الموت الأسود ( الطّـاعون)
Der Schwarze Tod
د. شاكر مطلق-Dr.med. Shaker MUTLAK
حُكمُ البابا " كليمِنس السادس " الباهر ،تُخيّم عليه ظلالُ كارثة غير مسبوقةٍ :
بحّارةٌ إيطاليون جلبوا المرضَ معهم من شبه جزيرة القرم عن طريق التّتار.
الطاعون يجتاح أوروبا بكاملها ما بين 1348 – 1351 – مصادر أخرى تعتمد عام 1373 -، ويؤدي إلى " موت ثلث العالم " ، كما كتب المؤرخ " جان فرويسّارت – J.Froissart " .عدد الموتى في أوروبا 20 مليون إنسان أي ربع عدد سكان أوروبا يومها ..
استغرقت الشعوب الأوروبية قرناً كاملاً لتتعافى من هذا الوباء الذي دام ستة أعوام فقط .
ناقلُ المرض كانت البراغيثُ التي تعيش على جلود الجرذان ، التي نقلتها السفن التجارية إلى الموانئ ، حيث انتشر فيها المرض- الوباء ، لكن هذا ما لم يكن يعرفه الناس المعاصرون يومئذ .
في نهاية القرن الخامس عشر اكتشف الأطباء جرثومة الطاعون الذي ينتقل من الجرذان إلى الإنسان عن طريق البراغيث .في العصر الوسيط وقف المرء عاجزاً أمام ما يراه ويعيشه .
الطاعون الحبَـبي :إنها نقاط سوداء ، تبدو كالزهور على أجساد الموتى .
يتسبب المرض في انتفاخ في الغدد اللمفاوية الموجودة في مِغبَن الساق والإبط ، حيث تنفجر متسبّبة في ظهور بثورٍ سامة وبقعٍ سوداء .المرضى يسعُلون ويتعرَّقون وعندهم حرارة مرتفعة ويعانون من عطش لا يطاق . اللسان مشلولٌ ، حتى إنهم لا يستطيعون إلاّ التمتمة . الحلق يصبح أسودَ ، والبرازُ دمويٌّ أسود ، النّفسُ والعرق لهما رائحة نتِنَةٌ .
النصوص المعاصرة للوباء تصوّر بشكل مجسّم الهولَ ، الذي أصاب إنسان العصر الوسيط ، وهو يرى أمامه هذا العدد الهائل من المرضى والموتى.
أحد الأناشيد الفاليزيّة البكائية يقول :
" كتلةٌ تنمو تحت إبطي ، مريعة ، أليمة ، كعقدة شريرة ، تَحرق كجمر الفحم ، شيءٌ مليء بالمعاناة ، إسْتٌ داكنة .
عندما تنفجر العقدة فإنها قبيحة مثل حبة فاصولياء سوداء ، مثل قطع الفحم الصغيرة الهشّة ، إنها زينةُ الموت الأسود المبكرة " (1) :
أما " فرانسيسكو بتراكا " ، الذي عايش سنوات الطاعون في أفنيون فكتب :
" يا ويلَتي، ماذا عليَّ أن أتصبّر ؟، أيّ عذاب شديد يعدُّه لي القدر؟. إنني أرى زمناً قادماً يقترب فيه العالم من نهايته بسرعة هائلة ، حيث يموت من حولي الشبان والمسنون ، جماعات ، جماعات . لم يعد هناك من مكان مأمولٍ ليَ فيه ، أو بناءٍ سـينفتح أمامي .لا يوجد هناك ، على ما يبدو ، أمل بالنجاة المَرجوّة .
حيثما أتلفتُ لا أرى إلاَ طوابير الموتى غير المعدودة .إن هذا يشتّتُ نظري " .
عدد الأموات في المدن هائلٌ . المرضى يموتون غالباً خلال ساعات قليلة . إذا ظهر الطاعون في بيت مغلق ، فلن ينجو هناك أحدٌ . العديد من جماعات الأديرة يموتون خلال أيام قليلة .
بسرعة هائلة يقتحم الطاعون المنطلِق من إيطاليا ، نحو شمال وغرب أوروبا .
في كل مقاطعة يعيث المرضُ لأشهر قليلة ثم يختفي، في المدن الكبيرة فقط يبقى لفترات طويلة .
في الشتاء يخفّ الوباءُ ولكنه يعود ليشتَعل في الربيع من جديد . ينتشر الوباء في أفنيون عام 1348 ، ويبقى فيها لمدة عامين ، يموت خلالها حوالي 400 إنسان يومياً . في النهاية لم يبق من سكانها الخمسين ألفاً سوى النصف . موظفو حكومة البابا وعددهم 450 لم ينلهم أذىً شديداً ، حيث توفي منهم 94 فقط .
إنهم يعيشون في بيوت حجرية ، حيث الشروط الصحية أفضل مما هو عليه الحال عند فقراء المدينة ، حيث يكاد الأمل بنجاتهم من مرض الطاعون أن يكون معدوماً .
يقال أن البابا " كليمِنس السادس " كان يختبئ ، إبان الجائحة ، وراء جدران حجرية سماكتها عدة أمتار ، ويدَعُ ناراً كبيرة تشتعلُ باستمرار ، ويقطَع كلَّ صلةٍ له مع العالم الخارجي ، وربما كان هذا هو الذي أنقذه من الموت بالطاعون .
نواقيسُ الموت تقرع في " أفنيون " ، ليل نهار . دون انقطاع تمر عربات الجثث في طرقات المدينة ، المقابر تمتلئ سريعاً ، ثم تُلقى الجثثُ أولاً في نهر الرّون ، ثم يحفرون حفراً واسعة كقبور جماعية .
البابا " كليمِنس السادس " ، يعطي الموتى جميعهم بركةَ الموت ، من مسحٍ ومناولةٍ الخ ...، لأنه لم يعد هناك من الكهنة ما يكفي لإعطائها فردياً لكلِّ محتَضَر ، حيث أصبح الكثيرون منهم ضحايا الطاعون ، أو هربوا خوفاً من العدوى .عدد الناس يتقلصُ وكذلك القِيَمُ ، حيث ينتشر الخروج على القانون والتحلل الأخلاقي نتيجةً للوباء :
" الآباءُ يتركون أطفالهم ، والناسُ أزواجهم ، والأخُ أخاه ، لأن المرض بدا لهم ، وكأنه ينتقل عن طريق النظر والنّفَسِ " .
طرأ نقصٌ شديد في اليد العاملة ، فتراجع الإنتاج الزراعي . الدوائر الرسمية تفشل في تقديم الخدمات . البعض يـيأس ، والبعض الآخر يأخذ كلَّ ما يمكن له أخذه .
الإرهابُ يسيطر على الحياة اليومية . البعضُ الآخر يريد ، من خلال الملَذات غير المحدودة ، أن ينسى المرض . سعادة حياة صاخبة ( نجدها ) إلى جانب اكتئاب عميق .
لم يكن هناك نقصٌ في محاولة تفسير أسباب الوباء .
الطبيب الشخصي الشهير للبابا " كليمِنس السادس " المدعو " غوي دي شولياك " ، الذي عايش الوباء في أفنيون مرتين يفسر ذلك بسبب :
" تقارن وضعية الأفلاك العليا ساتورن، جوبتر ، ومارس في برج رجل الماء ( الدلو ) " في وضعية معينة ، رأى فيه سبباً للمرض .
التنجيم كان في ذلك الوقت ، جزأ نظامياً في تعليم الطب . حتى أن تقرير الخبرة بشأن الطاعون ، الذي قدمته كلية الطب في جامعة باريس عام 1348 ، كان يستند إلى نظريات التنجيم .
لا شيء يمثّل فشلَ طب العصر الوسيط ، أكثر من تلك النصيحة اللامبالية الفاشلة ، التي أعطاها أطباءُ العصر المشهورين ، للناس المهدّدين بالموت عندما نصحوهم :
" الهروب بأسرع ما يمكن ، والعودة المتأخرة " إلى المَسكِن.
