السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني موافاتكم بهذا العمل الموجود أدناه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


تيسير البلاغة في كتب التراث



إعداد: د. بن عيسى باطاهر
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم - جامعة الشارقة


مقدمة:

مرّ علمُ البلاغة بمراحل مختلفة إلى أن تحدّدت معالمه، واستُقرِئَت قواعده، وقد مثّلَ كلَّ مرحلة من هذه المراحل عددٌ من الدارسين المبرّزين الذين أسهموا في تأسيس العلم وتطويره، واجتهدوا في وضع النظريات والتصوّرات والمصطلحات التي تخصّه وتحدّه، وقد كانت أولى هذه المراحل تلك التي عُنيت بتسجيل الملحوظات، ومثّلها عددٌ من الأدباء والعلماء الأعلام منهم أبو عبيدة (208هـ)، والجاحظ (255هـ)، وابن قتيبة (276هـ) وغيرهم، وجاءت المرحلة الثانية التي اهتمت بوضع الدراسات والأبحاث ذات الطابع الأدبي والعلمي المميّز، وقد ظهر في رحابها عددٌ من الدارسين والنقاد البارعين، منهم من عُنيَ بدراسة الإعجاز القرآني مع السعي إلى الكشف عن خصائصه اللغوية من أمثال الرماني (386هـ)، والباقلاني (403هـ)، والخطّابي (388هـ)، ومنهم من عُني بدراسة الأدب بصورة عامة مثل قدامة بن جعفر (337هـ)، وعبد الله بن المعتز (296هـ)، وأبو هلال العسكري (395هـ)، ثمّ جاءت مرحلة الازدهار التي أفادت كثيرًا من الدراسات التي سبقتها، وأضافت إلى علم البلاغة نظرات جليلة، ونظريات جديدة كان لها الفضل في تأسيس هذا العلم وصياغته وتطوّره مضمونًا ومنهجًا وأسلوبًا، ومثّل هذه المرحلة خير تمثيل شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (471 أو 474هـ)، وأمّا المرحلة الرابعة فقد كانت معنيةً بتحديد المصطلحات، وصياغة القواعد النهائية لهذا العلم، ومثّل هذه المرحلة خير تمثيل أبو يعقوب السكاكي (626هـ)، وتلميذه القزويني(739هـ)، ومع أنّ أغلب الدراسات استمرت بعد ذلك في السير على ما قرّره السّكاكيّ والقزويني، إلاّ أنّ هذه المرحلة عرفت بعضًا من العلماء المجدّدين الذين أضافوا إلى الدرس البلاغي من النظرات والأفكار ما لا يمكن إنكاره من أمثال ابن الأثير (637هـ)، وحازم القرطاجنّي (684هـ)، والعلوي (749هـ).
إنّ البحث في تطوّر علم البلاغة قد يوصل الباحث إلى تبني جملة من الآراء والرؤى بشأن تنوّع مناهج البلاغيين في تناول الدرس البلاغي عبر تلك المراحل، وسيلحظ أنّ مرحلة النظم التي مثّلها عبد القاهر الجرجاني هي محور الدراسات البلاغية التي جاءت بعد ذلك على الّتتالي، وهي الأصل الذي نبتَ فيه علم البلاغة إلى أن استوى عوده واستقام، وسيلحظ – أيضًا- أنّ المرحلة الرابعة مرحلة غنيةٌ بدارسي البلاغة من الأعلام الذين كانت لهم إضافات جليلة، ولا سيّما تلك الإضافات التي هدفت إلى تيسير البلاغة لدارسيها في بيئاتها المختلفة، وسَعت إلى إيضاح مشكلاتها، وصياغة مصطلحاتها العلمية بعد الاستفادة من ذلك التطوّر الكبير في مجالات العلوم المختلفة، فضلاً عن التجديد في الشواهد والنصوص والاهتمام بدراستها وتحليلها، ولهذه الإضافات في الدراسات البلاغية المتأخرة أهمّيتها التي لا يمكن إهمالها أو تجاوزها حين النظر في تاريخ تطوّر البلاغة عبر عصورها وبيئاتها المختلفة، مع مراعاة الظروف والأسباب التي رافقت ذلك التطوّر.
وإذا كانت البلاغة العربية في مرحلتها الأخيرة قد وُصفت بالجفاف والجمود، ووُصفت مناهج علمائها بالتكرار والتعقيد، فإنّه لا بدّ للدارس من النّظر بعين الإنصاف إلى التراث البلاغي القديم، والبحث بدايةً في الأسباب التي كانت وراء التعقيد والغموض اللذين لوحظا في بعض مسائل هذا العلم، ولا سيّما في علاقة البلاغة بالفلسفة وعلم الكلام، وما أثاره الدارسون المحدثون بشأن هذه القضية، ثمّ دراسة جهود قدامى البلاغيين في تيسير الدرس البلاغي من خلال الوسائل كالتلخيصات والشروح، ومن خلال المناهج، والموضوعات، والمصطلحات، مع الإشارة إلى جهود الخطيب القزويني (739هـ) الذي يمثّل المدرسة الكلامية، وابن الأثير (638هـ) الذي يمثّل المدرسة الأدبية، ويحيى بن حمزة العلوي (749هـ) الذي يمثّل امتزاج المدرستين.
وهذه الدراسة ضرورية في سياق البحث في قضية تيسير البلاغة في العصر الحديث، هذه القضية التي مازالت الدراسات بشأنها محدودةً إذا ما قُورنت بقضية تيسير النحو العربي، ذلك أنّ الاتجاه إلى دراسة علم الأسلوب بالإفادة من معطيات علم اللغة الحديث linguistics قد طغى على الساحة الأدبية والنقدية، وغدا الاهتمام منصباً على تتبّع ما يجدّ في الدراسات الغربية بشأن الأسلوبية، وهو الأمر الذي أدى إلى الهجوم على البلاغة القديمة، والدعوة إلى البلاغة العصرية، أو علم الأسلوب.
والمنهج المتبع في هذه الدراسة قائم على دراسة الأسباب التي أدت إلى التعقيد في مسائل البلاغة العربية، ومناقشة آراء الدارسين بشأن قضية تأثير الفلسفة في البلاغة، ثمّ دراسة بعض ملامح التيسير في المصادر البلاغية القديمة، مع الإشارة إلى جهود العلماء الذين اهتموا بالتيسير وهم القزويني وابن الأثير، مع التركيز على جهود يحيى بن حمزة العلوي أحد أبرز البلاغيين الذين اهتموا بتيسير البلاغة في القرن الثامن الهجري.
أولاً: التعقيد وأسبابه في علم البلاغة:
أشار بعض البلاغيين قديمًا إلى التعقيد والغموض اللذين اكتنفا علم البلاغة بعد عبد القاهر الجرجاني، فقد ذكر القزويني في مقدّمة كتاب التلخيص أنّ مفتاح العلوم للسكاكي أعظمُ ما صنّف في علم البلاغة، ولكنّه غير مصونٍ عن الحشو والتطويل والتعقيد( )، ورأى ابن الزملكاني (651هـ) أنّ علم البيان من أجلّ العلوم وأفضلها قدرًا، ولكنّه لغموضه ودقّة رموزه استولت عليه يدُ النسيان، وألحقه القصور بخبر كان، وليس فيه من المصنّفات إلاّ القليل ( )، وقال العلوي في الطراز:"إنّ مباحث هذا العلم (البلاغة) في غاية الدقّة، وأسراره في نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان" ( )، فهذه إشارات واضحة لبلاغيين مشهورين إلى قضية الغموض والتعقيد التي تسربت إلى مباحث البلاغة.
وملاحظة هذا التعقيد في مسائل البلاغة، جعلت هؤلاء الدارسين يسجّلونه في مصنّفاتهم، وقد حرّك هذا الأمرُ هِممَهم وجعلها متوجّهة إلى التصنيف والتأليف في هذا العلم بغرض إيضاحه وتيسيره لطالبيه، وتكثير مصنّفاته لدارسيه كما هو الشأن في علوم العربية الأخرى كالنّحو واللغة، وإذا سلّمنا بهذا التعقيد الذي سلّم به بعض قدامى البلاغيين مما دعاهم إلى البحث عن وسائل التيسير والإيضاح بالاختصار والشرح، فإنّه من الواجب البحث بدايةً في أسباب هذا التعقيد الذي لحق بعلم البلاغة وقادها إلى عهودٍ وُصفت بالجمود والتكرار، وندرة الإبداع وقلّة الفائدة ( )، وعند البحث في جملة هذه الأسباب فإنّنا نجدُ أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة هو السبب الأبرز الذي عُنيت به الدراسات الحديثة أشدّ العناية( )، وقد ثارت بشأنه مناقشات لا يزال صداها موجودًا حتى الآن، ومع أهمّية هذا السبب في هذا السياق؛ فإنّ هناك أسباباً خارجية أخرى لا تقلّ أهمّية عنه كان لها أثر بيّن في قضية التعقيد الذي لحق بالبلاغة – كما سنبيّن ذلك في المبحث اللاحق - مثل نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين، وكون الأكثرية الغالبة من علماء البلاغة من غير العرب، وارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن، وتراجع الأدب وعزلة العربية في العصور المتأخرة، ولا سيّما بعد القرن الخامس الهجري، ودراسة هذه الأسباب من شأنها الإسهام في الكشف عن الظروف التي رافقت تطوّر البلاغة منذ النشأة إلى عهود الازدهار والاستقرار، ووصولاً إلى عصور التراجع والتكرار.
1- نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين:
يلحظ الدارس لتطوّر علم البلاغة منذ نشأته إلى استقراره أنّ بيئة المتكلّمين والأصوليين هي البيئة التي نشأت فيها البلاغة وترعرعت، فما من عَلَمٍ من أولئك البلاغيين الجهابذة إلاّ له ارتباط أو مشاركة أو صلة ما بعلم الكلام أوعلم الأصول، والجمهور الغالب منهم – فيما يبدو - كان على صلة واطلاع على الفلسفة والمنطق، سواء أكانت الفلسفة العامة أم الفلسفة الكلامية، ويتّفق ذلك في أدوار حياة البلاغة نشأةً وتطورًا وجمودًا ( )، فالجاحظ المعتزلي (255هـ) كان فضلاً على معرفته بعلم الكلام مُطلعًا على فلسفة اليونان، وعبد القاهر الجرجاني (474هـ) متكلّمٌ يحسن طرق الجدال والمناظرة، والفخر الرازي (606هـ) حجّة عصره في الأصول وعلم الكلام، وأبو يعقوب السكاكي (626هـ) أصولي ومتكلّم واسع الاطلاع على الفلسفة، والقزويني (739هـ) والتفتازاني (792هـ) على دراية عميقة بعلم الكلام، وحازم القرطاجنّي (684هـ) متكلّمٌ شديد الاتصال بفلسفة أرسطو، والعلوي (749هـ) ينافس الفخر الرازي في علم الكلام في الديار اليمنية، فهؤلاء الذين ذكرناهم وغيرهم ممن لم نذكر، هم من كبار المتكلّمين والأصوليين، وهم الذين عُنوا بالبلاغة دراسةً وتقعيدًا، وتهذيبًا وتلخيصًا، وعلى أيديهم تطوّرت البلاغة، إلى أن أصبحت علمًا محدّدَ القواعد والأصول، وهو في العربية بمثابة علم الأصول لمن أراد معرفة أسرار الإعجاز في القرآن، ورغبَ في تذوّق جمال اللغة وسحرها، ورام اكتساب الفصاحة والبيان في كلامه وأدبه.
وقد نقل الجاحظ عن بشر بن المعتمر (210هـ) أنّ كبار المتكلّمين ورؤساء النظارين فوق أكثر الخطباء، وهم أبلغ من كثير من البلغاء ( )، ولذلك قيل: إنّ علم البيان نبت في جُحور المتكلّمين، وقد كان نشاطهم واسعًا، وكان لهم أثرٌ كبيرٌ في الحياة العقلية بعامّة وفي البلاغة بخاصّة ( )، وكان لهذا السبب أثرٌ ما في البلاغة وصياغتها تلك الصياغة التي شابها بعض التعقيد والغموض، انظر على سبيل المثال إلى الروح المنطقية، والتعقيد المعنوي في أسلوب السّكاكي وهو يتحدّث عن البلاغة وفنونها:"وقبل أن نمنح هذه الفنون حقّها من الذكر ننبهك على أصلٍ لتكون على ذكرٍ منه، وهو أنّه ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرّد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات إلفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلّد صاحبها في بعض فتواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق"( ).

2- أكثر علماء البلاغة هم من غير العرب:
لعلّ من الأسباب الخارجية الأخرى التي أسهمت في ذلك التعقيد بطريقة غير مباشرة كون أولئك البلاغيين الأعلام – في الغالب الأعمّ - من غير العرب، وقد تنبه ابن خلدون في مقدّمته إلى هذه الظاهرة، وذكر أنّ أغلب العلماء في التاريخ الإسلامي هم من الأعاجم، وفسّر ذلك تفسيرًا حضاريًا بقوله:"إنهم أهلُ حضارة مقارنة بالعرب، ولأنّهم احتاجوا بعد فسادِ اللسان إلى وضع القوانين النّحوية، وصارت العلوم الشرعية كلّها مَلكاتٍ في الاستنباطات والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى، وهي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية، وقوانين ذلك الاستنباط والقياس، والذّبّ عن العقائد الإيمانية بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد"( ). وأشار ابن خلدون إلى تأثير هذه الظاهرة السلبي في اللسان العربي فقال ملخصًا ذلك كلّه في صورة قاعدة مطّردة:"إذا تقدّمت في اللسان ملكةُ العُجمة صار مقصرًا في اللغة العربية" ( ).
