مقاربة سيميائية في قصيدة الثائر للشاعر محمد الصالح باوية
الدكتور حسين فيلالي
في مفهوم الثورة :
يرى محمد مندور أن أدب الثورة هو الأدب الذي يظهر بعد أن تشتعل الثورة وتحقق أهدافها، فيغير من اتجاهه ووظيفته.
فالثورة حسب مندور تغير من اتجاه الشعر وفي وظيفته. فالشعر إذا يعتنق فلسفة الثورة يتخلى – مؤقتا – عن الكثير من أعراضه، ويغير من معجمه اللغوي ورؤيته للحياة، ويتولى مهمة التحريض والدعوة إلى الثورة والتمرد، "فالتمرد هو الوقوف ضد السلطة الحاكمة"، وهو أيضا الرفض العارم للوضع الإنساني كما يقول بول فولكيه.( )
ويكاد التمرد عند مفدي زكريا، ومحمد الصالح باوية لا يختلف كثيراً عما نجده عند "بول فولكيه" فهو رفض للسلطة الاستعمارية الحاكمة، وللوضع المزري للشعب الجزائري، فالرفض والتمرد سمتان بارزتان ومميزتان لشعر مفدي زكريا، ومحمد الصالح باوية.
هذا الرفض الذي نجده يظل ينمو شيئا ،فشيئا تغذيه الأحداث المأسوية التي مر بها الشعب الجزائري من جهة، وإجحاف المنظمات الدولية في حق الشعب الجزائري من جهة أخرى "ففي دورتها الرابعة عشر من سنة 1959، اعتبرت الأمم المتحـدة استقلال الجزائر قضية فرنسية داخلية( ) فصدم هذا القرار الشاعر مفدي زكـريا، وأحدث لديه خيبة أمل.
هذه الخيبة التي نجدها تتحول إلى رفض عارم:
لا نرتجي العدل من قوم سماسرة خير البرية منهم غير منتظر
ولا يكتفي الشاعر مفدي زكريا بالرفض بل يتعداه إلى اتخاذ القرار، فيعلن ضمنيا عن الاهتداء إلى الوسيلة المؤدية إلى نيل مبتغاه، ومبتغى الشعب الجزائري وهي الثورة المسلحة، ويوظف لذلك أحد رموزها وهو الدم الغالي:
مصيرنا بالدم الغــالي نقرره
في محفل الموت لا في عقد مؤتمر
فالمصير إذن حسب مفدي زكريا لا يتقرر كما تتوهم فرنسا في المحافل الدوليـة المتآمرة على الشعوب الضعيفة، وإنما في مكان آخر يصبح فيـه الدم الغالي الجزائري المالك الوحيد لسلطة الإقناع:
قسما بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهـرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحـن ثـرنا فحياة أو ممات...( )
فالدم الجزائري له مكانة خاصة عند الشاعر مفدي زكريا فهو دم طاهر، زكي جدير بأن يقسم به، والقسم لا يكون عـادة إلا بعظائم الأشياء، والأمور.
القـراءة الجيـوسياسيـة:
ينفتح النص الشعري "الثائر" في ظاهره على قراءة للأحوال الجوية للوطن (دمدم الرعد)، وفي باطنه يرمز إلى قراءة المناخ الجيوسياسي للجزائر آنذاك.
ففي الخمسينيات نشطت الحركات التحررية، وتوسعت رقعتها في الوطن العربي بخاصة، يؤكد ما نذهب إليه الجملة الشعرية التي تلت صوت الرعد "هزتنا الرياح" وفي ذلك دلالة صريحة على رياح التحرر.
بعد القراءة الجيوسياسية للجو العام، ينتقل الشاعر إلى توجيه أمر إلى متلقين مجهولين مستترين خلف ضمير أنتم "حطموا الأغلال". هذا الفعل الدال على العنف، والقوة يأخذ مكان الصدارة في القصيدة، وعنه تتفرع دلالة المواجهة والصراع الدامي يؤكد ذلك قول الشاعر "إمضو للسلاح".
