" مفاهيم نقدية"
القاعدة الأساسية في مفهوم التيارات الأدبية، منذ سقوط القسطنطينية عام 1453 إلى يومنا هذا.تشتمل على تيارات عشرة، وهي العصور التي ظهر بها الأدب والفن الحديث .
1-عصر النهضة الأوروبي: بدأ العصر الحديث منذ عام 1453يوم انتهت القرون الوسطى في أوروبا وانتهت الدولة الدينية إلى 1550؟ كلمة renaissance التي تستعمل للدلالة على عصر النهضة هي في الأصل كلمة فرنسية تعني ولادة جديدة، أي إحياء الرغبة أو تجديد الاهتمام بالأمور العقلية، وتمثل نقطة التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحالي من حيث طرق التفكير ومناهج الدراسة.
بعض المفكرين يعزون عصر النهضة إلى سقوط القسطنطينية في العام 1453 وحصول الأوروبيين – نتيجة لذلك – على مخطوطات يونانية نادرة وعلماء متبحرين في شتى العلوم والآداب والفنون.
اتجهت أوربا في العصور الوسطى إلى الزهد في الدنيا، والتبتل إلى الآخرة، وذلك نتيجة هيمنة رجال الكنيسة على مختلف شؤون الحياة، باعتبارهم علماء في الدين وفلاسفة في القانون الروماني، فحاربوا المفكرين، وحاكموهم بقسوة، واحتكروا زعامة المجتمع، فتفشت فيه الخرافات وعم الجهل،فلم ينتفع الجمهور باللغة اللاتينية،لأنها كانت محتكرة لدى طائفة من رجال الكنيسة ولم تكن صناعة الورق، أو فن الطباعة معروفين في أوروبا،ولهدا كان المجتمع الأوروبي متخلفاً ويئن تحت وطأة الإقطاع ، ويعاني من ويلات الحروب الإقطاعية والتجزئة السياسية. عصر النهضة مصطلح يطلق على فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة وهي القرون 14 - 16 ويؤرخ لها بسقوط القسطنطينية عام 1453م حيث نزح العلماء إلى إيطاليا حاملين معهم تراث اليونان والرومان. كما يدل مصطلح عصر النهضة على التيارات الثقافية و الفكرية التي بدأت في البلاد الإيطالية في القرن 14، حيث بلغت أوج ازدهارها في القرنين 15 و 16، ومن إيطاليا انتشرت النهضة إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وانكلترا وإلى سائر أوروبا. أزدهر شأن النهضة الإيطالية إذ وجدت لها أنصاراً يصرفون عليها المال الوفير، مثل أسرة ميديشي في فلورنسا وسوفرزا في ميلانو والبابوات في روما. بلغت البندقية ذروة عظمتها الثقافية في أواخر القرن 16. من أعظم شخصيات النهضة في المجال الفني ليوناردو دافنشي و مايكل أنجلو ومكيافيللي، وغيرهم كان لهذه الحقبة تأثير واسع في الفن والعمارة وتكوين العقل الحديث وعودة واعية للمثل العليا والأنماط الكلاسيكية. في هذه الفترة تم اكتشاف أراضي وشعوب جديدة حيث أتسمت هذه الفترة بظهور طائفة كبيرة من الرحالة والمستكشفين والملاحين منهم الأمير هنري الملاح و كريستوفر كولومبس و فاسكو ديجاما.
وكان لاستيلاء العثمانيين على المركز الشرقي للعلوم والثقافة الغربية أكبر الأثر في تحويل كنوز ذلك المركز باتجاه الغرب، ومع ذلك فقد كانت النهضة نتيجة طبيعية لتحوّل تدريجي في أساليب التعليم عمَّ القارة الأوروبية على مدى قرن من الزمن قبل سقوط القسطنطينية.
ظهرت العصور الوسطى كما لو كانت عصوراً مظلمة تسودها الهمجية والجهل المطبق. لكن الأمر لم يكن كذلك، فتلك الفترة الزمنية من تاريخ أوروبا كانت تتميز بثقافة معينة، ولم يكن التغيير في نمط التفكير وأساليب الفن والأدب والعلم سوى نتيجة حتمية لازدياد عدد الطلاب الذين تفتحت عقولهم على المعرفة في الغرب. كان العلم في أوروبا مقتصراً على رجال الدين وكان يتمحور في المقام الأولى حول تفسير الأسرار الدينية. وقد ساعد الفيض المتعاظم للمعرفة المعمقة الوافدة من الشرق على فتح قنوات جديدة مما أعطى الدراسة بُعداً نقدياً وتحليلياً جديداً.
تدريجياً تخلى طلاب العلم عن أساليب الدراسة التقليدية ثم نبذوها ولم يعملوا بها ثانية. ونتيجة لذلك بزغ فجر عهد جديد من البحث والاستقراء العقلي. فعقول الناس أصبحت مستعدة لتقبّل أفكار وانطباعات جديدة مما أعطى الراغبين في العلم والمعرفة دفعاً قوياً وتملكتهم رغبة جامحة لمعرفة المزيد.
لقد تحررت عقول البشر من القيود الثقيلة ولم يعد الناس خاضعين لسلطة الكهنوت فراحوا يفكرون ويحاورون ويناقشون ويجاهرون بآرائهم ويبدعون في شتى مجالات الفكر والمعرفة دون عوائق ودون خوف من عقاب.
ليس من السهل تعداد ثمار عصر النهضة لأنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ والفن والأدب والعلم والفلسفة والشعر وحتى الدين. وقد حلت روح جديدة في كل مجال من مجالات الحياة. ولم يعد الناس قانعين بالحلول التقليدية للظواهر الطبيعية. فالعقل البشري الذي غط في سبات عميق لمئات السنين تيقظ الآن وراح يكتشف كل ما يحيط به ويستشرف حتى الآفاق البعيدة.
ومن أعظم ثمار عصر النهضة أيضاً كرامة الإنسان بصفته كائناً عاقلاً ، مفكراً وذا إرادة حرة. هذه الروح الجديدة أدخلت بعداً إنسانيا إلى حياة الإنسان ودمغت المعرفة بطابع إنساني مميز.
بلغت النهضة ذروتها في إيطاليا وأصبح الأقطاب والأساطين يدرسون ويتعاطون الفن محبة في الفن. أما في البلدان الشمالية مثل ألمانيا وهولندا وإنكلترا وحتى فرنسا فقد نما عصر النهضة بصورة طبيعية. ففي ألمانيا كانت النهضة تعني الإصلاح. وكذلك في إنكلترا وفرنسا اقترن تجديد التعليم بالإصلاح وانبثق إحساس وفهم جديدان بالجمال والحقيقة، وبلغت الآداب والفنون مستوى رفيعاً من الإبداع الذي كان بحق أحد أهم عناصر عصر النهضة الذهبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- المانرزم ( الطرائقية، التفكيكية) ابتدأ هذا العصر منذ عام 1550 – 1600 ،استمر نصف قرن من الزمن؟
أول ظهوره كان في فلورنسا وروما ثم انتشر إلى شمال ايطاليا حتى وسط وشمال اوروبا. المصطلح (مانرزم) كان أول من استعمله المؤرخ السويسري جيكوب بوركهارت وشاع استعماله على أيدي مؤرخي الفن الألمان.ظهر هذا الأسلوب أول ما ظهر في فلورنسا وروما ثم انتشر إلى شمال ايطاليا وحتى وسط وشمال أوروبا.
أهم أعلامه : دافينشي ومايكل أنجلو ورافائيل، وهو الاسلوب الذي اتبعه الأدباء والفنانين: الانسجام الكلاسيكي المعروف.تميزت الصور التي استخدموها بالرشاقة الغير متناسبة فالأطراف طويلة ممتدة والرؤوس دقيقة الحجم وتقاطيع الوجه غير متناسق ،والمنارزم ،أسلوب فني برز في إيطاليا منذ نهاية عصر النهضة في الربع الأول من القرن السادس عشر وحتى بدايات عصر الباروك الهندسي الذي شاع في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
أتى أسلوب المانرزم كردة فعل على الانسجام الكلاسيكي المألوف والتناغم الطبيعي اللذين ميّزا أعمال كل من دافينشي ومايكل أنجلو ورافائيل في الربع الأول من القرن السادس عشر. ففي تصويره للجسم العاري حدد مايكل أنجلو المعايير الأساسية للتعقيد أو لدقة الصنعة المتناهية. كما عمد رافاييل إلى وضع معالم واضحة للجمال المثالي.
لكن تلك المعايير لم يأخذ بها الفنانون اللاحقون لهؤلاء الأساطين، بل تخطوا القيم الجمالية وحاولوا إيجاد حلول سهلة لمسائل غاية في التعقيد، لا تكلفهم جهداً أو إجهاداً.
وهكذا فقد ابتكر أرباب هذا الفن (البدعة) أسلوباً يتسم بالتكلف (الزائف). وبالرغم من رغبة الفنانين في تخطي المجهود في فنهم الجديد لكنهم في الحقيقة بذلوا جهوداً مضنية لإبراز أناقة مصطنعة، مستغرقين لدرجة الإفراط في تصوير أمور غريبة ومستهجنة.
الأشكال التي صورها المانرزميون (الفنانون الكلِفون بالتكلف) تميّزت بمظاهر رشيقة إنما غير متناسبة. فالأطراف طويلة ممّددة، والرؤوس دقيقة الحجم، وتقاطيع الوجه أبعد ما تكون عن التناسق، أما الأوضاع فتبدو صعبة وغير مريحة.واصل هؤلاء الفنانون عملهم محاولين إتقان صنعتهم شكلاً ومضموناً، محاولين قصارهم لإيصال المغالاة والتناقض إلى أقصى مدى يمكن بلوغه. أما النتيجة فكانت عبارة عن أبعاد فضائية غير متناسبة وأوضاع يشوبها التشويه وألوان غير منسجمة ومقاييس غير طبيعية وخليط غير متجانس من صور متنافرة وخيالات لا يربطها رابط ولا تقوم على أسس منطقية.
بعض عناصر المانرزم ظهرت في أعمال ورافائيل المتأخرة كلوحة التجلي الموجودة في متحف الفاتيكان. وحتى الرسامون الفلورنسيون المعروفون من أمثال روسو و دابونتورمو كانوا قد نأوا بأنفسهم عن العناصر الكلاسيكية السائدة واستحدثوا أسلوباً تعبيرياً مغايراً ومثيراً.
أما الأسلوب المطوّر للمانرزم الذي ظهر في روما في الربع الأول من القرن السادس عشر فقد أصبح الركيزة الأكثر تأثيراً على العديد من الفنانين الإيطاليين الشباب من أمثال فاساري وفولتيرا وسالفياتي.
لم يبق هذا الفن محصوراً داخل إيطالياً بل قام أربابه بنقله إلى باقي دول أوروبا وقد حظي بشعبية عالمية حتى عصر الباروك. منذ ذلك الحين تغيرت نظرة الناس إلى هذا الأسلوب المستحدث واعتبروه انحرافاً عن الفن الكلاسيكي التقليدي وهبوطاً به إلى مستويات غير لائقة.
لكنه ظهر من جديد في القرن العشرين واعتبره البعض أسلوباً بارعاً ورشيقاً ينطوي على جمال عقلي ورهافة روحية وقلق نفساني مستدام بما يناسب روح العصر وذوقه.
تعريف آخر: المنارزم أو" التكلفية:" أسلوب في الرسم وفن العمارة انتشر في إيطاليا بخاصة، خلال القرن السادس عشر للميلاد، وتميّز بالتكلف وبالنزوع إلى إطالة الأشكال البشرية وتحريفها على نحو يجعلها تتكشّف عن قـَدر من القلق والتوتر الباطني، وذلك لتكثيف قدرة الأثر الفني على التأثير العاطفي. ويعرّفها قاموس آخر بأنها التكلـّف أو البراعة (في التجسيد الفني أو الأدبي لشيء ما. والتكلف أحد مظاهر الطرائق).
أما الموسوعات والإنترنت فتعّرفها على النحو التالي:
لم يبق هذا الفن محصوراً داخل إيطالياً بل قام أربابه بنقله إلى باقي دول أوروبا وقد حظي بشعبية عالمية حتى عصر الباروك. منذ ذلك الحين تغيرت نظرة الناس إلى هذا الأسلوب المستحدث واعتبروه انحرافاً عن الفن الكلاسيكي التقليدي وهبوطاً به إلى مستويات غير لائقة.لكنه ظهر من جديد في القرن العشرين واعتبره البعض أسلوباً بارعاً ورشيقاً ينطوي على جمال عقلي ورهافة روحية وقلق نفساني مستدام بما يناسب روح العصر وذوقه.
المصادر: قاموس المورد الأكبر - قاموس النبراس - قاموس أكسفورد المحيط - موسوعات وأنترنت-
3- عصر الباروك منذ 1600- 1730 طراز الباروك Baroque style
استمرت المحاولات ،والتجارب التي بدأت في عصر النهضة حتي القرن السابع عشر الميلادي والذي يمكن أن يطلق عليه صفة التجريبية ، نظرا لتجلي روح التجريب على جميع مجالات الحياة ، والعلوم.
فنجد أن فن الباروك دار في دائرة التقاليد التي بدأها عصر النهضة من مشابهة للواقع المرئي إلا أن طراز الباروك اتسم بقوة اكبر في التعبير ، وحرية الصياغة الفنية ، نجحت أحيانا إلى المبالغة في إظهار الانفعالات العاطفية ، ومن هنا تخطي فن التصوير البار وكي الحدود التي فرضها عصر النهضة ، وتخلي عن قواعد التعبير لمألوف المتمثلة في الحفاظ على استقامة الخطوط ، وهيبة المواضيع لذلك يرجح بعض المؤرخون أن كلمة باروك Baroque أصلها روماني . ويقصد بها كل ما هو منافي للقواعد والنسق العام ، الذي أحتاط الناس عليه ، والبعض الآخر يرجح ان مصدرها أسباني Barrack وتصف اللؤلؤ غير المنظم في شكله، أي ان الخروج عن المألوف وعدم الانتظام هو سبب اطلاق ذلك الاسم على فنون الفترة ما بين 1600 م إلى 1750 م المسماري بالباروك والمتأخر لطراز الباروك يلاحظ ان يجمع بين النزعة الدونية ، مع الاهتمام المتزايد بالفرد كنواه للمجتمع وتتجلي العبقرية التشكيلية في فرنسا خلال هذا القرن ، في فن التصوير على الاخص وتمكن تلك العبقرية في توافر مجموعة من المصورين الفرنسيين المتميزين ، ومن أهم المصورين الفرنسيين " نيكولا بوسان " (1594 –1669 ) ، وكذلك من ابرز مصورين طراز الباروك في بلاد الشمال في إقليم الفلمنك بول روبنز (1577-1640 ) وفي اقليم هولندا الفنان رمبرانت .
