البطل المطارد في قصص عبد الله باقازي

بقلم: أ. د. حسين علي محمد
..................................
(1)
يشعر القارئ لمجموعتي القاص السعودي الدكتور عبد الله باقازي "الموت والابتسام"(1)، و"القمر والتشريح"(2) أنَّ هموماً عصرية تُؤرّقُه، فهو لم يخلد إلى السكينة، ولم يكتب قصصاً ساكنة، بل ترى قصصه تمتلئ بالحيوية والحياة.
وهو يهتم في قصصه بإبراز قصص "البطل" أو "النموذج"، لكن ما يستحق التأمل في مجموعتيه أن أبطاله مطاردون، وهو بهذه المُطاردة يُعبِّر عن خصيصة من خصائص الإنسان العربي الذي يسير مُحاصراً بين قوسين، مُطارَداً من قوى لا قِبَل له بها.
وبهذه الخصيصة يكتسب أدب عبد الله باقازي مكانة طيبة في خارطة الإبداع القصصي العربي لتميزه بلمس وتر حساس في عصب حياتنا، وهذا التميز في اللمس والتعبير والاكتشاف هو ما يُميز الأدباء الحقيقيين عن الكتبة وأنصاف الكتبة، فإننا "عندما ندرس الأعمال الأدبية الكبرى نجد أن كلا منها يُعبر عن خاصية عميقة خالدة، وكلما أمعنت هذه الخاصية في العمق ارتقى العمل الأدبي إلى القمة، وأصبح خلاصة للروح القومي في شكل محسوس وموجزا للملامح الأساسية في فترة تاريخية محددة(3).
وحتى نختبر مدى عمق هذه المقولة نتوقف أمام ثلاث فصص من مجموعته الثانية لنرى فيها ثلاثة نماذج للبطل المطارد.
*في قصة "الأفعى" نرى البطل فلاحاً بسيطاً، اسمه "مرزوق" يُشارك زميليه "سالم وعويض" إرواء الأرض ليلاً، وهو يبذل في عمله جهداً كبيراً يُقدره زميلاه:
ـ ما شاء الله، مرزوق الليلة نشط.
ـ هو هكذا دائماً(4).
ويكتشف مرزوق أن منطقة مظلمة في الأرض لم تشرب، فيُحوِّل لها الماء، وسالم زميله يحذره "انتبه يا مرزوق"، ولكنه ينسى التحذير وسط انهماكه في العمل، فتلدغه الأفعى، وينقله زميلاه إلى المستشفى، ويُعالجه الطبيب المُناوب، ويعودون ثانية إلى الحقل، وفي داخلهم يترقرق يقين أقرب إلى الأسطورة: إذا لم تُعاودْه الأفعى خلال ثلاث ليال فسيتم شفاؤه!
وفي الليلة الثالثة كان سالم وعويض متفائلين، غير حذرين حينما أطل القمر بصورة أكثر وضوحاً من ذي قبل "حمل إلى الرجال ضياء أمل بأن لا خوف على مرزوق بعد هذا الوقت:
ـ أنجاك الله يا مرزوق.
ـ كُتِب لك عمر جديد.
ـ ذهبت الأفعى إلى غير رجعة"(5).
وتحرك سالم للاطمئنان على جانب الحقل الآخر، ومشى عويض إلى وسط الحقل ليقطف بعض الليمون، وتشبث مرزوق بعويض:
ـ ابق معي عويض.
ـ ذهب الخوف يا مرزوق، سأعود حالا"(6).
لكن حدث ما خشيه مرزوق، عاودته الأفعى، عينه امتلأت بالضوء، أذنه تلتقط صوتا، فحيح يقترب، الأفعى عادت، صهر البرد عظامه، اختلطت بدمه وأعصابه. ارتفع مؤشر النبض: عويض. سالم. يا رجال. الأفعى، الحقوني، الفحيح يقترب، عويض، سالم، غاب النداء في سديم الليل الكثيف"(7).
إن الأفعى هنا رمز للعدو(8) الذي يُطارد البطل دون ذنب جناه، والبطل هنا "مرزوق" نموذج للشخص النشط، المسالم، المحب للحياة، الصانع لها، الذي لا يدّخر جهداً في أداء عمله على أكمل وجه، لكن أصحابه يتركونه يواجه العدو وحده، فيموت.
