اللا مقروئية ..إشكال ثقافي..
هل اللامقروئية ..هي نتاج شقاق المثقّفين؟؟
لقد غدت إشكالية "المقروئية الأدبية"من القضايا الشائكة ،المعقّدة التي شغلت المبدع،والمفكِّر،والنّاقد ،ومختلف الدِّراسات الإنسانية ..
سأل فيها القارئ نفسه :لِمَ أقرأ؟
وقال الكاتب:لِمَ أكتب؟
الأدب ضحية صراع:
بسبب تجاوز الأدب الجمالي إلى القبيح الذي تعارض مع الخصوصية الثّقافية للأمّة..والّذي كان اكتشاف النّقد الموضوعي الّذي أضمر دعوة القارئ إلى اختيار المقروء..
وبسبب الصّراع الإيديولوجي في الأمّة العربيّة الإسلامية قاطبة ،والّذي يدعو فيه كلّ طرف إلى اجتناب قراءة ما يراه نقيضا ..لم يتّفق المتعارضان على شيء بسبب العصبية ،لا بسبب الأفكار ،وبسبب الجدل الضّمني ،لا بسبب الحوار الّذي صار من مهمّة المثقّف نفسه توفير آدابه،و شروطه البنّاءة، الهادفة، المسؤولة..اتفق المتنازعان فقط على تشويش الثّقافة في ذهن المتلقّي ،وإرسال الحيرة في نفسه،وتشجيعه على العزوف بسبب رفض كلاهما أدب الآخر..
بعض نظريات النّقد المعاصر تتّهم حتّى الأدب الرّاقي بتغييب العقل ،ومن ورائه الوعي الممكن،واستحضار ،واستقواء الانفعال بدافع إثارة اللّذّة،وغرس المتعة.فأنتج عبر تراكمات العصور "الشّخصية العربية الانفعالية "،واتُّهِم الفرد العربي المعاصر بـ "الإنسان الّذي يفكِّر بعواطفه".
وهذه دعوة أخرى للقارئ عن العزوف..لتزيد محنة اتّساع دائرة أزمة الثِّقة إغراقا بين القارئ والمبدع،بفعل التّشويش الثّقافي..
حتّى المنظومة التّربوية ـ في بعض المناطق العربية ـ اعتقدت أنّ الأدب الانفعالي بجمالياته أنتج جيلا عاطفيا خاوي الجوف الفكري فمالت إلى تناول الجوانب الفكرية في الموضوع المقترح
وقد تأثّرت بهذا النّهج المعاصر ،وبنت برامجها على منظومة فكريّة ،تعتمد تنشئة المتعلّم على موضوعية المنطق المفعِّل للعقل،واحتقرت الجمالي حتّى صُنِّفت مادة البلاغة ـ وهي أساسية ـ في خانة الثّانوي الذي يمكن الاستغناء عنه، وأغمطتها حقوقها، وهذا يقهر الذّائقة أيضا ،ويدفع الطّالب إلى اعتبار الأدب مادّة علمية لا تختلف عن بقيّة العلوم ،ثمّ إذا ما تخصّص في غير الأدب ،فسَخَ معه أي علاقة تواصلية ،حتّى صار عاجزا عن كتابة طلب خطّي باللّغة العربية وهو خرِّيج الجامعة ..وهذه حقيقة..
وكان على المنظومة التّربوية أن تقترح نصوصا راقية فكريا ،تُضيف لبنة في صرح ثقافة الجيل ،وتلك مهمّة النّصوص الأدبية الّتي تراعي الخصوصية الثّقافية ،وتقدِّمها في قالب مثير،لتكتمل الأشكال بالمضامين ترفلُ في حُلَّةٍ أنيقةٍ،تستهوي القارئ ،لكنّها تُحصِّن بداخله ثقافته وتنمِّيها..وكان عليها أن تغرس فيه روح المطالعة..
إنّ "مقروئية" الأدب وغيره إشكالية عالمية عامة في كلِّ المجتمعات ،دائما نجد من يصطلح عليه بـ"النُّخبة المثقّفة "بنسب متفاوتة تهتم بالقراءة دون غيرها من شرائح المجتمع.