طراز الروكوكو ومعنى الكلمة Rococo style الغير منتظمة الشكل ذات الخطوت المنحنية
كلمة روكوكو مستحدثة من كلمة الصدفةRocaile ، التي ساعدت على تشكيل الزخارف الشائعة العصر .ولقد ظهرت ملامح طراز الروكوكو في اواخر القرن السابع عشر ، وتميز بطابعة اللطيف الناعم ذي الزخارف العديدة ، وحلاوة الشكل ، لذلك نلاحظ ان القيم الدرامية التي ميزت التصوير في عصر الباروك شكلا ومضمونا ، قد تلاشت في الروكوكو واستبدلت بمثاليات جمالية خاصة تتسم الرؤية فيها بالتركيز على الامتاع البصري العابر ، والنزح إلى الحسية والترف الزائد ، وادخال السرور على النفوسفأخذ المصورون يرسمون صورا للحياة الحافلة بالمسرات ، والمظاهر المتأنقة التي غلبت عليها مواضيع المرأة العاطفية الرقيقة في مشاهد مغمورة بالسعادة والالوان المبهجة ، وقد انحسر هذا الطراز بقيام الثورة الفرنسية عام 1789 م ، وحلت محله الكلاسيكية الحديثة كرد فعل لهذه الرقة المفرطة اتتمد مقوماتها من الفنون الاغريقية الرومانية عرف باسم الكلاسيكية الجديدة ، وكان يمثل فن الروكوكو المرحلة الاخيرة من التصوير ، الذي بدأ بعصر النهضة وهذه المرحلة الأخيرة كان فيها مازال مسيطرا على نحو مطلق .
4- الروكوكو 1730-1780 معنى كلمة روكوكو "Rocaille " في اللغة الفرنسية هى الصدفة أو المحارة الغير منتظمة الشكل ذات الخطوط المنحنية والتي استمدت منها زخارف في تلك الفترة ويعتبر فن التزين الداخلي . -ظهر هذا الطراز من الفن في القرن الثامن عشر ويعد امتدادا للباروك ولكن بمقاييس جمالية تتسم بالسلاسة و الرقة. -واستمر هذا الطراز مزدهرا في ألمانيا وفرنسا بصفة خاصة واختفى
وتميز فن عصر النهضة بروح الثورة والتمرد على سلطة الكنيسة والمفاهيم الدينية السائدة ؛ وكذلك محاولة إحياء وبعث للتراث الإغريقي والروماني القديم؛ ألاتجاة إلى الجمال كقيمة بحد ذاته والتحرر من سلطة الكنيسة التي كانت تضفى على الفنون ظلالها ومفاهيمها ذات الطابع الحزين والزهد واحتقار الحياة ؛ تلك المفاهيم التي تجسدت فى فنون العصور الوسطى ( الفن الرومانسكى Le Romanesque Art الفن القوطى ( Le Gothique Art ) )
" ويعتبر فن عصر النهضة الأوربية المرحلة الوسطى بين الفن القديم والفن الحديث حيث يعبر عن فترة قلقة فى مسار الحركة الفنية وعن اهتزاز القيم الجمالية وهو بمثابة المدخل الطبيعي للفن الحديث بعد أن بلغت تقاليد فن عصر النهضة ذروتها فى النسب والتشريح والمنظور والانسجام الكلى ؛ ظهر طراز فني جديد تميز بالتململ من تلك المفاهيم ؛ وأخذت النزعة الذاتية للفنان بالسيطرة فى إنجاز الأعمال الفنية . وقد عرف هذا الطراز باسم ( المنهجية Mannerism وظل مسيطرا على الفن الأوربي منذ نهاية عصر النهضة وحتى ظهور طراز ( الباروك(Baroque )
فى بدايات القرن السابع عشر ؛ ظهرهذا الفن الذي وصف بفن تزيين الكنائس والقصور وفن الطبقة البرجوازية ؛وظل هذا الفن مسيطرا على الساحة الفنية حتى أواخر القرن الثامن عشر ؛ وقد تواكب ظهور هذا الطراز من الفن مع طراز أخر فى فرنسا أطلق عليه اسم(الروكوكو) - Rococo .
" ومحور فن الروكوكو وقوامه الأساسي هو تصوير حياة الملوك والنبلاء وتصوير المواضيع الجميلة ذات الحواري والغيد الحسان نشأة المدارس الفنية الحديثة والمذاهب المعاصرة .
قبيل قيام الثورة الفرنسية ( 1789 م ) قام العالم الأثري ( وينكلمان–( Winkelm بكشف النقاب عن أثار الحضارة الرومانية القديمة فى المدينتين الإيطاليتين ( هيركولا نيم ) ( 1737 م ) و ( بومبى ) ( 1748 م ) وعلى أثر هذا الاكتشاف قام العالم ( وينكلمان ) بدعوة الفنانين فى تلك الفترة إلى إحياء التراث اليوناني والروماني القديم فى أعمالهم الفنية ؛ وإعادة بعث الحياة فيه من جديد ؛ قام بعض الفنانين بتلبية هذا النداء فكان منهم ( رافائيل منجز ) و ( أنطونيا كانوفا ) و ( جاك لويس دافيد ) وقد أطلق على هذا الإتجاة الجديد فى الفن اسم ( الكلاسيكية الجديدة - New Classicism ) وأصبح الفنان ( جاك لويس دافيد ) رائدا لها فيما بعد ....وبعد قيام الثورة الفرنسية وإعدام الملك لويس السادس عشر عام ( 1793 م ) صاحب هذه الثورة تغيرات كثيرة على الصعيد الإجتماعى والسياسي والفكري والأدبى ؛ وفى مجال الفن أيضا إذ تحول قصر اللوفر الذي كان مقر الحكم فى العهد الملكي ليصبح متحفا للفنون الجميلة، ذلك الأمر الذي كان له الأثر الكبير فى تطور الفنون الجميلة ونشرها بين عامة الشعب بعد أن كانت حكرا على الطبقات الحاكمة والإقطاعية .
وبما أن الكلاسيكية الجديدة ماتزال متواضعة مقارنه مع الطراز الفني السائد فى تلك الفترة ( الباروك - الروكوكو ) ؛ وبقدوم الثورة الفرنسية وما حملته من تغيرات عديدة على كافة الصعد فقد دفعت بالكلاسيكية الجديدة إلى الظهور بشكل قوى وواضح ؛ ويرجع السبب فى ذلك أن المفاهيم الجديدة التي حملتها الثورة لا تتناسب مع مفاهيم الطرز الفنية السائدة والتي كانت مسخرة لتجسيد حياة الملوك والطبقة الإقطاعية وتزيين قصورهم ؛ فكان لابد من فن جديد يواكب الثورة ومفاهيمها وتطلعاتها ؛ حيث يقوم هذا الفن على استنهاض الهمم وتغيير الواقع وبعث الماضي الجديد ؛ فكانت المدرسة الكلاسيكية الجديدة بمثابة تحول طبيعي إلى الفنون القديمة تخضع العمل الفني لتقاليد مستمدة من القيم والمثل الجمالية لحضارة اليونان والرومان ؛ وترى فى الفن اليوناني المثل الأعلى للجمال وتحترم القواعد الفنية التي التزمها الفنان اليونانى من وحدة وإيقاع وانسجام وتنسيق ونظام وتنوع ...شاع طراز الروكوكو الفني في أوربا خلال الفترة من حوالي 1730 إلى حوالي 1780، ويتميّز بالزخارف ذات الخطوط اللولبية المنحنية المحاكية لأشكال القواقع والمحار والأصداف، أو الموحية بأشكال الصخور في الكهوف والمغارات لا سيما في فن صناعة الأثاث وزخارف التنسيق الداخلي بالدور. وهو فن أرستقراطي فيه إفراط في الشغف بالأناقة أسلوباً وموضوعاً. وبرحيل لويس الرابع عشر انتقل طراز الباروك الأرستقراطي - كما سبق القول - إلى مرحلته الأخيرة وهي الروكوكو بعد أن لم تعد رعاية الفنون احتكاراً للبلاطات بل تلقّفها مجتمع باريس الراقي الذي يضم الطبقة البورجوازية العليا وأرستقراطية المدن، والذي ما لبث أن تبنّى رعاية الفنون. والراجح أن كلمة روكوكو rococo - وبها جناس مع كلمة باروكو barocco - قد اشتُقّت من كلمة rocaille بمعنى الصخر وكلمة coquille بمعنى القوقعة أو المحارة أو الصَّدفـَة، إذ غدت الصخور المحاريَّة الأشكال والقواقع والأصداف تُستخدم على نطاق واسع كصيغ زخرفية في الطراز الباروكي الشائع، حتى ليمكن اعتبار طراز الروكوكو تعديلاً طرأ على طراز الباروك وإثراء له غير متعارض معه ولا مناقض له. وبعبارة أخرى هو طراز باروكي انتقل إلى داخل الدور والقصور ليواكب أناقة الدور التي أنشئت في المدن أكثر مما يواكب أبهاء القصور وإن استُخدم في كليهما. وهكذا استـُحدث طراز الروكوكو لتـُـزَخْرَف به الدور من الداخل لاسيما الرّدهات والقاعات الصغيرة المخصّصة لتلاقي الأصدقاء والمعارف يتبادلون الأحاديث في جلسات السَّـمر. وقد شمل طراز الروكوكو كافة الفنون الكبرى كالنحت والتصوير والعمارة والموسيقى. إلى جانب الفنون الزخرفية التي غشّت كل ما في الداخل، من المنحنيات الرشيقة لأرجل المناضد والمقاعد والأرائك إلى اللفائف الحلزونية المذهّبة التي تـُـجمِّـل السقوف والجدران. ولعل النموذج الأمثل الدال على فن هذا العصر هو الرسوم المطبوعة بطريقة الحفر التي أعدّها الفنان أنطوان فاتو مُستخدماً أشكال المحار والصّدف ببراعة فائقة تسنّى معها استعارة عناصره وصيغها في شتى مجالات الزخرفة سواء في الكسوات الخشبية على الجدران، أو فوق ورق الحائط المطبوع، أو في مشغولات الجص والطين المحروق والمطليّـة باللونين الأبيض والذهبي، أو في تطهيم نسجيّة مرسّمة أو مطرّزة تكسو ظهر مقعد أو أريكة، أو نحتاً فوق سطح مدفأة إلى غير ذلك. ونحن إذا قابلنا التنسيق الداخلي وفقاً لطراز الروكوكو بقصر شونبرون بفيينا (لوحة 8) على سبيل المثال بالتنسيق الداخلي في عهد لويس الرابع عشر تجلّى لنا الفارق بينهما بوضوح، فعلى حين كان طراز الباروك مهيباً جليلاً مبهراً كان طراز الروكوكو جذّاباً رقيقاً رشيقاً رهيفاً، فإذا الرّقّة تحلّ محلّ الشموخ والضخامة، وإذا الأناقة تحلّ محلّ الجلال والفخامة، وإذا رقّة الألوان الطباشيرية تحلّ محلّ تيه الذهب والأرجوان>
5- الكلاسيكية القديمة منذ 1780 – 1820 وهو عصر الاغريق والرومان من رواد المدرسه الكلاسيكيه الجديده "جاك لويس ديفيد مصور الثوره الفرنسيه الرسمي ،وعضو في اللجنه التي حكمت على لويس السادس عشر بالاعدام، رسم موضوعات تاريخيه ووطنيه ومن إعماله قسم الإخوة هوراس و بروتس يتلقى نباء وفاة ابنائي
وجاك لويس ديفيد صاحب لوحتي ..(( Madame Recamier - Marat )).. ولد في فرنسا .. ويعتبر من فناني المدرسة الكلاسيكية الجديدة ، في عام 1774م نال جائزة الأكاديمية الفرنسية في روما prisc de Rome .. وقد تخلى في هذه الفترة عن طريقة الروكوكو وتأثر بالكلاسيكية الجديدة .. كان دايفيد هو مصور الثورة الفرنسية الرسمي .. وكان عضوا في اللجنة التي حكمت على لويس الرابع عشر بالإعدام .. رسم موضوعات وطنيه وتاريخية أهمها (( قسم الأخوة هوارس )) و (( بروتس يتلقى نبأ وفاة أبناءه .
وهو الذي انشأ أكاديمية الفنون بباريس لوحـة دافيد - متحف اللوفر .. باريس
بالرغم من أن دافيد لم يكمل لوحته تماما الا أنها حظيت بشهرة واسعة أكثر من لوحة جيرار .. لكنها افتقرت الى التعبير عن الإثارة وإبراز الجمال التي كانت أهم ما تحرص عليه ريكامييه
قصـة أللوحه الشهيرة (( مارا قتيلاً في حمامه !! )) أيضا للفنان دافيد ..
حدث ذلك أيام قيام الثورة الفرنسيه بعد سقوط لويس السادس العشر وماري أنطوانيت .. وكانت الثوره قد بلغت مرحلة العنف في عام 1793فقامت الاحزاب السياسيه ونشبت الصراعات فيما بينهم .. وقد اشتد الصراع بين فريقين الاول بقيادة" مارا "
لوحات تحكـي ماضيها !!.. - منتديات شبكة الاقلاع ®
لوحة الفنان الكبير جاك لويس ديفيد اغتيال مار* تعد هذه اللوحة من اشهر اعمال الفنان الكبير جاك لويس ديفيد بورترية للفنان جاك لويس ديفيد* و لهذه اللوحة قصة فريده ،بطلتها شار لوت كورداي شابه في الخامسة والعشرين من العمر ، ذات قوام اسر وملامح فاتنة .
أقدمت وهي في كامل قواها العقلية على قتل هذا الرجل الذي تراه في اللوحة !
*بورترية للفنان جاك لويس ديفيد* ولهذه اللوحة قصة فريده ،بطلتها شار لوت كورداي شابه
في الخامسة والعشرين من العمر ، ذات قوام اسر وملامح فاتنة .
أقدمت وهي في كامل قواها العقلية على قتل هذا الرجل الذي تراه في اللوحة !
*لوحة الفنان الكبير جاك لويس ديفيد اغتيال مار*
*شارلوت كورداي وهي في المحاكمة *ومن أفضل أعمال المصور دافيد بل قمة إبداعه تعد لوحة موت مارات في متحف النون الجميلة ببروكسيل وهنا يصور الفنان حدثا حقيقيا غير انه وفي نفس الوقت يتقيد بضرورة تخليص الصورة من كل ما هو زائد وثانوي . ان بساطة التكوين وصرامته بالإضافة إلى الحيوية المتناهية للصورة المأساوية لشخصية مارات قد جعل من هذه الصورة عملا فنيا رائعا مكتسبا تعبيرا راقيا بقدر لم يتحقق في أي عمل آخر للفنان .
وتعتبر صورة مدام ريكامية في متحف اللوفر بباريس من أكثر النماذج دافيد تمثيلا لنمط الصورة الشخصية بالأسلوب الكلاسيكي ذوى المعالجة التبسيطية الصارمة والاستخدام المقتضب للإكسسوارات والتركيب البنائي المنطقي.إنما لوحة نساء سابين في متحف اللوفر بباريس فيصور فيها دافيد هؤلاء النسوة وهن يترامين في ساحة المعركة الدائرة بين رجالهن والجنود الرومانية . فتستعطفها من اجل إنقاذ شيوخ وأطفال . وبدت الصورة كنداء للسلام الوطني والى إيقاف الصراع الداخلي بعد انتصار الرجعية .إن دافيد وبحق كان من أضخم المظاهر الفنية في فترة الجمهورية.