إن المشاركة الجماعية لمرزوق في محنته، كان يُمكن أن تأخذ مساراً آخر، فتنقذه من العدو، لكن أصحابه اختاروا (الكلام) بدلاً من (الفعل)، وهذه إحدى أزمات العقل العربي الحديث، فكان الموت نهاية طبيعية للبطل.
*وفي قصة "الحلم القديم" نرى نوعاً آخر من المطاردة، والبطل هنا (واسمه "معيوض") متفوق:
"يسأل زملاؤك عن الكثير والكثير، تجيب .. وتجيب، ذاكرتك مضرب المثل دوماً، تُلقي التحية، تتلقف أذناك الإعجاب. تتساءل [أي الناس] عن سر النبوغ"(9).
لكنه كفيف، وهو طالب جامعي ممتاز، يُضيف إلى عباقرة المكفوفين الذين أُعجب بهم رصيداً: "يظهر بشار بن برد شامخاً في حياتك، تتطاول أحلامك تجاهه، تتمنى شهرته وموهبته، يلوح المعرّي شاخصاً هو الآخر"(10). ويمخر عباب ذهنه الدكتور طه حسين شامخاً، يضع خطواته نفسها خلال الصخر "تتناول يده الشمس في عليائها، في شموخ وإصرار"(11).
تشرق بدرية في حياته، يهدهده صوتها العذب ــ وهو الطالع من أريج التراث ـ
يا قوم أذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ والأذنُ تعشقُ قبلَ القلبِ أحيانا(12)
فيسأل أمه:
ـ كيف هي يا أماه؟
ـ قمر ليل يا معيوض .. مثل الزهرة(13).
ويتخرّج معيوض، ويعمل مدرسا، ويُراوده حلمه القديم، هل ستتبدّد ظلمته؟ وتجيء أمه، وكلماتها تخترق شغاف قلبه كالخنجر المسموم:
ـ هاه .. بشري يا أماه.
ـ بدرية رفضت يا معيوض(14).
إن تفوقه، وعشقه لعمالقة المكفوفين، وقلبه الكبير المليء بالأحلام وبالحب .. كل هذا لم يشفع له عند "بدرية"، لأنه مكفوف.
البطل هنا مُطارد بعاهة ليست له يد فيها، وعلى هذه العاهة أن تدفعه لينكفئ على ذاته، كلما أراد أن ينفتح على المجتمع، ويندمج فيه، وتكون النهاية مأساوية بهذه الألفاظ العادية ـ أو التي تُحاول أن تكون كذلك لتُخفف من وقع المأساة "تذبل الزهرة العبقة، يتلاشى الألق"(15).
*في قصة "المطاردة" نرى البطل مسحوقاً ضعيفاً، والمطاردة بدون سبب، وغير متكافئة:
"شخص يعدو كالمجنون، يُطارده شرس معضال، دار الهمس وتعالى لِمَ يُطارد هذا الرجل المعضال ذلك الرجل المسكين؟، الرجل الشرس المعضال يحمل خنجراً في وسطه، وفي الجيب الخلفي منه مسدس"(16).
إنه يطارده لأنه يحمل أسراراً كبيرة تضر بأمن المجتمع، ويتجمّع الناس ما بين مشارك في المطاردة، ومُتابع، ومتأمل، ويلحقون بالجاني، ويفتشون جيوبه وملابسه، فلا يجدون في جيبه الأيسر غير قطعة خبز.
إن المطاردة هنا لا تنتهي بالموت، ولا تنتهي بالانكفاء على الذات، وإنما تكشف عن طبيعة المُطارِد والمُطارَد (بالكسر ـ فالفتح) إنها بين (شرس) مُطارِد و(مسكين) مُطارَد، والحق دائماً في صالح المسكين، لكن هل ينتصر الحق الضعيف في وجه البغي المسلح؟
هذا هو السؤال.