عُرف من تلك التفسيرات ما يسمى بـ " أنموذج نسيم الطاعون " الذي شرحه العلماءُ عندهم يومها كالتالي :
نظراً لوضعيات غير ملائمةٍ لبعض النجوم التي تحوم ، في الأبراج ، تصعد أبخرةٌ مُمْرِضةٌ من البحر في الهواء ، حيث تسخُن ثم تَقذِفُ بها ( وضعية النجوم غير الملائمة تلك ) إلى الأرض ثانية كـ " رياح ضارة " ، فإذا تنفس الإنسان هذه الرياح – كما تقول النظرية – تتجمع أبخرةٌ سامة في القلب والرئتين ، فإذا زَفَر الإنسان نسيمَ الطاعون هذا ، فإنه سيُعدي كلَّ من في جواره .
لكن كل هذه التفسيرات لم تنفع ، مما أدى إلى فقدان الناس ثقتَهم في العلم . في أثناء ذلك تشكلت ، عند الشعب ، نظرياتٌ محتملة ( لتفسير ) أسباب الموت الأسود :
توقف الناس عن أكْـلِ السّمك ، لاعتقادهم أن رائحتَه مُعديةٌ ، ثم عزفوا عن استعمال البَهارات ( وكانت مرغوبةً وثمينة جداً ) ، لأنهم يعتقدون أن السفن التي أحضرتها " مصابةٌ بالعَدوى " .
في النهاية لم يبق إلاّ تفسيرًٌ واحدٌ :
الطاعونُ عقوبةُ المَحكمة الرّبانية ، ويجب على الناس ، بسبب خطاياهم الممنوعة ، أن يعانوا ، وبهذا يعبّر الله عن خيبة أمله في مخلوقاته .
الكثيرون ، يصابون بهستيريا دينية ، أخذت تفرغ طاقتَها بمسيرات أسبوعية ،كثمن للذنوب ، حيث يسيرون بأقدام عارية وبثياب من أكياس الخيش . الآلاف منهم يعفّرون أنفسهم بالرماد ، وهم يبكون ويصلون ويشدّون شعور رؤوسهم ويضربون أنفسهم بالسياط ( لهذا سموا بذوي السياط ) ، حتى تخرج الدماء منها ، آملين أن يعيشوا ، لاحقاً ، آلامَ المسيح ، حتى يلطفوا ويصدوا غضب الله عليهم .
البابا " كليمِنس السادس " يمنع هذه المسيرات ، لأنها خرجت عن سيطرة الكنيسة ، ولكنه لم يكن يعرف بأنها تساعد أيضاً على انتشار الوباء .
لكن حركة هؤلاء الدافعين ضريبة خطاياهم ، أخذت طرُقَها الخاصة ، حيث كانوا يتجمعون في جماعات يصل عددها إلى 300 إنسان متطرف ، يسيرون ، ضاربين أنفسهم ، باكين في المدن التي كان يتجمع فيها المشاهدون الواقفون ليروهم من أطراف الشوارع عدة مرات يومياً ، ويشاركون في البكاء معهم .
بعد وقت قليل ظهر تفسير ٌ آخر للوباء .
إنه ذنب اليهود ، الذين يجب أن يشعروا بغضب الله عليهم ، لذلك كانوا ( ذوي السياط ) يتجهون فور وصولهم إلى حارات سكن اليهود ويبدؤون بقتلهم ، بشكل منهجي يذكر بإبادة الجنس ( الجماعية - Genozid ) التي لحقت بهم في القرن العشرين ( على حد قول مؤلف كتاب الباباوات الألماني ، الذي يشير بذلك إلى المحرقة النازية في ألمانيا – هولوكوست ) .كانت هذه فكرة قديمة عند الشعب المسيحي ، وجدت لها استمراريةً الآن ، وهي أن اليهود قاموا ، بسبب كرههم للمسيحيين، بتسميم الآبار والينابيع .
