رمز المرأة في مسرح الشعر الحر

بقلم: أ.د. حسين علي محمد



منذ أواخر الخمسينيات ظهر المسرح الشعري العربي في ثوب جديد هو شكل الشعر التفعيلي، وظهرت مسرحيات شعرية في هذا الشكل لعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وأنس داود، ومحمد مهران السيد، وأحمد سويلم، ومحمد سعد بيومي، وفاروق جويدة … وغيرهم.

وأصبحت المرأة في هذا المسرح تقوم بدور رمزي، بدلاً من أن تكون امرأة من لحم ودم.

ونستطيع أن نتوقف أمام بعض نماذج من (المرأة / الرمز) في مسرح الشعر الحر.

ومن هذه الرموز" "سلمى" في "الفتى مهران" لعبد الرحمن الشرقاوي، و"الأميرة" في "محاكمة المتنبي" لأنس داود، و"ليلى" في "ليلى والمجنون" لصلاح عبد الصبور … وغيرها.

وغالباً لم يُوفّق الشعراء المسرحيون في استخدام المرأة رمزاً، ولنأخذ "الأميرة" في مسرحية "محاكمة المتنبي" لأنس داود مثالاً.

إن زوجة كافور (الأميرة) تقف مع المتنبي ضد زوجها، وتقول بلغة لا يُمكن أن تكون صادقةً فنيا أو مُقنعةً، إن زوجها لا ينظر نظرة منصفةً للمتنبي!:

أنت تراهُ بعينِ البصّاصين وعينِ الكذَّابينَ

وعينِ الأُجراءْ

وأنا أُبصرُهُ من أعماقِ الأعماقْ



من خلف قوافيهِ أرى دنيا تنسجها الصِّورُ

السحريةُ في أَمَلٍ مرتجفٍ ورجاءْ

تحملُ للمحزونينَ وللمغلوبينَ الفقراءْ

أحلى ما تحملُهُ الأحلامْ

وما ترسمُهُ الأوهامْ

وما يصنعُهُ الأملُ البسَّامْ

فإذا أبصرَ في هذا الشعرِ المرهفِ بعضُ الكذابينَ

وبعضُ المُرتزَقَهْ

طعناً في الظلمِ، وفي الإسفافِ، وفي الغدْرِ،

وفي السرقةِ …

صاحوا بكَ في همجيَّهْ .. !

"اقتلْ هذا الشاعرْ .. !"

خبِّرْني

هلْ أنتَ معَ القهْرِ ؟ .. أمْ أنتَ مع الحرِّيَّهْ ؟

هلْ ترفضُ ضربَ الظُّلمِ ، وتأبى نشرَ العدْلْ ؟

قل لي يا كافور"(1)

إن المرأة لا يمكن أن تكون مقنعة هنا في هذا الدور الرمزي الموظفة له، فأنس داود يرمز بها لأرض مصر، ولكنها أمام القارئ للنص زوجةً لكافور، ولا يمكن أن يكون كلامها مقنعاً، وهي تتهم زوجها أنه من الكذابين ومن المرتزقة! وتصفه بالظلم، والإسفاف، والغدر .. فأي رمز هذا ؟

و"سلمى" في مسرحية "الفتى مهران" لعبد الرحمن الشرقاوي، يرمز بها للطبقات الفقيرة التي تحلم بالصعود، والتي تطلب من "الفتى مهران" أن يهجر العزلة ويختلط بالناس في كلمات مؤثرة:

أنت أيضاً يا فتى الفتيانِ .. اهجر عزلتكْ

امتزجْ بالناسِ في القريةِ .. عشْ في قريتِكْ(2)

لا يمكن أن يتقبّلها القارئ كرمز وهو يراها في أحضان "مهران"، لقد كان هذا المشهد هو «السقطة المدوية في حياة مهران، وجعلته يسقط في عيون أتباعه»(3).

سلمى: أنتَ ما قبّلتني من قبلُ يا مهرانُ

قدْ لا تندمُ إنْ قبَّلتني

أنتَ قدْ تكرهُني

مهران: سلمى (يواجهها بوجد بالغ)

سلمى: يا حبيبي عندما أنظرُ في عينيْكَ لا أقوى على أنْ أعترضْ

(تقول هذا وهي في أحضانه)(4)

والشرقاوي لم يُوفَّق في استخدام شخصية "سلمى" لما يُريد، ويظلم شخصيتها حينما يجعلها تطلب من "مهران تقبيلها، ولو حكمنا على "سلمى" من واقع أفعالها الأولى مع البطل لاستبعدنا أن تطلب منه هذا الطلب، ثم هي تعرف أنه رجل مسلول وله زوجة يُحبها وتحبه، فما الداعي لهذا ؟

