلمات ويطلبون تغييرها بكلمات عصرية.. ويسمونها "الكلمات الميتة"...
ونجد نخبة راقية من مجتمعاتنا يدرسون أبناءهم في المدارس الأجنبية.. فيُنصّرونهم لغويا دون أن يشعروا، أو حتى متعمدين لأنهم أيقنوا أن مدارسنا لا تلد العقول المفكرة والمتطورة!...
كما نجد في مدارسنا كل العلوم تدرس باللغات الأجنبية، أما لغتنا العربية فيخصصونها فقط لمادة اللغة العربية!...
ناهيك عن اللهجات، والمصطلحات التي ليس لها من سلطان سوى ما صنعته ألسنتنا... لقد أصبحت في بعض الدول لهجة الحوار والتواصل لهجة تؤدي إلى خلافات بسبب الناطق الذي لا يحسن التعبير، والمستمع الذي يسيء الفهم... وهذا راجع إلى فطرتنا التي ولدنا عليها أول مرة، كلما بنيْنا سُلوكنا وأداة تعبيرنا على جرف هاري انجرف بنا إلى التخلف والانحطاط والذل... فكيف يُعقل أن نفهم ديننا الحنيف بالانحراف عن لغتنا وفطرتنا!؟ وكيف يمكن أن نتواصل ونتوحد إن لم نكن نفهم بعضنا البعض باللهجات، واللهجات المصطنعة!؟

كانت الدولة توفر وسائل وأداة التعليم للمتعلم وتفتح أمامه آفاق أسباب المعرفة.. ووسائل وأداة التعليم هي اللغة بكل مقاييسها لأنها تعدّ وعاء الأفكار وفضاءها... إلا أن الدولة أصبحت تستورد مناهج التعليم من الغرب.. وعندما تأزمت الوضعية صارت تتخبط في دوامة تبحث عن منفذ للخروج من هذا المأزق الخطير... وبالتالي لقد انحدر بنا الزمان إلى الانحطاط إلى أن وصل المؤشر إلى الخطوط الحمراء معلنا الخطر الكبير...
فمسألة التعليم هي ضرورة قصوى لتكوين الفرد والمجتمع؛ ولا يمكن أن يرقى مستوى التعليم إلا إذا عدنا إلى ديننا الحنيف حتى نجعل المجتمع في خدمة التعليم... إذ لا يمكن أن يكون المؤشر في تصاعد مستمر إلا إذا كان التفاعل بين الدولة والمدرسة والمجتمع في تواصل أفقي وعمودي.. وها نحن نرى كم من البيداغوجيات رحلت وحلت مكانها أخرى وبقيت ساحة التعليم خاوية على عروشها...
ولا يمكن إصلاح التعليم إلا بالعودة إلى مقومات الهوية العربية المسلمة بأبعاده التي تمثل الدين الإسلامي، واللغة العربية، والثقافة الإسلامية... وبدون هذه المقومات لا نستطيع لا إصلاح التعليم، ولا تكوين مجتمع إسلامي وفق هويته وشخصيته مهما استبدلنا من البيداغوجيات، والمراجع، واستيراد ما ليس لنا والذي لا يصلح لنا إطلاقا...

أما الدين الإسلامي فهو الدين الذي ارتضاه الله، سبحانه وتعالى، لعباده.. وجاءت هذه الشريعة تبين لنا أن الإسلام عقيدة ومنهاج حياة، تحث كل منتسب إليه على العمل الصادق بالإخلاص، والمعاملة بالحب والسلم، والتعارف من أجل التعاون على البر والتقوى... لكن أكثرنا مسلمو التقليد، وأكثرنا لم يطلع على السيرة النبوية الشريفة! إذ كيف أن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم تسليما، هو أعظم شخصية! ونحن لا نقتدي به!؟ وحتى من أراد الاقتداء به نراه يقتدي بالمظهر دون الجوهر!
لقد قلدنا الغرب التقليد الأعمى.. وأصبح الغرب يتدخل حتى في ديننا الحنيف!؟... كثرت وتلونت فيه المعاصي حتى أننا نستطيع القول بأن كل الأمم السابقة حاضرة وزيادة.. وترانا نجر ذيول الهزيمة والذل... حتى بدأت الطبول تدق معلنة حلول الخطر عما قريب...
فأبناء سيدنا إسماعيل، عليه السلام، كانت تحركهم فطرة أبيهم سيدنا إبراهيم، عليه السلام، حيث قبل ظهور الإسلام أتتهم المسيحية من الشمال والجنوب تحمل إليهم الإنجيل.. وجاءتهم اليهودية تحمل التوراة.. فمنهم من ولاهما ظهره! ومنهم من قال بالحنيفية.. ومنهم من عبد الأصنام زلفى إلى الله.. ولم يتبعهما أحد من العرب...
وعندما نجلس لنتأمل مجتمعنا وما يجري جهارا وسرا يكاد القلب أن يتمزق تمزيقا.. كأن الأقوام التي رحلت واحدة تلو الأخرى قد عادت كلها جملة في عصرنا!