إنّ أولئك البلاغيين الذين ذُكرت أسماؤهم آنفًا وغيرهم كُثُر هم من غير العرب، وهذا وإن كان مَيزةً في جانب العناية بالعلوم ووضع قواعدها كما ذكر ابن خلدون، فإنّه في الجانب الآخر وهو الأسلوب وطريقة الأداء مثّل عثرةً هي في مجملها الابتعاد عن مجالات الفن والأدب، يقول أمين الخولي:"إذا كانت عُجمة مع فلسفة فقد كَمُل البعد عن مجالي الفن وروحه بقدر البعد عن حسّ العربية وتمثّل روحها، وإدراك مجال الجمال فيها"( ).
ووجود العجمة لا يعني بالضرورة الوقوع في اللحن ومخالفة الأساليب العربية، ولكنّه الاتجاه إلى طرائق وعرة في التعبير يعوزها الجمال وحسن الأداء، ومن أمثلة ذلك ما نجده مثلاً عند التفتازاني من عبارات تشوبها العجمة، من مثل قوله:" والحركة عند المتكلّمين حصولُ الجسم في مكان بعد حصوله في مكان آخر، أعني أنّها عبارة عن مجموع الحصولين، وهذا مختصٌ بالحركة الأينية، وعند الحكماء هو الخروج من القوّة إلى الفعل على سبيل التدريج"( ).
إنّ اهتمام قدامى البلاغيين بالبلاغة العلمية القاعدية، وحرصهم على قضية تعليل المسائل، ووضع الحدود الجامعة المانعة، وضبط المصطلحات ضبطًا دقيقًا يجعل منها قوانين مطّردة تتّفقُ عليها العقول، كلّ ذلك دعاهم إلى إمعانٍ في الفكر، وتعمّق في الاستنباط، ودقّة في الاستدلال، وهذا الجهد والعناء في استنفاد طاقة العقل أثّرَ فيما يبدو في أسلوبهم وطريقة أدائهم، فشاب التعقيد أسلوبهم، وغلب الغموض على كتابات بعضهم ممّا احتيج معه إلى وضع الشروح والتلخيصات لتجاوز هذه الصعاب والعقبات، وتذليل تلك المزالق الأسلوبية التي تولّدت بصورة طبيعية عن امتزاج العُجمة بعلم الكلام، وهو الأمر الذي كان – فيما يبدو – أحدَ أسباب التعقيد في البلاغة العربية.
3-ارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن:
إنّ ارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن أمرٌ واضحٌ جليٌ في كثير من كتب البلاغة ومصادرها الأساسية، إذ يكفي الاطلاع على عناوين بعضها لإدراك هذه العلاقة القويّة، فدلائل الإعجاز للجرجاني، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز للرازي، والطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز للعلوي، والتبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن لابن الزملكاني، وغيرها من كتب البلاغة الأساسية التي كانت غايةُ بحثها الوصولَ إلى فهم الإعجاز في القرآن، ولذلك وُجدَ في كثيرٍ منها بابٌ لدراسة الإعجاز، وقد انتقد العلوي أولئك البلاغيين من أمثال السّكاكي وابن الأثير الذين لم يفردوا بابًا في كتبهم لهذا الموضوع، الذي كان يرى فيه الهدف المقصود، والغرض الأساسي من دراسة البلاغة ( ).
وقضية إعجاز القرآن التي كان العرب الأوائل في زمن التنزيل يُدركونها بفطرتهم اللغوية، أصبحت فيما بعدُ في العصور المتأخرة قضية فكرية تحتاج إلى التعليل العلمي بعد فقدان العرب لتلك الفطرة، وغدت حاجة المسلمين إلى إدراك هذا الإعجاز بالوسائل العلمية متاحة في عصرهم، وفي بيئة المتكلّمين كثرت أساليب الجدال بشأن الإعجاز، ولا سيّما بين المعتزلة وغيرهم من أصحاب المذاهب الكلامية، وأصبحت البلاغةُ وسيلة من الوسائل التي يعلّل بها الإعجاز ويُرد بها على الخصوم، وكانت حاضرة في علم الكلام حضورًا بيّنًا واضحًا.
فهذا الارتباط بين علم البلاغة وقضية الإعجاز القرآني قد أفرز تلك الدراسات والمباحث الجليلة في فهم قضية الإعجاز ومحاولة تعليلها تعليلاً لغويًا وبلاغيًا كما هو الشأن عند عبد القاهر والزمخشري وغيرهما، ولكنّه أفرز في الوقت نفسه غموضًا ومسالك صعبة في علم البلاغة بسبب الاهتمام الزائد بمجادلة الخصوم ومحاولة إقناعهم وإفحامهم، ولذلك عِيبَ على عبد القاهر أسلوبه الجاف الذي يميل إلى التعقيد أحيانًا كثيرة في كتابه دلائل الإعجاز، ولعلّ السبب في ذلك كما يرى محمود شاكر أنّه كان مهتمًا بنقض آراء القاضي عبد الجبار صاحب المغني وطائفة من المعتزلة في مسألة اللفظ ( ).
فقضية الإعجاز مثلما أثّرت تأثيرًا واضحًا في توجيه التأليف في البلاغة، فإنّها غَدت كذلك وسيلة من وسائل دراسة علم الكلام ( )، ومن هنا كانت – فيما يبدو - سببًا من أسباب ذلك التعقيد الذي يُلحظ في بعض مسائل البلاغة وقضاياها الأساسية.
4- تراجع الأدب وعزلة العربية:
عرف الأدب العربي تراجعًا وضعفًا لاحظه النقاد ودارسو الأدب في العصور التي تلت القرن الخامس الهجري، وكان من نتائج ذلك اهتمام الدارسين – في الغالب الأعمّ - بقوانين البلاغة وشواهدها القديمة دون أن يجدوا في أدب بيئتهم حافزًا لهم يشحذ هممهم، ويدعوهم إلى دراسته وتحليله والاستشهاد به في مباحثهم البلاغية، وترتّب على ذلك كما هو بادٍ في كتب البلاغة ابتعاد البلاغيين المتأخرين عن البحث في عناصر الجمال الأدبي، وكان جلّ اهتمامهم منصبًا على القواعد والقوانين الصارمة التي هي في نظرهم بمثابة الأدوات الضرورية في تلقي الدرس البلاغي وتعلّم أساليبه، وترتّب على ذلك أيضًا جفافٌ في الأسلوب، ووعورة في طرق الأداء كان لهما حظّ في ذلك الغموض والتعقيد اللذين لمسهما الدارسون قديمًا وحديثًا.
ورأى أمين الخولي أيضًا أنّ اللغة العربية بعد القرون الثلاثة الأولى أصابتها عُزلة تامة أو ناقصة عن الحياة الاجتماعية، وكان من نتائج ذلك "أنّ البلاغة العربية حينما جُعلت درسًا تعليميًا يُمارس ويُزاول بطرق مدرسية منظمة، كانت ظروفه تقضي عليه بإيثار منهج تعليمي وأسلوب بحثٍ مدرسي له صفة واضحة معينة، هي الاتجاه إلى الناحية النظرية التعليمية التي تعتمد على الضبط العقلي، والقواعد المطّردة، والحدود الضابطة وما إلى ذلك، الأمر الذي يحقّق الغرض العام التهذيبي المحض، ولا يتحققُ معه في سهولة كثيرٌ من الغرض الأدبي العلمي الذي يُراد من تعلّم اللغة، ومعرفة أدبها وفنّها القولي، فالحالة الاجتماعية كانت تدفعُ إلى هذا المنهج، أو لا أقلّ من أنها ترجّحه"( ).
فهذا الذي قرّره الخولي من سعي البلاغيين وميلهم إلى الجانب التعليمي المحض في دراستهم للبلاغة بسبب ما ذكره من عزلة العربية عن الواقع السياسي وواقع الحياة الاجتماعية أمرٌ يحتاجُ إلى مراجعة، لأنّ الضعف السياسي، وما تبعه من خلل في الحياة الاجتماعية أثّر في الوضع الحضاري بصورة عامة، وأثّر بلا شكّ في واقع اللغة العربية، ولكنّه لم يصل بها إلى حَدِّ العزلة التامة أو الناقصة، فقد كانت العربية حاضرة في الكتابات العلمية والتاريخية واللغوية، ويكفي أن نذكر هنا علماء وأعلامًا من أمثال الغزالي (505هـ)، ابن الجوزي (597هـ)، وابن الأثير (637هـ)، وابن تيمية (728هـ)، وابن قيم الجوزية (751هـ)، وابن خلدون (808هـ)، وابن الوزير الصنعاني (840هـ)، وغيرهم ممن له صلة بالبلاغة والكتابة الأدبية، أو بالعربية والشريعة بعامة، لنعرف أنّ العربية كانت هي لغة العلم والكتابة، وأما إيثار المنهج التعليمي القواعدي البحت في تدريس البلاغة وتعليمها فكان نتيجة طبيعية لتراجع الأدب، وللأسباب التي ذكرناها في السابق.
5- أثر الفلسفة في البلاغة:
قبل الحديث عن هذه القضية المهمّة في مسألة التعقيد وأسبابه، لا بدّ من الإشارة إلى ثلاثة أمور مهمّة: أولاً: كانت أهداف البلاغيين في دراستهم للبلاغة إمّا دينية، أو تعليمية، أو نقدية، فالهدف الديني مرتبط بدراسة الإعجاز البياني في القرآن ومحاولة بيانه وتعليله، والهدف التعليمي هو تعليم الناشئة فنون القول والكتابة بعد شيوع اللحن وفساد الألسنة، والهدف النقدي يتّصلُ بتمييز الكلام الحسن من الرديء، والموازنة بين القصائد والخطب والرسائل، والبحث عن أسرارها الجمالية ( )، ولاختلاف الأهداف كان لا بدّ من التفريق بين نوعين من أنواع البلاغة القديمة: البلاغة العلمية، والبلاغة التعليمية، فالعلمية هي التي تُعنى بصياغة القواعد وتفسيرها وتعليلها مع مراعاة التنظير والتفسير والوصف العلمي، وهذا النوع من البلاغة لا يُراعى فيه التسهيل بقدر ما يراعى فيه التبصّر والوصول إلى الحقيقة، ونلحظ ذلك عند السّكاكي مثلاً، وأمّا البلاغة التعليمية فهي التي تسعى إلى تبسيط القواعد وتيسيرها وشرحها وتقديمها إلى المتعلّمين في ثوب مهذّب، كما هو الحال في منهج القزويني والعلوي.
ثانيًا: ضرورة التفريق بين تيسير البلاغة عند القدماء وتيسير البلاغة في العصر الحديث، وذلك لاختلاف الأسباب والظروف، يقول عبد الكريم خليفة:"إنّ الأسباب التي دفعت الدارسين إلى تناول موضوع العربية تيسيرًا أو تسهيلاً، تجديدًا أو إحياءً، مختلفة تمامًا عن الأسباب التي دفعت أئمة العربية في عصر ازدهارها الحضاري للتصدي لهذا الموضوع بعينه تيسيرًا أو تجديدًا أو إحياءً" ( ).
ثالثًا: ضرورة التفريق في هذا السياق أيضًا بين مسألتين: فلسفة البلاغة، والبلاغة المُفلسفة، فالبلاغة المفلسفة يُقصد بها البلاغة التي امتزجت بالأفكار والتصوّرات والمصطلحات الفلسفية، فهي بلاغة تختلط بالفلسفة حتى صارت كأنها جزءٌ منها، وأمّا فلسفة البلاغة فالمقصود منها تعليل القواعد البلاغية، والبحث عن أسرارها وأهدافها وغاياتها، وما فيها من قيم جمالية وفكرية، مثلما يقال في علوم أخرى فلسفة التربية، وفلسفة الأديان، وغير ذلك ( ).
ففلسفة البلاغة بمفهومها الحديث تعني دراسة القواعد البلاغية وتعليلها علميًا ومنطقيًا، وهي بمثابة علم الأصول الذي يبحث في قواعد الأدلة الشرعية العامة، وهذه هي الفلسفة التي قد بدأها عبد القاهر حين استفاد من المعطيات العلمية والنقدية التي كانت قبله، وحاول وضع القواعد التي تفسّر وتكشف عن أسرار الجمال في الكلام البليغ عامّة، وفي القرآن الكريم على وجه الخصوص، ثمّ استمرت الدراسات من بعده في هذا الاتجاه نفسه، إلى أن انحرف بعضها عن مجالها الذي حدّده عبد القاهر وهو دراسة النصوص الأدبية.
لقد أشارت دراسات كثيرة إلى أنّ من أسباب التعقيد الذي دخل إلى موضوعات البلاغة تأثر البلاغيين وفي مقدمتهم عبد القاهر الجرجاني بالفلسفة اليونانية ( )، وقد كان من نتيجة ذلك أن تسرّب كثيرٌ من المسائل الفلسفية المعروفة عند فيلسوف اليونان أرسطو إلى البلاغة العربية، وفضلاً على ذلك كلّه كان لدخول علوم أخرى ساحة البلاغة مثل النحو وعلم الأصول والإعجاز- وهي علوم تأثرت أيضًا بالفلسفة وعلم الكلام – إسهامٌ ما في ذلك التعقيد الذي شمل المنهج والموضوعات على حدٍ سواء، ويظهر ذلك من جهة كثرة التعليلات، والإسهاب في التقسيمات، والوعورة في المصطلحات، والجفاف في الأسلوب، كما أنّها أسهمت إلى حدّ ما في إبعاد علم البلاغة عن موطنه الأصلي الأدب، فقد كان القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكلام العرب المنظوم والمنثور هو مادة البلاغة وجوهرها في بداية نشأتها الأولى، حتى وصلت إلى مرحلة النضوج والاستواء في عهد عبد القاهر الجرجاني.