فالفعل "حطموا" يعتبر إذن بؤرة القصيدة التي تتفرع منها الأحداث، وتنشأ عنها الدلالة المركزية ( الثورة /العنف).
ويتبع الشاعر ذلك الفعل بفعل آخر يوجب فيه على متلقي الخطاب الإفصاح عن فعل فعله، والإعلان صراحة عنه (حطموا/ اهتفوا) فالخطاب هنا (يتسم بحضور صوت المتكلم وعليه فإن الخطاب يصاغ نحويا اعتمادا على ضمائر المخاطب وضمائر المتكلم، واعتمادا أيضا على زمن الحاضر كما تعتمد صياغة الخطاب على علامات لغوية لها صلة بالإحالات الزمنية والمكانية مثل «الآن"، "هنا"...إلخ. كما تعتمد صياغة الخطاب أيضا ومن ناحية أخرى على علامات لغوية تحيل على المسافة التي يقيمها الصوت المتكلم إزاء ما يعلنه، ويقوله مثل صيغ الشك، والريب، والترجيح مثل لفظ "ربما"، "قد" كما أن صياغة الخطاب تشتمل على علامات لغوية تشير إلى الحالة النفسية التي عليها الصوت المتكلم مثل النعـوت ونقاط التعجب...إلخ( ).
فالمقطع الأول ينقلنا إلى حضور مواجهة نجهل أحداثها ونجهـل طرفيها.
هكذا إذن يجد القارئ نفسه شاهدا على فعل التحريض على حمل السلاح (امضوا للسلاح) وعلى المواجهة بين ذاتين، أحدهما مستترة خلف ضمير أنتم (حطموها أهتفوا/أمضوا) وذات مجهولة ما كان المتلقي ليستطيع تحديد هويتها لولا إشارة لغوية توجه الخطاب وتتصدره وهي ياء النداء، ومن ثم يتم تحديد المنادي الموجه إليه الخطاب "يا فرنسا".
وبعد النداء يتم تقرير الإعلان عن نهاية الوجود للموجود المنادي "اشهدي اليوم الآخر"، وتبرز ضرورة التساؤل هنا عن سر هذا اليوم الأخر، في ماذا؟ هل هو فناء الكون؟ هل هو فناء فرنسا كشخصية اعتبارية؟
لا شك أن المقصود هنا هو اليوم الأخير في حياة وجود الموجود المرفوض (فرنسا).
وعن نهاية وجود الموجود المرفوض يولد الموجود المرغوب وهو الوطن الجزائري المغتصب ويسـمى، (إن هذه التسمية لا تقتصر فقط على منح اسم لشيء يفترض أن يكون معروفا من قبل ولكن الشاعر في قوله الكلام الجوهري إنما يدفع الموجود لن يصبح مسمى وبفعل هذه التسمية لأن يكون ما هو عليه وبذلك يصبح معروفا بوصفه موجودا.الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة الكلام) .
فاليوم هنا المعبر عن الزمن لا يقصد به المدة الزمنية المعروفة كالساعة، واليوم ،والشهر والسنة، وإنما المقصود هنا الزمن الوجودي.
و عليه يكون اليوم الأخير معناه هنا نهاية وجود فرنسا كشخصية اعتبارية مستعمرة، وميلاد الوطن الجزائري كشخصية اعتبارية جديدة مستقلة.
وبعد أن يتم الإفصاح عن أحد طرفي المواجهة وهي فرنسا يتحول الشاعر إلى الإفصاح عن الذات المتخفية تحت ضمير أنتم، والموجه إليها الخطاب، ويتضح المقصود بأمر التصريح " اهتفوا".
ويتصدر الخطاب الموجه إلى أنتم أداة نداء " يا رفاقي" هذا النداء موجـه إلى ذوات تحدد هويتهم بواسطة المكان الحاوي للذوات المقصودة بالخطاب، والتي أضمرت هويتها تحت " اهتفـوا".
