شرفنا قبل أيام ٍ ثلاث باستقبال قافلة شريان الحياة وهي في طريقها من مدينة العقبة الأردنية باتجاه الحدود السورية ومن ثم ميناء اللاذقيّة بعد أن قام جلاوزة النظام المصري بإرجاعها كل هذه المسافة ليظهروا لأنفسهم أنهم يأمرون وينهون في عباد الله بعد أن قطع القريب والغريب أنهم لا يملكون من ناصية أمورهم شيئا حتى داخل بيوتهم!
لم يكن محض صدفة أن التقينا بالقافلة وهي متجهة شمالا عبر الطريق الصحراوي؛ فقد قام حزب جبهة العمل الإسلامي بترتيب استقبال حافل أثناء مرور القافلة عبر الطريق الدولي واستضاف لعدة ساعات أعضاءها الأوروبيين والأجانب والأمريكان الذين أثبتوا أنهم أكثر وطنيّة وإخلاصا للقضيّة الفلسطينيّة من السواد الأعظم من أبناء جلدتها، .. كان من العادي جدا أن ترى رجالا ونساء أجانب وقد اغبرّت وجوههم وأخذ منهم التعب والسهر كل مأخذ، وكان من العادي جدا أن تلمس في كلامهم حسرة ومرارة شديدة وعدم تصديق إلى الآن أن من قام بمنعهم عن المحاصرين هم عرب ومسلمون ومن أبناء جلدتنا، .. حاولت جاهدا إخفاء دموع الخجل والإشاحة بوجي عن محدثي الإنجليزي الذي سألني وأكد لي أنه طوال مكثه في العقبة وإلى الآن وهو يحاول أن يجد أي مبرر لما قامت به مصر دون جدوى، .. وبعد أن صمت برهة قال حرفيا:" كنت أتمنى أن ألتقي بأي مسؤول مصري لأقول له فقط : لمااذا؟!".
قد تبدو الصورة موغلة في الخيال ولا يستوعبها عاقل فيما لو سردناها على أسماع ذلك الذي توفاه الله حتى قبل 10 أعوام، ولا لوم ولا عتب عليه؛ فما جرى ويجري ولمسناه بأيدينا، أو إن شئنا التحديد ما لمسته أنا بيدي ورأيته بعيني، أقول ما جرى ويجري لا سبيل لتصديقه إلا إن افترضنا أن بعض الخيال والأحلام التي لا سبيل إلى تحقيقها قد يضرب الدهر معها ضربته وتنقلب في غفوة عين ٍ وانتباهتها إلى واقع مظلم ٍ لا مراء فيه، .. سقت هذا التشبيه المبالغ فيه لأنقل للقارئ مشهدا رأيناه بأعيننا، وأحسب أنني لو كنت فيه لوحدي لقطعت أن ما رأيته ما هو إلا أضغاث أحلام وتهاويم تـُرى فيما يرى النائم؛ فمن أعضاء القافلة الـ 250 شرفنا باستضافة 10 ما بين أمريكي وفرنسي وبريطاني وتركي وغيرهم، وحدث أن أخبرهم مرافقهم الفلسطيني أن منطقة ناعور وجنوب عمان تطلّ على وسط وشرق فلسطين؛ فطلب أحدهم على استحياء أن نأخذه إلى مرتفع يمكنهم من أوضح رؤية ممكنة، ولم نندهش؛ فديدن الأجانب والاوروبيين كثرة التقاط الصور في هكذا مواقف، أما العجب العجاب فهو ما حصل بعد ذلك، إذ ما كدنا نأخذ ضيوفنا إلى منطقة مرتفعة مفتوحة وما أن بدأ زميلي بالشرح لهم أنهم الآن أمام وسط فلسطين بالضبط وأن ما يرونه من أضواء خافتة هو من جبالها الشرقية حتى انهمرت الدموع من أعينهم، وقال أحدهم مواسيا من معه أنه حتى لو أفشل المصريون والعرب مهمتهم فقد حظوا برؤية فلسطين المحتلة حتى ولو عن بعد!!
هذه شهادة رأيناها بأعيننا ولم يخبرنا بها أحد، .. شهادة جزمت بعدها أنها المرة الأولى التي ينتابنا فيها الخجل والشعور بالعار من كوننا عرب وننتسب للإسلام؛ فما دفع هذا الأمريكي وذاك الفرنسي والآخر الإنجليزي لتجشّم كل هذه المشاق لإيصال المعونة للمحاصرين، وما دفعه ليهريق دموعه على مشارف فلسطين كان من الأحرى به أن يدفع من لا يبعدون عن المحاصرين إلا بضعة كيلومترات لفعل ولو ربع ما فعل هؤلاء المغامرين أو المجانين أو الأبطال أو حتى من أثبتوا لنا أنه جاء الوقت الذي بدأنا نشعر فيه أننا أهون خلق الله على خلقه، ولنسمهم ما نشاء؛ إذ أننا فقدنا ذلك التوزان المزعوم مع أنفسنا، وسنكذب حتى يملـّنا الكذب إن رددنا على مسامع أبنائنا وبناتنا ذات يوم أن من يجلسون هنا وقد قتلتهم التخمة هم صفوة الله في أرضه وورثة جنته، وأن من يأتون من آخر الدنيا ليستروا عوراتنا ويغطوا على بلاوينا ويطعموا أبناء جلدتنا المحاصرين هم ورثة الجحيم !!
طه خضر.
المفضلات