ومع أنّ الدارسين المحدثين قد بحثوا هذه المسألة بحثًا مستفيضًا، وقدّموا أحكامًا جاوز بعضها حدود الإنصاف، إلاّ أنّ تباين الآراء بشأنها يجعل من البحث في تلك الأدلة والآراء أمرًا مهمًا في سياق البحث في قضية تيسير البلاغة في تراثنا القديم، وبدايةً يمكن القول بأنّه قد لا تكون هناك أيّ فائدة ترجى في الحكم على البلاغة القديمة بالجمود والعقم بسبب تأثرها بالفلسفة سوى الإلغاء والإقصاء لجهود كبيرة قدّمها الأعلامُ من قدامى البلاغيين في سبيل خدمة هذا العلم وتطويره.
لقد كان تأثير الفلسفة وعلم الكلام في علم البلاغة أمرًا بيّنًا تسنده أدلة من كتابات العلماء وأقوالهم، ويكفي أن نشير هنا مثلاً إلى ما صنعه حازم القرطاجنّي في كتابه منهاج البلغاء( )، حين سعى إلى تطبيق نظريات أرسطو النقدية والبلاغية في محاولة فهم الشعر العربي وتقويمه جماليًا. ولكنّ هذا الصنيع على ما فيه من خصوصية وجرأة، لا يمكن تعميمه على البلاغيين الآخرين، ومع ذلك كلّه فهو لا يسلب القرطاجنّي أصالة الإبداع الفكري، وقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أنّ أعمال أفلاطون وأرسطو كان لها تأثير كبير في فكر الكثير من دارسي البلاغة، وهو أمر ظاهر في كتابات البلاغيين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية ( ).
إنّ الابتعاد عن مجال البلاغة وجوهرها، والخروج عن إطارها باعتماد موضوعات فلسفية ومنطقية مجرّدة، واستخدام أساليب المناطقة والمتكلّمين في كتابات البلاغيين المتأخرين، هو أمرٌ أسهم في شيءٍ من التعقيد الذي لحق بالبلاغة، ولكنّه أمرٌ كان له ما يسوّغه في البلاغة القديمة، وخاصّة إذا علمنا أنّ هؤلاء البلاغيين كانوا في غالبيتهم من الفقهاء والأصوليين والمتكلّمين، ولم يكونوا من الأدباء أو الشعراء المعروفين في فنون النظم والكتابة الأدبية.
لقد اتخذت آراء الدارسين بشأن هذه القضية اتجاهين مختلفين: الاتجاه الأول منهما يرى أنّ تأثير الفلسفة في البلاغة كان كبيرًا، والاتجاه الثاني يرى أنّ ذلك التأثير كان محدودًا، وربما معدومًا عند عبد القاهر مؤسّس علم البلاغة، وسنعرض الآن لبعضٍ من تلك الآراء والأفكار في سياقٍ قد يساعدنا في استجلاء مسألة التعقيد وأسبابها في البلاغة القديمة.
(1) البلاغة العربية المُفلسفة:
يمثّل الاتجاه الأول طه حسين الذي بدأ بالرأي القائل بتأثير أرسطو والمنطق اليوناني عامّة في البلاغة العربية، ثمّ تبنّى بعض تلامذته هذا الرأي وأشاعوه في دراساتهم مع شيء من البسط والتوسّع في الأدلّة والتحليل والمناقشة، قال طه حسين :"لم يكن عبدُ القاهر الجرجاني عندما وضعَ في القرن الخامس كتابَ "أسرار البلاغة" المعتبر غرّة كتب البيان العربي إلاّ فيلسوفًا يجيدُ شرح أرسطو والتعليق عليه، وإنّا لنجدُ في كتابه المذكور جراثيم الطريقة التقريرية التي أودت بالبيان العربي في القرن السادس …ولا يسعُ من يقرأ دلائلَ الإعجاز إلاّ أن يعترف بما أنفقَ عبد القاهر من جهدٍ صادقٍ خصبٍ في التأليف بين قواعد النحو العربي، وبين ما لأرسطو في الجملة والأسلوب والفصل من الآراء العامة، وقد وُفق عبد القاهر فيما حاول توفيقًا يدعو إلى الإعجاب" ( ).
فهذا رأيٌ جازمٌ في تأثير أرسطو وفلسفته في البلاغة العربية، وهو محتاجٌ إلى أدلة كثيرة تُسنده وتقوّيه، وهو ما لم يفعله طه حسين، فجاء أمين الخولي وتوسّع في استجلاء هذه القضية بالبحث عن الأدلة التي تدعّم هذا الرأي، وتوصّل إلى أنّ قضية تأثير الفلسفة الكلامية في ظهور البلاغة قضية صريحة حدّث عنها المتقدّمون، واستدل بقولين أحدهما للجاحظ والآخر لابن تيمية لإثبات أنّ القدماء قد تحدّثوا عن هذا التأثير وأشارُوا إليه، وتوصّل في خلاصة بحثه إلى أنّ الشعور بتأثير خطابة أرسطو وشعره، أو تأثير الفلسفة عامة شعورٌ قديمٌ، ولم يقف عند القول بالتأثير في البلاغة، بل جاوز ذلك إلى الشعر والكتابة ذاتهما ( ).
وقد لا يتّسع هذا المقام لمناقشة آراء الخولي بشأن حديث القدماء عن تأثير الفلسفة في البلاغة، ولكنّ الأسباب التي ذكرها قد تستخدمُ أيضًا في رفع الملامة عن قدامى البلاغيين الذين كانوا يكتبون لأهل عصرهم، مُنسجمين مع بيئتهم الثقافية، وظروفهم الاجتماعية، ولا يمكن وصفهم بحال من الأحوال بالجمود، وقلّة الفائدة، وندرة الإبداع، ووضع بلاغتهم في دائرة التراث الميّت الذي عفا عليه الزمن، وقد يكون النظر إلى جهود السابقين مشوبًا بما يشعر بالاستخفاف بسبب تأثرهم بالفلسفة كما هو الشأن عند البرقوقي الذي قال متحدثًا عن الذين جاءوا بعد القزويني:"ظهر حوالي ذلك قومٌ درجوا في عشّ الفلسفة، فوضعوا على الكتاب الشروح والحواشي، وسلكوا بهذا العلم مسلكًا تنكره اللغة ويستهجنه البلغاء، فأغمضوا عن أسرار البلاغة، وتشبثوا بالفلسفة، وحمي بينهم وطيس المناظرة، حتى أتوا على الذَّمَاء الباقي من هذا العلم" ( ).
وذكر شوقي ضيف أنّ فلسفة أرسطو قد تسرّبت إلى كتابات عبد القاهر عن طريق أساتذته وثقافة عصره التي عرفت مثل تلك الآراء، ورأى في عبد القاهر عالمًا نحويًا كبيرًا قد أشربت روحُه كلَّ ما كتبه أساتذته من أمثال أبي علي الفارسي، وابن جنّي، فاضطرمت مباحثهم في نفسه، واضطرمت معها مباحث البلاغيين من قبله، ومباحث "الخطابة"، و"نقد الشعر"، فكان كلامُه في بعض المواضع من كتبه شديدَ الصلة بكلام المناطقة، ممّا يدلّ على تثقّفه بالمنطق واصطلاحاته وقوانينه ( ).
وكان من نتائج هذا التأثّر بالمنطق اليوناني في نظر شوقي ضيف أنّ "أبحاث عبد القاهر في كلّ هذه الأبواب –حين تصفّيها من عباراته المنمّقة وحماسته البالغة لنظريته – لا تجدُ فيها إلاّ هذا النحو المعقّد المتفلسف الذي يحمّل اللغة ما لا تطيق، والذي يستحيل إلى ضربٍ من التجارب العقلية، والتأويلات الفلسفية لأساليب العربية" ( ).
فعبد القاهر في نظر هؤلاء الذين سقنا بعضًا من آرائهم لم يكن بعيدًا عن أجواء المنطق اليوناني، وهو الأمر أدى به اتّباع تلك المسالك الوعرة، والأساليب الجافة التي ظهرت في منهجه وأسلوبه، ولاسيما في طول الجملة، والإفراط في التجريد والمجاز المستغلق، ثمّ إنّ حديث هؤلاء عن تأثر البلاغة بالمنطق اليوناني هو حديث عن التصوّرات المثالية لما يجب أن تكون عليه بلاغة القدماء، ولذلك فقد وقع هؤلاء الدارسون في محذور الحكم على الشيء بخصائص غيره، لأنّ مزج الدراسة الفنية بأشياء من الفلسفة والمنطق كان نتاجًا طبيعيًا للأحوال التي عاشتها الأجواء الأدبية والبلاغية في العصر الوسيط ( )، فضلاً على عدم التفاتهم إلى السمات الإيجابية في مذاهب أولئك العلماء وجهودهم في خدمة علم البلاغة وفق معطيات عصرهم.
(2) دفاع عن البلاغة القديمة:
يرى الاتجاه الثاني أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة العربية كان محدودًا وربّما معدومًا عند عبد القاهر، ومثّلَ هذا الاتجاه أكثرُ من دارس منهم أحمد بدوي الذي انتهى في أبحاثه إلى ما يشبه اليقين من أنّ عبد القاهر لم يكن على صلة بكتابي أرسطو "الخطابة" و"فن الشعر"، فالموازنة بين ما كتبه أرسطو وما كتبهُ عبد القاهر في مسألة الاستعارة - مثلاً - تُري أنّ الصلة بين الدراستين إذا تشابهت في القليل فذلك لأنّ طبيعة العمل الفنّي تتشابه في اللغات بطبيعتها، ولذلك لم يستفد عبد القاهر كثيرًا ممّا كتبه أرسطو( )، وقارن أحمد بدوي بين موقفي أرسطو وعبد القاهر في مسألة فهم المعنى، وهي مسألة جوهرية في البلاغة العربية، فقال:"وقرّر أرسطو في بعض فصول الكتاب أنّ لذة الفهم الخالي من العناء هي إحدى اللذات الطبيعية لبني الإنسان، وأنّ الكلام الذي يعطينا مدلولَه في يسرٍ يهبُ لنا أكبر مقدار من اللذة العقلية، وهذه هي المزية الكبرى للمجاز". وعلى النقيض من ذلك كان رأي عبد القاهر الجرجاني الذي قرّر"أنّ المعنى إذا أتاك ممثّلاً فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمّة في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أظهر، واحتجابه أشدّ" ( ).
وأمّا محمد زغلول سلاّم فرأى أنّ تأثير القرآن في تربية الذوق العربي وصقله في محاولة كشف جمال الأساليب العربية أمرٌ واضحٌ لا يخفى، ولا يغيّر منه القول بأنّ بلاغة أرسطو قد تدخّلت في الميدان، فبلاغة أرسطو كما انتقلت إلى الفكر العربي، وبصورتها التي عرفت بين علماء العرب- وهي صورة مشوّهة منتقصة، فضلاً على أنّها لم تتمكّن من العقول، ولم تطمئن إلى طبائع العرب، لاختلاف البيئة والأدب والذوق- لا يمكن أن تكون آثارها ذات خطر كبير، أو جدوى كجدوى الأثر القرآني ( )، وهو الرأي نفسه الذي تبناه إبراهيم سلامة في سياق إثباته أصالة البلاغة العربية وتميّزها عن بلاغة اليونان بمصدرها الأساسي القرآن الكريم فقال:" وبعد فإنّا لو سلّمنا أنّ الطباق يوناني، لأنه مبني على التضاد، والتضاد منطقي، وإذا كانت المقابلة يونانية لأنها مبنية على التشابه، والدلالة بالتشابه وبالمثل دلالة منطقية يعرفها أرسطو، وإذا كان الجناس يونانيًا، لأنه مخاتلة، ولأنّه تلاعب بالألفاظ، وإذا كانت الاستعارة نفسها والتشبيه نفسه يونانيين، لأنّ الأولى خروج الألفاظ تحت تأثير الانفعال، ولأنّ الثاني دلالة طبيعية يعمد إليها الإنسان – حتى البدائي – إذا أراد المناظرة والمماثلة والتدليل على أن الغائب مثل الحاضر، وإنّ كلّ هذه المعاني - زيادة على أنها إنسانية وحيوية في كلّ لغة حية - تتّجه إليها الأذهان الحية إذا وجد في طبيعة اللغة وفي حيويتها ما يساعد على ذلك" ( ).
ومع أنّ إبراهيم سلامة لا يُنكر تأثير الفلسفة اليونانية في البلاغة العربية، إلاّ أنّه يرى في ذلك بعدًا حضاريًا يدلّ على قوّة التفكير العربي، واتساع أفقه، وقبوله للثقافات الأجنبية، ويدلّ من ناحية أخرى على الشخصية وقوتها، هذه الشخصية التي جعلت البلاغيين يتخيرون فيما ينقلون، ويدفعهم هذا التخير أحيانا إلى مخالفة ما ينقلون عنه… وهكذا فعل العرب في بلاغتهم، فقد زادوا على الأبواب القليلة التي عرفوها من بلاغة أرسطو زيادة لم تخطر على بال، ولم ينقلوا إلى بلاغتهم إلا ما اتّفق مع أدبهم ( ).
وانتهى البحث في هذه المسألة عند السيد عبد الفتاح حجاب إلى أنّ صعوبة المنهج في بلاغة عبد القاهر مردّها محاولته إثبات الإعجاز القرآني، فقد كان متحمّسًا في إثباته لنظرية النظم باعتبارها مرجع الإعجاز، ولذلك فقد اصطبغ كلامه في كثير من الأحيان بصبغة جدلية حتمتها طبيعة البحث، وظروف نشأته …ومع ذلك فقد أضفى على كلامه الجاف والصعب من روحه الأدبية، وحسّه الفني، ما خفّف كثيرًا من صرامته وتجهمه ( ). ومن هنا فإنّه إذا كان ذوقُنا اللغوي المعاصر لا يستسيغ بسهولة مثل هذه الفروق فليس معنى ذلك أنها تمحّلات فلسفية فكرية، لا تعتمد على أساس من واقع اللغة( ).
ومن الدارسين الذين ينفون نفيًا قاطعًا تأثّر بلاغة عبد القاهر بفلسفة أرسطو فضل حسن عباس، فقد ردّ على طه حسين والقائلين بتأثير أرسطو في البلاغة العربية، وتوصّل بعد البحث إلى أنّ عبد القاهر كان بعيدًا كلّ البعدِ عن فيلسوف اليونان، وكلّ المحاولات التي بُذلت لتُثبت تتلمذ عبد القاهر لأرسطو تقوم على التكلّف، والتمحّل، والشطط، والإغراب، والإدعاء، والتخمين، والاستنتاج من مقدّمات غير ثابتة ( )، واستدل على ذلك بأنّ ثقافة عبد القاهر لم تكن من ذلك النوع الممزوج بالمنطق، فلم يعرف عنه تنكّره لمن قبله من العلماء، بل على العكس من ذلك، أخذ عن الكثيرين وذكرهم، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى أرسطو( ). وحاول إثبات أنّ عبد القاهر لم يتأثّر بفلسفة أرسطو التي كانت قد انتشرت في عصره، بدليل أنّه ذكر المصادر التي أخذ عنها، ولم يذكر كتابي أرسطو، هذا كلّه قد لا يكون كافيًا في الاستدلال على نفي التأثّر، لأنّه ربما يكون قد أفادها من أساتذته، أو أنّه اطلع عليها مباشرة ولم يذكرها في ذلك المقام الذي عُني فيه بإثبات الإعجاز القرآني وتعليله لغويًا وبيانيًا، ومع ذلك كلّه فإنّ تأثّر عبد القاهر بالمنطق اليوناني إذا كان قد ثبت بالفعل؛ فإنّه لا يغيّر شيئًا في تلك الجهود التي بذلها في صياغة البلاغة العربية من جديد، وتحديده لنظرية النظم بطريقة علمية فيها كلّ عناصر الأصالة والإبداع.
ولعلّ من الآراء التي وازنت بين الاتجاهين السابقين ما ذكره أحمد مطلوب في هذا الشأن حيث قال:"مهما قيل في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام فإنها أثّرت في البلاغة العربية، وفي كتبها أمثلة من ذلك التأثير، ولن نذهب مذهب المنكرين ولا مذهب المتطرّفين، وإنما نقول إن الحياة الجديدة التي عاشها العرب في العصر العباسي كانت زاخرة بثقافات مختلفة ولا بدّ أن تؤثر هذه الثقافات فيما أنتجوه، وقد رأينا أن المتكلّمين أثّروا في البلاغة وكان للفلسفة والمنطق وكتب اليونان أثرٌ لا ينكر، وفي حديثنا عن بشر بن المعتمر، والجاحظ، وقدامة، وصاحب البرهان، وعبد القاهر، ما يغني عن البيان، ولكنّ الأثر لم يكن عظيمًا في هؤلاء لأنّهم عاشوا في عصر ازدهار الأدب، فظلّت البلاغة بعيدة عن هذا التأثير العظيم"( ).
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الآراء القيّمة التي ساقها محمود شاكر في تقويمه للبلاغة العربية القديمة، وكتب التراث ورجاله بعامة؛ فقد ذكر في سياق ردّه على أولئك الذين يستهينون بما كتبه البلاغيون بعد السكاكي بأن هذه الكتب جميعًا منذ السكاكي إلى الدسوقي كانت تقعيدًا لبعض ما كتبه عبد القاهر في كتابيه في البلاغة، فهو أول من أسّس علم البلاغة تأسيسًا بالغ الدقة، ومن طلب البلاغة منهما وحدهما، فقد وقع في بحر تتلاطم أمواجه، راكبه على غرر الغرق، والذي يضمن لراكبه النجاة هم الذين قعّدوا قواعد علم البلاغة، وكتبوا الكتب والحواشي وضمنوها درراً لا يُعرض عنها إلاّ جاهل، ولا يذمّها ويحثّ الناس على الإعراض عنها، إلاّ من استهان بالعلم والعلماء( ).
استنتاج:
إنّ النظر المتأني في آراء الدارسين وأدلتهم، وما أسهموا فيه في توضيح هذه القضية يقودُ إلى حكم وسط بين المنكرين والمغالين، فتأثير الفلسفة وعلم الكلام في علم البلاغة أمر بيّن واضحٌ في الكثير من كتابات البلاغيين ولا سيّما السكاكي، وتؤكده حقيقة كون أولئك البلاغيين في غالبيتهم من المتكلّمين والأصوليين والفقهاء، ولكنّ حجمَ هذا التأثير لم يكن كبيرًا كما يرى أولئك المغالون، وإنّما كان ضمن حدود التأثّر والتأثير التي تعرفها الثقافات والعلوم في كلّ العصور، ثمّ إنّ الخصوصية الدينية والثقافية للعلوم عند العرب والمسلمين تنبني على خُصوصية مصادرها ومرجعيتها العليا المتمثّلة في القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والتراث الحضاري للأمّة، ومن هنا فإنّ الاستفادة من الفلسفة والمنطق اليوناني كانت قائمةً على منهج الانتقاء، والاستفادة العلمية الواعية، وهو المنهج الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة في الجوانب المنهجية والنظرية، وأعطاه نكهة العلم بعد أن علّل العلماء وفي مقدّمتهم عبد القاهر كثيرًا من المسائل العالقة تعليلاً علميًا يقبله المنطق والعقل، ولا ينفر منه الذوق، وإذا كان لكلّ عصرٍ ظروفه النفسية والاجتماعية التي تدفع به إلى اتخاذ إطار ونمط في الأدب والعلم يُؤثره على غيره من الأنماط والأطر، وإذا كانت الأساليب تختلف باختلاف الذهن والثقافة والنوع والغرض والحال والشخص الذي يتحدّث كما يرى أحمد حسن الزيّات( )، فإنّ القرن الخامس الهجري وما بعده كان بحاجة ماسة إلى نظريات علمية تفسّر قضية الإعجاز القرآني، وتبيّن أسرار الجمال في الأدب، وخاصّة بعدما فقد النّاسُ في ذلك العصر الفطرة اللغوية، وهي من أهمّ أدوات الفهم والإدراك التي فهموا بها بلاغة القرآن في عصر التنزيل.


ولكن مع هذا الأثر الفلسفي الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة وجدنا هناك آثارًا أخرى سلبية خرجت بالعلم عن إطاره ومجاله أو كادت، كان منها استخدام البلاغيين لمصطلحات ليست من علم البلاغة في شيء، واتباعهم للتقسيمات المعروفة في علم الكلام، وابتعادهم في عرض مادتهم البلاغية عن الأسلوب الأدبي الجميل، واهتمامهم المتزايد في الإطار العام بالجانب النظري على حساب الجانب التطبيقي وتحليل النصوص، ولعلّ هذه الأسباب كانت محفّزة لابن الأثير – الذي كان شديد النفور من الفلسفة والمنطق – إلى السعي من أجل إعادة البلاغة العربية إلى مهدها الأول، وهو الأدب بنصوصه الجميلة قديمها وحديثها، والعودة بها إلى المنهج الأدبي الذي يميل إلى تحكيم الذوق الموضوعي في دراسة النصوص.
ثانيًا: ملامح تيسير البلاغة في المصادر البلاغية القديمة:
أشار البلاغيون القدامى في مقدّمات مصنّفاتهم إلى منهجهم في دراسة البلاغة، وتحدّثوا عن الإضافات التي أضافوها إلى السابقين بما يميّز منهجهم، ونجد في بعضٍ من تلك المقدّمات من أشار في منهجه إلى قضية التيسير والإيضاح لمسائل علم البلاغة، تلك المسائل التي لوحظت الدقّة في أبحاثها، والوعورةٍ في مسالكها، وهو أمرٌ كان يحتاج معه الدارس الراغب في معرفة أسرار البلاغة واستيعاب دلائلها، إلى سلوك أصعب السبل وأعسرها، فهذا القزويني يتحدّث في تلخيصه عن منهجه الرامي إلى التيسير والتبسيط فيقول:"كان القسم الثالث من مفتاح العلوم الذي صنّفه الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكي أعظم ما صُنف فيه من الكتب المشهورة نفعًا، لكونه أحسنها ترتيبًا، وأتمّها تحريرًا، وأكثرها للأصول جمعًا، ولكنّه غير مصون عن الحشو والتطويل والتعقيد، قابلاً للاختصار، مفتقرًا إلى الإيضاح والتجريد، ألفت مختصرًا يتضمن ما فيه من القواعد، ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد، ولم آل جَهدًا في تحقيقه وتهذيبه، ورتبته ترتيبًا أقرب تناولاً من ترتيبه، ولم أبالغ في اختصار لفظه تقريبًا لتعاطيه، وطلبًا لتسهيل فهمه على طالبيه" ( ).
فقد أشار القزويني صراحة إلى قضية التعقيد في بلاغة السكاكي فضلاً على الحشو والتطويل، وذكر أنّه يهدف إلى التسهيل والإيضاح، وتقريب البلاغة إلى الدارسين في ثوب مهذّب جديد، وكان من العلماء الذين سعوا أيضًا إلى أن يكون منهجهم متميّزًا في هذا الجانب يحيى بن حمزة العلوي حيث قال في كتابه الطراز:"أرجو أن يكون كتابي هذا متميّزًا عن سائر الكتب المصنّفة في هذا العلم بأمرين: أحدهما: اختصاصه بالترتيب العجيب، والتلفيق الأنيق الذي يُطلع الناظر من أول وهلةٍ على مقاصد العلم، ويفيده الاحتواء على أسراره، وثانيهما اشتماله على التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب، لأنّ مباحث هذا العلم في غاية الدّقة، وأسراره في نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان" ( ).
والعلوي متأثّرٌ بابن الأثير كبير التأثّر ( )؛ فقد أخذ عنه وسار على نهجه في الإكثار من تحليل الشواهد والنصوص، وقد كان ابن الأثير أحد الداعين بالفعل لا بالقول إلى تيسير البلاغة والعودة بها إلى الذوق الأدبي، فقد قال في المثل السائر:"واعلم أيّها الناظر في كتابي أنّ مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم" ( )، ولعلّه يقصد بالتعليم ما يُعطى للدارس من نظريات وقواعد علمية ليحفظها ويعيها، وهو ما كان يسميه بالآلات أيضًا حيث قال:"ومَلاكُ هذا كلّه الطبع فإنّه إذا لم يكن ثمّ طبع فإنّه لا تغني عن تلك الآلات شيئًا" ( )، ومن أجل هذا كلّه حمل حملة عنيفة على المنطق والفلسفة ورأى في رجالها من أمثال ابن سينا وغيره رجالاً مغرورين، وأنّ كلامهم لغوٌ لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئًا ( ).
واتّجه بدر الدين بن مالك (686هـ) إلى تيسير البلاغة بعدما لاحظ غموضًا في كتبها الأساسية، ولا سيّما كتاب المفتاح للسكاكي، فقد قال عن كتابه المصباح الذي لخّص فيه المفتاح:"فجاء كتابًا له حظّ من التحقيق، وحسن التهذيب، في مزيد الإتقان، وجودة الترتيب، على أني لم أبلغ بمقدار لفظه حجم أدنى المطولات، ولا بالتضييق على معانيه غموض أكثر المختصرات، وسميته كتاب المصباح" ( ).
ومن العلماء الذين سعوا إلى تيسير بلاغة عبد القاهر وترتيبها ترتيبًا جديدًا الرازي (606هـ) الذي قال:"لما وفقني الله تعالى لمطالعة هذين الكتابين (الدلائل والأسرار) التقطت منهما معاقد فوائدهما، ومقاصد فرائدهما، وراعيت الترتيب مع التهذيب، والتحرير مع التقرير"( )، ولكنّ الرازي مع جهوده البارزة في الترتيب والتهذيب يبدو أنّه لم يوفّق في الجانب الأسلوبي لغلبة النزعة الكلامية على تعابيره، وأمّا ابن الزملكاني (651هـ) فقد اتجه إلى تبسيط دلائل الإعجاز بأسلوب أيسر من أسلوب الرازي، ولكنّه أسرف في المسائل النحوية، وقد قال في كتابه التبيان:"غير أنّه [أي عبد القاهر] واسعُ الخطو، كثيرًا ما يكرّر الضبط، فقيدٌ للتبويب، طريدٌ من الترتيب يُملّ الناضر، ويُعشي الناظر، وقد سهّل الله تعالى جمع مقاصده وقواعده، وضبط جوامحه وطوارده، مع فرائد سمح بها الخاطر، وزوائد نقلت من الكتب والدفاتر" ( ).
ففي هذه الأقوال من الإشارات ما يدلّ على أنّ قدامى البلاغيين قد عُنوا بقضية التيسير في مصنّفاتهم، وقد تعرّضوا لها كلٌّ بمنهجه الذي ارتضاه لنفسه، ولكنّه التيسير الذي يناسبُ عصرهم ويلبّي حاجات الناس في ذلك العصر، وبالأسلوب الذي رأوه مناسبًا لأذواقهم، وهم سواء وُفقوا في ذلك أم لا فإنّهم كانوا يكتبون استجابة لما يتطلّبه محيطهم الاجتماعي والثقافي والمعرفي، ولذلك ليس من الإنصاف عند أولئك الداعين إلى تيسير البلاغة في العصر الحديث تحميل أولئك القدماء مسؤولية ما آلت إليه البلاغة في عصرهم، ذلك العصر الذي أسموه بعصر الجمود، وقد يكون الهدف من نقدهم للبلاغة القديمة ورجالها الرغبةُ في التجديد والإبداع والتحديث، إلاّ أنّه يسيء كثيرًا للتراث العلمي القديم، وينتقص من جهود أولئك الأعلام وكتاباتهم واجتهاداتهم، ومحاولة تفريغها من محتواها، بخيره وشرّه، وغثّه وسمينه، وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ تاريخ علم البلاغة كغيره من العلوم محكوم بالظروف التاريخية التي تحكم كلّ بيئة وعصر، ولا سيّما الظروف المتعلّقة بالأدب وازدهاره، أو تراجعه وانحصاره، ونشير هنا أيضًا إلى أن تاريخ البلاغة في أوربا مرّ بمراحل مختلفة، وقد كان للفلسفة حضورها الواضح في علم البلاغة منذ أرسطو إلى العصر الحديث، ولكنّ التطوّر العلمي والثقافي، وازدهار المناهج النقدية جعل الدارسين يتجهون إلى تجديد البلاغة، والبحث في علم الأساليب من دون أيّة إساءة إلى بلاغتهم القديمة، ونفي تراثهم وجهود علمائهم الممتدة عبر قرون طويلة ( ).
إنّ جمهور البلاغيين ونقاد الأدب ودارسي الإعجاز يرون في عبد القاهر المؤسّس الأول لعلم البلاغة بسماته وخصائصه المميزة، وقد كانت كتاباته المحور الأساس لأغلب الدراسات البلاغية التي جاءت بعده، وحتّى السّكاكي في نظر الدارسين لم يكن سوى ملخّص بارع لكتابي عبد القاهر( ). ولمّا شاب كتابات عبد القاهر شيءٌ من الصعوبة والدقّة والعمق في أسلوبها وطريقة أدائها – وكذلك هو الشأن الغالب عند العلماء المفكّرين المؤسّسين للنظريات العلمية الرائدة – فقد عُنيت الدراسات التي جاءت بعد ذلك إمّا باستيعابها والسعي إلى تطبيق مفرداتها ومسائلها كما فعل الزمخشري في كشّافه، وإمّا بتلخيصها والسعي إلى توضيحها كما فعل الرازي في نهاية الإيجاز، وإمّا بإعادة ترتيبها وتصنيفها، وإضافة ما يمكن إضافته إليها كما فعل السّكاكي في مفتاح العلوم وكما فعل تلامذته الذين ساروا على منهاجه من بعده.
وقد تجلّت وسائل التيسير عند قدامى البلاغيين أكثر ما تجلّت في التلخيصات والشروح، مع إضافة ما يمكن إضافته إلى السابقين، وهو الأمر الذي يعين على استيعاب الدرس البلاغي، وسنتحدّث بإيجاز عن هاتين الوسيلتين لكونهما من أكثر الوسائل استعمالاً وشيوعًا بين القدماء.
(1) التلخيصات:
التلخيص عملية قد تتجلّى في صورتين: تقليدية وإبداعية، فأمّا التقليدية فهي التي تُعنى بالنقل الأمين المركّز لمضمون النّص، أو الاستخراج المباشر لأفكار النّص الرئيسة، وأمّا الإبداعية فهي التي تُواجه النصّ وتقوّم اعوجاجه وتُضيف إليه الإضافات اللازمة( )، وقد ظهرت التلخيصات وانتشرت بصورتيها في كثير من الدراسات البلاغية بعد عبد القاهر، وإن كان قد اشتهر منها على وجه الخصوص تلخيصُ القزويني لمفتاح العلوم للسكّاكيّ، وانتشار التلخيصات بعد السّكاكيّ وعبد القاهر يدلّ على اهتمام قدامى البلاغيين بعملية التلخيص باعتبارها منهجًا ووسيلة إلى الإيضاح، وطريقة ضرورية لتبسيط مسائل البلاغة وعلومها الدقيقة.
وقد يُنظر إلى التلخيص على أنّه عمل مكرّر يقود إلى ركود العلم وجموده، ويترتّب عليه فتور همم الدارسين في البحث عن الجديد، وهو الأمر الذي انتقده ابن خلدون بشدّة وعدّه منهجًا مخلاً بالتعليم في العصور المتأخرة ( )، ولكن قد ينظرُ إلى التلخيص على أنه نوعٌ من تيسير هذا العلم لتقديمه إلى الدارسين في كلّ عصر، وقد يلام أولئك الملُخِّصون على أسلوبهم الجاف لغلبة العجمة وتأثير علم الكلام عليهم، ولكنّ يبدو أنّ الذوق الأدبي في عصرهم كان ميالاً إلى هذا النوع من الأسلوب، ولذلك ينبغي ألاّ نحاسب القدماء بمقاييسنا العصرية، فروحنا الأدبية قد طرأ عليها تغيير كبير في الرؤى والأساليب والمضامين الفكرية.
ويستنتج الباحث من هذا التحوّل إلى المختصرات والتلخيصات رغبة العلماء في تيسير البلاغة على الناشئة حينما أحسّوا عزوفًا من الدارسين عن قراءة المصادر الأساسية، ويبدو أنّ هؤلاء البلاغيين فكّروا في أساليب التيسير والإيضاح، وتوصّلوا إلى أنّ تأليف المختصرات التي اختصرت أبواب البلاغة هو الأسلوب الأمثل في التيسير والتبسيط مع إضافة ما يمكن إضافته عليها من ملاحظات وتصويبات واقتراحات وشواهد جديدة، ومن هنا لم يكن التيسير اختصارًا وتهذيبًا للمطوّلات فحسب، وإنمّا هو عرضٌ جديد للموضوعات يمكّن الناشئة من استيعاب البلاغة، مع إصلاح شامل للدرس البلاغي، والسعي إلى تخليصه ممّا علق به من شوائب أدت إلى ذلك التعقيد والغموض.
(2) الشروح:
انتشرت الشروح عند البلاغيين المتأخرين الذين عُنوا بكتاب التلخيص للقزويني، فقد انكبوا على شرحه بمناهج مختلفة، وانتقد كثيرٌ من الدارسين هذه الشروح باعتبارها سببًا في جمود البلاغة وتراجعها، فقد تحدّث محمد رشيد رضا عن ذلك فذكر أنّ المتكلّفين من المتأخّرين هم الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسّروا اصطلاحاته كما يفسّرون المفردات اللغوية، ثمّ تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمّيات والألغاز، ورأى أنّ من أثر فساد ذوق اللغة اختيار هذه الكتب (الشروح) حتى صارت "حواشي السّعد" (أي التفتازاني) تطبع وتنسخ، وكادت كتب عبد القاهر تمحى وتُنسى( ).
وهذا الرأي المتداول على ما فيه من رؤية نقدية تقويمية لمناهج الشرّاح، فإنّ فيه من التعميم الذي لا ينسحبُ على كلّ الشروح، لأنّ هذه الشروح على ما فيها من قيود وعيوب؛ كانت وسيلة مرتبطة بظروف تلك العصور التي كتبت فيها، وإذا نظرنا إلى بعضها بعين الإنصاف فإنّنا نجد فيها من الفوائد والإضافات الجليلة، وفضلاً على ذلك كلّه كانت هذه الشروح من وسائل التيسير في تلك العصور التي لم تَعد قادرةً على فهم البلاغة من مصادرها الأساسية، ولا سيّما في كتابي عبد القاهر "الدلائل" و"الأسرار"، وليس من الإنصاف كذلك إسقاط النظريات العصرية على ما كان موجودًا في تلك العهود السابقة، قال محمود شاكر عن التفتازاني –وهو من أشهر شرّاح التلخيص-:"إنّ الرجل كان يكتب لأهل زمانه، وما ألفوا من العبارة من علمهم، وإنّ فيه من النظر الدقيق في البلاغة قدرًا، لا يستهين به أحدٌ في نفسه قدرٌ من الإنصاف" ( ).
وأمّا مظاهر التيسير فقد تجلّت في عناصر مختلفة يتعلّق بعضها بالمنهج، وبعضها بالموضوعات، وبعضها بالمصطلحات، وبعضها الآخر بالشواهد والنصوص، وسنتحدّث بإيجاز عن هذه العناصر لاستجلاء جوانب منها قد تساعد في معرفة تطوّر التفكير البلاغي في كتب التراث.
(أ) التيسير في المنهج:
كان المنهج الذي سار عليه عبد القاهر في درسه البلاغي متميّزًا في دفاعه القويّ عن نظريته في النظم، وفي تحليلاته الدقيقة للنصوص، وفي استدلالاته الموفّقة على المسائل، وغير ذلك من المحاسن التي أثارت إعجاب السابقين واللاحقين على حدٍ سواء، ولكنّ منهجه هذا على ما فيه من أصالة وإبداع شابه شيءٌ من الغموض والوعورة في عرض تلك المسائل، ولعلّ من أسباب ذلك افتقاده إلى التبويب والتنظيم والترتيب، وهي العناصر التي اتجه الدارسون إلى استكمالها بعد ذلك، وتقديمها إلى المتعلّمين في ثوبٍ جديد أكثر سهولةً ويُسرًا، وكانت تجربة الرازي في نهاية الإيجاز رائدة في هذا الاتجاه، فقد أعاد ترتيب مسائل البلاغة وبوّبها تبويبًا جديدًا، ولولا أنّ نزعته الكلامية قد أثّرت على أسلوبه وطريقته في العرض لكان لكتابه شأنٌ آخر عند دارسي البلاغة، ثمّ اتجه السكّاكي بعد ذلك إلى صياغة مصطلحات علم البلاغة، وترتيب مفرداتها في أبواب ثابتة بعد أن وزعها بين علمي المعاني والبيان، وذلك بعد أن لاحظ تلك النقائص المنهجية في كتب عبد القاهر، وقد وُفق السّكاكي في منهجه النظري هذا، غير أنه وقع في ما وقع فيه الرازي من صعوبات أسلوبية سببها نزوعه إلى طرائق علم الكلام في عرض القضايا وتحديد المصطلحات.
واستمرت جهود التيسير بعد السكّاكي عند طائفة من البلاغيين من أمثال القزويني، وابن الزملكاني، والعلوي، وابن الأثير، وابن قيم الجوزية، وغيرهم، وقد كان لكلّ دارسٍ منهجه الخاص في دراسة البلاغة قد لا يختلف كثيرًا من حيث المضمون عمّا قرّره عبد القاهر والسّكاكي، ولكنّه من حيث ترتيب المادة العلمية وطريقة تناولها مباينٌ لمناهج الآخرين، ولعلّه من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ من أبرز الذين حاولوا التيسير في المنهج ابن الأثير ثمّ يحيى بن حمزة العلوي، فأمّا ابن الأثير فأراد دراسة البلاغة بمنهج الأدباء لا المتكلّمين، وأما العلوي فحاول الجمع بين المدرستين الكلامية والأدبية، مع السعي إلى إبداع منهج جديد في التبويب والترتيب يكون أكثر تبسيطًا ويسرًا للدارسين.
(ب) التيسير في الموضوعات:
وجد البلاغيون المتأخرون صعوبةً في بعض المسائل البلاغية التي عرض لها عبد القاهر والسكّاكي، ومكمن هذه الصعوبة دقّةُ تلك المسائل، وجفاف أسلوبها، وكثرة تقسيماتها، وتنوّع مصطلحاتها، وانعدام الدقّة في صياغتها، فضلاً عن اللغة الفضفاضة وكثرة المتعاطفات، وقد أشاروا إلى شيءٍ من هذا في مصنّفاتهم، وحاولوا التيسير في تلك المباحث، سواء بإعادة ترتيبها وفق أبواب محدّدة لا تجهدُ القارئ في بحثه كما فعل القزويني في كتابه "الإيضاح"، وكما فعل بدر الدين بن مالك في كتابه المصباح، وابن قيم الجوزية في كتابه "الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن"، وسواء بتبسيط مادتها وشرح مسائلها العويصة كما فعل ابن الزملكاني في كتابه "التبيان في علم البيان المطّلع على إعجاز القرآن" وغيره، وسواء بالتجديد في الأمثلة والنصوص لإيضاح ما كان محتاجًا إلى توضيح من تلك الموضوعات والمصطلحات الدقيقة كما فعل ابن الأثير والعلوي.
(جـ) التيسير في المصطلحات:
تطوّرت مصطلحات البلاغة على مدى الأجيال حتى استقرّت في كتاب مفتاح العلوم للسكّاكي، ثمّ في كتاب التلخيص للقزويني بعد أن أخذت دلالتها العلمية ومعناها الدقيق ( )، وقد اختلف البلاغيون كثيرًا بشأن تحديدها وبيان ماهيتها، الأمر الذي ترتّب عنه ذلك التوسّع والإكثار منها في العصور المتأخرة، ولرغبة العلماء في تحديد تلك المصطلحات تحديدًا علميًا دقيقًا بالإفادة من علم الكلام، فقد شاب بعضها غموض وتعقيد لاحظه العلماء في مصطلحات السّكاكي على وجه الخصوص، فكان الاهتمام بعد ذلك بإعادة النظر في تلك المصطلحات من أجل صياغتها من جديد صياغةً تحقّق للدارس فهمًا ميسورًا، وقد بذل القزويني جهودًا جليلة في هذا الشأن، ثمّ تبعه العلوي الذي أفاد كثيرًا من آراء ابن الأثير التي انصبت كلّها في مراجعة المصطلحات البلاغية وصياغتها بأسلوب أدبي تعليمي.
ولمعرفة تطوّر المصطلح البلاغي والاطلاع على جهود العلماء في تحديده وتيسيره اخترنا في هذا البحث مصطلح "البلاغة"، وأوردنا جملة من التعريفات لأشهر البلاغيين، وهي تمثّل البدايات الأولى للمصطلح، إلى أن تطوّر ونضج واستقر في كتب البلاغة كما هو مبيّن في الجدول الآتي:
مصطلح البلاغة أهل الاصطلاح
لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظَه، ولفظُه معناه فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك. الجاحظ (255)
توصيل المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ الرماني (386)
البلاغة كل ما تبلغُ به قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن. العسكري(395)
خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض. عبدالقاهر الجرجاني (474)
بلوغ الرجل بعبارته كنهَ ما في قلبه مع الاحتراز المخلّ والإطالة المملّة. الرازي (606)
هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقّها وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها. السكاكي (626)
وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته. القزويني (739)
البيان عبارة عن الوصول إلى المعاني البديعة بالألفاظ الحسنة. العلوي (749)
يلاحظ من خلال الجدول السابق أنّ تعريف البلاغة قبل عبد القاهر كان قائمًا على إبراز الغاية من البلاغة، وهي في توصيل الكلام إلى قلب المخاطب والتأثير فيه، وهو ما يسمى بالإبلاغية في العصر الحديث، وأمّا مفهوم البلاغة بعد عبد القاهر فقد اصطبغ بصبغة علمية ركزّت على خصائص هذا الكلام الذي يقنع ويؤثّر في الآخرين، وأصبح مفهوم البلاغة معنيًا بخواص التركيب، والمقام الذي يُؤدى فيه وهو ما يُعرف بمقتضى الحال، ولعلّ هذه النظرة العلمية التي بدأها عبد القاهر هي التي جعلت من البلاغة علمًا له قواعده وأصوله الواضحة، فالانتقال من البلاغة الذوقية إلى البلاغة النظرية، ومن الحديث عن الأهداف إلى الحديث عن الخصائص واضح أشدّ الوضوح في تطوّر مصطلح البلاغة بعد عبد القاهر، كما أنّ الاتجاه إلى التيسير كان منصبًا على الإيجاز في تعريف هذه المصطلحات واختصارها قدر الإمكان، مع مراعاة الدقّة في اختيار الألفاظ، فقد حرصوا على أن يكون المصطلح البلاغي جامعًا مانعًا، وأن يكون ضمن دائرة علم البلاغة لا يخرج عنه.
(د) التيسير في الشواهد والنصوص:
يمثّل الشاهد القرآني أحد أبرز الشواهد البلاغية وأكثرها حضورًا في كتب البلاغة الأصلية، ولم يكتف البلاغيون بالشاهد القرآني الذي عدوه في أعلى مستويات البلاغة، وإنما اختاروا من نصوص الأدب شعره ونثره ما يكون منسجمًا مع نظرياتهم ومسائلهم البلاغية المتعلّقة بالألفاظ والمعاني، والنظم والتراكيب، وقد لوحظ أنّ مثل هذه النصوص الأدبية التي نجدها في بلاغة عبد القاهر ومن سبقه من البلاغيين والنقاد قد قلّت وانحصرت في بلاغة المتأخرين بعد السكّاكي، وسبب ذلك غلبة المادة النظرية على المادة الأدبية، ومع ذلك كلّه فقد نبه بعض البلاغيين على أهمّية العناية بالشواهد والنصوص الأدبية في تيسير الدرس البلاغي، فكان السعي إلى الإكثار منها وتحليلها، وتنويعها وتجديدها، واشتهر منهم في هذا الاتجاه ابن الأثير الذي ذاع صيته بصنيعه في كتابه المثل السائر، ثمّ تبعه العلوي الذي كان له منهج خاص في انتقاء النصوص، والعناية بها شرحًا وتحليلاً وتذوقًا.
وأشار أحمد مطلوب إلى أنّ البلاغيين المتأخرين أدخلوا نصوصًا جديدة في كتبهم، ولذلك فقد كان نمو البلاغة العربية في القديم ملمحًا من ملامح حيويتها وقدرتها على استيعاب الجديد، فضلاً على أنها لم تتوقف عند عصر الاستشهاد في الأمثلة التي ذكرتها، وإنما تجاوزته وواكبت الأدب، وفي البديعيات نصوصٌ جديدة لم تذكرها كتب البلاغة الأولى، وهي نصوص تمثل العصر الذي أُلفت فيه، وقد استخرج البديعيون منها فنونًا جديدة وهي على الرغم مما قيل فيها صورة لأدب تلك العهود ( ).
ثالثًا: جهود ابن الأثير والقزويني والعلوي في تيسير البلاغة:
بذل علماء البلاغة الأقدمون جهودًا كبيرةً في صياغة القواعد والنظريات التي تشكلّ بها علم البلاغة وتطوّر على مدى الأجيال، إلى أن أصبح من علوم العربية الأساسية التي لا يستغني عنها الدارس الراغب في اكتساب ملكة البيان والفصاحة، وموهبة فهم النصوص وإدراك أسرارها الجميلة، وبسبب دقّة مسائله، ووعورة مذاهبه فقد عُني العلماء بتيسيره للدارسين، وقد اشتهر منهم القزويني الذي يمثّل المدرسة الكلامية، وابن الأثير الذي يمثّل المدرسة الأدبية، والعلوي الذي جمع بين المدرستين، وسنتحدّث هنا بإيجاز عن أبرز الإضافات التي أضافها هؤلاء في هذا الاتجاه، مع التركيز على جهود الإمام العلوي الذي مازال منهجه - في رأينا - بحاجة إلى دراسة وبيان.
كان ابن الأثير ثائرًا على الفلسفة وعلم الكلام، وأراد بكتابه الشهير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" تقويم المنهج البلاغي بالعودة إلى دراسة الأدب بنصوصه الجميلة، واعتماد الذوق حاكمًا على معرفة الجمال بدل اللجوء إلى القواعد والأحكام النظرية.
امتاز كتاب المثل السائر بخصائص ومميّزات كثيرة جعلت منه مصدرًا أساسيًا للبلاغة والنقد في القديم، وقد اقتربت مسائله إلى حدٍ ما من البلاغة والنقد الحديثين، فقد كانت نظرة ابن الأثير إلى المباحث والموضوعات البلاغية، وأسلوبه في تناولها قائمين على استخدام الذوق والتجربة الشخصية دون التسليم المطلق بالأحكام النظرية المجرّدة ( )، فهو يتعامل مع النصوص تعامل الناقد والمحلّل لها، ويستثمر ذلك كلّه في تذوّق جمالها وتدريب الدارسين على معرفة المهارات البلاغية واكتسابها عن طريق معايشة الأدب لا القواعد الجافة.
وقد عُرف عن ابن الأثير افتخاره وإعجابه بنفسه، وذلك راجعٌ فيما يبدو لحرصه الشديد على الاجتهاد والإبداع في مجال البلاغة وفن الكتابة، وقد ظهر في عصر عُرف بالتبعية والتكرار لنظريات السابقين، ثمّ لسعيه الحثيث إلى التيسير والتبسيط لتلك المسائل البلاغية التي غلبت عليها مناهج المتكلّمين، قال في مقدّمة كتابه عن تلك الإضافات التي أضافها:"وقد أوردتها هاهنا وشفعتها بضروبٍ أخر مدوّنة في الكتب المتقدّمة، بعد أن حذفت منها ما حذفته، وأضفت إليها ما أضفته، وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة"( ).
لقد عدّ كتاب المثل من أمّهات كتب البلاغة لأنّه درس فنون البلاغة دراستين: إحداهما: دراسة قاعدية فيها تحديد للمصطلحات مع تصحيح لأخطاء السابقين، وثانيهما: دراسة نقدية كشف فيها عن العيوب التي يقع فيها مستعملو تلك المسائل في أدبهم وكتاباتهم( ).
إنّ نفور ابن الأثير من الأسلوب القاعدي الشبيه بمناهج الفلاسفة والمتكلّمين قد جعل لدرسه البلاغي مَيزة خاصّة، وذلك بالعودة إلى النصّ الأدبي وتحكيم الذوق في فهمه، فالذوق هو في رأيه وحده الكفيل بتحقيق النفع، لأنّ الدُربة والإدمان عليه أجدى للدارس نفعًا، وأهدى له بصرًا وسمعًا ( )، وبهذا المنهج كان ابن الأثير أحد المجدّدين في درسه للبلاغة، وأحد الذين أسهموا في تهذيبه وتيسيره وتقريبه للدارسين في القرن السابع الهجري.
وأمّا القزويني (738هـ) فقد عُني بقراءة المصنفات البارزة في علم البلاغة مثل دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر، ومفتاح العلوم للسكّاكي، وقد لاحظ أنّها محتاجة إلى الشرح والإيضاح في بعض جوانبها، وإلى الاختصار والترتيب في بعض جوانبها الأخرى، فاتجه إلى "مفتاح العلوم" للسكّاكي لما رأى فيه من شمولية وترتيب، فقام بتلخيص الجزء الثالث منه الخاص بعلم البلاغة وسمّاه "تلخيص المفتاح"، وهو العمل الذي ذاع صيته بين الدارسين فيما بعد.
وألّف القزويني كتابهُ الإيضاح في علوم البلاغة ليكون كالشرح للتلخيص، فشرح ما أشكل، ووضّح ما كان محتاجًا إلى مزيد بيان، ورتّب فصوله ترتيبًا متقنًا، واستشهد لمسائله بالشواهد الشارحة من غير إطالة في الشرح والتفسير، وقد اعتمد فيه مصادر أخرى ذكرها في مقدّمة الإيضاح مثل الأسرار والدلائل وغيرهما ( )، وهو ما جعل منه عملاً جليلاً في علم البلاغة، من حيث الترتيب والتقسيم وتنظيم المباحث، ومن حيث الاستيعاب والاستقصاء والتحليل، ومن حيث الجمع والاعتماد على أمّهات المصادر والمظان، ومن حيث كثرة التطبيقات وطريقة العرض الأدبية ( ).
ويمتاز الإيضاح بعدّة ميزات ظاهرة: فهو أوفى كتاب في بحوث البلاغة، وهو أوضح الكتب المؤلفة فيها نظامًا وأسلوبًا، وهو كثير البحث والتعمّق والاستنباط لأسرار البلاغة العربية، فوق أنه كتاب تطبيقي جميل في البلاغة العربية، وينتقد فيه كثيرًا من آراء السّكاكي، وهو بعد ذلك غزير المادة، كبير الفائدة في الأدب والنقد والبلاغة والبيان ( ).
ومنهج القزويني في تيسير درسه البلاغي قائم على تهذيب المسائل وتحقيقها، وترتيب المادة البلاغية وتنظيمها، وإيراد الشواهد وشرحها، وتعريف المصطلحات بالتعاريف الواضحة الموجزة، والتعبير عنها بالأسلوب الواضح من غير تكلّف ولا وعورة، وهو ما يجعله في مقدّمة المناهج التي اتجهت إلى تيسير البلاغة وتبسيطها عند القدماء، ولعلّ هذا هو الذي جعل الدارسين من بعده يهتمون به أشدّ الاهتمام، ويعدونه مرجعهم الأساس في إحراز فنون البلاغة.
وأمّا العلوي فقد كان من البلاغيين البارزين في عصره، وعند الاستقراء والقراءة في تاريخ الدراسات البلاغية، نلحظ أنّه أحدَ أبرز الذين دعوا وسعوا إلى تيسير علوم البلاغة في القديم، وهو الأمر الذي ميّز منهجه في كتابه الطراز عمّا سبقه من كتب البلاغة، قال في بيان منهجه:"يمتاز هذا الكتاب عن سائر الكتب المصنّفة في علم البلاغة بالترتيب الذي يُطلع الناظر من أول وهلة على مقاصده من التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب، لأنّ مباحث هذا العلم في غاية الدّقة، وأسراره في نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان، وأولاها بالفحص والإتقان" ( ).
لقد أشار العلوي إلى تلك الصعوبة التي بدأت ملامحها تطغى على الدرس البلاغي في عصره، وأصبحت الحاجة داعية إلى التبسيط والتيسير اللذين يأخذان بأيدي الدارسين إلى معرفة مقاصد هذا العلم وفنونه بأيسر الطرائق، وأفضل السبل، وقد عرض لمنزلة علم البلاغة بين علوم العربية، وصعوبة البحث فيه لما فيه من الغموض ودقّة الرموز، ورأى أنّ كثيرًا من علماء البلاغة، وجهابذة البيان قد خاضوا في تقرير قواعد هذا العلم، وقلّبوها على وجوهها كافة، ولكنّهم أتوا فيها بالغثّ والسمين، والنازل والثمين، وهم في ذلك فريقان:" فريق بسط كلامه فيه نهاية البسط، وخلط فيه ما ليس منه، فكانت آفته الإملال، ومنهم من أوجز فيه غاية الإيجاز، وحذف منه بعض مقاصده، فكانت آفاته الإخلال، ولكنّه أشار إلى أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني هو مؤسّس قواعد هذا العلم، بما أظهر من براهينه، ورتّب من أفانينه، وبما وضّح من غرائبه، ومشكلاته( )، وكأنّ العلوي بهذا الإطراء يعلن أنّ عهد البلاغة الزاهر هو في كتابات الجرجاني، التي ارتقت بالذوق الأدبي إلى إدراك البيان، بأيسر الطرائق وأوضحها، وأفضل الوسائل وأقربها إلى العقول والأفهام.
وقد وُفق العلوي إلى حدٍّ كبير في مسعاه ومنهجه، على الرغم من سيطرة النزعة الكلامية، وأسلوب الخطاب السائدين في عصره على جوانب من كتاباته، فقواعد البلاغة معروضة بصورة هي أفضل ترتيبًا وأسلوبًا ومنهجًا ممّا نجده عند السّكاكي، والقزويني، ومن سار على نهجهما من الشرّاح والملخّصين، ومع أنّه لم يطّلع على كتابي عبد القاهر الجرجاني "الدلائل" و"الأسرار"، إلاّ أنّه كان معجبًا بهما، وقد أفاد ممّا نُقل منهما في الكتب التي اطّلع عليها، وخاصّة كتاب المثل السائر لابن الأثير.
ويستند تيسير البلاغة عند العلوي على ثلاثة عناصر هي: تنظيم المادة البلاغية، وتحديد المصطلحات البلاغية بأسلوب جديد، وإيراد الشواهد والأمثلة من النصوص المتنوّعة وتحليلها، وسنعرض لهذه العناصر بشيءٍ من الإيضاح لبيان أهمّيتها في جهود تيسير الدرس البلاغي في كتب التراث.