هكذا يتحد الشاعر مع أنتم (رفاقه) في مواجهة هي فرنسا يا رفاقي:
في الذرى.
في السجن.
في القبر.
وفي آلام جوعي.
هذا الحرف في يحديد هوية المكـان:
الذري.
القبر.
السجن.
آلام الجوع.
وتؤلف هذه الأمكنة مجتمعة مكانا واحد هو الوطن المغتصب، فالشعب الجزائري أيام الاستعمار كان إما:
• في السجن.
• في القبر.
• مشرد بلا مكان تعصف به رياح الفقر والبؤس.
وبتحديد هوية "الأنتم" الموجه إليهم الخطاب في المقام الثاني(يا رفاقي)، يشرع الشاعر في الإفصاح عن مضمون الخطاب بـ: "قهقه القيد برجلي"، هذه الجملة أو الصورة الشعرية تتجاوز المنجز الشعري العادي إلى ما يسميه "جان كوهن" في شعريته بالانزياح، أو الانحراف.(Deviation).
فهذه الجملة، أو الصورة تشخص القيد، وتجسمه، وتصبغ عليه صفة من صفات الإنسان الساخر، وهي القهقهة.
قهـقه القـيد برجلـي.. يا رفاقي
حدقوا فالتأثر يجتر ضلوعي
فالشاعر هاهنا يكتفي بذكر صفة للتدليل على هوية الموصوف فرنسا/ القيد.
والشاعر هنا يشكو من قيد وضع في الرجل، ولعل في ذلك رمز إلى المبالغة في إذلال الشعب الجزائري وتصنيفه في مراتب دنيا يتساوى فيها – في نظر المستعمر– مع الحيوانات المتوحشة، لذا يجب تقيده، وترويضه حتى لا يتمرد ويثور على المستعمر، ولعل هذا ما جعل فرنسا/القيد تسخر من خطاب الشاعر (حطموها/اهتفوا) وتسخر من وعيده وتوعد (يا فرنسا اشهدي اليوم الأخير).
والشاعر لا يستسلم لفرنسا/القيد، وإنما يستمر في تحريضه، ونداءا ته، ينادي على رفاقه، ولما يستجيبوا لندائه يفصح عن فحوى خطابه.
يا رفـاقـي حـدقـوا...فالثـأر يجتـر ضلوعي
هكذا يتحول الثأر إلى حيوان خرافي يجتر ضلوع الشاعر، ويصبح التخلص من هذا الحيوان الجاثم على صدره المتغذي على ضلوعه لا يتحقق إلا بأخذ الثأر من المستعمر الفرنسي.
ولعل في هذا البيت تناص أو استحضار لنص غائب نزعم أنه للشاعر القديم ذو الإصبع العدواني:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أصر بك حيث تقول الهامة اسقوني
التحول في الرؤيا/تحول في الدلالة:
تتحول الثورة في رؤيا الشاعر إلى جنون يسكن الجسد ويتحول الجسد إلى مكمن للثورة، ومن الجسد يتم انتشار عدوى الجنون إلى مغارات الوطن وربوعه:
يا جنون الثورة الحمراء... يحتاج كياني ومعارات ربوعي
نحن إذن أمام ثورة حمراء تكتب أحداثها، وترويها بالدم الطاهر، ونحن أمام جنون ينتشر ليعم ربوع الوطن ومغاراته، وهي إشارة إلى شموليـة الثورة، واستجابة الشعب لنداء الثورة الحمراء، وبعد أن يئس من الثورة البيضاء والحلول السياسية، وفي ذلك تحول في رؤيا الشاعر، ونظرته لوسائل استرجاع الوطن، ولهذا حرص على وصف الثورة بالحمراء، كما حرص على مخاطبة جنون الثورة.