فى عام 1787 م أنجز رائعته موت سقراط في قصرها الفخم استضافت " مدام ريكامييه " زعيم فناني فرنسا .. Jacques-Louis David .. جاك لويس دافيد لـ يرسم لها لوحه ..فاقبل دافيد على رسم " مدام ريكامييه " مبهوراً بجمالها وفتنتها وشخصيتها .. وكان يرسمها في عدة جلسات وقبل أن ينتهي دافيد من رسمها اكتشف وجود لوحه أخرى لـ مدام ريكامييه في ركن من البهو الذي كان يرسم فيه !!اللوحة كانت لـ تلميذه "جيرا" فغضب دافيد من منافسة شئ ،فاسمحي لي بأن أتوقف عن العمل بلوحتك عند هذا الحد .. ويكفيك أن إحدى اللوحتين ستكون مكتملة تماما لوحة جيرار - متحف اللوفر .. باريس في لوحة جيرار اعتمد إلى إضفاء الجمال والحيوية على مدام ريكامييه فبدت أكثر جمالا واصغر سنا !! وهذا ما أعجب فاتنة فرنسا اللعوب تلميذه له بـ رسم فاتنة فرنسا فـ جمع فرشاته وألوانه وترك أللوحه قبل إن تكمل ومعها ورقه كتب فيها (إني أعلم أن للغانيات هوى في نفوسهن ، ولكن للفنان أيضا كرامته التي إذا تنازل عنها ضاع منه وقد ارتبط بمذهبه العديد من الفنانين غير إنهم لم يستطيعوا الارتقاء إلى ذلك القدر من ثورية المبادئ تلك التي كانت مضمون أفضل إعمال دافيد .
*لوحة الفنان الكبير جاك لويس ديفيد اغتيال مار*
بعض الأعمال الأخرى للفنان
نابليون بونابرت كل ،وفن التصوير الزيتي واحداً من الفنون إلهامه التي أبرز إمكانيات الفنانين المصورين،في كل بلد من بلدان العالم ، فأصبح لكل دوله أوحضارة مدرسه خاصة بها،تميزها عن سائر المدارس الأخرى .وحينما نتناول دراسة التصوير الزيتي على الكانفاس نجد أنه قد عرف في أواخر العصر القوني حيث كانت الكنيسة والكاتدرائية المركز الرئيسي للمجتمع المسيحي وفي تلك الفترة (1150- 1400) وقد انتشرت المسيحية انتشارا واسعا بين الدول منذ القرن الحادي عشر واستمر انتشارها حتى القرن الثالث عشر حيث أحدثت ازدهاراً حضارياً عظيماً أدى إلى خلق كيان ثقافي ، وعلمي متماسك بين البلدان الأوروبية ، ولقد تجلى ذلك بوضوح على ميدان التصوير .وبحلول القرن الثالث عشر كانت فرنسا تمثل محوراً من محاور تلك الحضارة المسيحية ولقد كان ازدهار الفن القوطي Gothic Art في فرنسا من أهم عوامل بلوغها ذلك المركز الريادي بين سائر الدول الأوربية ، ولقد تميزت بهذا الفن ، ومن خصائص هذا الفن معالجته لفنون العصور الوسطي ، والفن الروماني ، نحو الطبيعة من حيث خطوطه وأشكاله ، ومواضيعه ، ولقد تطبعت معظم البلاد الأوربية الأخرى بالطابع القوطي الفرنسي ، بينما يلاق الطراز القوطي لأمن الإيطالية حيث لعبت إيطاليا دورا قياديا في فن التصوير منذ أواخر القرن الثالث عشر ، وذلك بفضل المصورين الذين قاموا باكتشافات جديدة ثورية حررت من التصوير من سيطرة التقاليد القديمة . فإذا بحثنا في منابع الفن الإيطالي في القرن الثالث عشر نجد انه كان متأثر بتقاليد الفن البيزنطي ، الذي جاء من الشرق بعد فتح الصليبيون للقسطنطينية .
وساهم في هذا التطور عدد من المصورين الموهوبين أمثال جوفان تشيمابوي في الفترة 1240 – 1302 و"دي ندونجا " في الفترة ما بين 1266-1337 و"سيمون " مارتني من 1284- 1344 ، واستمر تطور الفن في عصر النهضة ، فنجد إيطاليا ، وعلى رأسها فلوزنا فابتكرا جديدا في مجال التصوير حيث ابتعد عن الطراز القوطي الدولي وعرف باسم عصر النهضة المبكرة ، بينما ظهر في بلاد الأراضي المنخفضة في الشمال طراز فني جديد به ملامح من الطراز
6- الرومانسية : 1820- 1850
الرومانسية موقف أو اتجاه فكري ميّز عدداً وافراً من الأعمال الأدبية والموسيقية وفن العمارة والنقد الأدبي والتاريخ الرسمي في الحضارة الغربية في فترة امتدت من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر. .وقد رفضت الرومانسية نمط ورصانة وتناغم واتزان ومثالية وعقلية الكلاسيكية عموماً والكلاسيكية المحدثة خاصة في أواخر القرن الثاني عشر.لقد أتت الرومانسية إلى حد ما كرد فعل لحركة التنوير والمذهب العقلي في القرن الثامن عشر والمذهب المادي بوجه عام.وأكدت على الفرد والذاتية الشخصية وما هو غير منطقي، وعلى الخيال، والنفس، والعفوية ،والعاطفة والأحلام وعلى كل ما يسمو فوق الوجود المادي.
ومن المواقف المميزة للرومانسية : إعجابها العميق بجمال الطبيعة؛ وتمجيد العاطفة أكثر من تمجيد العقل، وتقديرها للإحساس أكثر من تقديرها الفكر؛ والالتفات نحو الذات ودراسة مضاعفة للشخصية الإنسانية وطباعها وقدراتها الذهنية؛ والاكتراث بالنابغة أو العبقري والبطل والشخصية البارزة عموماً والتركيز على انفعاله ونزاعه الباطني؛ وعبرت عن نظرة جديدة للفنان كإنسان مبدع مستقل يتميز بروح خلاقة لها شأن أكبر من شأن الالتزام الصارم والتقيد المتزمت للقواعد المنهجية والنظم التقليدية؛ والتأكيد على الخيال كمدخل لحقيقة روحية ولخبرة تسمو على الوجود المادي وتتجاوزه؛ والشغف المفرط بالثقافة الشعبية وبنشوء الثقافة القومية والإثنية وبالعصر الوسيط؛ ميل نحو ما هو غريب في اللون والطراز، وما هو بعيد وغامض وسحري ومكتنف بالأسرار وشاذ وسقيم وحتى ما هو شيطاني.
الأدب:قبل ظهور الرومانسية، نشأت عدة أمور ذات صلة بها في فترة تدعى ما قبل الرومانسية وذلك بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر. من بين تلك الأمور الميل نحو تقدير جديد للقصة الرومانسية romance في العصر الوسيط، والتي اشتقت الحركة الرومانسية اسمها. كانت القصة الرومانسية عبارة عن حكاية عن حياة الناس الخاصة أو قصيدة قصصية حول مغامرة فروسية تؤكد على البطولة الفردية وعلى ما هو غريب وغامض، وتتعارض تماماً مع الشكل الأنيق وتكلف الأنماط الكلاسيكية في الأدب، مثل المأساة في الكلاسيكية المحدثة الفرنسية أو المقطع الشعري ذي الوزن الملحمي الإنكليزي. هذا الاكتراث الجديد بأسلوب أدبي سابق غير المعقد نسبياً والعاطفي على نحو واضح كان ينبغي أن يكون سمة بارزة في الرومانسية.بدأت الرومانسية في الأدب الإنكليزي في التسعينيات من القرن الثامن عشر من خلال نشر القصائد الغنائية للشاعر ووردز وورث وكوليدرج ومقدمة ووردز وورث في الطبعة الثانية عام (1800) للقصائد الغنائية التي وصف فيها الشعر بأنه "فيض ذاتي عفوي من المشاعر القوية". وقد أصبح هذا الوصف بياناً رسمياً للحركة الرومانسية الإنكليزية في الشعر. أما في ألمانيا، فقد تميز أول طور للحركة الرومانسية بالتجديد في المحتوى والأسلوب الأدبي والعناية بما هو غامض وبما هو دون الوعي وبكل شيء خارق للطبيعة. وكانت مدام ستال وأمثالها من بين أول مَنْ مهد الطريق للرومانسية وذلك بفضل كتاباتهم التاريخية والنظرية التي كان لها التأثير الكبير.
تميز الطور الثاني للرومانسية، بين عام 1805 تقريباً والثلاثينيات من القرن التاسع عشر، بسطوع الوعي القومي المستولد وبالانتباه الجديد نحو النشأة القومية كما وضح ذلك من خلال جمع الأدب الشعبي القومي ومحاكاته ومن طريق القصائد الغنائية والشعر الشعبي وعبر الموسيقا والرقص الشعبي إضافة إلى الآثار الأدبية والفنية للعصر الوسيط وعصر النهضة التي كانت قد أهملت في الماضي.
أما التقدير التاريخي الذي ازدهر مجدداً، فقد ترجمه ترجمة بارعة السير وولتر سكوت وهو غالباً ما اعتبر الكاتب الذي جاء بالرواية التاريخية. وفي هذه الفترة ذاتها، وصل الشعر الرومانسي الإنكليزي إلى أوجه على يد الشعراء جون كيتس واللورد بايرون وشيلي وغيرهم.ونتيجة للشغف الرومانسي بما هو عاطفي، نتج عن ذلك أيضاً نشر المؤلفات التي بحثت عن كل ما هو خارق للطبيعة وعما هو سحري ورهيب مثل فرانكشتاين والمركيز دوساد.
في العشرينات من القرن التاسع عشر انتشرت الرومانسية واتسعت حتى شملت آداب كل أوروبا تقريباً. وفي أواخر الطور الثاني، كانت الحركة أقل شمولاً ولكنها ركزت أكثر على التراث الثقافي والتاريخي للأمة وعلى دراسة انفعال الأشخاص البارزين ونضالهم في معظم أقطار أوروبا وفي أمريكا قبل فترة الحرب الأهلية.
الفنون البصرية في الستينات والسبعينات من القرن الثامن عشر، بدأ عدد من الفنانين في بريطانيا وروما برسم مواضيع تتعارض مع الذوق المتزمّت، وتتضارب مع المواضيع التاريخية الكلاسيكية والأسطورية للفن المجازي التقليدي. وفضّل هؤلاء الفنانون الأفكار الشاذة والمثيرة للعواطف، أو المواضيع الملحمية النابضة بالحياة.كما وضحوا صورهم برسم تخطيطي مؤثر من خلال التباين بين النور والظل.وهناك من رسم صوراً تمثل مناظر ريفية رائعة تثير العجب والإعجاب.في فرنسا، رسم كبار الرسامين الرومانسيين الأوائل لوحات درامية لأحداث معاصرة من حروب نابليون ومشاهد للألم والمعاناة أو البطولة الفردية. وثمة من اشتهر ببراعته في استخدام فرشاه الرسم واستعمال الألوان الغنية والمواضيع الغريبة في لونها وطرازها. في ألمانيا، اخذ الرسم شكل اللون الرمزي والمجازي أو شكل المشاهد الطبيعية الصامتة والمقفرة التي يمكن أن تخلق في المشاهد شعوراً من الرهبة والطقوس الدينية.
الموسيقا :تميزت الرومانسية الموسيقية بالتأكيد على الأصالة والفردية والتعبير العاطفي الشخصي والحرية في اختيار الأسلوب الفني وتجريبه. وزادت احتمالات الصياغة الدرامية من خلال توسيع الكثير من الأدوات الموسيقية وتحسينها وخلق صيغ موسيقية جديدة. ومن كبار الملحنين في الطور الأول من الرومانسية شوبان وليزت.بدأت الأوبرا الرومانسية في ألمانيا بألحان كارل ويبر. أما في إيطاليا فقد تطورت بألحان أمثال بيليني وروسيني. ووصلت إلى أوجها على يد فيردي. أما في ألمانيا، فقد وصلت الأوبرا الرومانسية إلى الذروة من خلال الملحن ريتشارد واغنر.
وتجلت بدايات الحركة الرومانسية بأشكال متنوعة ظهرت قبل الرومانسية وذلك في الفترة الأخيرة من الكلاسيكية المحدثة. ويمكن أن نجد آثار الأدب في سلسلة مشوقة من العلاقات المتبادلة بين فرنسا وألمانيا وإنكلترا. ولا نجد مشقة في فهم الاتجاهات العامة للتطور. ففي سنة 1750 نال روسو جائزة من خلال مقالة يقول فيها إن الطبيعة السليمة طبيعة خيرة، وإن ما يحسبه الناس تقدماً ليس إلا فساداً. وهكذا بدأت مهنة أدبية لم تتوقف في مواجهة كل مبدأ عزيز للكلاسيكية المحدثة. ويحتوي المقطع الثاني من كتابه "اعترافات"، وهو آخر كتبه وأكثرها تأثيراً، على إفادة يمكن أن تكون شعار معركة الحركة الرومانسية كلها: "أنا لم أخلق مثل أي شخص رأيته؛ وإذا لم أكن أفضل منه فإنني على الأقل مختلف عنه".عندما نشرت هذه الكلمات أصبح اسم روسو مألوفاً في أوروبا الغربية. وكانت مؤلفاته الأولى قد ارتبطت بالتيارات الفكرية، الأمر الذي ساعد على تقديمها للجمهور لتشكل تياراً عريضاً من التمرد أخذ بالاتساع. كان الأدب الشعبي يجمع في إنكلترا؛ كما لاقى ثناءً في ألمانيا. وفي التمثيليات الأولى لـ غوتيه وشيلر، لم يرفض المسرح الألماني نمط الكلاسيكية المحدثة من أجل نمط عصر إليزا بيت، ولكنه مجد المتمرد، أي البطل الرومانسي النموذجي. ولم تؤد هذه الحركة في ألمانيا في السبعينات من القرن الثامن عشر إلى الحركة الرومانسية مباشرة، علماً أنها جزء منها. مثلاً بدأ غوتيه العمل في الفترة الكلاسيكية. وأصبحت تمثيليات شيلر، التي نجد فيها ملامح رومانسية عديدة، أقل ثورية وأكثر رسمية. لقد استجابت إنكلترا وفرنسا وتأثرتا بالاتجاهات والنزعات الألمانية. وزادت العناصر الرومانسية في الأدب الإنكليزي لمدة نصف قرن تقريباً قبل نشر القصائد الغنائية للشاعر ووردز وورث وكوليردج وخاصة الطبعة الثانية من مقدمة ووردز وورث عام (1800)، وهي من الأمور التي أظهرت للعيان ما يسمى البداية الرسمية للحركة الرومانسية في إنكلترا. في هذه الفترة، كان كوليردج يمضي بعض الوقت في ألمانيا؛ وكان ووردز وورث في فرنسا عشية الثورة الفرنسية. إننا نلاحظ في الأعمال المتأخرة للرومانسيين الإنكليز أن لآداب وفلسفة بعض المؤلفين الألمان، وأدب أوائل القرن التاسع عشر تأثيراً واضحاً على مؤلفين إنكليز مثل كوليردج وسكوت. كان التأثير الألماني جلياً وظهر حتى في مؤلفات الكتاب الذين لم يكن لهم علاقة مباشرة به.