أما إذا نظرنا إلى الجانب الاقتصادي نرى أن الاقتصاد الإسلامي متميزا عن كل من الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي.. لأن الذي أقره هو الخبير العليم بمخلوقاته؛ وهو اقتصاد تتحقق به كل المزايا متى تم اجتناب المساوئ.. لكن أغلب المجتمعات الإسلامية نراها تتخبط خبط عشواء بين الاقتصادين المذكورين عساها تجد حلولا لمشاكلها... كما انتشرت الربا بأصنافها حتى دوّت صفارة الإنذار بالخطر المرعب...
نرى المسلمين يتخبطون في مسايرة النظام الاقتصادي الرأسمالي، أو الاشتراكي.. وإذا ما استقرأنا عن بعد النظام الرأسمالي نجده نتيجة غزو ونهب واستعمار.. حتى وإن لم يكن الانتماء إلى الماركسية يكون قوة سياسية وعسكرية... وخير دليل على ذلك شهادة التاريخ على الرأسمالية الأمريكية كيف حولت السكان الأصليين إلى عبيد، وكيف أبادت شعبا وأكثرهم دفنتهم في المناجم... وكيف كان وتم تحويل إفريقيا كذلك...
والماركسية ترى أن الأوضاع الاقتصادية هي من تحدد أوضاع المجتمع الاجتماعية، والدينية، والفكرية، والسياسية... وبالتالي تكون وسائل الإنتاج هي القوة الكبرى التي من شأنها صناعة تأريخ المجتمعات وتطوراته...
وإذا كان النظام الديمقراطي الرأسمالي قد أطاح بالنظام الاقتصادي السائد آنذاك، وبالحكم الديكتاتوري، وجمود الكنيسة.. فالحقيقة أنه لم يتغير عن المُطاح به إلا بارتدائه اسما يحمل كلمة "الديمقراطي" وحلة جديدة اسمها الحرية السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية! والحقيقة أن هذه الحرية لا تعني سوى خضوع الأقلية من المجتمع إلى الأكثرية باسم قوانين في صالح هذه الفئة العريضة...
أما النظام الاقتصادي الاشتراكي فهو متعدد المذاهب وأبرزه النظام الاقتصادي الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية.. ويتميز بطريقته الديالكتيكية...
وأسوأ سمات في هذين النظامين هي إقصاء الأخلاق، طريقة التحكم فئة في فئة، والفرد يعيش في خطر دائم... وبالتالي تشهد على عدم صدقهما وضعفهما.. المعاناة التي تعانيها الإنسانية جراء هذه الأنظمة التي بني أساسها على قوة، وظلم، وقهر، ومادية طاغية... وإن لم نعُدْ إلى الاقتصاد الإسلامي الذي يحقق التوازن، ويشترط الجودة والفضيلة معا.. فحتما سينهار اقتصادنا..
كما نجد المؤسسات البنكية وغيرها تتعامل بشتى أنواع الربا التي تدفع إلى الظلم.. فكيف يُعقل أن مسلما يقترض قرضا من البنك ثم يعجز عن تسديده فيربو القرض سنة بعد سنة.. ثم ترفع ضده دعوى إلى المحكمة.. وتحكم عليه بحجز بيته وأثاثه.. وبين عشية وضحاها يصير متسولا في الشوارع وأبناءه...

إن اللغة العربية هي لغة التواصل والحوار بين المسلمين، وهي كفيلة في ربط الجسور والمودة بينهم.. مما يؤدي إلى التفاهم والوحدة والاتحاد، كما أن بها يُفهم الدين الإسلامي... والتعليم هو صناعة عقول مفكرة ومبتكرة وشخصيات عالية الهمة.. وهو كفيل بتربية المجتمع وتعليمه أحسن تربية وتعليم حتى يحصل التطور والنمو والازدهار... والدين هو الذي يعلمنا كيف نوازن بين الحياة المادية والحياة الروحية، ويعلمنا الأخلاق والفضائل... وباللغة والتعليم نصل إلى طريقة العبادة الحقيقية لأن الله، سبحانه وتعالى، يُعْبدُ عن علم ومعرفة لاعن جهل وغلو؛ والعبادة هي سلوك ومعاملة وشعائر وعمل... أما الاقتصاد فهو الحركة الجوهرية في بناء الحياة والمجتمع من أجل الأمان والشعور بضمان العيش.. وكل المزايا الإيجابية التي يستفيد منها المجتمع برمته لا تتحقق سوى بنظام اقتصادي إسلامي لغة حوار مجتمعه اللغة العربية، وأفراده مسلمون متعلمون أحسن تعليم.


بقلم: محمد معمري