والجنون يقابله في اللغة العقل وفي ذلك إشارة واستدعاء للمجنون الغائب، وإصرار على استبعاد العاقل الحاضر، فالثنائية: الجنون/العقل تصبح تحمل دلالة عميقة، فاستدعاء احتياطي الثورةLa reserve de la revolution (الجنون) معناه اليأس من مخاطبة الآخر المستعمر كإنسان سوي عاقل، والتأكد من عجزه على فك، وفهم شفرات الخطاب السابق العاقل، وبذلك وجب نقل الخطاب من حقل دلالي عاقل إلى حقل دلالي آخر، هو حقل الجنون.
وارتياد عالم الجنون يترتب عليه ظهور عناصر دلالية واختفاء أخرى، (فإذا سلمنا بأن الدلالة د هـي في الواقع تجليات لعالم دال، يمكن بالمقابل أن نتصور د متسما بغياب مطلق للمعنى ونقيضا لـِ د. وإذا افترضنا أن المحور الدلالي د يتمفصل على مستوى شكل المضمون إلى سيمين متضادين Contraires فإن كل واحد من هذين السيمين يحيل على نقيضهContradictoires ,
ووفقا للمربع السيميائي الغريماسي يمكن قراءة النواة الدلالية: الجنون/العقل.
ونستنتج من قراءة المربع السيميائي أن استدعاء الشاعر لجنون الثورة يترتب عليه انتفاء وسقوط للمسؤولية الجزائية، والأخلاقية، ولعل في ذلك إشارة من الشاعر إلى الخطاب المضمر، المسكوت عنه، والذي نقرؤه من خلال إشارة ،وفعل استدعاء الجنون الموحي باستباحة كل الوسائل لاسترجاع الوطن المغتصب.
بعد هذا تأتي ثمانية أبيات مصدرة بقسم غريب:
أقسمت أمي بقيدي بجروحي سوف لا تمسح من عيني دموعي
إن القسم الذي يتصدر هذا البيت فيه امتناع عن فعل فعل يستبطن ضعفا (مسح الدموع).
وفيه إقرار بالهزيمة والاستسلام لليأس، يدل على ذلك إشارة الدموع، ولذا امتنعت الأم عن فعل فعل متعلق بوظيفتها كأم، منسجم مع طبيعتها البيولوجية وتركيبها النفسية.
والامتناع هذا يمتد زمنه إلى المستقبل (سوف لا تسمح)، ويرتبط بإقرار فعل يفسره البيت الموالي:
أقسمت أن تسمح الرشاش والمدفع والجرح بمنديل دموعي
هكذا غيرت الثورة وظيفة الأشياء، وأعادت تقسيم الأدوار بين الرجل، والمرأة، فالمنديل انزاح عن وظيفته الأصلية (مسـح الدمـوع) ،وأنيطت به مهام أخرى ،صارت أكثر أولوية في سلم أولويات الثورة (مسح الرشاش–المدفع-الجرح) فالمنديل أصبح ينتمي إلى الحقل الدلالي.
• المـدفـع.
• الرشـاش.
• الجـرح.
المنتمي في كليته إلى حقل الثورة الحمراء.
والثورة أضافت إلى المرأة/الأم أعباء جديدة، إذا اضطلعت بمهام كانت في وقت السلم حكرا على الرجال.
و صبايـا مخـدرات تبـاري
كالبـوءات تستفـز الجنودا
شاركت في الجهاد آدم حوا
ه ،و مـدت معـا صمـا وزنـودا
أعملت في الجرح أنملها اللـ
دن، وفي الحرب غصنها الأملودا
لقد رضت حواء بالمهام الجديدة، وأقسمت على ذلك:
أقسمت أن تغسـل الجـرح..
و تعدو شعلة تضرم أحقاد الجموع
أقسمت أن تحمل المدفع مثلي..
أن ترش الدرب بالعطر الخطيب
أن أراها ضربة عـذراء تغزو..
بسمة السفاح في السهل الخصيب
أقسمت أن ترضع الفجر وأختي..
في ضفاف الموت في عنف اللهيب
أقسمت أن تسقي الأشلاء شوقا..
وحنـانا وعطـورا في الدروب
أقسمت أن تحفر القبـر معي..