عند نهاية القرن، بدأت الحركة الرومانسية بمعناها الضيق في ألمانيا من خلال مجموعة كبيرة من المؤلفين الموهوبين. ومع أنه كان للحركة إنجازات رفيعة المستوى في معظم فروع الأدب، نجد أعظم منزلة للحركة في الشعر الغنائي وفي الأدب غير الواقعي. وهذا النوع الأخير مدين للرواية القوطية الدارجة، ولكنه أعمق في خياله وفي حبه للدعابة. إبان هذه الفترة، تابعت ألمانيا العمل الذي بدأه هيردر في جمع الأغاني الشعبية، وبدأت تجمع الحكايات الشعبية وتضع أسساً لدراسة الفولكلور كشكل من أشكال الأدب.وكما يتوقع المرء فإن البلد الذي أتى بالكلاسيكية المحدثة قد واجه مشقة كبيرة في التخلص منها.ومع أن روسو أطلق إلى حد ما الحركة الرومانسية، غير أن فرنسا تأخرت في الانضمام إلى الحركة واللحاق بها. وقد يعود سبب هذا التأخير بدرجة ما إلى مقدار النشاط الذي دخل إلى الرومانسية السياسية للثورة. وقد يكون هذا صحيحاً؛ لكننا في الواقع نجد البدايات في كتابين ألفتهما مدام "دوستال" بعد انتصار الرومانسية الإنكليزية. فكتابها "عن الأدب" عام (1800) ينظر إلى الأدب على أنه منتج من منتجات المجتمع؛ ولذلك يوجه ضربة شديدة إلى فكرة القواعد الثابتة والمبادئ الدائمة. وفي كتابها "عن ألمانيا" عام (1810) تكشف المؤلفة لفرنسا لأول مرة عالم الأدب الألماني (الرومانسي). كما يرد استعمال كلمة "كلاسيكي ورومانسي" لأول مرة وذلك في فصل بعنوان "الشعر الكلاسيكي والرومانسي" للتفريق بين نوعين من الأدب مختلفين اختلافاً أساسياً. لم ينظر إلى الكتابين ككتابين فرنسيين فيما يتعلق برغبتهما في التغيير وإطرائهما للثقافة الأجنبية (المعادية).
ولذلك طردت مدام دوستال من باريس بسبب كتابها الأول؛ ثم طردت من فرنسا بسبب كتابها الثاني. بيد أن أفكار الكتابين أحدثت تقدماً تدريجياً. إن الانتصار الرومانسي في فرنسا يؤرخ بدءاً من عام 1820 في مجال الشعر وذلك من خلال كتاب "تأملات شعرية" للمؤلف "لامارتين" ومن خلال مسرحية "هيرناني" للمؤلف "فيكتور هوغو". على كل حال، لم يسقط المسرح، معقل الكلاسيكية المحدثة، في ذلك الوقت المتأخر من دون نضال؛ وليست معركة "هيرناني" الموصوفة بالاضطراب الاجتماعي والسلوك الفوضوي في المسرح إلا فصلاً مسلياً من التاريخ الأدبي الفرنسي.
في أوج الحركة الرومانسية كان التواصل الأدبي بين أمم أوربا الشمالية نشيطاً. وقد جاء ذكر بعض مجالات التأثير المتبادل. وثمة آثار أخرى مثل الانتشار الهائل لبايرون في أوربا الذي وصل حتى روسيا، وكالانتشار السريع والرواج الواسع للرواية التاريخية التي أتى بها "سكوت". وهناك حقيقة لافتة للنظر ذات صلة بالحركة الرومانسية وهي أعمال شكسبير التي هيمنت على المسرح وأنعشته في فرنسا وألمانيا. ولكن إنكلترا (التي قدمت لنا شكسبير والمؤلفين المسرحيين الآخرين لعصر النهضة) لم تقدم لنا أية أعمال مسرحية ذات شأن، مع أنه كان ثمة بعض التمثيليات الشعرية المرموقة "لبايرون وشيلي مثلاً" التي كان المقصود منها أن تقرأ أكثر من أن تمثل.
وتكون الحركة الرومانسية في أوج عظمتها عندما تقدم لنا الشعر الغنائي. وليست الرومانسية إلا إبرازاًَ للشخصية الفردية، وما الشعر الغنائي إلا ذروة التعبير الشخصي المباشر. لم يزدهر الشعر الغنائي في ظل الكلاسيكية المحدثة بسبب النزعة القوية نحو حجب الفرد وإغفاله، ولكنه انتشر على نحو مفاجئ ولاقى استحساناً غير مسبوق في جميع أنحاء العالم. إن عدداً وافراً من الشعراء الرومانسيين عبارة عن أسماء معروفة حتى بالنسبة لأشخاص لم يقرؤوا قصائدهم مثل ووردز وورث وكوليردج وبايرون وشيلي... بالنسبة لكل الناس الذين يتكلمون اللغة الإنكليزية. كما أن غوتيه وهوغو وبوشكين... شعراء معروفون دائماً وأبداً في أقطارهم وفي كثير من الأقطار الأخرى. وعلى نحو مشابه، كان ثمة مقالات معروفة، وخاصة في إنكلترا، تتحدث عن خصوصيات المؤلف ونقاط ضعفه أو فرط حساسيته؛ كما بدأت تعطي معلومات عن ردود فعل الكاتب نحو بحث محدد أكثر من ردود فعله نحو بحث ينظر إليه بموضوعية. وكان "لام" أعظم من كتب بهذا الأسلوب إضافة إلى آخرين.
تركزت الحركة الرومانسية في فرنسا وألمانيا وإنكلترا، ولكنها انتشرت أيضاً في أوروبا والعالم الغربي. لذلك نجد حركات رومانسية بارزة في بلاد مثل إيطاليا وبولندا وروسيا، مع العلم أنها ليست قوية أو واضحة مثل الرومانسية في الأمم القيادية. أما الجانب المشوق للغاية لانتشار هذه المدرسة الأدبية فهو امتدادها عبر المحيط الأطلسي. لقد بدأ الأدب الأمريكي، كأدب إنكليزي انتقل إلى أمريكا الشمالية وكأدب إسباني وبرتغالي انتقل إلى أمريكا الوسطى والجنوبية. وبعد بداية كيان مستقل، اتصفت الآداب الجديدة لبعض الوقت بالمحاكاة والتقليد. ويحتاج الأمر إلى اختصاصي أو شخص متعصب لبلاده لتطوير الكثير من الحماسة نحو كتابة أمريكية من أجل المستعمرات الأصلية المكونة للولايات المتحدة؛ علماً أن أمريكاً اللاتينية سبقت أمريكا الشمالية وتفوقت عليها إلى حد ما في هذا المجال. ومن خلال الحركة الرومانسية، ولأول مرة، بدأت الأمريكيتان، وخاصة الولايات المتحدة، تأتي بأدب وفق الروح الأوروبية لذلك العصر، ولكنه يتحلى بالقوة والأصالة الكافيتين على نحو يلفت الانتباه وينال الاحترام خارج حدودها. ولولا بعض الأساليب العريضة، لكان أول من ترك انطباعاً أوروبياً جيل المؤلفين "كوبر" و"هوثورن" و"بو"... من الرومانسيين الأمريكيين.
كانت الحركة الرومانسية حركة دولية؛ وبالرغم من ذلك، تضمحل أو تنتهي في أوقات شتى أو طرق متباينة. فقد تراجعت في فرنسا قبل منتصف القرن أمام المذهب الواقعي والمذهب الطبيعي في مجال الأدب القصصي، وكذلك أمام المذهب الشعري الفرنسي (برانسي)، ومن ثم أمام المذهب الرمزي في الشعر:وفي ألمانيا تراجعت الحركة بالتدريج أمام المسرح؛ إلا أن الحركة دامت في مجال الشعر مع بعض التعديلات واستمرت حتى القرن الحالي. ومن المألوف أن نميز في الأدب الإنكليزي بين الحركة الرومانسية والعصر الفكتوري، آخذين بعين الاعتبار عام 1832 كحد فاصل؛ ولكن ليس لهذا التميز شأن كبير. على الرغم من أن مؤلفي العصر الفكتوري أضافوا بعض العناصر الجديدة مثل الأهداف الاجتماعية الإنسانية والمعاني القوية من الذوق واللباقة، إلا أن الحركة الأولى استمرت بشكل أساسي حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريباً. أما الرومانسية الأمريكية فقد واصلت تأرجحها حتى الحرب الأهلية. ويرى مؤرخو الأدب أحياناً أن نهايتها جاءت عام 1855 على يد الكاتب "ويتمان". ويرون في أحيان أخرى أنها تستمر حتى انتصار كتّاب اللون المحلي عام 1870 تقريباً. هنا يصعب أن نحدد تغيير الاتجاه؛ فمثلاً رجلٌ مثل "بربت هارت" يتحلى بأكمل الصفات الممكنة من الرومانسية لا يتخلى عن مقدار محدد من الوصف الواقعي. أما تغيير الاتجاه الجوهري في مجال الأدب القصصي، فقد أتى على يد "ستيفن كرين" في التسعينات من القرن التاسع عشر وكذلك على يد "درايزر" في بداية القرن العشرين. وبالرغم من شبه العزلة لشخصية الكاتب "ويتمان"، كان الشعر الأمريكي رومانسياً على نحو جوهري حتى مجيء شعراء المذهب التصويري الحديث عام 1913 تقريباً الذي حدد بزوغ الشعر "الحديث".من هذه النهايات المتباينة للحركة الرومانسية، يتضح أنه ليس هناك نزعة دولية مشابهة حذت حذوها؛ علماً أننا نستطيع أن نلمح ميلاً نحوها قد أفسح المجال أمام نوع ما من المذهب الواقعي. ويبدو انه من الصعوبة بمكان أن نميز بين التيار الرئيسي والتيارات المعاكسة وحالة الركود ـ وربما ثمة اضطراب كبير ولا نجد تياراً رئيسياً. على كل حال، ومنذ نهاية الحركة الرومانسية، قد يكون هذا هو حال التاريخ الأدبي للعالم الغربي: خليط مشوّش من الاتجاهات والنظريات العابرة وغالباً المتضاربة حول المذهب الواقعي والطبيعي والرمزي والتصويري والإقليمي والتعبيري والانطباعي والسريالي والوجودي ـــ والصحفي.
7- الواقعية: 1850 إلى نهاية القرن الثامن عشر.
إن من اهم زعماء كتاب المذهب الواقعي كل من ستندال وبلزاك وفلوبير اما أهم زعماء المذهب الطبيعي فهم الاخوان دي جونككور واميل زولا ( 1840- 1902) و جي دي موباسان ( 1850 – 1892) والفونس دوديه ( 1840-1897).
زعماء المذهب الواقعي:
ستندال: اول زعماء المذهب الواقعي في القصة الفرنسية هو بلا شك الكاتب القاص " هنري بايل" والذي عرف في عالم الكتابة باسم "ستندال". كانت قصة ستندال الخالدة ( الاحمر والاسود) اول محاولة جدية في احلال المذهب الواقعي محل المذهب الرومانسي الحديث في فرنسا، وقد وصف فيها الحياة المعاصرة وصفا واقعيا بعيدا عن اية مسحة رومانسية، اي وصفا خاليا من تكلف مشاعر الرقة والشفقة على الفقراء والمحتاجين الذين يزحمون المدرسة الرومانسية كما نلاحظ في قصة البؤساء لفكتور هيجو، لقد بشر ستندال في قصته هذه بمذهب القوة والغلبة وذلك قبل ان يبشر به نيتشة الالماني فيما بعد، وصور بطل قصته رجلا افاقا شرسا يتوسل بقوته الجسمانية المخيفة الى حياة الدعة والرغد والعيش الحيواني الوضيع ، ثم مضى في تصوير بقية شخصياته على هذا المنوال واضعا نصب عينيه مطابقة الواقع والامانة التي لا تستحي في قول الصدق، مما هو من سمات القصة الفرنسية في العصر الحديث.
بلزاك: يعتبر بلزاك خالق المذهب الواقعي ومرسي دعائمه فهو كما وصفه الناقد سانت بيف " اعظم رجل انجبته فرنسا" حيث انه تمتع بشهرة ومكانة ادبية عظيمة كسفت جميع الكتاب ومنهم ستندال نفسه. لقد تأثر بلزاك في اول نشأته بالمذهب الرومانسي الا انه افاق فجأة على هاتف الخلود الذي اوحى له بفكرة سلسلة طويلة من القصص الرائعة لتي سماها فيما بعد باسم" الملهاة الانسانية" والتي استوعب فيها الحياة الفرنسية في مختلف اوضاعها، ولم يترك صنفا من الناس الا وصفه ولا جماعة من الجماعات الا اعطانا منها صورة لا تبرح مخيلة قارئها . كان لا يبالي اذا كان يصف ملكا او ملكة ، قائدا او اديبا او شاعرا ثم يقفز ليصف لنا طباخا او جنديا او امرأة او جزارا او فلاحا عاديا. حيث كان يصفهم بنفس الحرارة والصدق الجريء، ثم هو يثب من الوصف العام الى الوصف الخاص الدقيق الذي يتغلغل في اعماق المشاعر ودنيا الاسرار، ملونا صوره الواقعية هذه بلمحات حلوة جذابة من المذهب الرومانسي، لكنه لا يسمح لتلك اللمحات بالطغيان على الاصل، وهنا ميزة بلزاك، وهذا كله موشىب كثير من النظرات الفلسفية والدراسات والتحليلات الرقيقة العميقة في ان واحد.
فلوبير: اما جوستاف فلوبير فحسبه انه منشىء لأروع قصة في الادب الواقعي وهي قصة "مدام بوفاري"، والقصة صورة بارعة للحياة الريفية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر، وصف فيها فلوبير الطبقة البرجوازية التي نشأ هو منها، والعجيب ان فلوبير بالرغم من واقعية موضوعاته الا انه كان يحن الى برقشة المذهب الرومانسي وزخارفه البيانية، فلم يكد يفرغ من مدام بوفاري حتى عاد ليضرب في تيه الرومانسية في قصته " سالامبو" التي احيا فيها ذكرى قرطاجنة في اسلوب مصنوع موشى بالزخارف طار به من عالم الواقع المرير الى عالم الاحلامم والعاطفة المشبوبة.
اعلام المذهب الطبيعي:
الاخوان دي جونكور: لاشك بأن الاخوين دي جونكور : ادمون ( 1822 – 1896) و جول ( 1830 – 1870) هما مبتكرا المذهب الطبيعي في الادب الفرنسي، بل هما مبتكرا ايضا المذهب الرمزي الذي سآتي على ذكره في مقال قادم. او يعود اليهما الفضل في ابتكاره. كان نشاط هؤلاء الاخوين لا يقف عند حد وكانت لهما ميزات ادبية وفنية متنوعة. فيؤثر انهما ادخلا مبادىء الفن الياباني في فرنسا. وقد الف ادمون آخر كتبه عن الفنان الياباني " كوساى". وقد كتبا في كل شيء في الادب الصرف في الرسائل، المقالات، القصص والمسرحيات، ومقالاتهما في وصف المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر من امتع ما كتب في هذا الباب. ان شخصياتهم القصصية والمسرحي كانا يأخذانها بشكل صرف من الحياة العامة عمن يتصل بهم من الناس اخذا طبيعيا لا يزيدان فيه ولا ينقصان، ان عملهما الادبي ينحصر في تسجيل حركات الشخصيات بدون تدخل حتى لا يكاد القارىء ان يحس بوجود الكاتب . انهما آلة كاتبة او " كاميرا" في يد البيئة او يد الحياة. ان غرضهم الوحيد هو ان يوفروا للاجيال القادمة اكبر قدر من المستندات الحية التي يعرفون بها اهل الجيل الحاضر معرفة كأنهم يرونهم بها رأي العين.
العجيب ان قصص دي جونكور ومسرحياتهما لا يقرأها احد اليوم الا الذين يشتغلون بالحفريات الادبية. واهم ما تركا خلفهما هو "جورنالهم" الذي يؤرخ لحقبة طويلة حافلة من تاريخ الادب الفرنسي والذي استمر من عام 1851 ولغاية 1895م وعلى الرغم من ان القارىء يصطدم اثناء قراءته للجورنال بطائفة من الفضائح والمخزيات، الا انه يبتهج لما يشعر به من انه يعيش في هذا الزمن ووسط اهله حيث انهم تناولوا في جورنالهم كل من جوته، اميل زولا، فلوبير، رودان، بودلير، اوسكار وايلد وغيرهما.
اميل زولا: ولد اميل زولا في باريس سنة 1840م من اب فرنسي يجري في عروقه الدم الايطالي واليوناني، وقد مات واميل زولا ما زال طفلا، لذا قاسى الصبي حياة بؤس شديدة وبدأ حياته يكتب في احدى دور النشر وباجر زهيد. لقد لقي زولا الاخوين دي جونكور عام 1868 فوصفاه " بالقلق والتشوف والعمق والتعقيد والتحفظ" وبأنه " ليس من اليسير ان يفهمه احد على حقيقيته". اول ما فكر به كان كتابة سلسلة من القصص الطبيعية الموسومة باسم روجين ماكارت (Roujon - macqurt)
والتي ظل يكتبها ويصدرها طيلة ثلاثين عاما. تناول فيها زولا حياة اسرة من الاسر العادية الفرنسية فصور كل من افرادها تصويرا مسهبا على طريقة دي جونكور، تلك الطريقة التي لا تبرر تصرفا من التصرفات ولا تدافع عن خطة يختطها بطل القصة في الحياة بحيث تختفي شخصية الكاتب نهائيا فلا يحس به القارىء طالما هو منغمس في القراءة. ان كل قصة من هذه المجموعة تتناول مظهرا بعينه من مظاهر الحياة اليومية الزاخرة كالاسواق العامة والمشارب والسكك الحديدية والمناجم وعالم الاقتصاد والاوراق المالية وحالة الحرب سنة 1870، وترهات المعتقدات الدينية . لقد صور زولا حسب ما قال جان كارير" رذائل عصره ومخزياته من حياة العرابيد والافاقين واللصوص والعاهرات والسكارى والشاردين والمعتوهين وسفلة البرجوزية والجنود الجبناء والوراء المهزومين الخ". لقد وعد زولا بعالم زاخر بالحياة الصحيحة فاعطانا مشتفى وضلالات الطبقة لا يمكن تصورها.
خطر المذهب الطبيعي:
ان خطر المذهب الطبيعي عند زولا وغيره ناشىء من التزام الصدق في تسجيل محريات الحياة والمبالغة في الالتزام بذلك دون ان يعمل الادباء حسابا للعواطف المكبوتة ودون ان يحفلوا بالعادات والتقاليد او الاداب بل انهم لا يقيمون وزنا للفضائل وحميد السجايا. ان المذهب الطبيعي ينتهي دائما الى التحلل من كل ذلك ، ومن الملفت للنظر بأن زعماء المذهب الطبيعي لم يكونوا الا من ضعاف البنية من الادباء او المرضى والعليلين من المفكرين ، فقد مات دي جونكور في الاربيعين من عمره، بعد حياة سائبة اكب فيها على حياة الخمر والمخدرات، اما اخوه ادمون فقد وصفه الناقد ( سارسيه) بانه" رجل تعس معتل الجسم مختل الاعصاب، جدير بالشفقة والرثاء" ، وهذا وصف ينطبق عل كل من اميل زولا وموباسان فقد جن جنون موباسان بعد ان جاوز الاربعين بوقت قصير ثم مات مشلولا بعد اكباب طويل على السموم.
8- 1850- بدأ ظهور تيارات جديدة ، فما قبل الحداثة . وبعض المؤرخين يقول أن الحداثة بدأت عام 1860 إلى 1900.
اجتاحت الحضارة الغربية المعمورة خلال القرون الثلاثة الأخيرة؛ فدان لها العالم، وبدأت بتدجين الشرق، تركة الرجل المريض؛ منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ فظل ذلك الشرق يصارع ويصارع إلى الآن. وظل دهاقنة الفكر الغربي يراقبون التحولات التي تعرفها بلاد الإسلام؛ باعتبارها موطن دين وحضارة وتقاليد راسخة؛ وكانت نتائج التأثير الغربي في تلك البلاد فوق ما كان يترقبه دهاقنة ذلك الفكر.وهكذا دخلت التأثيرات الأوربية بلاد الإسلام في ركاب الاستعمار، وصحبته في الركاب المبشرون والمستشرقون. وبمضي الأيام تهاوت أنفة الشرق، وتساقطت همم أهله، وتسارع القوم يجتهدون في تقليد الأوربيين، ويتبارون في ذلك؛ ومع تسارع تطور التقنيات، ازداد الانبهار بالغرب، وبدأ ركبوا أمواج الحداثة الوافدة على الأراضي والعقول.وحينما توهم أهل الشرق أنهم تحرروا؛ انشدّت عقول أهل التدبير إلى أساليب التنمية لشعوب الشرق على مقاسات غيرهم. فبدأت التحولات والتطورات خارج ذوات أبناء الشرق وإمكاناتهم؛ فوجدوا أنفسهم يتطورون كما يراد بهم، يتطورون وهم يرقصون في سلاسل التبعية والتقليد.ومنذ مطالع خمسينيات القرن العشرين، بدأت أشكال الحداثة تنتشر لدى المستضعفين في الأرض، وكان ذلك في ركاب ما يسمى بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي ظهرت مع بوادر التحرر. وكان للحداثة رسلها والمبشرون بها، والمدافعون عنها. ومع مُضيّ الأيام ازداد التهافت على حضارة الأوربيين، طلبا للتنمية والرقي والتطور، والخروج من قمقم التخلف، و في الطريق تعددت وسائل الإغراء وتعددت تيارات الحداثة، وعصفت بالأقوام الصراعات على الكراسي، ومزقتهم الأهواء والإديلوجيات، وتاهت الأجيال في الأوهام والهرطقات. وظهرت تقنيات للانتهازية في أسواق بيع الضمائر وها نحن اليوم نتلاشى في كونية الغرب الحديث، ونغني بشكل جماعي :"أغرق ، أغرق، أغرق". لقد أصبحا اليوم كونيين، أي نمشي في الأكوان بدون كيان.
ولا غرابة في هذا؛ فإن فأهم ما نتميز به في عصرنا الحديث هو أنّنا استطبنا السير على أثر الحضارة الغربية في كل مساراتها، وكان الخضوع لها في المظهر والسلوك والفكر.وهكذا انفتحت أبواب التقليد، فتطايرت فتاوى التحديث عبر وسائل الاتصال؛ ما قام منها على أساليب الإغراء، أو على أساليب المكر والدّجَل والنفاق. وفي ثمانينيات القرن العشرين، تسنم المُقَلِّدَة من أهل الحداثة لعصرنا موقع الصدارة في أرض المستضعفين، و راحوا يُشَرِّعُون للتبعية بصورة تدعو إلى الخزي والعار.
واشتدت رياح الحداثة في أدبيات العرب في بداية السبعينيات، مع ظهور ما سمي بـ"الصحوة". وكانت للحداثة انتصارات ظاهرة في ما آل إليه أمر الإبداع، وما شاع في أدبيات نقاد هذا العصر من فتوحات صال فيها التفلسف بصورة طمست هوية الإبداع عندنا.وأضحت العقول لا تبدع إلا إذا رقصت في سلاسل الآخر، ورددت أقواله وأقاويله ومقولاته، واتخذتها منطلقات لتصوراتها ومناهجها، وتناقلت آراء أهل الأقاويل في هوامش بحوثها؛ صيانة للأمانة العلمية. وتعددت مشاريع الإنقاذ للفكر العربي، والعقل العربي. وكانت في جملتها اعترافات بضعفنا واستكانتنا لغيرنا.
9- 1900 – 1945 الحداثة التي بدأت عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
فرضت الأحداث الكبرى التى شهدها القرن العشرون تغيرات فكرية لمقولات كادت ان تكون ثابتة ومطلقة لا تقبل الشك فى الفكر الإنسانى – ولعل أبرز هذه التغيرات انهيار الفكر الشمولى ليؤكد بذلك عجز فكر اليقين والمطلق والكلى ، وكذا بديهيات التيار المادى التاريخى فى تفسير الواقع وتحليله – تشكلت فى أثرها رؤى جديدة تعبر عن حركة ثقافية ظهرت مؤشراتها فى تيار فكرى جديد يشير إلى سقوط النظريات الكبرى ويشكك فيما هو يقين ومطلق ويرفض فكرة الحتمية التاريخية والطبيعية ويجادل فى مسائل التقدم الإنسانى.
يضاف إلى ذلك أن الثورة المعرفية فى مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات قد ساعدت فى نقل الفكر من الحداثة إلى ما بعد الحداثة حيث الانتقال من حالة الإشباع المادى إلى حالة الإشباع المعنوى الأمر الذى دفع ببعض الباحثين إلى الزعم بأن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته و ما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهى مرحلة ما بعد الحداثة.
وتكمن الفكرة الأساسية لتيار ما بعد الحداثة فى الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربى فى الرؤى والمعرفة والتغير طرأ عليها فى السنوات الأخيرة تغير جذرى نجم فى الأغلب عن التقدم الهائل فى وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الجماهيرى وتطور نظم المعلومات فى العالم ككل مما ترتب عليه حدوث تغيرات فى اقتصاديات العالم الغربى التى تعتمد على التصنيع وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد.
وعلى الرغم من ان ما بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا إلا أنها لم تعطِ حتى الآن تعريفا , وترجع صعوبة وضع تحديد دقيق لكلمة ما بعد الحداثة إلى أنها تتولد عن معانٍ مختلفة تختلف باختلاف الفروع التى تدخل فى نطاقها حيث ان أغلب ما كتب عن ما بعد الحداثة نبع من تواجد اختلاف معرفى عما تدعو إليه ما بعد الحـداثة أو ما تتعـهد به , فمـثلا نجـد أن هذا المصـطلح متطابق إلى حد كبير مع ما بعد البنيوية ونجده متعارضاً معها فى أحيانا أخرى ، كذلك نجد أن المصطلح قد يستخدم فى أحيانا ثالثة بشكل نظرى صارم ليصف المشهد الثقافى المعاصر , وما هو أسوأ أن مقتنعى ما بعد الحداثة ورموزها الفكريين لم يتفقوا حتى على تعبير ما بعد الحداثة نفسه , فالبعض مثل " ليونارد " يفضل صيغة اكثر ايجابية وتحديدا لشرط ما بعد الحديث , بينما هناك من يراها منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة " كجيمس ون " أو عصرا ثقافيا أخيرا فى الغرب , كما يحاول البعض الآخر أن يتجنب مأزق التعرف . إن مفهوم ما بعد الحداثة يعد أحد المفاهيم الحديثة التي دخلت فى نطاق علم الاجتماع , ومن ثم يكون من المنطقى أن يدور جدل ونقاش حول تعريف المفهوم شانه فى ذلك شان مفاهيم العلم , ولكن من غير المنطقى أن لا يتفق رموز و مفكرى ما بعد الحداثة على التسمية وتعبير ما بعد الحداثة نفسه الأمر الذي قد يوجد بعض التضارب و التداخل فى فهم ما بعد الحداثة , إلا أن ذلك قد يكون مرده إلى اختلاف المجالات والتخصصات التى يدخل تحت نطاقها هذا المفهوم وما يترتب على ذلك من اختلاف تخصصات رواد ما بعد الحداثة ورموزه الفكريين , وتأكيدا لذلك فإن "مفهوم ما بعد الحداثة قد ساهم فى صياغته مجموعة من المفكرين فى مجالات شتى فى النقد الأدبى والفن و العمارة والفلسفة والسياسية وعلم الاجتماع."
وقبل الدخول فى تناول مفهوم ما بعد الحداثة من خلال وجهات نظر مختلفة يتراءى للدراسة إلقاء الضوء على اللازمة أو المقطع "ما بعد" ، حيث تجدر الإشارة إلى أن لفظ "ما بعد" استخدم فى أول الأمر فى الطبيعة ويعود استخدامه إلى أحد أتباع "أرسطو" و الذى وجد ضمن مؤلفاته مجموعة مقالات له تشتمل على ثلاثة مباحث كبرى وهى مبادئ المعرفة و الامور العامة للوجود والألوهية رأس الوجود وهى مباحث تقع بعد علم الطبيعة فأطلق عليها ما بعد الطبيعة.
كما استخدم هذا المقطع " ما بعد " فى العصر الحديث فى أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية باعتبار أن مصطلح ما بعد الحرب كان على كل الألسنه وفى كل الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية ومن هنا تمت استعارته إلى مجال الثقافة.
وفى ضوء ذلك يمكن القول بأن مفهوم الحداثة يفيد الترتيب الزمنى كأن تقول ما بعد الكلاسيكية أو ما بعد الرومانسية أى بداية مرحلة زمنية جديدة , والترتيب المكانى بمعنى وضعية شئ يأتى مكانيا بعد شئ أخر ، ويرى البعض أن اللازمة "ما بعد" لا تتوقف عند العلاقة الزمنية بل تشير إلى ترك الإطار السابق عليها والانفصال عنه , إلا أنها فى حقيقة الأمر لابد أن تدل فى ذات الوقت إلى جانب تلك القطيعة إلى نوع من استمرارية ما , أى استمرارية مع الحداثة إلى جانب الانفصال عنها. ومن ثم فإن المقطع "ما بعد" فى مصطلح ما بعد الحداثة يشير فى آن واحد إلى الانفصال والاستمرار ومن ثم فإن درجة وصفها تتوقف على استخدام هذا الناقد أو ذاك.