إننا نجد الشخصية الثانوية ترفض مثل هذا، وتقول لمن حاول أن يقبلها في المسرحية نفسها:

انتظرْ، ليسَ من حقِّكَ بعدْ

أنتَ لنْ تظفرَ مني، لا بقُبْلهْ

لا، ولا حتى بلمسَهْ

قبلَ أن نُصبحَ زوجيْنْ(5)

ومثل "سلمى" شخصية "ليلى" في مسرحية "ليلى والمجنون" لصلاح عبد الصبور؛ فالشاعر يجعلها رمزاً لمصر، وحبيبها "سعيد" يفاجئها في بيت الجاسوس (يريد المؤلف أن يقول إن مصر وقعت فريسة للحكم البوليسي في فترة من الفترات) ويدور الحوار على هذه الوتيرة:

سعيد: ليلى .. !

ليلى: (وهي تفتش عن بعض ملابسها)

أبغي أن اخرج

سعيد: بلْ ظلِّي بعضَ الوقتْ

فأنا أبغي أن أعرفْ

ليلى: ماذا تبغي أن تعرفْ ؟

المشهدُ أثقلُ منْ أنْ يُثقلهُ الشرْحْ

بيْتٌ، وامرأةٌ عاريةُ الكتفيْنِ، وشَعْرٌ محلولْ

(تلبسُ جوربَها)

سعيد: هلْ نالَكِ يا ليْلى ؟

ليلى: في صدري رائحةٌ منهٌ حتى الآنْ

سعيد: اغتصبكِ يا مسكينهْ ؟

ليلى: بل نامَ على نهديَّ كطفْلٍ

وتأمَّلني في فرَحٍ فيّاضٍ يطفرُ منْ زاويتيْ عينيْهْ

وتحسَّسني بأصابعَ شاكرةٍ ممتنَّهْ

فتملّكني الزهوُ بما أملكُ منْ وردٍ ونبيذٍ وقطيفهْ

وتقلّبتُ على لوحةِ فرشتهِ البيْضاءْ

متألقةً كالشمسِ على الجدولْ

فتمدَّد جنبي، فمنحتُه

أعطاني، أعطيْتُهْ

حتى غادرني متفرقةً ملمومهْ

كالعنقودِ المُخْضَلّْ

(تتأمل نفسها في المرآة، وهي تبحث عن بقية ملابسها)

سعيد: قد خدعكِ يا مسكينهْ !

الجاسوسْ

ليلى: وشوشني في صدْقٍ يخنقُهُ الوجْدْ

أني أتملَّكُ أحلى ما يحلو في عيْنيْ إنسانْ

سعيد: هلْ أحببْتِهْ ؟

ليلى: أقسمَ أنْ يتزوّجني(6)

لكن ميزة مسرح صلاح عبد الصبور أنه لا يُضحي بصورة المرأة الحقيقية (التي هي من لحم ودم ومشاعر) في سبيل الرمز، بل يمكنك أن تقرأ مسرحياته فتلاحظ دائماً العناية الكاملة بصورة المرأة.

أما "ولادة" في مسرحية "الوزير العاشق" لفاروق جويدة فهي رمز للعدل والحقيقة، ولم يُوفق الشاعر في تقديمها كنموذج إنساني راقٍ (من خلال الفن) فظلت تخطب طوال المسرحية مبشرة بالعدل والحقيقة، ومدافعة عنهما. تقول في إحدى خطبها المجلجلة:

المنصبُ كالخمرةِ تسري

وتدورُ، وتحملنا بينَ الأوهامْ

توهمُنا أنَّا أصبحنا فوقَ الأشياءْ

نكبرُ كالظلِّ

نتضخَّمُ فوقَ الأرضِ وبينَ الناسْ

نتعلَّمُ طعمَ الكذبِ، نفاقَ الكلِمَهْ

لونَ الزيفِ وبهرجةَ الأحلامْ

فالعدلُ بخورٌ نحرقُهُ عندَ الحُكّامْ

والحاكمُ فوقَ القانونْ

يقتلُ نحميهْ

يسرقُ نفديهْ

يسجنُ فنكونُ القضبانْ

يجلدُ فنكونُ السَّجَّانْ(7)