(أ) تنظيم المادة البلاغية:
أراد العلوي أن يكون درسُه البلاغي متميّزًا بالتيسير والإيضاح، ولا يتيسّر ذلك إلاّ باتباع منهجٍ في التأليف قائمٍ على ترتيب وتبويب مناسبين لهذه الغاية، لكي يكون فيه عونٌ للطالب على سهولة الوصول إلى مطلوبه، وقد كان العلوي على علمٍ بقصور كثير من المؤلفات البلاغية في هذا الشأن، وخلوّها من الترتيب الجيّد للمسائل، والتبويب المتوازن للموضوعات، وكان يعلم أنّ من عناصر التجديد التي يمكن أن يضيفها، ويجعلها مَيزة في كتبه حسن توزيع المادة البيانية وترتيبها، وهي مَيزة مرتبطة بهدفه من التيسير، وقد أشار إلى ذلك في مقدّمة كتابه الطراز ( ).
وأفاد العلوي من معرفته العميقة بعلم الكلام وعلم الأصول لوضع منهجٍ متميّز في الترتيب، ولولا أنّه أسرف في التقسيمات والتفريعات لكان منهجه هذا متسقًا تمامًا مع غايته في تيسير قواعد البلاغة، وكتابه الطراز من أهمّ الكتب التي تأثرت بعلم الكلام، لأنّ الكتب التي عاصرته لم تنتهج مثله في العرض والتحليل، والحصر والتقسيم، وإنّما اتجهت إلى تلخيص القزويني تشرحه أو تنظمه ( ).
وقد رتّب العلوي مادته البلاغية في فنون ثلاثة:
الفنّ الأول: في المقدّمات التي يستعان بها على تحديد علم البلاغة وبيان مفهومه، وموضوعاته، ومنزلته بين العلوم الأدبية الأخرى، وتوضيح الفرق بين الفصاحة والبلاغة، ومعاني الحقيقة والمجاز، إلى غير ذلك من المقدّمات التي تمهّد السبيل إلى مقاصد العلم وأركانه.
والفنّ الثاني: في المقاصد، وهي المباحث المتعلّقة بعلوم البلاغة الثلاثة، علم المعاني، والبيان، والبديع، وشرح مصطلحاتها، وبيان أقسامها وخصائصها المميّزة لها عن غيرها.
والفنّ الثالث: في التتمّات، وهي المباحث المكمّلة لعلوم البلاغة، مثل فصاحة القرآن، وبلاغته وإعجازه، وبيان آراء العلماء في وجوه الإعجاز، والوجه المختار منها.
وقد يتّفق هذا الترتيب مع بعض المناهج الحديثة الداعية إلى تيسير البلاغة من حيث إلغاء التقسيم الثلاثي، وجعل البلاغة قسمًا واحدًا، وبحث موضوعاتها مستقلة، أو بحث مستوياتها الثلاثة: الصوتي، والتركيبي، والدلالي، وهي: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، بعد تجريدها مما علق بها من مباحث أبعدتها عن هدفها، وتذوّق الأدب الرفيع ( ).
(ب) تحديد المصطلحات البلاغية:
يتميّز المنهج البلاغي عند العلوي بالاستقصاء، فلم يترك شاردةً ولا واردةً من مسائل البلاغة إلاّ عرضها عرضًا مفصّلاً دقيقًا، واستعان في ذلك بآراء العلماء السابقين والمعاصرين له، وعرض لكلّ مسألة من مسائل البلاغة التي قد يعتريها خلل أو قصور في المفهوم، فبيّن الأوهام التي وقع فيها غيره مدليًا برأيه، ومصحّحًا للمفاهيم البلاغية التي سادت قبله.
وقد اهتم العلوي اهتمامًا كبيرًا بالمصطلح البلاغي، وناقش بشأنه كبار العلماء السابقين من أمثال الجرجاني، والزمخشري، وابن الأثير، وغيرهم، وما من مصطلح إلاّ له فيه نظرات تقويمية، ولعلّ الذي ساعده في ذلك معرفته الواسعة بعلم الكلام، وتمكّنه البارع من الحجاج والمجادلة، ورغبته الأكيدة في تجديد الدرس البلاغي، وسعيه في أن تكون لكتاباته إضافات أخرى لم يتنبّه إليها البلاغيون ودارسو الإعجاز، قال محمد أبو موسى:"والحقّ أنّ العلوي قد شغل جزءًا كبيرًا من كتابه في مناقشة البلاغيين في تعاريف هذا العلم، وبيان ماهياته، وتحديد مسائله، وناقش البلاغيين وخطّأهم جميعًا فيما ذكروه من حدود، ولم يسلم واحدٌ منهم حتّى الجرجاني الذي أسّس هذا العلم - كما يقول العلوي – لم يكن تعريفه مبرأً من عيب، والملاحظ أنّ مناقشاته لهم، وبيانه وجه الفساد فيما ذكروه كانت مبنية على معرفة دقيقة، بما يجب أن يتوفّر في الحدود من الشروط والقيود" ( ).
ولم يُخطِِّئ العلوي البلاغيين جميعًا في آرائهم، بل إنّه أثنى على الكثير من المسائل، ومدح أصحابها، ولم يكن يُخطئ إلاّ ما كان يراه خطأً، ويُقدّم الدليل على ذلك، وأما إلى أيّ مدى وُفّق في هذا الجانب فيمكن القول إنّ تعريفات العلوي ليست في مستوى واحد من حيث وضوحُ الدلالة على المقصود، على الرغم من دقّة العلوي في اختيار الألفاظ وفي تحديد المصطلح، ذلك أنّ أثر الثقافة الكلامية بدَا واضحًا في بعض التعريفات، مع أنّ التوفيق قد حالفه في كثير من المصطلحات في كتابه الطراز.
لقد حوت كتبُ العلوي مصطلحات بلاغية ونقدية كثيرة، "وكان منهجه عند ذكر أي مصطلح من المصطلحات أن يقوم أولاً بتعريفه في اللغة، ثمّ يحدّد مفهومه الاصطلاحي، ويأتي بعد ذلك بالشواهد الدالة على هذا المصطلح من القرآن الكريم، ومن كلام النبي – صلى الله عليه وسلّم – ومن كلام الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ثمّ من كلام فصحاء العرب، وكبار شعرائها، وهذه هي طبقات الكلام ودرجاته، فالقرآن هو المثل الأعلى للفصاحة والبلاغة، ويليه كلام النبي عليه السلام، فكلام الإمام علي، ثمّ كلام الأدباء والبلغاء، وهذا منهج انفرد به العلوي" ( ).
إن العناية بتعريف المصطلحات البلاغية وتحديدها ومراجعتها مراجعةً دقيقةً، وبألفاظ واضحة الدلالة لهي من أهمّ الأهداف في تيسير الدرس البلاغي في القديم، كما أنّ تصفية البلاغة ممّا علق بها من مصطلحات، ومسائل بعيدة عن روحها، والسعي إلى توحيد هذه المصطلحات، والأخذ بأكثرها دلالة على الفنّ البلاغي، كلّ ذلك من الملامح الضرورية في تيسير المصطلح البلاغي وتطويره في العصر الحديث ( ).
(جـ) التنويع في الشواهد وتحليل النّصوص:
لعلّ من السمات الواضحة في منهج العلوي البلاغي الاهتمام الكبير بالشواهد البلاغية، ويتّسع هذا الباب ليشمل نماذج متنوعة من الشواهد التي تأتي في سياق شرح المصطلحات البيانية، ومناقشتها وتوضيحها، وقد اختار العلوي منهجًا فريدًا قائمًا على اختيار الشاهد القرآني أولاً، ثمّ الشاهد من الحديث النبوي الشريف، ثمّ الشاهد من كلام الإمام علي بن أبي طالب، ثمّ الشواهد من كلام العرب شعرًا ونثرًا كما ذكر في السابق، والملاحظ أنّه جعل كلام الإمام علي – رضي الله عنه – في مرتبة ثالثة بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، وذلك لمحبّته الشديدة لآل البيت الذين ينتسب إليهم، وهو ما عليه كذلك مذهب الزيدية الذي ينتمي إليه، ثمّ لإيمانه ويقينه ببراعته في الفصاحة والبيان ( ).
وقد اقتضى منه هذا المنهج أولاً: تقديمَ شواهد النثر على شواهد الشعر، وثانيًا: ذكر نماذج أخرى من النصوص التي لم يذكرها غيره من البلاغيين في الاستشهاد وتوضيح المسائل، وقد كان العلوي مجدّدًا في هذا الجانب، حيث أضاف إلى درسه البلاغي ما رآه محقّقا للتيسير والوضوح، وفضلاً على ذلك لم يكتفِ بإيراد هذه الشواهد، بل قام بتحليلها تحليلاً أدبيًا، للكشف عن بلاغتها، وهو بعمله هذا يختلف عن كثير من البلاغيين المعاصرين له( ).
وهذا المنهج في حقيقته هو عودٌ إلى طريقة شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني، الذي ذاع صيته بمنهجه البارع في اختيار الشواهد وتحليلها، والسعي إلى استجلاء مواطن الجمال فيها.
ولعلّ الإكثار من الشواهد والأمثلة من النصوص الأدبية القديمة والمعاصرة له، ثمّ تناولها بالتحليل والشرح يدلّ على ذوق العلوي في حسن الاختيار أولاً، ثمّ في براعته في الشرح والتحليل ثانيًا، انظر كيف تمّ له اختيار شاهد من القرآن الكريم في باب الكناية، وهو قوله تعالى:"أيحبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيهِ ميتًا فكرهتموه" (الحجرات:12)، وقد حلّلها مستخرجًا ما فيها من نكتٍ بلاغية، وأسرارٍ تركيبية، فمن ذلك قوله:"قوله تعالى "أيُحبّ أحدكم"، إنّما جعله محبوبًا لما جُبلت عليه النفوس، ومالت إليه الأهواء من الإسراع إلى الغيبة، والإصغاء إلى من يتحدّث بها، مع ما فيها من الحَظرِ، ووعيد الشرع، فلهذا صدّرها بالمحبة، مشيرًا إلى ما ذكرناه، ويؤيّد ما ذكرناه أنّه أتى فيها بلفظ المحبّة، ولم تجئ بلفظ الإرادة، دالاً بذلك على موقعها في النفوس، وتطلّع الخواطر إليها، ولفظ الإرادة يُعطي هذا المعنى، ولا يتمكّن في الأفئدة تمكّن المحبّة؛ فلهذا آثره" ( ).
ولعلّ منهج العلوي هذا ينسجم تمامًا مع دعوته إلى تيسير البلاغة، فاختيار النصوص بعناية، وتذوّق البلاغة فيما استحدث من فنون أدبية تعبّر عن الحياة المعاصرة، ثمّ تحليل تلك النصوص تحليلاً أدبيًا بعيدًا عن التقعيد، قريبًا إلى الفطرة والطبع، لإدراك ما فيها من قيمٍ معنوية، وفوائدَ أسلوبية، كلّ ذلك من العناصر الأساسية في تيسير البلاغة عند العلوي.
خاتمة:
خلُصت هذه الدراسة إلى أنّ تيسير البلاغة قضيةٌ قد عرض لها البلاغيون القدماء في كتاباتهم ودراساتهم، وذلك لأسباب يتعلّق بعضها بالتعقيد والغموض اللذين لحقا ببعض مسائلها ومصطلحاتها، وقد بدأ الاتجاه نحو التيسير بعد ظهور بلاغة السّكاكي الصعبة في طرائقها - التي كانت تلخيصًا وامتدادًا لبلاغة عبد القاهر – ومن ثمّ انتشارها في الآفاق، وعناية العلماء بها تهذيبًا وتيسيرًا وتلخيصًا.
ويُوصلُ البحث في أسباب هذا التعقيد والغموض إلى أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة هو السبب الأبرز الذي عُني به الدارسون المحدثون، ومع أهمّيته وتأثيره في البلاغة العربية؛ فإنّ هناك أسبابًا خارجيةً أخرى لا تقلّ أهمّية عنه كان لها أثرها البيّن في هذه القضية، مثل نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين، وكون الأكثرية الغالبة من علماء البلاغة من غير العرب، وارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن، وتراجع الأدب وعزلة العربية في العصور المتأخرة، لا سيّما بعد القرن الخامس الهجري.
وكان ابتعاد بعض البلاغيين عن مجال البلاغة وجوهرها، والخروج عن إطارها بالاعتماد على موضوعات فلسفية ومنطقية مجرّدة، واستخدام أساليب المناطقة والمتكلّمين في كتاباتهم، هو الأمر الذي أسهم في شيءٍ من التعقيد الذي لحق بالبلاغة، لاسيّما في اطراد المصطلح البلاغي وتنوّع استخداماته، ولكنّه أمرٌ كان له ما يسوّغه في البلاغة القديمة، وخاصّة إذا علمنا أنّ هؤلاء البلاغيين كانوا في غالبيتهم من الفقهاء والأصوليين والمتكلّمين والفقهاء.
إنّ الخصوصية الدينية والثقافية للعلوم عند العرب والمسلمين تنبني على خُصوصية مصادرها ومرجعيتها العليا المتمثّلة في القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والتراث الحضاري للأمّة، ومن هنا فإنّ الاستفادة من الفلسفة والمنطق اليوناني كانت قائمةً على منهج الانتقاء، والاستفادة العلمية الواعية، وهو المنهج الذي أسهم في تطوّر علم البلاغة في الجوانب المنهجية والنظرية، وأعطاه نكهة العلم بعد أن علّل العلماء وفي مقدّمتهم عبد القاهر كثيرًا من المسائل العالقة تعليلاً علميًا يقبله المنطق والعقل.
