آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: أحجية للمتنبي: هل ستبقى لغزاً عند الواتاويين؟

  1. #1
    نائب المدير العام الصورة الرمزية محمود عباس مسعود
    تاريخ التسجيل
    09/11/2009
    المشاركات
    4,764
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي أحجية للمتنبي: هل ستبقى لغزاً عند الواتاويين؟

    سكون الحسُــن

    يغلب على الرأي أن أبا الطيب، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس خلال عشرة قرون كاملة، سيجشّم عصرنا أيضاً ما لا طاقة له به، فلن يفتأ يطرح عليه ضروباً من الأحاجي. وليس ثمة ما يؤذن بأن لهذا الأمر نهاية. وكأني بالمتنبي لم يكتف بالنحاة والصرفيين، وعلماء اللغة والبيانيين، يغيرون على ديوانه متزاحمين بالمناكب، ليمعنوا فيه شرحاً أو تشريحاً، كأن شعره مومياء عجيبة وقعت في أيدي أثريين غلاظ الأكباد، لا يقرّ لهم قرار حتى يكشفوا عن سر خلودها وبقاء روعتها على الأيام. فقد أصبح شعر المتنبي في هذا الزمن يتطلب، على ما نرى، طبقة جديدة من أهل الإختصاص.

    كان أبو الطيب دون الخامسة والعشرين من عمره لما اتصل في مدينة منبج من أعمال حلب، بأميرين من آل بحتر، لا يذكرهما التاريخ بخير أو شرّ، لو لم يُنعم الشاعر عليهما، وهو يسأل نوالاً بثلاث قصائد في المديح ليست من عيون شعره، رغم انطباعها بذلك الطابع الخاص الذي لا يغيب عنّا ولا يشتبه علينا، كيفما قلبنا الطرف في ديوانه. ومطلع إحدى القصائد الثلاث:

    أريقُكِ أمْ ماءُ الغَمامةِ أمْ خَمْرُ ؟

    ولا يعنينا من أبياتها إلا بيت واحد، بل شطر من بيت، يصف فيه المتنبي محبوبته "النظرية" التي يقضي العرف الشعري أن يتغزل بها في فاتحة القصيدة، وهو قوله:

    تَناهَى سُكونُ الحُسنِ في حرَكاتِها...

    فهنا أحجية من الأحاجي، لا يجدينا في حلّها نحو النحاة أو بيان البيانيين أو فقه اللغويين، لأنها في غنى عن هؤلاء جميعاً. ومن الإنصاف أن نبادر إلى القول إن واحداً منهم لم يجرّب حلّ هذا اللغز من المنظوم، بغير تحويله إلى جملة نثرية، فمرّوا به مرّ الكرام، حين لم تستوقفهم فيه نادرة نحوية أو لغوية، ولا مسألة صرفية أو بيانية، مما جرت العادة أن يعيروه نظراً واهتماماً، حتى ولا لفظة غريبة يتكلفون مشقة إبدالها بلفظة أخرى، تكون أقرب تناولاً وأكثر تداولاً: لقد أعياهم هذا المعنى بساطة ووضوحاً، فكأنه بيت من الشعر لا يُكرِم نفسه.

    قال الواحدي: حركاتها كيفما تحرّكت حسنة، وسكون الحسن فيها قد بلغ الغاية.

    وقال العكبري: هي حسنة في السكون، وسكون الحركة في قد بلغ النهاية.

    وقال اليازجي: إنها كيفما تحرّكت لحظاتها، فالحسن ساكن في حركاتها، بالغ نهايته في ذلك.

    لن نقف عند الاختلاف بين "سكون الحسن" في كلام الواحدي وبين "سكون الحركة" في كلام العكبري، كما أننا لن نكترث "لحركة الألحاظ" في شرح اليازجي الذي يَرُدّ المعنى إلى البيت السابق:

    رَأينَ التي للسّحرِ في لحَظاتِها = سُيُوفٌ ظُباها من دَمي أبداً حُمرُ

    لن نقف عند هذا أو ذاك، فليست القضية هنا أو هناك. وإذا كان لا بد من التسليم بأمر ما، فهو أن هؤلاء الأئمة، في تفسيرهم البيت، لم يضيفوا إلى لفظه شيئاً، كما أنهم لم يزيدوا معناه وضوحاً، بل أن الأصح يقال إنهم لم يجيئونا بشرح أو تفسير. وليس ما يبعث الأمل في أن نظفر بحاجتنا، عند غيرهم من شرّاح الديوان أو نقـَدَة الشعر، على الوجه الأعم.

    يقول الحكيم الفرنسي آلن في كتابه "نظام الفنون الجميلة" ما ترجمته: إن الوجه المليح – أو الحسن – ينبئ عن طمأنينة أو سكون الأشياء جميعاً، حتى في حالة الإختلال، أو الحركة العارضة.

    وهو يبني على هذه النظرية، وما يتصل بها أو يتفرّع عنها، من آراء في الجمال وعلاقته بالحركة والسكون، في الهيئات والأجسام الطبيعية، ثم في فنيّ الرسم والنقش اللذين يمثّلان الجسام والهيئات، كلّ فن منهما بمادته وأدواته، فصولاً مسهبة تفسح للنظر آفاقاً مترامية الأطراف.