إن إضافة ما بعد إلى مصطلح الحداثة،يشير إلى الاستمرارية مع الحداثة ولكنها ليست استمرارية تواصلية – بمعنى أن ما بعد الحداثة ما هو إلا استكمال لمشروع الحداثة – بقدر كونها استمرارية من اجل القطيعة , فالاستمرارية مع الحداثة هنا ضرورة نابعة من أن فهم ما بعد الشئ يستوجب معه منطقيا فهم الشئ نفسه لتحديد موقف معين تجاهه , وفى ظل هذه الاستمرارية مع الحداثة تتولد القطيعة والانفصال عنها ,وبالرغم من ذلك كله فإن المقطع "ما بعد" يعد تأكيداً على تمايز ما بعد الحداثة على الحداثة باعتبارها مرحلة فكرية وثقافية جديدة مناهضة لمرحلة الحداثة , وفى ضوء ما سبق يمكن القول بأن المقطع "ما بعد" قد أفاد مصطلح ما بعد الحداثة فى تحديد هويته واتجاهه تجاه تيار الحداثة.
يمكن فهم ما بعد الحداثة من خلال وجهات نظر بعض رواده فى محاولة للوقوف على أهم المبادئ التي يرتكز عليها تيار ما بعد الحداثة وذلك
على النحو التالى: يعتبر" نيتشية" احد المصادر الرئيسية فى القرن التاسع عشر للأفكار التى تميز الوضع ما بعد الحداثى , فالنزعة النسبية الأخلاقية والمعرفية لعالم ما بعد الحداثة ونزعة الريبة (الشك) فى إمكان تمييز الصدق من الكذب الحقيقة من الزيف نجد نموذجها فى فكر" نيتشه" العدمى جذريا( 9) , ويمكن القول أن فكر "نيتشه" هو فكر معادٍ للحداثة ويركز هجومه على فكرة الذات ويستند "نيتشه" فى عدائه للحداثة على مبدأ العدمية وهو يعنى انه لا قيمة للقيم , أى أن ما كُون فى العصور السالفة من مبادئ راسخة ثابتة ومثلا عليا سامية صارت مع مجئ الحداثة عدماً افقد القيم كل معنى أو حقيقة.( 10)
ومن ثم فإن تيار ما بعد الحداثة فى ضوء ذلك يمكن وصفه بأنه عدمى وذلك لأنه ينكر الاحكام التعميمية على نطاق المجتمع ويدعو إلى هجر مصطلحات الحقيقة باعتبار انه لا يمكن الامساك بتلابيبها فى أى مجال وكذلك ترك مصطلح الموضوعية لأن الذاتية هى التى تحكم مختلف المسارات , كما يفقد التاريخ فى ضوء هذا الاتجاه شرعيته لأنه غالبا ليس إلا مجموعة من الكتابات الدعائية وهذا الاتجاه العدمى يدعو إلى الجزئى على حساب الكلى.( 11)
أما "ليوتار" فقد استخدم كلمة ما بعد الحداثة لدراسة وضع المعرفة فى المجتمعات الاكثر تطورا مؤكدا أن وضع المعرفة يتغير بينما تدخل المجتمعات ما يعرف بعصر ما بعد الصناعة والثقافات ما يعرف بالعصر ما بعد الحداثى.
وفى ضوء ذلك يؤكد "ليوتار" أن ما بعد الحداثة هى "التشكك إزاء الميتا حكاية هذا التشكيك بلا شك ناتج من التقدم فى العلوم" ( 13) , وهذا يعنى أن ما بعد الحداثة عند "ليوتار" تشير إلى نهاية الحكايات الكبرى أى نهاية المشاريع الاجتماعية الطموحة للحداثة والتأكيد على أن خطابات أو نظريات الحداثة المتجسدة فى الليبرالية والماركسية والمستمدة من أفكار عصر التنوير عن العقل والتحرير الشامل للانسان والتقدم الخطى للتاريخ قد فقدت قيمتها التفسيرية , وأن ادعائها القدرة على المعرفة والتنبؤ ليس سوى وهم من أوهام التفكير الوضعى الذى ساد نهاية القرن التاسع عشر
أما " فردريك جيمسون" فانه يؤكد أن ما بعد الحداثة هى رد فعل لما قبلها , حيث يرى أن ما بعد الحداثة تتوحد برغم تعدد مجالاتها وأساليبها تحت شعار الرفض لما هو معترف به ومقنن(15 ) , كما أنه يرى أن كلمة ما بعد الحداثة تنطوى على مفهوم التمرحل والذى تكون مهمته منصبة على ربط بروز سمات شكلية جديدة فى الثقافة ببروز سمات جديدة فى الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادى جديد بما يعرف غالبا حسب التعابير المطلقه بالمجتمع ما بعد الصناعى أو الاستهلاكى أو بالنظام الرأسمالى متعدد القوميات أو مجتمع وسائل الإعلام(16 ) , ويضيف "جيمسون" أن ما بعد الحداثة لا يمكن أن تفهم إلا فى سياق رأسمالية أيامنا "الرأسمالية المتأخرة" لأنها أنقى شكل من أشكال رأس المال يظهر حتى الآن , حيث التوسع الضخم لرأس المال فى مناطق لم تكن تعرف حتى الآن الاقتصاد السلعي ومن ثم يؤكد "جيمسون" أن ثقافة ما بعد الحداثة تتناسب مع سيطرة النزعة الاستهلاكية والطموح الاستهلاكي.
و يرى "سكوت لاش" أن ما بعد الحداثة نمطاً فكرياً يمكن النظر إليه من خلال التركيز على ثلاث قضايا مترابطة ومتكاملة وهى :
• التغير الثقافي: حيث أكد إنه إذا كانت الحداثة تنظر إلى التمايز الثقافي أو الاختلاف بين الثقافات فإن ما بعد الحداثة تتناول بالتحليل عملية تعميق لتلك الاختلافات.
• النمط الثقافي: حيث يرى ان من خصائص ما بعد الحداثة خلق نظام جديد من الرموز الثقافية المتصلة بالجانب الفكري أكثر من اتصالها بالجانب الحسي.
• التدرج الاجتماعي: حيث يرى أن ما بعد الحداثة تؤسس انحطاطاً واضحاً ومفاجئاً للطبقات وكسر لها ولحواجزها .
ويؤكد "لاش" أن حركة ما بعد الحداثة ترى على أنها ثقافة المجتمع الرأسمالي ما بعد الصناعي حيث يتحدث "لاش" عن علاقة التوافق والتجاوب الإنتقائى بين ثقافة ما بعد الحداثة والمجتمع الرأسمالي المعاصر ، حيث يشخص "لاش" الرأسمالية المعاصرة على أنها غير منظمة مقارنة بالرأسمالية المنظمة فى أواخر قرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، ويؤكد "لاش" أن الرأسمالية غير المنظمة تتضمن معظم ملامح حركة ما بعد فورد ، مشيراً إلى أنه فى ظل الرأسمالية تتفتت ثقافات ومجتمعات الطبقة العاملة ولا مركزية المدن والحركات الاجتماعية , فضلا عن أنها تساعد على ظهور بورجوازية ما بعد صناعية جديدة بأسسها المتواجدة فى وسائل الإعلام والتعليم العالي والتمويل والإعلان ، فمثلما كانت الحداثة هى ثقافة الرأسمالية المنظمة وطبقتها البورجوازية الحاكمة , فإن حركة ما بعد الحداثة هى ثقافة الرأسمالية غير المنظمة والطبقات الوسطى ما بعد الصناعية.
و يؤكد "جان بودريار" أن تيار ما بعد الحداثة هو عبارة عن تيار اجتماعى متكامل مختلف بكل مبادئه وتنظيماته عن الحداثة , مشيراً إلى نهاية فترة الحداثة التى كان يحكمها الانتاج والرأسمالية وظهور ما يسمى بفترة ما بعد الحداثة البعد صناعية والمتمثلة فى أشكال بديلة للتكنولوجيا والثقافة , حيث يوضح بأن هناك أشكالاً جديدة من التقنية والمعلومات كونت مراكزاً للفترة البينية والتحول من نظام منتج إلى نظام مستهلك , فعلى عكس المجتمع الحداثى الصناعى الذى كان الإنتاج فيه يمثل حجر الزاوية يتضح لنا أن "الزيف" يركب ويتحكم فى الشئون الاجتماعية حيث أصبحت الصور الزائفة صور الافعال والأحداث – فى المجتمع ما بعد الصناعى _ تمثل الحقيقة.( 20)
وبناء على ما سبق يمكن القول بان تيار ما بعد الحداثة يستند إلى مجموعة من المبادئ التى ينطلق منها فى معالجته لمختلف القضايا وهى على النحو التالى :
1- العدمية : وتعنى انعدام قيمة القيم فى ظل الحداثة ومنجزاتها ونقد الذات وإنكار الحقيقة والموضوعية والتاريخ , ويمثل هذا المبدأ المنطق الداخلى لتيار ما بعد الحداثة.
2- التعامل مع مختلف القضايا من خلال اللغة , حيث تتركز تحليلات ما بعد الحداثة على الخطاب وهذا يعنى أن تحليل النصوص أو تفكيكها قد أصبح يحظى بالمكانة الأولى فى الجهد النظرى لمفكرى ما بعد الحداثة.(21 ) ومن ثم يمكن القول بأن اتخاذ الخطاب كوحدة للتحليل قد يظهر معه انصراف مفكرى ما بعد الحداثة عن تحليل الواقع أو المضامين الملموسة للحقائق , وذلك نظراً لأن الخطاب قد لا يعطى صورة حقيقية عن الواقع.
3- سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة والتى عادة ما تأخذ شكل الايديولوجيات , على أساس زعمها تقديم تفسير كلي للظواهر , كما أنها انطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها.
4- ترفض حركة ما بعد الحداثة كل عمليات التمثيل سواء أخذت شكل الإنابة بمعنى أن شخصا يمثل الآخرين أو التشابه وذلك حين يزعم المصور أنه يحاكى فى لوحته ما يراه فى الواقع.(23 )
انطلاقا مما سبق يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة باعتبارها "حالة حضارية تهدف إلى خلق نمط ثقافي و معرفي يتعارض مع الحداثة، له سمات وخصائص تمجد عدم التحديد واللامعنى والتعددية والاختلاف والنسبية فى النظر إلى الواقع ويعلى من قيمة الثقافة والمعرفة فى توجية المجتمع الانسانى" وهذا يعنى أنها مرحلة من مراحل تطور المجتمعات تلي الحداثة وتهدف إلى "خلق نمط ثقافي و معرفي" بمعنى أنها تهدف - فى ضوء منطق التحولات الذى افرزها- إلى إعادة هيكلة البنية الموجودة داخل مستويات الوجود الانسانى ، كما أن هذا النمط يرفض الأطر النظرية والمنهجية للحداثة ومدلولاتها الواقعية ، ويتسم بسمات مغايرة للنمط الحداثى تجسد رؤيته عن الواقع ، وتخلق له رؤية تتماشى مع تأثير المعطيات الواقعية الجديدة على الحياة الاجتماعية والمتجسدة فى الاعتماد على التكنولوجيا وطغيان وسائل الإعلام و الاتصال على الواقع.
10- 1945 إلى الآن العصر الذي نعيش فيه وهو عصر ما بعد الحداثة : إشكالية المفهوم.
يعتبر مصطلح ما بعد الحداثة بفرعيه من أهم المصطلحات التي شاعت وسادت منذ الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي، ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مصدره، فهناك من يعيد المفردة إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي وعام 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر ويحدد زمانها بعام 1965م، على أن البحث عن أصول المفردة أفضى إلى اكتشاف استخدامها قبل هذه التواريخ بكثير، كما في استخدام جون واتكنز تشابمان لمصطلح "الرسم ما بعد الحداثي" في عقد 1870م، وظهور مصطلح ما بعد الحداثة عند رودولف بانفتز في عام 1917م.
ولعل الأصعب من تحديد أصول المصطلح هو تحديده كمفهوم نقدي أو فكري وكذلك تحديد مساحة (أو مساحات) نشاطه، إذ إن حركة ما بعد الحداثة اليوم نشطة فاعلة في كافة الفضاءات الثقافية الغربية: السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والفلسفية والأخلاقية والنفسية والمعرفية والأنثروبولوجية وغيرها من مشارب الحياة العليا والدنيا على السواء. فهي كمفهوم تعم أنواع الدراسات الحديثة كافة التي تتناول مختلف النشاطات والفعاليات الاجتماعية الثقافية اليومية.