قبـر فرنسـا، وتغنـي للحياة
وينتقل الشاعر من فعل التحريض "حطموها/اهتفوا" ويتخلى عن وظيفة الإخبار "أقسمت أمي بقيدي، بجروحي.." ليضطلع بوظيفة جديدة تتحول فيها أنا الشاعر من مجرد أنا متفرجة مكتفية بفعل التحريض أو الإخبار إلى أنا مشاركة فاعلة في فعل الثورة:
أنت (أوراس) أنا، ملء كياني، وأنا الإعصار في عيد الطغاة.
هكذا تلتحم أنا الشاعر مع المكان، وتصبح جزء من جغرافية الوطن.
واقتران أنا الشاعر بجبل الأوراس، أنت/أنا، إنما هو اقتران بالشموخ، وعلو الهمة، فالعرب تقول فلان كالطور العظيم.
وباتحاد الطبيعة مـع الإنسان/ الشاعر تتشكل أنا الوطن: أنت/أنا/ملء كياني، هذا الإتحاد يتحول إلى إعصار وبراكين تلقي بحممها ونيرانها على العدو:
وأنا الإعصار في عيد الطغاة وأنا الرعب الذي هز فرنسا، ولوى القيد وغنى للحياة.
أنا جبار، ورعد، وانفجار، أحمل الفجر بأيد داميات
و أحس الريح تعوي في ضلوعي، وتدوي في حقولي، في لهاتي.
ثنائيـة: الظـلام/الفجـر
والشاعر إذا يتوحد مع الطبيعة: أنت/أوراس/أنا يتحول إلى إعصار، ورعب، وانفجار، وهو إذا يفعل ذلك إنما ينتقل من مرحلة التحريض، والإخبار كما سبق وأن ذكرنا إلى المشاركة الفعلية وهو بذلك يقترب من معانقة الفجر/الأمل (احمل الفجر بأيد داميات).
و الفجر هنا رمز الخلاص إذا هو حركة زمنية طبيعة، تعقب حركة الليل (رمز الاستعمار) وتبدد ظلامه.
يا رفاقي في الرزايا في حديث الكوخ
في الآهات في قطف الدموع
قهقه القيد برجلي يـا رفاقـي حـدقوا
فالثـأر يجتـر ضلــوعـي
ونتوقف عند جملة "قطف الدموع " فهي كما يقول لوتمان تنتهك حرمة التوقعات.
"فالمتلقي لإشارة قطف" ترتسم أمامه دلالة متوقعة تستتبع فعل القطف: ثمار ناضجة، وردة مكتملة لكن الشاعر يفاجئ القارئ بعملية قطف غريبة ينكسر معها أفق توقع الملتقي، وتلتبس لديه الدلالة، ويشكل عليه تخريج المعنى، وهي قطف الدموع.
هذه الجملة "قطف الدموع " تدعونا لإعادة القراءة والتأويل، فالقطف يأتي عادة بعد عملية النضج، والنضج هنا معناه تراكم قدر معين من الزمن،و الزمن هنا هو الزمن الكولونيالي الذي تراكم مدة قرن ونصف القرن.
وبتراكم زمن،و جرائم الاستعمار خرج الدمع عن طبيعته إذ لم يعد ذلك السائل المعهود بل تحجر وتجمع حتى صار على هيئة ثمار ناضجة، وهي إشارة كاشفة لسلوكيات المستعمر، فأثار الدمع ستظل تمتثل الدليل المادي الشاهد على جرائمه التي لا تمًّحي، ترى في عيون اليتامى، والثكالى والمعطوبين.
وإذا كان البيت:
يا رفاقي في الرزايا في حديث الكوخ، في الآهات في قطف الدموع
قد حقق الوقفة العروضية، فإن الوقفة الدلالية لا تتحقق ولا يكتمل الخطاب إلا بالبيت الثاني:
قهقه القيد برجلي يا رفاقي.. حدقوا فالثأر يجتر ضلوعي
هذه الجملة الثأر يجتر ضلوعي " التي تتكرر في القصيدة على شكل لازمة أكثر من مرة تؤكد هاجس الشاعر المركزي وهو الأخذ بالثأر.