ومثل "ولادة" نجد الملكة الأم "تي" في مسرحية "أخناتون" لأحمد سويلم، إنها محافظة على الأسرة، وترمز للمحافظة على القيم والتقاليد التي دافعت عنها الإنسانية طوال تاريخها مثل العدل والحكمة. ومن ثم فنحن نراها تتحدّث في لغة فوقية، تشبه لغات الوصايا، التي يتمتع فيها القائل بالعقل الكامل والحكمة والخبرة، ويتحدث إلى من هم أدنى منه، ومن يتعرضون للفتنة والزيغ والهلاك. إنها تُشبه لغة السلطة / لغة الأب، فهي لغة أبوية وإن جاءت على لسان امرأة. تقول "تي" (الأم / التي تقوم بدور الأب) مخاطبة ابنها "أخناتون":

خُذ عنِّي يا ولدي

احكم بالعدْلْ

واغرسْ في أرضِكَ شجرَ الحكمهْ

هذا شعبُكَ يسعى لكْ

فاسعَ إليه

واجعله في عينيْكَ وفي قلبِكْ

يرعاكَ الرب(8)

ولعلنا لاحظنا لغة النصح المتمثلة في جملة الأمر"خُذ عنِّي"، وهي جملة تتكرّر في مقاطع تالية.

وحينما ضاق "أخناتون" بوثنية آلهة الوادي، وسيطرة الكهنة فاتجه يبحث عن الإله الواحد، يجيء صوت الأم محذرا:

لا يا ولدي

أنت ابني فافعلْ مثلَ أبيكْ

لا تخرجْ عنْ طبعِهْ

خذ عني ياولدي كيْ تُسعِدَ شعبَكْ

خُذ عنِّي مثلَ أبيكْ

لا تخرجْ عنْ أمري

آمرُكَ بأنْ تتخلّى عمّا في عقْلِكْ

أنْ تتركَ آلهةَ الوادي للكهنةِ والناسْ

أما آتونُ إلهك هذا .. فهو إلهُك وحدكْ

ليس إله الكهنةِ والناسْ

يا ولدي أنا أدرى منكَ بأسرارِ الحكمْ

دعْ دينَ الآباءِ، ولا تُنكرْهْ

دعْ آلهة الوادي .. فلها الكهنةُ والأعوانْ

ولهمْ جبروتٌ .. ولهمْ سُلطانْ

لن تقدرَ وحدكَ أنْ تقفَ أمامَ الآلهةِ الأخرى(9)

وتعلل سبب هذا الموقف أنها "تحب ابنها، ولكنها تعلم أنه ليس بإمكانه أن يُواجه العاصفة وهو أعزل، وهي تعرف سطوة الدين، بل سطوة الكهنة في مصر القديمة، الذين يُوظفون الدين ليكون عوناً لهم، وخادماً في تحقيق أهدافهم"(10).

ولهذا نراها تقول لولدها "أخناتون" (في حسرة)، والحزن يكاد يعصف بها، في لغة نشتم منها الإشفاق والعطف:

يا ولدي .. لن يترككَ الكهنهْ

لن تغمضَ أعينُهمْ عنكْ

لن يُرضيهمْ آتونُ إلهُكْ

لن يُرضيهمْ

انجُ بنفسكَ يا ولدي من سلطانِ الكهنهْ

فأنا أعرفُهمْ(11)

وعموماً فقد قامت المرأة / الرمز بدور هامشي في مسرح الشعر الحر، فلم يظهر دورها إلا في مسرحيات محدودة.

................

الهوامش:

(1) أنس داود: الأعمال الكاملة 1-مسرح أنس داود، ط1، دار هجر للطبع والنشر، القاهرة 1989م، ص131 ، 132.

(2) عبد الرحمن الشرقاوي: الفتى مهران، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1966م، ص25.

(3) د. حسين علي محمد : البطل في المسرح الشعري المعاصر، ط1، سلسلة "كتابات نقدية"، العدد (6)، الثقافة الجماهيرية، القاهرة 1991م، ص79.

(4) عبد الرحمن الشرقاوي: الفتى مهران، ص174.

(5) السابق، ص151 (ط روز اليوسف، القاهرة 1982م).

(6) صلاح عبد الصبور: الأعمال الكاملة (1)، المسرح الشعري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988م، ص ص366-368.

(7) فاروق جويدة: الوزير العاشق، ط2، مكتبة غريب، القاهرة د.ت. ص18.

(8) أحمد سويلم: أخناتون، دار المعارف، القاهرة، 1981م، ص18.

(9) السابق، ص28.

(10) د. حسين علي محمد : البطل في المسرح الشعري المعاصر، ص172.

(11) أحمد سويلم: أخناتون، ص29.