ويختلف دارسو وممارسو هذا التوجه ما بعد الحداثي فيما بينهم، لكنهم يجمعون على أن ما بعد الحداثة أبرز ما تكون في فن العمارة وتخطيط المدن وحياة المدينة. ولعل أهم أسباب غموضها كمفهوم نقدي وفكري هو اعتمادها على المكتشفات الجديدة كافة علمية كانت أو تكنولوجية أو فلسفية فكرية. ومما يزيد الغموض هو أن مابعد الحداثة مظلة عامة تتشظى داخل نفسها لتكون ذاتها، فتتعدد وتنقسم إلى ما بعد حداثات مختلفة، مجموعها العام يشكل ما بعد الحداثة العامة، ويكون هذا الانقسام والتشظي سمتها القارة، على أن التوجه العام يميز بين قسمين كبيرين: ما بعد الحداثية Postmodernity كمظلة فكرية عامة تعالج المنهجية والنظرية النقدية فلسفياً ومعرفياً، ثم ما بعد الحداثة Postmodcrnism كممارسة عملية وكتطبيق لهذه المنهجية والنظرية على حقل معين كالأدب أو الفن أو الموسيقى أو العمارة، وهلم جرا. ولهذا يرى دارسوها أن هناك نوعين من الدراسات: أحدهما يعالج الحياة الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المعرفي الابستيمولوجي ويرسي أسس التنظير لهذه الفضاءات (وموضوع هذا القسم من الدراسات هو "الثقافة العالية") والنوع الثاني يعالج الممارسات الاجتماعية اليومية التي لم تكن في السابق مجالاً للدرس أو حتى تستحق الاهتمام كمجال فكري أكاديمي كالفيديو وقصات الشعر والأزياء وأهميتها الثقافية (وموضوع هذه الدراسات: "الثقافة الدنيا"). ومن أهم الأسماء التي أسهمت في تشكيل ما بعد الحداثة في نوعها الأول هناك الأمريكي فريدريك جيمسون والفرنسيان جان فرانسوا ليوترا وجان بودريار. أما ممارسو النوع الثاني فأكثر من أن يمثل لهم باسم أو اسمين. ولئن كان الفصل بين ما بعد الحداثتين ممكنا على هذا المستوى، فإن الممارسات الحقيقية التطبيقة تقوم بتقويض اسس هذا التمييز ، وهكذا يمتزج النوع الأول بالثاني مما يجعل التقسيم بينهما ضرباً من التعسف "الحداثي"، فامتزاجهما سمة فارقة تميز ما بعد الحداثة عن غيرها.ومنظرو ما بعد الحداثة يعرفونها على أنها مجموع الظروف والشروط المختلفة والمتعددة التي تختلط فيها المظاهر الاجتماعية بالمظاهر الاجتماعية الثقافية فلا يمكن التمييز بين ما هو اجتماعي وما هو ثقافي، فتنهار المسافة بين النظرية وموضوعها، ويتعذر الفصل بين النظرية التأويلية والواقع الاجتماعي الذي تحاول النظرية إدراكه وتوصيفه..ولهذا يرى منظرو مابعد الحداثة ان جزءا كبيرا من مفهوم مابعد الحداثة يعتمد على صعوبة الفصل بين البنية المعرفية وبين ما تنتجه هذه البنية من معرفة، إذ إن هناك تداخلاً مستمراً بين أشكال المعرفة وبين ما تسعى إلى دراسته، كما أن موضوع المعرفة يؤثر تأثيراً جوهرياً في أشكال المعرفة نفسها مثلما يؤثر في الذاتية self-reflexivity. فهي تفيد من مقولات ما بعد البنيوية في أن المنهجية المتبعة في درس مادة ما لا شك تشكل المادة ذاتها، ولذلك هناك علاقة جوهرية متبادلة بين المنهجية وبين المعرفة: الأشكال المعرفية تملي نتائجها مسبقاً وتفضي إلى تغيير متحيز في المادة المدروسة (إن كان هناك أصلاً مادة معزولة بذاتها دون الأشكال المعرفية التي تحددها). ولذلك عني أصحاب ما بعد الحداثة بهذه العلاقة عناية شديدة.ولعل أفضل السبل إلى فهم ما بعد الحداثة هو النظر إليها على أنها معارضة وردة فعل ضد الحداثة ومعطياتها. فالحداثة جاءت بمشروعها لتخليص الإنسان من أوهامه وتحريره من قيوده وتفسير الكون تفسيراً عقلانياً واعياً. ورأت الحداثة أن مثل هذا المشروع لا يتم ما لم يقطع الإنسان صلته بالماضي ويهتم باللحظة الراهنة العابرة: أي بالتجربة الإنسانية كما هي في لحظتها الآنية. وهكذا احتفت الحداثة بالصيرورة المستمرة المتشكلة أبداً وغير المستقرة على حال. لكنها أيضاً كانت تسعى في المقابل إلى إرساء الثوابت القارة التي تحكم الإنسان وتحكم تجربته كما تحكم الصيرورة الثقافية فتفسر المتغيرات العابرة وتمنح مشروعية تبريرية عقلانياً لحالة الفوضى التي تتسم بها التجربة الآنية. من هنا جاء التقابل الضدي بين الثابت والمتحول كإمكانية تفسير التناقض الواضح بين اللحظة العابرة والقانون الثابت الذي يتحكم بها ويمنحها نظاماً مستقراً أبدياً. وكان على الحداثة أن تكون مشروعاً وضعياً يؤمن (منذ عصر التنوير) بفكرة التطور والتقدم الذي يبني على الماضي وينفصل عنه في آن، فهي ترى ان اللحظة المعاشة والتجربة الحالية هي الحقيقة التي يجب التعامل معها ضمن كامل التاريخ. ومن خلال علمنة المعرفة وتفسير بنية المجتمع تفسيراً علمياً حاولت الحداثة أن تزيل الأوهام والطلاسم التقليدية التي ارتبطت بالمعرفة وبالمجتمع وثقافته. ورأت أن مثل هذا التفسير والعلمية التي يتبعها من شأنها تحرير الإنسان وتوجيهه نحو قيم جديدة. ولذلك سادت في مشروع الحداثة مفاهيم وقيم الإبداع والاكتشاف العلمي والتميز الفردي على أنها غاية التقدم ونهاية مطاف التطور. ومن هذا المنطلق نادت الحداثة بشعارات خلابة مثل الحرية والمساواة والإيمان بقدرة الإنسان العقلية وعالمية الجهاز الإدراكي، فكان من أهم نتائج هذا التوجه محاولة الهيمنة والسيطرة على القوى الطبيعية وعلى الطبيعة عموماً، كما آمنت إيماناً قاطعاً بالقدرة الإنسانية على فهم العالم والحياة والذات والتقدم الأخلاقي وإدراكه، وآمنت بإمكانية حلول العدل وتحقق سعادة الإنسان. وهكذا كان من الطبيعي أن تتمحور شعاراتها وثوابتها حول مثاليات مغرية على كافة المستويات: فكرة التطور والتقدم والرفاه الإنساني، والإيمان بمستقبل أفضل، والتحصيل المعرفي والتصنيع والصناعة والتحضر والتقدم التقني وتطور الدولة القطرية الوطنية، وأعلت من شأن المهنة المتخصصة والمنصب والمسؤولية الفردية وشحذت آليات البيروقراطية ودعت للديمقراطية الليبرالية ولنشر روح التسامح والمذهبية الإنسانية والمساواة العرقية والاجتماعية والاقتصادية، كما أشاعت أهمية التجارب المتجردة والإيمان بالمعايير التقويمية والإجراءات غير المتحيزة وتبنت أهمية القواعد المقننة التي لا تخضع للميول والنزعات الشخصية. كل هذه السمات كانت تدين للعقلانية المطلقة.
مــا بــعد الحـداثــة "مقاربة نقدية"(1)
في اطار التشكيك بالسرديات الشمولية "الايديولوجيات" ( يعرّف ماك غرايث ما بعد الحداثة بانها الالتزام المسبق بالنسبية والتعددية فيما يخص قضايا الحقيقة واحدى المجالات التي تلقى الشعبية في فكر ما بعد الحداثة هي التاكيد على ان كل فرد هو جزء من مجتمع انساني محلي، ولذلك لابد من تفسير الحقيقة على ضوء ذلك المجتمع، ولان هناك الكثير من المجتمعات المحلية المختلفة، تعتقد ما بعد الحداثة ان هناك الكثير من الحقائق المختلفة التي يمكن ان تتواجد مع بعضها... فطالماً كانت الحقائق مرتبطة بالبيئة الاجتماعية التي تظهر فيها فان ما يكون صحيحاً لدى البعض قد لا يكون كذلك لدى من يعيشون لدى بيئة اجتماعية اخرى)."1"
بناءاً على هذا الفهم الذي اعتمده المشروع الثقافي الـ (ما بعد حداثي) للحقيقة ، تأسست معظم مفاصله الفكرية على هذه النسبية كونها تشكل المدرك المشرعن "للفوضوية الخلاقة وتوافقية التضاد وجمالية التناقض" ، التي تستبطن رغبة ملحة في القفز على الفضاء الزمني لكل ما هو آني.
هذا الرغبة/الهوس الذي اوغل لدى البعض تحول الى رفضٍ كلي للانماط الثقافية بمختلف تجلياتها الفنية والموضوعية السائدة، وصيرورتها معرفة رمزية مبتذلة تتعالى عن ملامسة الهموم المعمقة لواقع المتلقي ، وبالتالي استحالة الاشياء والافكار الى جدلية مغلقة بين "المنتِج والمنتَج" مما يضطر المثقف – ما بعد حداثي- بين الفينة والاخرى الى اخضاع "ذاته التراثية" لتناص واعٍ ليؤكد لنفسه اولاً وبالذات ، ولغيره ثانياً وبالعرض، كينونته المعرفية ، ولعل المفارقة غير المدركة إن هذا التناص قد شكل اقسى فعل توهيني يمكن ان يمارس ضد العقل المعرفي بماهياته الوجودية، كونه احدث انهياراً فجائياً لكل ما هو قار في بنية مشروعة الفكري، مما يعني ضياع كل ما يمكن ان يؤكد مركزية العقل بوظائفه المسيّسة للكون والحياة، منتجاً بذلك لـ"متواليات معرفية" هيمنت على قراءاته الفكرية التي أبدعها.في ضوء هذه الافتراضات يمكننا القول ان النسبية تقف أمام منزلقات فلسفية تعجز عن تجاوزها باطمئنان من اهمها:المنزلق الأول : وجوب الإيمان بالتناقض الفلسفي والمنطقي فـ( كل تفسيرات الحقيقة...هي صحيحة بذات القدر الذي تكون فية غير صحيحة )"2" وهذا ما لا يسلم به "هؤلاء" تجاه الكثير من المفاهيم التي تشكل البنى التحتية للنسبية.
وتتأكد حقيقة التناقض فيما لو أدركنا ان المجتمع المحلي الواحد يحوي على عدة حقائق متعددة ومختلفة بتعدد أفراده مؤدياً بذلك الى فوضوية هدامة، وبذا تخرج المعرفة من طابعها الموضوعي الخارجي لتتخذ مساراً ذاتياًَ، مما يجعلها مرتبطة ببعدها الوظيفي في النظام المتداول، وهو الذي جعل ما بعد الحداثة تلاقي رواجاً هائلاً بين الاوساط الشعبية المروّجة للاباحية باعتبار ان ما يعطي القيم طبيعتها الأخلاقية لن يكون - في ما بعد الحداثة - التسالم الوجداني العقلائي ، بل التحيز والتشيء الوظيفي للقيم في مجمل المنظومية الرقمية (واي شيء لا يمكن ان يتحول الى رمز قابل للتشخّص والعرض من قبل الحاسوب "ولا يدخل في التكنولوجية الرقمية" سيتوقف عن أن يكون شكلاً من المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة)"3"
المنزلق الثاني: ما يمكن أن نسميه بإشكالية التعريف حيث لا يمكن وفقاً لهذا اللازم تعريف الاشياء والافكار وبالتالي فقدان الركن الأساس الذي تبنى عليه الحضارات فـ(التعريف بالطريقة الحداثية يرى ان الحقيقة هي توافق بين الشيء والفكرة التي نحملها عنه ، ولكن ما بعد الحداثة تنأى عن هذا الاسلوب نتيجة عدم وجود هذا التوافق المثالي فالشيء والفكرة التي نحملها عنه يندمجان لدرجة لا نعرف ما إذا كانت الثقافة هي التي تجعلنا نرى الشيء كما نراه، او انه فعلاً بذاته هكذا، فلا يوجد فاصل واضح بين الشيء وتمثيله.. لأننا لا يمكن أن نفصل الموضوع عن إطاره ، وهذا الإطار هو الذي يرسم تصوراتنا للموضوع، وهو مرتبط بظروف مختلفة وبتاريخ متشابك من القناعات والمصالح والرغبات.. إذن الموضوعية غير موجودة لذلك لا تكترث ما بعد الحداثة بالتعريفات )"4"
المنزلق الثالث: الفقدان الحتمي لظاهرة التعميم والشمولية والكلية التي تستند اليها ايما حضارة مما يسهم في نقل الفكر الذي آمن بالنسبية الى حالة الاستغراق بجزيئيات غير منسجمة ليس بينها أيما رابط موضوعي او فلسفي اوعلمي، وبفقدان تعميمات العلوم التجريبية والفلسفية يصبح الفكر الانساني، فكراً مهشماً، وبالتالي تنتفي القيمة المعرفية لكل ما يُنتج. مما يرسخ البرزخية بين المعارف النظرية الفلسفية من جهة وبين العلوم التجريبية والانسانية من جهة اخرى.
من هنا لابد للعقل الما بعد حداثي من القيام بمسح شمولي لأولوياته وانساقه الفكرية لتشكيل اسّ معرفي أولي قارٍ بعيداً عن هيمنة الفكر النقضي الذي كان وما يزال سمته البارزة ، فالمشكل الذي وقع فيه ناتج في احد جوانبه من طبيعة تصوراته الفلسفية ازاء الكون وقضاياه ، فقد اعتاد في ذلك على تفكيك المفاهيم بصيغة اثنية، توهماً بمانعية الجمع بينها لهذا حاول مفكرو ما بعد الحداثة التخلص من غياب التوازن في المفاهيم الضدية بالغاء المساحات المشتركة بينها والاحتفاء بالتشتت واللاثبات . فبدلاً من الاشتغال على تقويض الفواصل المعرفية الحاكمة على مجمل النشاطات الفكرية ، فقد اتُجه نحو لملمة هذه الثنائيات بثنائية اخرى شمولية تمثلت في (النسبية / الاطلاق)
ضمن هذا الاطار التحليلي يمكن الادعاء بعدم استقرار الحقيقة على نسق تقييمي واحد، وبالتالي عدم خضوعها الى معيار واحد، فالقول بالنسبية يملك قدراً معقولاً من الواقعية فيما لو نظرنا الى الحقيقة في عدد من تجليّاتها -لا مطلقاً - كونها نتاجاً انسانياً، حيث لا يمكن حينئذ احتكارها احتكاراً شمولياً بمعنى تجهيل الآخر واقصائه.
3-عصر الباروك منذ 1600- 1730
4- الروكوكو 1730-1780
5- الكلاسيكية القديمة منذ 1780 – 1820 وهو عصر الاغريق والرومان
6- الرومانسية : 1820- 1850
7- الواقعية: 1850 إلى نهاية القرن الثامن عشر.
8- 1850- حيث بدأ ظهور تيارات جديدة ، فما قبل الحداثة . وبعض المؤرخين يقول أن الحداثة بدأت عام 1860 إلى 1900.
9- 1900 – 1945 الحداثة التي بدأت عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
10- 1945 إلى الآن العصر الذي نعيش فيه وهو عصر ما بعد الحداثة
ما بعد الحداثة : اشكالية المفهوم
محمود فتحى عبدالعال ابودوح
hodaabodoh@yahoo.com
الحوار المتمدن - العدد: 2812 - 2009 / 10 / 27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
فرضت الأحداث الكبرى التى شهدها القرن العشرون تغيرات فكرية لمقولات كادت ان تكون ثابتة ومطلقة لا تقبل الشك فى الفكر الإنسانى – ولعل أبرز هذه التغيرات انهيار الفكر الشمولى ليؤكد بذلك عجز فكر اليقين والمطلق والكلى ، وكذا بديهيات التيار المادى التاريخى فى تفسير الواقع وتحليله – تشكلت فى أثرها رؤى جديدة تعبر عن حركة ثقافية ظهرت مؤشراتها فى تيار فكرى جديد يشير إلى سقوط النظريات الكبرى ويشكك فيما هو يقين ومطلق ويرفض فكرة الحتمية التاريخية والطبيعية ويجادل فى مسائل التقدم الإنسانى.