    هنا أيضاً حديث، والحديثُ شجون، عن " سكون الحسن في الحركات وتناهيه فيها" على نحو ما نراه في نظم المتنبي. فلم يك من قبيل التحذلق إذن ادّعاؤنا، بادئ ذي بدء، أن ذلك الشعر أصبح، في هذا الزمن، يتطلب صنفاً آخر من ذوي الإختصاص، ونحن نعني فريقاً من أهل الدراية، غير علماء اللغة وأصحاب البيان الذين وفـّوه، من هذه الناحية، في العصور الخالية، قسطه وزيادة.

    ونحسب أن قد آن للشعر أن يُفصَل عن علوم اللغة – ألمّا يبلغ الفطام؟ ليُنظم نهائيا في سلك الفنون الجميلة، من الرسم إلى الرقص فالموسيقى، بين أهله الأدنين. أو ليؤذن لنا، على الأقل، أن نستضيء في دراسة الشعر، منشئه وجوهره وغايته، بأنوار تلك الفنون، فلن نلبث طويلا حتى نرى أنه ليس منها في الصميم فحسب، بل هو – فوق ذلك – أشرفها مقاماً، وأصعبها مراساً، وأبعدها وأقربها، في وقت معاً، من الكمال.

    ولرب معترض يقول، مقسماً بكل عزيز لديه: إن المتنبي لم تخطر له هذه المعاني البعيدة أو النظريات الغريبة ببال، وإنه كان أنعم حالاً وأطيب خاطراً في شروح الواحدي والعكبري واليازجي، منه في "نظام الفنون الجميلة" مع هذا الشارح الفرنسي من الطراز الأحدث! ثم يظهر عجبه، كيف، وقد طرحنا أحجية المتنبي القائل:

    تَناهَى سُكونُ الحُسنِ في حرَكاتِها...

    لم نتقدم إلى حل عويصها، إلا بأحجية من نوع جديد، عدا أنها مترجمة عن لغة أجنبية، فهي أجدر بالشرح والتفسير.

    عمر فاخوري – الفصول الأربعة
    مختارات من النثر العربي – د. وداد القاضي

    إعداد وتعليق: محمود عباس مسعود


    تعليق: لا أظن أن المتنبي كان يقصد العبث أو الإرباك بإقحام ذلك البيت الذي وددت لو أن الأديب فاخوري أورد لنا عجزه أيضاً، إذا غالباً ما تكون العلاقة عضوية بين الصدر والعجز، ويكون العجز متمماً للصدر مبنىً ومعنىً كقوله:

    إني لأبغضُ طيفَ من أحببتهُ = إذ كانَ يهجرنا زمانَ وصالهِ

    أو

    إذا ترحّـلتَ عن قوم وقد قـدِروا = ألاّ تفـارقهـــم فـالـراحـلـونَ هـُـمُ



    والآن سأورد البيت – الأحجية كاملاً وسأدلي بدلوي محاولاً - كما فعل سواي - معرفة المعنى الذي تمثله أبو الطيب في ذهنه عندما أنشد ذلك البيت.

    تَناهَى سُكونُ الحُسنِ في حرَكاتِها = فليسَ لرائي وجهِها لم يَمُتْ عُذرُ

    لقد كان المتنبي مفكراً بل غوّاصاً ماهراً في بحار الفكر قبل أن يكون شاعراً. وأشعاره التي تزخر بالمعاني الدقيقة هي ترجمة لأفكاره التي أرادها أن تطاول النجوم بعداً وسموقاً ً. كما كان متعمقاً في تحليلاته واثقاً من استنتاجاته، كقوله:

    وإذا رجعتَ إلى الحقائقِ فهي واحدةٌ لأوحَدْ

    نستدل من قوله هذا أنه رجع بنفسه إلى الحقائق فأدرك أنها تنصهر في حقيقة واحدة وأن باقي الحقائق النسبية تتفرع عن تلك الحقيقة المطلقة. كما نستشف أيضاً أنه كان يردّ الأشياء إلى مصدرها، مدركاً أن قيمة الأشياء ليست في طبيعتها المادية بل في جوهرها المعنوي أساساً. وأراه في بيته الأحجية قد حاول الربط بين الجمال – المثال والجمال – الظاهر.

    الجمال المطلق لا ينفصل عن الحق والخير. والمطلق كونه من معدن لا مادي هو بالضرورة غير مقيّد بقانون ماديّ أو بحركة ناجمة عن أمواج أو اهتزازات ذات رتب معينة.

    وإن افترضنا أن شاعرنا كان على دراية بالجمال المطلق، يمكننا استنتاج ما يلي:

    إن ذلك الحسن أو الجمال الأسمى ذا الطبيعة اللطيفة الساكنة أبصره الشاعر في لحظة من لحظات تأمله يغمر كل ما حوله، بل رآه متمثلاً حتى في حركات تلك الفتاة، وقد ظهر بقوة فائقة في محياها بحيث شعّ وجهها بنور وهاج يصعق كل من يحدّق فيه لقوة سطوعه، والله والمتنبي أعلم.
    وقد يكون لمفكرينا تفسيرات أخرى، ومنهم نستفيد.

    والسلام عليكم













    التعديل الأخير تم بواسطة محمود عباس مسعود ; 12/12/2009 الساعة 06:16 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •