لا أَعْجَبُ
شعر :هلال الفارع.
حينَ تَضِيقُ على الغَزِّيينَ
وُجُوهُ الأَرْضِ بِمَا رَحُبَتْ،
وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ في زَمَنِ الرِّدَّةِ والسُّوءِ مَلاذْ
وَيَمُرُّونَ إِلَى اللُّقْمَةِ
مِنْ بينِ شَرَايينِ المَوْتِ،
وَيَقْعَى وَيُعَرْبِدُ خَلْفَ مَعَابِرِهِمْ
أَبْنَاءُ خَنَازِيرِ الأَرْضِ الشُّذَّاذْ
يحتار القارئ عند الطّرب لأي نص يقرؤه ،في أيِّ منهج نقديٍّ يختار لبلوغ أبعاده ةالماورائية ،والإمساك برؤيته الفنّية .فهذه المناهج على تعدُّدِها ،وتصنيفاتها تبدو كلُّها قاصرة ،لايمكن لأحدها الإلمام بكامل حمولة النّصّ الفكرية والفنّيّة.ومع ما تفرضه من موضوعية وحيادية تقمع العواطف ،وتَدخُّلِ الذات ،وتُجَرِّد المتلقّي من أحاسيسه ،وهو يصغي إلى مؤثِّرات خاصّة ،متواترة في دفقها الشِّعري ،تحدِّد جغرافية الفكر ،وتحاصر النّفس بجمالياتها فتستقرّ في الشّعور الباطن ،ويتردّد صداها في الذّات..
ما كنت أفكِّر في قراءة عميقة ـ هذه الأيام ـ ولم أقرأ لـ "هلال الفارع"لكنني اصطدمت فجأة بهذه القطعة القصيرة المختزلة لحياة يومية ،آنية ،لشعب بأسره..
وبعد تفكير ،اخترت "المشهدية" التي تسهّل عملية ترتيب ،وتصوير اللّوحات الفنّية المعروضة في القصيدة ،لأنّ صفة المشهد تؤخذ من المشاهدة والمُشاهِدُ:
"يرفع إلى العين مقطعا من الدّفق الحياتي،محدودا في إحداثيات الزّمان والمكان".1.
..وحينما تُرسم المشاهد ،يسهل تبطينها بـ "نظرية التكاملية "التي تجمع كل المناهج السياقية المنطلقة من داخل النّص إلى خارجه ،رغم ما يعاب عليها من كونها سخّرت العملية الإبداعية لخدمة علوم إنسانية أخرى ..فهذه "التّكاملية "أيضا لاتخلو من نقائص وأثبتت بمحدوديتها ،عجزها أمام فضاءات نصّية لانهائية المعالم ....فهي تنتقي من المنهج النّفسي ،والمنهج الاجتماعي ،والمنهج التّاريخي من الأدوات الإجرائية ما يسهِّل اختراق النّصّ ،وتفكيك جزئياته..ثم استعنّا بشيء من "المنهج السيميائي للوقوف على بعض العلامات ،والانطلاق من عتبة العنوان..
1ـ مشهد العتبة العنوانية :
"لاأعجب"!..
وبصفته أوّل باب يطرق لولوج مساحة النّصّ الجغرافية التي تبرِّر اللاعجب،وتنتفي وراءها صفات الاضطراب ،وتذوب وراء ألف حجاب ينسج "اللا عجب" خيوطه المتينة ،الرّفيعة ،متشكّلا من قيم مركزية في تحصين الطّهارة ،صنعت شخصيّة الشاعر،ونصّبته حادي القوم ،وناطقهم الرّسمي، وقلبهم النّابض بالكلمات ،ومرآتهم العاكسة لحالهم ،تنوب ألفاظه عمّا عجزت ألسنتهم عن لملمته ،لِهول العاصفة ،وتشتّت الذهنية ..وللشاعر قدرة فائقة على تصور المواقف بشموليتها وأبعادها ،ثمّ ترجمتها في كلمات قصيرة على شاكلة خلاصة عامة ..تختصر المسافات ،وتستجمع أشلاء فكر ضاع في خضم فوضى واقع أليم ..