(2)
يلفت النظر في قصص عبد الله باقازي أن لغته تحمل درجة عالية من الشاعرية والتكثيف، وتتوهّج عنده اللغة وتتفجّر إمكاناتها لتقترب من الشعر، ولنتأمل معاً هذه الجمل من قصته "المطاردة":
إني أخشى يا أماه
أن تُفقد مني الساقان
أو تُفقأ مني العينان
فالرجلُ الآخر (…)
صرَخَت من غيرِ شعور (…)
رجلٌ طمْأنَها بهدوء
لا يمكنُ يا خالهْ (…)
والآخرُ مسكينٌ مفجوعْ
يعلوهُ شحوبٌ وهلوع (…)
السرُّ سيُعرفُ في الحال (…)
ابتسم الرجلُ المعضال (…)
وتنحنح (…)
الأمرُ بسيطٌ للغايهْ(17).
سنلاحظ أن هذه السطور المتناثرة من قصة "المطاردة" تلتزم تفعيلة "فعِلُنْ"، وهي صيغة "الخبب" (إحدى صيغ بحر المُتدارك).
ولا يقتصر استخدامه للغة على الموسيقا، بل نرى ذلك من خلال التصوير، حيث يستخدم اللغة المشعة الموحية، مثل قوله في القصة الأولى: "مضى الرجال الثلاثة يقطعون نهر الليل الأسود بالحديث والبسمات، ثالثهم مرزوق، مشاركته محدودة، الخوف يملأ ذراته، الفجر أوشك على الظهور، القمر ملأ المكان بضياء ناصع"(18).
هنا يقوم الوصف بدوره في إثراء القصة من خلال اللفظة:
-لقد كان الثلاثة خائفين متوجسين: (مضى الرجال الثلاثة يقطعون نهر الليل الأسود).
وإضافة (النهر) إلى (الليل) ووصفه بـ(الأسود) تُعبِّر عن الخوف التقليدي من ماء النهر وهيجانه وطوفانه، والليل وعالمه المثقل بالرعب، وهكذا اشترك سالم وعويض ومرزوق في رؤية واحدة محورها: مصير مرزوق الفاجع، إذا فاجأتهم الأفعى.
-وقد مضى أكثر الوقت، وبقي القليل (الفجر أوشك على الظهور، القمر ملأ المكان بضياء ناصع)، وهكذا ننتقل نقلة أخرى في أحاسيس سالم وعويض فلم يعودا خائفين على مصير صديقهما، بينما مرزوق الذي يُعاني من لدغة الأفعى الأولى مازال خائفا مُطاردا (مشاركته محدودة، الخوف يملأ ذراته).
*ويستخدم القاص الحوار في جمل قصيرة تُساعد على رسم الشخصيات، وتُنمِّي الحدث، مثل قوله في القصة الأولى:
ـ العدو لا يكف عن الغدر.
ـ الانتباه واجب لما تحت الأقدام.
ـ في أي لحظة قد تلدغ أحدنا لنصبح ضحيتين بدلاً من ضحية واحدة.
ـ قد تتعدّد الضحايا فنُلدغ جميعاً على التوالي(19).
إن هذا الحوار الذي تناولته الجماعة يبدو كما لو كان على لسان شخص واحد، فالجميع متفقون على وجوب الحذر. إذن لماذا تركوا البطل يُطارد حتى الموت؟

(3)
وهكذا تتضافر الرؤية والأداة في نسيج حي، وتقدِّم وجها مُضيئاً في مسيرة القصة القصيرة السعودية، قادراً على أن يُضيف ويُشارك، ويتجاوز.
............................
الهوامش:
(1) الموت والابتسام، دار البيان العربي للنشر والتوزيع، جدة 1404هـ-1984م.
(2) القمر والتشريح، مطبوعات نادي مكة الثقافي 1406هـ.
(3) د. صلاح فضل: منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، ط2، دار المعارف، القاهرة 1980، ص143.
(4) القمر والتشريح، ص59.
(5) السابق، ص63، 64.
(6) السابق، ص65.
(7) السابق، ص65.
(8) بل تأتي في سياق النص بهذه الصفة "بحث الجميع عن الأفعى (العدو) لاذعة مرزوق"، السابق، ص62.
(9) السابق، ص43.
(10) السابق، ص43.
(11) السابق، ص45.
(12) السابق، ص46.
(13) السابق، ص47.
(14) السابق، ص49.
(15) السابق، ص49.
(16) السابق، ص7.
(17) انظر القصة، السابق، ص ص7-13.
(17) السابق، ص64.
([1]) السابق، ص62، 63.