يضاف إلى ذلك أن الثورة المعرفية فى مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات قد ساعدت فى نقل الفكر من الحداثة إلى ما بعد الحداثة حيث الانتقال من حالة الإشباع المادى إلى حالة الإشباع المعنوى الأمر الذى دفع ببعض الباحثين إلى الزعم بأن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته و ما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهى مرحلة ما بعد الحداثة.( 1)
وتكمن الفكرة الأساسية لتيار ما بعد الحداثة فى الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربى فى الرؤى والمعرفة والتغير طرأ عليها فى السنوات الأخيرة تغير جذرى نجم فى الأغلب عن التقدم الهائل فى وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الجماهيرى وتطور نظم المعلومات فى العالم ككل مما ترتب عليه حدوث تغيرات فى اقتصاديات العالم الغربى التى تعتمد على التصنيع وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد.( 2)
وعلى الرغم من ان ما بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا إلا أنها لم تعطِ حتى الآن تعريفا , وترجع صعوبة وضع تحديد دقيق لكلمة ما بعد الحداثة إلى أنها تتولد عن معانٍ مختلفة تختلف باختلاف الفروع التى تدخل فى نطاقها حيث ان أغلب ما كتب عن ما بعد الحداثة نبع من تواجد اختلاف معرفى عما تدعو إليه ما بعد الحـداثة أو ما تتعـهد به , فمـثلا نجـد أن هذا المصـطلح متطابق إلى حد كبير مع ما بعد البنيوية ونجده متعارضاً معها فى أحيانا أخرى ، كذلك نجد أن المصطلح قد يستخدم فى أحيانا ثالثة بشكل نظرى صارم ليصف المشهد الثقافى المعاصر( 3) , وما هو أسوأ أن مقتنعى ما بعد الحداثة ورموزها الفكريين لم يتفقوا حتى على تعبير ما بعد الحداثة نفسه , فالبعض مثل " ليوتارد " يفضل صيغة اكثر ايجابية وتحديدا لشرط ما بعد الحديث , بينما هناك من يراها منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة " كجيمسون " أو عصرا ثقافيا أخيرا فى الغرب , كما يحاول البعض الآخر أن يتجنب مأزق التعرف . ( 4)
وفى ضوء ذلك يمكن القول بان مفهوم ما بعد الحداثة يعد أحد المفاهيم الحديثة التى دخلت فى نطاق علم الاجتماع , ومن ثم يكون من المنطقى أن يدور جدل ونقاش حول تعريف المفهوم شانه فى ذلك شان مفاهيم العلم , ولكن من غير المنطقى أن لا يتفق رموز و مفكرى ما بعد الحداثة على التسمية وتعبير ما بعد الحداثة نفسه الأمر الذى قد يوجد بعض التضارب و التداخل فى فهم ما بعد الحداثة , إلا أن ذلك قد يكون مرده إلى اختلاف المجالات والتخصصات التى يدخل تحت نطاقها هذا المفهوم وما يترتب على ذلك من اختلاف تخصصات رواد ما بعد الحداثة ورموزه الفكريين , وتأكيدا لذلك فإن "مفهوم ما بعد الحداثة قد ساهم فى صياغته مجموعة من المفكرين فى مجالات شتى فى النقد الأدبى والفن و العمارة والفلسفة والسياسية وعلم الاجتماع."( 5)
وقبل الدخول فى تناول مفهوم ما بعد الحداثة من خلال وجهات نظر مختلفة يتراءى للدراسة القاء الضوء على اللازمة أو المقطع "ما بعد" ، حيث تجدر الإشارة إلى أن لفظ "ما بعد" استخدم فى أول الأمر فى الطبيعة ويعود استخدامه إلى أحد أتباع "أرسطو" و الذى وجد ضمن مؤلفاته مجموعة مقالات له تشتمل على ثلاثة مباحث كبرى وهى مبادئ المعرفة و الامور العامة للوجود والألوهية رأس الوجود وهى مباحث تقع بعد علم الطبيعة فأطلق عليها ما بعد الطبيعة.(6)
كما استخدم هذا المقطع " ما بعد " فى العصر الحديث فى أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية باعتبار أن مصطلح ما بعد الحرب كان على كل الألسنه وفى كل الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية ومن هنا تمت استعارته إلى مجال الثقافة.
وفى ضوء ذلك يمكن القول بأن إضافة مقطع "ما بعد" إلى مفهوم الحداثة قد يفيد الترتيب الزمنى كأن تقول ما بعد الكلاسيكية أو ما بعد الرومانسية أى بداية مرحلة زمنية جديدة , وكذلك تفيد الترتيب المكانى بمعنى وضعية شئ يأتى مكانيا بعد شئ أخر ، ويرى البعض أن اللازمة "ما بعد" لا تتوقف عند العلاقة الزمنية بل تشير إلى ترك الإطار السابق عليها والانفصال عنه , إلا أنها فى حقيقة الأمر لابد أن تدل فى ذات الوقت إلى جانب تلك القطيعة إلى نوع من استمرارية ما , أى استمرارية مع الحداثة إلى جانب الانفصال عنها.( 7) ومن ثم فإن المقطع "ما بعد" فى مصطلح ما بعد الحداثة يشير فى آن واحد إلى الانفصال والاستمرار ومن ثم فإن درجة وصفها تتوقف على استخدام هذا الناقد أو ذاك.( 8)
ومعنى ذلك أن إضافة المقطع ما بعد إلى مصطلح الحداثة قد يشير إلى الاستمرارية مع الحداثة ولكنها ليست استمرارية تواصلية – بمعنى أن ما بعد الحداثة استكمال لمشروع الحداثة – بقدر كونها استمرارية من اجل القطيعة , فالاستمرارية مع الحداثة هنا ضرورة نابعة من أن فهم ما بعد الشئ يستوجب معه منطقيا فهم الشئ نفسه لتحديد موقف معين تجاهه , وفى ظل هذه الاستمرارية مع الحداثة تتولد القطيعة والانفصال عنها ,وبالرغم من ذلك كله فإن المقطع "ما بعد" يعد تأكيداً على تمايز ما بعد الحداثة على الحداثة باعتبارها مرحلة فكرية وثقافية جديدة مناهضة لمرحلة الحداثة , وفى ضوء ما سبق يمكن القول بأن المقطع "ما بعد" قد أفاد مصطلح ما بعد الحداثة فى تحديد هويته واتجاهه تجاه تيار الحداثة.
وبناء على ما تقدم يمكن فهم ما بعد الحداثة من خلال وجهات نظر بعض رواده فى محاولة للوقوف على اهم المبادئ التى يرتكز عليها تيار ما بعد الحداثة وذلك
على النحو التالى:
يعتبر" نيتشية" احد المصادر الرئيسية فى القرن التاسع عشر للأفكار التى تميز الوضع ما بعد الحداثى , فالنزعة النسبية الأخلاقية والمعرفية لعالم ما بعد الحداثة ونزعة الريبة (الشك) فى إمكان تمييز الصدق من الكذب الحقيقة من الزيف نجد نموذجها فى فكر" نيتشه" العدمى جذريا( 9) , ويمكن القول أن فكر "نيتشه" هو فكر معادٍ للحداثة ويركز هجومه على فكرة الذات ويستند "نيتشه" فى عدائه للحداثة على مبدأ العدمية وهو يعنى انه لا قيمة للقيم , أى أن ما كُون فى العصور السالفة من مبادئ راسخة ثابتة ومثلا عليا سامية صارت مع مجئ الحداثة عدماً افقد القيم كل معنى أو حقيقة.( 10)
ومن ثم فإن تيار ما بعد الحداثة فى ضوء ذلك يمكن وصفه بأنه عدمى وذلك لأنه ينكر الاحكام التعميمية على نطاق المجتمع ويدعو إلى هجر مصطلحات الحقيقة باعتبار انه لا يمكن الامساك بتلابيبها فى أى مجال وكذلك ترك مصطلح الموضوعية لأن الذاتية هى التى تحكم مختلف المسارات , كما يفقد التاريخ فى ضوء هذا الاتجاه شرعيته لأنه غالبا ليس إلا مجموعة من الكتابات الدعائية وهذا الاتجاه العدمى يدعو إلى الجزئى على حساب الكلى.( 11)
أما "ليوتار" فقد استخدم كلمة ما بعد الحداثة لدراسة وضع المعرفة فى المجتمعات الاكثر تطورا مؤكدا أن وضع المعرفة يتغير بينما تدخل المجتمعات ما يعرف بعصر ما بعد الصناعة والثقافات ما يعرف بالعصر ما بعد الحداثى ( 12).
وفى ضوء ذلك يؤكد "ليوتار" أن ما بعد الحداثة هى "التشكك إزاء الميتا حكاية هذا التشكيك بلا شك ناتج من التقدم فى العلوم" ( 13) , وهذا يعنى أن ما بعد الحداثة عند "ليوتار" تشير إلى نهاية الحكايات الكبرى أى نهاية المشاريع الاجتماعية الطموحة للحداثة والتأكيد على أن خطابات أو نظريات الحداثة المتجسدة فى الليبرالية والماركسية والمستمدة من أفكار عصر التنوير عن العقل والتحرير الشامل للانسان والتقدم الخطى للتاريخ قد فقدت قيمتها التفسيرية , وأن ادعائها القدرة على المعرفة والتنبؤ ليس سوى وهم من أوهام التفكير الوضعى الذى ساد نهاية القرن التاسع عشر .( 14)
أما " فردريك جيمسون" فانه يؤكد أن ما بعد الحداثة هى رد فعل لما قبلها , حيث يرى أن ما بعد الحداثة تتوحد برغم تعدد مجالاتها وأساليبها تحت شعار الرفض لما هو معترف به ومقنن(15 ) , كما أنه يرى أن كلمة ما بعد الحداثة تنطوى على مفهوم التمرحل والذى تكون مهمته منصبة على ربط بروز سمات شكلية جديدة فى الثقافة ببروز سمات جديدة فى الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادى جديد بما يعرف غالبا حسب التعابير المطلقه بالمجتمع ما بعد الصناعى أو الاستهلاكى أو بالنظام الرأسمالى متعدد القوميات أو مجتمع وسائل الإعلام(16 ) , ويضيف "جيمسون" أن ما بعد الحداثة لا يمكن أن تفهم إلا فى سياق رأسمالية أيامنا "الرأسمالية المتأخرة" لأنها أنقى شكل من أشكال رأس المال يظهر حتى الآن , حيث التوسع الضخم لرأس المال فى مناطق لم تكن تعرف حتى الآن الاقتصاد السلعى ومن ثم يؤكد "جيمسون" أن ثقافة ما بعد الحداثة تتناسب مع سيطرة النزعة الاستهلاكية والطموح الاستهلاكى. ( 17)
و يرى "سكوت لاش" أن ما بعد الحداثة نمطاً فكرياً يمكن النظر إليه من خلال التركيز على ثلاث قضايا مترابطة ومتكاملة وهى :
• التغير الثقافى: حيث أكد إنه إذا كانت الحداثة تنظر إلى التمايز الثقافى أو الاختلاف بين الثقافات فإن ما بعد الحداثة تتناول بالتحليل عملية تعميق لتلك الاختلافات.
• النمط الثقافى: حيث يرى ان من خصائص ما بعد الحداثة خلق نظام جديد من الرموز الثقافية المتصلة بالجانب الفكرى أكثر من اتصالها بالجانب الحسى.
• التدرج الاجتماعى: حيث يرى أن ما بعد الحداثة تؤسس انحطاطاً واضحاً ومفاجئاً للطبقات وكسر لها ولحواجزها( 18) .
ويؤكد "لاش" أن حركة ما بعد الحداثة ترى على انها ثقافة المجتمع الرأسمالى ما بعد الصناعى حيث يتحدث "لاش" عن علاقة التوافق والتجاوب الإنتقائى بين ثقافة ما بعد الحداثة والمجتمع الرأسمالى المعاصر ، حيث يشخص "لاش" الرأسمالية المعاصرة على أنها غير منظمة مقارنة بالرأسمالية المنظمة فى أواخر قرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، ويؤكد "لاش" أن الرأسمالية غير المنظمة تتضمن معظم ملامح حركة ما بعد فورد ، مشيراً إلى أنه فى ظل الرأسمالية تتفتت ثقافات ومجتمعات الطبقة العاملة ولا مركزية المدن والحركات الاجتماعية , فضلا عن أنها تساعد على ظهور بورجوازية ما بعد صناعية جديدة بأسسها المتواجدة فى وسائل الإعلام والتعليم العالى والتمويل والإعلان ، فمثلما كانت الحداثة هى ثقافة الرأسمالية المنظمة وطبقتها البورجوازية الحاكمة , فإن حركة ما بعد الحداثة هى ثقافة الرأسمالية غير المنظمة والطبقات الوسطى ما بعد الصناعية.( 19)
و يؤكد "جان بودريار" أن تيار ما بعد الحداثة هو عبارة عن تيار اجتماعى متكامل مختلف بكل مبادئه وتنظيماته عن الحداثة , مشيراً إلى نهاية فترة الحداثة التى كان يحكمها الانتاج والرأسمالية وظهور ما يسمى بفترة ما بعد الحداثة البعد صناعية والمتمثلة فى أشكال بديلة للتكنولوجيا والثقافة , حيث يوضح بأن هناك أشكالاً جديدة من التقنية والمعلومات كونت مراكزاً للفترة البينية والتحول من نظام منتج إلى نظام مستهلك , فعلى عكس المجتمع الحداثى الصناعى الذى كان الإنتاج فيه يمثل حجر الزاوية يتضح لنا أن "الزيف" يركب ويتحكم فى الشئون الاجتماعية حيث أصبحت الصور الزائفة صور الافعال والأحداث – فى المجتمع ما بعد الصناعى _ تمثل الحقيقة.( 20)
وبناء على ما سبق يمكن القول بان تيار ما بعد الحداثة يستند إلى مجموعة من المبادئ التى ينطلق منها فى معالجته لمختلف القضايا وهى على النحو التالى :
1- العدمية : وتعنى انعدام قيمة القيم فى ظل الحداثة ومنجزاتها ونقد الذات وإنكار الحقيقة والموضوعية والتاريخ , ويمثل هذا المبدأ المنطق الداخلى لتيار ما بعد الحداثة.
2- التعامل مع مختلف القضايا من خلال اللغة , حيث تتركز تحليلات ما بعد الحداثة على الخطاب وهذا يعنى أن تحليل النصوص أو تفكيكها قد أصبح يحظى بالمكانة الأولى فى الجهد النظرى لمفكرى ما بعد الحداثة ومن ثم يمكن القول بأن اتخاذ الخطاب كوحدة للتحليل قد يظهر معه انصراف مفكرى ما بعد الحداثة عن تحليل الواقع أو المضامين الملموسة للحقائق , وذلك نظراً لأن الخطاب قد لا يعطى صورة حقيقية عن الواقع.
3- سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة والتى عادة ما تأخذ شكل الايديولوجيات , على أساس زعمها تقديم تفسير كلي للظواهر , كما أنها انطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها.
4- ترفض حركة ما بعد الحداثة كل عمليات التمثيل سواء أخذت شكل الإنابة بمعنى أن شخصا يمثل الآخرين أو التشابه وذلك حين يزعم المصور أنه يحاكى فى لوحته ما يراه فى الواقع.
انطلاقا مما سبق يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة باعتبارها "حالة حضارية تهدف إلى خلق نمط ثقافى و معرفى يتعارض مع الحداثة، له سمات وخصائص تمجد عدم التحديد واللامعنى والتعددية والاختلاف والنسبية فى النظر إلى الواقع ويعلى من قيمة الثقافة والمعرفة فى توجية المجتمع الانسانى" وهذا يعنى أنها مرحلة من مراحل تطور المجتمعات تلي الحداثة وتهدف إلى "خلق نمط ثقافى و معرفى" بمعنى أنها تهدف - فى ضوء منطق التحولات الذى افرزها- إلى إعادة هيكلة البنية الموجودة داخل مستويات الوجود الانسانى ، كما أن هذا النمط يرفض الأطر النظرية والمنهجية للحداثة ومدلولاتها الواقعية ، ويتسم بسمات مغايرة للنمط الحداثى تجسد رؤيته عن الواقع ، وتخلق له رؤية تتماشى مع تأثير المعطيات الواقعية الجديدة على الحياة الاجتماعية والمتجسدة فى الاعتماد على التكنولوجيا وطغيان وسائل الإعلام و الاتصال على الواقع.