وقد أشار الجاحظ إلى السِّمة حين حديثه عن "النُّصْبة"بأنها:
"الحال الناطقة بغير لفظ والمشير بغير يد،وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض،وفي كل صامت ناطق،فالنصبة إذا هيئة دالة على نفسها من غير وسيلة ودلالتها على نظرة تأملية "1.
."لا أعجب"
ترسم لوحة مشهدية مثيرة وبارعة ،وتستحضر شخصية الشاعر الهادئة في وجه المهالك..ففي الوقت الذي يجد المواطن "الغزِّي "نفسه مهدّدا بالحصار ،برّا ،وجوا،وبحرا،محفوفا بكلّ المخاطر الملمّة ،المحدِّقة ،سابحا في مكاره الشّوك..يُسْفي الشّاعر كلّ طوارئ الاضطرابات كما الرِّيح ،ويخفِّف حدّة الوطأة الجاثمة على النّفس ،ليرسِّخ الأمل ،ويبعث الثِّقة تواصل سيرها في النفوس ،ويجعل من التوّترات النّفسية مجرّد أطلال دوارس بعبارة واحدة "لاأعجب"..فكلّ شيء عنده عادي ..فالشّعب تمرّس على معاناة أكبر من مجرّد "جدار فولاذي"..
فهو غير قلق ،غير محتار ..هادئ مطمئن ،يقف متّزنا ،ثابتا كالطَّود الشّامخ،لاتزعزعه رياح مهما بلغ عتوُّها ،وسرعة سيرها ،وكثافة قوّتها..ولا أعاصير مفتعلة تكدِّر صفو حياته..فلو تأثّر بـ "جدار فولاذي "أو "حصار"طال أمده ،لاندهش بسبب جهل الحقائق ،واختفاء الأسباب .ولكنّه اعتاد على المغالبة ،بل عاش في صميمها معركة متواصلة ،ألِفَ فيها كلّ المصائب،وعاش في خضمّ المصاعب ،وعانى من كلّ المتاعب ،وواجه كلّ شيء بالعزيمة الفولاذية التي تتقن مواجهة "الجدار الفولاذي ،وتُحسن هدمه في النّفس بالقيَّم ..إنّها قوّة الرّوح في مجابهة قوّة المادة ..فهي الرّوح الثابتة دائما ،لاشيء يزعجها أو يكدِّر صفوها،ولا جديد طارئ يفاجئها ،ويصدمها ..فهي تتوقّع كلّ خسّة في النفوس المريضة ..وهي صفات الرِّجال الذين تربّوا على مغالبة الوقائع في صلب الأزمات ،وقلب النّكبات..
وهو هنا لا يأبه لنفسه ،وإنّما "لايعجب"من شعب بأسره ،يتحدّث أطفاله الصِّغار لغة الكبار ..ليعلّل لنا وحدة ثقافية أصيلة راسخة في شعب اختار توجّها واحدا رأى فيه صلاحه..إنّها ثقافة "الصّمود والتّصدي"..
إنّها المقاومة في عزِّ قمّة اشتداد عواصف الأزمات..وينساب "اللا عجب "مع كلّ لفظة تخيط ثلاثة مشاهد متناسقة ،تنسج أفكارها المرتّبة ..
2ـ مشهد الغزّيين:
حينَ تَضِيقُ على الغَزِّيينَ
وُجُوهُ الأَرْضِ بِمَا رَحُبَتْ،
وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ في زَمَنِ الرِّدَّةِ والسُّوءِ مَلاذْ
حينما يتكالب عليهم الباطل ،ويحاصرهم من مختلف النّواحي ،وتضيق مساحة الحركة في المكان ،ويرتد الأحباب والأصدقاء عن قيم المناصرة الخارجية ،ويفقدون طريق كلّ "ملاذ"..تتّسع قلوبهم ،وتطغى قيم الصّمود على الواقع ،وتشرع في تسيير الوقائع،فيسهل كلّ حَزن ،وتأتي الصّعاب ذليلة ،منقادة ،صاغرة ،تسلِّم زمامها لـ "الغزِّي"يتحكّم في توجيه سيرها..إنّه مشهد عظمة شعب ،ركب المهالك ،وعاف الرُّكود..
إنّها عادة الصّبر على الشّدائد ،حينما تبلغ أوجها ،فتنبري ـ هذه الصِّفة ـ تُقطِّع حبال المحن ،وتزجرها بكبرياء خارج المحيط..
من هنا اُعتُبِر أن هناك علاقة وثيقة بين الأديب وأدبه والتاريخ:
"إن أصحاب هذا المنهج لاينظرون إلى النص الأدبي أنه عالم مستقل قائم بذاته،أو أنه مجرد بناء لغوي مكثف العناصر اللغوية وحدها،بل ينظرون إليه على أنه حقيقة تاريخية واجتماعية كذلك".3
وإذا بإنسان "غزّة"يمتطي قيم البطولة وحده ،ويرسم صورة النّموذج البشري الذي يُحتذى في المقاومة.وهذه إحدى أسس وركائز دواعي هدوء الشّاعر ،وثقته في نفسه بثقته في مجتمعه..ليبقى الشاعر مجرّد خلية دماغية في جسد "الغزّيين"..قمّة التّماهي ،والتّناغم ،والتّنافذ بين الشاعر وقومه..
3ـ مشهد الحياة :نقف هنا أمام مشهد تناغم فيه الصّدق الفني مع الواقع المعيش ،ليكشف في صورة بلاغية فنية بارعة عن حالة شعب بأكمله في سطرين :
وَيَمُرُّونَ إِلَى اللُّقْمَةِ
مِنْ بينِ شَرَايينِ المَوْتِ،
فبقدر المعاناة في تحصيل لقمة لعيش ،واختطافها من شفة الحياة المحفوفة بكلِّ أخطار الموت،بقدر ما استطاع الشّاعر أن يكشف في كلمات وجيزة عن هذه المعاناة ،ويعبِّر عن الحالة بصدق ،إلى درجة أن يرتسم أمامك مشهد حياة شعب بأكمله في تحصيل أرزاقه ،والشّاعر يضمر نفسه ليفسح المجال للواقع الاجتماعي ،فيبرِّئ نفسه من "أنا متعالية ،متضخِّمة ،تُلْغي الآخر ،وتسجِّل حضورها وحدها"وهو الشِّعر الجدير بالقراءة ،لأنه يخدم الجماعة ويُلغي الأنا ..فهو الشّعر الرِّسالي الذي يتوسّل الجمال اللّغوي ليبلغ مقاصد فلسفية كبيرة في الحياة ..
إنّه الواقع يتحدّث بلسان الشّاعر ،يعيد عن أي زخرفة مثالية ..:"وبدأ التنكر للمثالية،من خلال إحلال الواقع محل المثال".4
وبإمكان القارئ أن يتصوّر من خلال هذه الصّورة وحدها ،الكيفية التي يلتقط بها الشّعب رزقه من مناقير الطّيور..
4ـ أسباب المشقّة ،ودوافع الصّمود:
وَيَقْعَى وَيُعَرْبِدُ خَلْفَ مَعَابِرِهِمْ
أَبْنَاءُ خَنَازِيرِ الأَرْضِ الشُّذَّاذْ
في هذا المشهد نجد استعراضا لأسباب المعاناة "الغزِّيّة"،والمتسبِّب فيها ،بكلمات كريهة إلى النّفس "يقعى "جلوس الوثوب ،والتّربّص ،والتّرصّد .و"يُعربد"للدلالة على بذاءته ،وإدمانه على الملاحقة ،والتّتبّع ،وانتظار سقوط آخر صروح قيم الصّمود ،لينقضّ "أبناء خنازير ...الشّذّاذ"على ما تبقّى فيبيدونه ،ويغتنموا الأرض..