وقد عُني قدامى البلاغيين بقضية التيسير في مصنّفاتهم، وتعرّضوا لها كلٌّ بمنهجه الذي ارتضاه لنفسه، ولكنّه التيسير الذي يناسبُ عصرهم ويلبّي حاجات الناس في ذلك العصر، وبالأسلوب الذي رأوه مناسبًا لأذواقهم، وهم سواء وُفقوا في ذلك أم لا؛ فإنّهم كانوا يكتبون استجابة لما يتطلّبه محيطهم الاجتماعي والثقافي والمعرفي، وقد تجلّت وسائل التيسير عند قدامى البلاغيين أكثر ما تجلّت في التلخيصات والشروح، وأمّا مظاهر التيسير فقد تجلّت في عناصر مختلفة يتعلّق بعضها بالمنهج، وبعضها بالموضوعات، وبعضها بالمصطلحات، وبعضها الآخر بالشواهد والنصوص.
وبذل علماء البلاغة الأقدمون جهودًا كبيرةً في صياغة القواعد والنظريات التي تشكلّ بها علم البلاغة وتطوّر على مدى الأجيال. واشتهر من المتأخرين الذين سعوا إلى التيسير: القزويني الذي برع في ترتيب المسائل وعرضها بأسلوب واضح، وابن الأثير الذي اهتم بالنصوص الأدبية وتحليلها اعتمادًا على الذوق الفنّي، والعلوي الذي استند في تيسيره للبلاغة على ثلاثة عناصر هي: تنظيم المادة البلاغية، وتحديد المصطلحات البلاغية بأسلوب جديد، وإيراد الشواهد والنصوص المتنوّعة وتحليلها.





الهوامش


. التلخيص في علوم البلاغة، ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي، ط دار الفكر العربي (د.ت)، ص 21.
. التبيان في علم البيان المطّلع على إعجاز القرآن، تحقيق أبو القاسم عبد العظيم، ط1 المطبعة السلفية بنارس الهند 1987، ص 26.
. الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، ج1 ص 6.
.انظر مثلا: ضيف، شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، ط دار المعارف، القاهرة (د.ت)، ص 272، 273.
. انظر السيد، شفيع، البحث البلاغي عند العرب، ط2 دار الفكر العربي القاهرة 1996، ص 115 وما بعدها.
.الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ط1 دار المعرفة القاهرة 1961م، ص 129.
. انظر الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار الفكر العربي بيروت (د.ت)، ج1 ص 139.
. مطلوب، أحمد، مناهج بلاغية، ط1، وكالة المطبوعات الجامعية، الكويت 1973، ص 255.
.مفتاح العلوم، ص 81.
. المقدّمة، ط1 دار الفكر العربي بيروت، 1997، ص 421،422.
. نفسه: ص 443.
. الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب: ص 130.
. المطول (الشرح المطول على التلخيص)، ط تركية 1330هـ، ص 316.
. انظر الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: ج3 ص 368.
. انظر مقدمة دلائل الإعجاز بتحقيق محمود شاكر، ط 2 مكتبة الخانجي، القاهرة، 1989، ص (هـ).
.الخولي، أمين، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ص 168.
.فن القول، ط دار الفكر العربي، القاهرة، 1947، ص 70 – 72.
. انظر مطلوب، أحمد، مناهج بلاغية، ص 32-36.
. تيسير تعليم العربية في التراث، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج58، مايو 1986م، ص 34.
. عباس، فضل حسن، البلاغة المفترى عليها بين الأصالة والتبعية، ط 1 دار النور بيروت 1989م، ص 299.
.كان طه حسين أول من قرّر هذا الرأي في مقدمته لكتاب نقد النثر المنسوب خطأ لقدامة بن جعفر، وهو لابن وهب الكاتب، وطبع هذا البحث بعنوان (البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر)، ط المكتبة العلمية بيروت (د.ت).
.كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة ، ط دار الكتب الشرقية، تونس (د.ت).
. See: Alhelwa, khalid, The emergence and development of Arabic rhetorical theory 500c.e-1400c.e, the Ohio state university 1996, p 20.
. البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص 14، وص 29 وما بعدها.
. انظر مناهج تجديد، ص 155، 157.
. انظر مقدمة البرقوقي في التلخيص للقزويني، ط دار الفكر العربي القاهرة (د.ت)، ص 4.
.البلاغة تطوّر وتاريخ، ص 167، وص 181.
. كتاب النقد، ط دار المعارف القاهرة (د.ت)، ص 87، 89.
. انظر: الداية، فايز، التأثير الفلسفي في شروح التلخيص، مكتبة كلية الآداب، جامعة القاهرة 1976م (مخطوط)، ص 243.
.عبد القاهر الجرجاني، ط مكتبة مصر القاهرة (د.ت)، ص 316.
. نفسه: ص 317، 318.
. أثر القرآن في تطور النقد إلى آخر القرن الرابع الهجري، ط 3 دار المعارف القاهرة، ص 245، 255.
. بلاغة أرسطو بين العرب واليونان، ط1 المكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1950م، ص :403، 404.
. نفسه: ص 400، 402.
. عن البلاغة المفترى عليها، مقال بعنوان الصبغة الأدبية لبلاغة عبد القاهر، مجلة أضواء الشريعة، ص 276، 277.
. نفسه: ص 292.
. نفسه: ص 222.
. نفسه: ص203، 204.
. مناهج بلاغية، ص 243.
. انظر مقدمة أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، ط1 مطبعة المدني جدّة 1991م، ص 17.
. انظر دفاع عن البلاغة، ط2، عالم الكتب القاهرة 1967م، ص 93،94.
. التلخيص في علوم البلاغة، ص 22، 23.
. الطراز، ج1 ص 6.
. انظر صوفية، محمد مصطفى، المباحث البيانية بين ابن الأثير والعلوي، ط1 المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس ليبيا 1984م، ص 184.
. المثل السائر في أدب الكاتب والشعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، ط دار نهضة مصر القاهرة (د.ت)، ج1 ص38.
. نفسه: ج1 ص 40.
. نفسه: 21 ص 5، 6.
. المصباح في المعاني والبيان والبديع، تحقيق حسين عبد الجليل يوسف، ط مكتبة الآداب القاهرة (د.ت)، ص 3.
. نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، تحقيق بكري شيخ أمين، ط1 دار العلم للملايين بيروت 1985م، ص 75.
. التبيان في علم البيان المطّلع على إعجاز القرآن، ص 27.
.Kennedy, George A, classical rhetoric and its Christian and secular tradition, the University of North Carolina press 1999, p290-293 .
. ضيف، شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، ص 288.
. طه، عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1 المركز الثقافي العربي بيروت 1998م، ص 331.
. انظر المقدّمة: ص 413، 414.
. انظر مقدمة رشيد رضا في أسرار البلاغة للجرجاني، ط3 مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة 1939م، ص (د).
. انظر مقدمة أسرار البلاغة : ص 17.
. مطلوب، أحمد، مصطلحات بلاغية، ط1 مكتبة العاني بغداد 1972م، ص 7.
. تيسير البلاغة، مجلّة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 4 مجلد 73 ، سنة 1998م، ص 880.
. انظر رجب، رفيقة عبد الله، العناصر الأسلوبية في كتاب المثل السائر لابن الأثير، رسالة ماجستير (مخطوط)، مكتبة كلية الآداب ، جامعة عين شمس، 1989، ص 19.
. المثل السائر: ج1 ص 37.
. انظر مقدمة محقق المثل السائر: ج1 ص 23.
. انظر المثل السائر: ج1 ص 28.
. انظر مقدمة عبد المنعم خفاجي في الإيضاح للقزويني، ط الشركة العالمية للكتاب بيروت 1989م، ص 70، 71.
. نفسه: ص 67.
. نفسه: ص 13.
. الطراز: ج 1 ص 6.
. نفسه: ج 1 ص 4.
. نفسه: ج1 ص 6.
. انظر مناهج بلاغية: ص 274.
. مطلوب، أحمد، تيسير البلاغة، ص 880.
. البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط 1 دار الفكر العربي القاهرة (د.ت)، ص 594.
. زايد، عبد الرزاق أبو زيد، المصطلحات البلاغية والنقدية في كتاب الطراز للعلوي، ط 1 مكتبة الشباب القاهرة 1988م، ص12.
. انظر مطلوب، أحمد، تيسير البلاغة، ص 881.
. انظر رسالته:"الرسالة الوازعة للمعتدين عن سبّ صحابة سيّد المرسلين" التي يتحدّث فيها عن محبّته وتفضيله للإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ط1 مكتبة التراث صنعاء 1990م، ص19 – 27.
. المصطلحات البلاغية والنقدية في كتاب الطراز للعلوي: ص 12.
. الطراز: ج1 ص 400.








المصادر والمراجع:
1- ابن الأثير، ضياء الدين (637هـ)، المثل السائر في أدب الكاتب والشعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، ط دار نهضة مصر القاهرة (د.ت).
2- بدوي، أحمد، عبد القاهر الجرجاني، ط مكتبة مصر القاهرة (د.ت).
3- التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر (792هـ)، المطوّل (الشرح المطوّل على التلخيص)، طبع في تركية 1330هـ.
4- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (255هـ)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار الفكر العربي بيروت (د.ت).
5- الجرجاني، عبد القاهر (471 أو 474هـ):
(1) أسرار البلاغة، تحقيق محمود شاكر، ط1 مطبعة المدني جدّة 1991م.
(2) دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر، ط 2 مكتبة الخانجي، القاهرة، 1989م.
6- خليفة، عبد الكريم، تيسير تعليم العربية في التراث، مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج58، مايو 1986م.
7- ابن خلدون، عبد الرحمن (808هـ)، المقدّمة، ط1 دار الفكر العربي بيروت، 1997.
8- الخولي، أمين:
(1) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، ط1 دار المعرفة القاهرة 1961م.
(2) فن القول، ط دار الفكر العربي، القاهرة، 1947م.
9- الداية، فايز أحمد، التأثير الفلسفي في شروح التلخيص، مكتبة كلية الآداب، جامعة القاهرة 1976م (مخطوط).
10- الرازي، فخر الدين (606هـ)، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، تحقيق بكري شيخ أمين، ط1 دار العلم للملايين بيروت 1985م.
11- رجب، رفيقة عبد الله، العناصر الأسلوبية في كتاب المثل السائر لابن الأثير، مكتبة كلية الآداب ، جامعة عين شمس، 1989 (مخطوط).
12- الرماني، علي بن عيسى (386هـ)، النكت في إعجاز القرآن، (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن)، تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلاّم، ط دار المعارف القاهرة 1968م.
13- زايد، عبد الرزاق أبو زيد، المصطلحات البلاغية والنقدية في كتاب الطراز للعلوي، ط1 مكتبة الشباب القاهرة 1988م.
14- ابن الزملكاني، عبد الواحد بن عبد الكريم (651هـ) التبيان في علم البيان المطّلع على إعجاز القرآن، تحقيق أبو القاسم عبد العظيم، ط1 المطبعة السلفية بنارس الهند 1987.
15- الزيّات، أحمد حسن، دفاع عن البلاغة، ط2، عالم الكتب القاهرة 1967م.
16- سلاّم، محمد زغلول، أثر القرآن في تطوّر النقد إلى آخر القرن الرابع الهجري، ط 3 دار المعارف القاهرة.
17- سلامة، إبراهيم، بلاغة أرسطو بين العرب واليونان، ط1 المكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1950م.
18- السيد، شفيع، البحث البلاغي عند العرب، ط2 دار الفكر العربي القاهرة 1996م.
19- صوفية، محمد مصطفى، المباحث البيانية بين ابن الأثير والعلوي، ط1 المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس ليبيا 1984م.
20- ضيف، شوقي، البلاغة تطوّر وتاريخ، ط دار المعارف، القاهرة (د.ت).

21- طه، حسين:
(1) البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ط المكتبة العلمية بيروت (د.ت).
(2) كتاب النقد، ط دار المعارف القاهرة (د.ت).
22- طه، عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، ط1 المركز الثقافي العربي بيروت 1998م.
23- عباس، فضل حسن، البلاغة المفترى عليها بين الأصالة والتبعية، ط 1 دار النور بيروت 1989م.
24- العسكري، الحسن بن عبد الله بن سعيد (395هـ)، كتاب الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ط1 القاهرة 1952م.
25- العلوي، يحيى بن حمزة (749هـ):
(1) الرسالة الوازعة للمعتدين عن سبّ صحابة سيّد المرسلين، ط1 مكتبة التراث صنعاء 1990م.
(2) الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م.
26- القرطاجنّي، حازم، (684هـ)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، ط دار الكتب الشرقية، تونس (د.ت).
27- القزويني، محمد بن عبد الرحمن الخطيب (739هـ):
(1) الإيضاح في علم البلاغة، ط الشركة العالمية للكتاب بيروت 1989م،
(2) التلخيص في علوم البلاغة، ضبط وشرح عبد الرحمن البرقوقي، ط دار الفكر العربي (د.ت).
28- ابن مالك، بدر الدين (686هـ)، المصباح في المعاني والبيان والبديع، تحقيق حسين عبد الجليل يوسف، ط مكتبة الآداب القاهرة (د.ت).
29- مطلوب، أحمد:
(1) تيسير البلاغة، مجلّة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 4 مجلد 73 ، سنة 1998م.
(3) مصطلحات بلاغية، ط1 مكتبة العاني بغداد 1972م.
(2)مناهج بلاغية، ط1، وكالة المطبوعات الجامعية، الكويت 1973.
29_ أبو موسى، محمد، البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، ط 1 دار الفكر العربي القاهرة (د.ت).

المراجع الأجنبية:

1- Alhelwa, khalid, The emergence and development of Arabic rhetorical theory 500c.e-1400c.e, the Ohio state university 1996.

2- Kennedy, George A, classical rhetoric and its Christian and secular tradition, the University of North Carolina press 1999.