مع انتشار الطاعون انتشرت حركة مطاردة هِستيرية ، غير عقلانية، لليهود ، لم تستطع الكنيسة ، ولا الأعيان السيطرةَ عليها .
البابا " كليمِنس السادس " يطلب في إعلان بابوي ( بولّه ) من رجال الدين ، حمايةَ اليهود من غضب الشعب ، ولكن ذلك بقي دون أثر بالنسبة للشعب الهائج .أعمال ذوي السياط أخذت تزداد شراسةً .
إنهم يتبعون فقط الوحي الإلهي لمعلميهم ، قادتهم ، وبذلك يشكلون هجوماً جدياً على نظام السلطة التقليدي للدولة والكنيسة معاً ، بحيث يصبح المجتمعُ ، الذي أضعَفه الطاعون جدياً ، والنظام فيه ، مهدداً بالغرق في الفوضى نهائياً.
على الدولة والكنيسة - الآن - التّصرف ، إذا لم يرغبوا بفقدان سلطتهم وتأثيرها على المجتمع .
عندما يبدؤون بملاحقة " ذوي السّياط " ، يختفي الطاعون فجأةً، كما جاءَ .
الناسُ يتحدثون عن الوباء " كأشباح الليل " و " الظواهر العاتمة " .
لكن مع انتهاء حركة " ذوي السياط " ، يكون العدد الأكبر من يهود أوروبا قد اختفى ، دمّرته لذة القتل عند متدينين متطرفين ، أخرجهم الموت الأسود ( الطاعون ) ، من قاع مجتمع مسيحي ، إلى السطح .
لقد غير الطاعون أوروبا العصر الوسيط المتأخر (القرن 15) كثيراً،كما غيرته الحربان العالميتان في العالم الحديث .لم يسبق وكان هناك من قبْلُ مثل هذا التهديد للوجود .
في الزمن اللاحق لـ " الموت الكبير " انتشرت الصَّحوةُ الدينية بين بعض الناجين :
لم يخبْ ظنهم في الطب فحسب ، وإنما في المعتقَد المسيحي أيضاً الذي اهتز كثيراً .
إن تصرفات الله ( بشأن العقاب بالطاعون ) لم تعط لهم معنى :
لا يمكن فهم الكارثة كعقابِ محاكمةِ قيامةٍ ، يراد بها وضع نهايةٍ لعالم خاطئٍ ، لأن الكثيرين قد نجو ( من العقاب بالموت – الطاعون ) ، ولا كأزمةٍ شافيةٍ ، كما كان يَأملُ الكثيرون ، قد تؤدي إلى أن يصبح الناس أفضلَ .
إذن هناك سبب للشك في العدالة الإلهية ، وفقدت الكنيسة الكثير من هيبتها .
تمنع الكثيرون من رجال الدين ، من الوقوف إلى جانب الكثيرين من المحتَضرين ساعة الموت ، لأسباب أنانية تتعلق بالخوف على حياتهم من العَدوى .
في الوقت نفسه ازداد ثراء الكنيسة بشكل فاحش ، جرّاء ما آل إليها من إرث الذين سقطوا أمواتاً في زمن الموت الأسود .الناجون هم الفائزون من جوانب عديدة .
العديد من الأقرباء البعيدين لعائلات ثرية ، حصلوا الآن على إرث ضخم أدى إلى ارتفاع مكانتهم اجتماعياً ، التّضادات الداخلية الاجتماعية في المدن ، أخذَت تزداد حدة.
الشك في الله وفي الكنيسة أصبح أقوى ، وتلاشت حصانتهما من التهجم عليهما.
أخيراً يصبح ، بسبب هذا التحول والنقد القادم على النظام الموجود ، الموتُ الأسود يفسَّر ،كمبشِّر بالانفتاح القادم – عصر الأنوار .=========
E-Mail:mutlak@scs-net.orgحمص - سورية
المفضلات