ويعتبر اللاوعي عند "فرويد:
"هو المصدر الحقيقي لكل إبداع،وللكشف عن حقيقة الأديب،باعتبار أن صراع الشخصية يترجم تفاعلات القمع ،والكبت،وما يوازيه من تسامي،وتبرير له،فتنتج سلوكات شتى .أهمها التسامي الذي يحدث نوعا من التوازن.هذا التسامي الذي يؤدي إلى إظهار عبقرية وامتياز في الفن أو في العلم".5.
إنّ لاوعي الشّاعر ساقه إلى استخدام ضمير "الأنا"مرة واحدة في فاعل "لاأعجب"،ليُصاحب لاعجبه معاناة الشعب وكبريائه ،وشموخه ..في كل المقطع الشّعري..
ولمّا كان الخنزير من أسوء حيوانات الأرض صفاتٍ ،فقد أوقعنا الشّاعر في الخيارين بين متناقضي :
ـ مناقب الطّهر المجسِّدة "للغزّيين "..
ـ مثالب النّجاسة الممثّلة "للخنازير".
متناقضان يشكِّلان خطّيْنِ متوازيَّيْنِ لايلتقيان أبدأ ..
وفي كل سطور القصيدة "الحديثة"تمتزج سيرة الشّاعر الذّاتية بالسّيرة الجماعية "للغزّيين"،فلا تجد انفصالا بينهما أبدا ،لِنُسجِّل انتماء الشّاعر الطّوعي ،والأبدي ،واليقيني لمجتمعه،يشاطرهم كلّ تفاصيل الحياة ..
وهي صفة عمالقة الشّعر عبر التّاريخ ،وهي قيم شعر المقاومة ،وهي قيم الكبار الذين يصغر أمامهم كلّ عظيم ..
والشاعر ببراعته اللغوية ،وقدرته على التّحكم في آليات التّجميل ،والتّقبيح ،يدفعك دفعا إلى الإعجاب بخصال "الغزّيين"،لتتعاطف معهم ،وتنبري مدافعا عنهم ،مساندا لهم ..وفي الضّفّة الأخرى يرسِّخ في شعورك الباطن مَقْتَ الأعداء والمساهمة في ردمهم من الوجود..
والقصيدة بشاعرها ،بشعبها المعبَّر عنه تترجم عبارة :
الرِّجال مواقف ..والمواقف يصنعها الرِّجال..
إحــــــــــالات:
1ـأ/د/حبيب مونسي: شعرية المشهد.المقدمة ص1.
2ـ أحمد حساني:مباحث في اللسانيات.ديوان المطبوعات الجامعية.الجزائر1994.ص147.
3 د/وليد قصاب:مناهج النقد الأدبي الحديث.رؤية إسلامية .دار الفكر:دمشق.الطبعة الأولى 2007.ص.24.
4ـ أ/د/حبيب مونسي:نقد النقد .دار الأديب .وهران.الجزائر :2007.ـ
5 ـ علي عبد المعطي محمد:فلسفة الفن.دار النهضة العربية.بيروت1958.ص.83ص.71
ملاحظة:ـ ستوثّق القراءة ،وتنقّح،وتدرج في البحث الأكاديمي ..وتنشر مع دراسات أخرى في كتاب..
ـ القصيدة نُشِرت يوم 01/01/2010.في موضوع "الفتوى الأزهرية حول "الجدار الفولاذي"للأستاذ الفاضل ،المناضل :محمد خلف الرّشدان..
المفضلات