ودبيب الثأر في جسمي ضرام،
وأزيز، وارتعـاش، واهتياج
يا رفاقي ركزوا المدفع في أشبـاح
حيارى وأطفئوا نور السراج
البسوا الصفصاف،و الكوة والصخرة
وذوبوا بين أشداق الفجاج
بضع ساعات .. ونصليهم سعيرا ..
خبر الرشاش يرنوا للعباد
قد أطلوا .. لقنوهم قصة المدفع،
والبعـث دفوقـا في الوهاد
لقنوهم غضبة الأحرار ترويهم..
فنـاء، وانهـزامـا وحدادا
يبدأ الثأر بالاشتغال على الجسد كمكمن للنار المتأججة في الضلوع، وتشهد مادة الجسم تحولات وانصهارات مادية وسيكولوجية، وإذا يصل الجسم إلى ذروة انفعالاته "الهيجان" تجتذبه الثورة إلى دائرتها، وتوكل إليه مهام جديدة، هكذا يغدوا صوت الشاعر هو ضمير النص " نصليهم سعيراً" فهو لا يكتفي بالتحريض والتخطيط، وإنما يتولى توجيه المعركة في الميدان:
" ركزوا المدفع في السفح، وفي قلب الروابي والفجاج، حدقوا خلف الروابي ..."
وتدخل القصيدة مستوى آخر من مستويات الحلم :
هاأنا أصغي لطفلي يتغنى، وينادي قد مضى عهد الخنوع
و أرى قربي عجاجا داكنا يحبوا كطفلي .. إنها آلف صبية
تخطف المدفع مني .. قلت من أنت ؟ فقالت أنا بكر عربية
قذ فتنى موجه البعث فداء.. أنا للثورة من أمي هدية
أين أشلاء خطيي يا رفيقي أنا للأشلاء شوقا وهيام أنا شلو ملهم يحنو على مهجة الرشاش في عنف الظلام
ويغفو الحلم على كابوس (أشلاء ثائر) يحرم الأنا الناصة من لذة الحلم:
يا رفاقي في الأماني في الجزائر قد غفا حلمي على أشلاء ثائر
و تكتمل الرؤية الشعرية، ويتدرج النص الشعري شيئا فشيئا نحو النهاية /البداية:
حطموها واهتفوا ملء الأثير يا فرنسا اشهدي اليوم الأخير
وتحقق بذلك حلم النص بعد أربع سنوات من نشره، وتشهد فرنسا المستعمرة بالفعل يومها الأخير بالجزائر سنة 1962 وهو اليوم المؤرخ به لميلاد الوطن الجزائري الحر.
المصادر والمراجع
1 -محمد مندور ثورة الأدب نقلا عن إبراهيم رماني أوراق في النقد والأدب دار الشهاب ط 1 1985 ص 37
2-يحي الشيخ صالح – شعر الثورة عند مفدي زكريا- دار البعث قسنطينة ط 1/1987
3- يحي الشيخ صالح –المرجع السابق
4- مفدي زكريا – اللهب المقدس – المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر – ط 2/1991/ص 71
6 ملامح الكينونة لدى هيدجر – تر –عبد العزيز بن عرفة – مجلة دراسات عربية - دار الطليعة- عدد 11/أيلول /سبتمبر.ص:14
6 مارتن هيدجر – المرجع السابق-ص:62
7 - رشيد بن مالك –مقدمة في السيمائية السردية –دار القصبة للنشر 2000 ص 14
8 -مفدي زكريا – قصيدة الذبيح الصاعد – ديوان اللهب المقدس.
9 محمد الصالح باوية – قصيدة الثائر – نقلا عن صالح خرفي- الشعر الجزائري المؤسسة الوطنية للكتاب 1984 ص 86
10 - ينظر روبرت شولز – السيمياء والتأويل – تر –سعيد الغانمي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت –ط 1 –1994 –ص 87
.