والاختلاف بين المجتمعات يبقى في مدى تفعيل الأفكار المقروءة في الميدان.
لكن الرسالة وصلت جلّ المثقّفين وهم الآن في حوار ،ويبقى أن ينبذو في نفوسهم صفة الإقصاء .إنّ التّقاصي هو دافع التّشتيت والتّفكيك ،وأن يحترموا آراء بعضهم ،ثم يعملون على تعاطي المشترك الاجتماعي من القيم ..
من هنا ـ أيضا ـ صارت اللامقروئية نتاج شقاق المثقّفين.
الفارق الكبير:
إنّ الوسائل التّكنولوجية أنتجت وسيطا ثقافيا يلبّي رغبة السّامع والمتفرِّج ،والقارئ،والكاتب .فهو في السينما ،والتّلفزيون،والفيديو مشاهد متفرّج ،وفي الإنترنيت"العالم الافتراضي"،والكتب ،والمجلاّت متفاعل ومنفعل ،وفي المذياع مستمع .
وهذه قلّلت من نسبة مقروئية الورقي..
فالمجتمعات المنظَّمة المتقدِّمة تمتلك الوسائط الثّقافية الّتي تستخدمها جسورا لتمرير الأفكار عبر قنواتها المختلفة إلى المجتمع ،لِتُهيمن على السّاحة حتّى تصير ثقافة مكتسبة يجسِّدها الأفراد في سلوكاتهم اليومية ،ويطرأ التّغيير التّدريجي المنظّم في الميدان ..فتجد فكرة المكتوب مجسّدة في الأفلام والمسلسلات ،ووحتّى شعاراتها في الإعلانات الإشهارية ،والجرائد ،وبعدها مباشرة جمعيات المجتمع المدني الّتي تتبنّاها مبادئ تعمل بها في أرض الواقع.وتعمّ الأفكار كلّ المجتمع ،فلا يحدث انقطاع أو تمايز ثقافي بين طبقات المجتمع..
حتّى اتّهم دارسو الثّقافة الطّبقة النّافذة في المجتمع باستغلال الوسائل التّكنولوجية ،والوسائط الثّقافية في خدمة أهدافها النّفعية وفرضها على المجتمع.واتّهمتها بـ "الهيمنة والإمبريالية".
ودافعت بذلك عن حرِّية الأفراد داخل المجتمع في ممارسة قيمه وأصول ثقافته،وطُرحت إشكالية الخصوصية الثّقافية في ظلّ العولمة من الغرب أنفسهم.
أمّا في المجتمعات المتخلِّفة فقد تطرح الأفكار النّيّرة البنّاءة ،تُقرأ،لكنها لاتجد منافذ تطبيق في الميدان .
وهنا يتساءل القارئ ذاته :ما الفائدة من امتلاك أفكار جادّة لا أجد لها طريق التّفعيل ،والتّمديد ،والانتشار في المجتمع؟حتّى أنّك تسمع يوميا من جلِّ المثقّفين بيتين شهيرين متردِّديْن بسبب هوّة سحيقة بين "النُّخبة المثقّفة"والمجتمع..
نعيب زمانَنا والعيبُ فينا ـ ـ ـ وما لزماننا عيبٌ سِوانا
وآخر:
قد أسمعتَ لو ناديتَ حيّا ـ ـ ـ ولكن لاحياةَ لمن تنادي
لقد اختلطت أوراق المجتمع الواحد بين الدَّخيل الوافد عبر "الوسائط الثّقافية "و"الوسائل التّكنولوجية "،وما يفرضه من هيمنة ثقافية ،وبين الأصيل المضمر المغلوب.وتشتّت المجتمع بين إيديولوجيتين مختلفتين ،متباينتين ـ دخيل وأصيل ـ مع استحالة استقامة مجتمع واحد بإيديولوجيتين مختلفتين،حتّى طُرحت إشكالية :
ماذا نريد..ذوبان وانسلاخ من الهُويّة ..أم تصدّي وصمود؟
وطالب بعض الأكاديميين بـ :"تأصيل الأصيل ،واستحداث الجديد1".وتبنّت السياسة في بعض الدول الإسلامية مبدأ :أخذ ما يتوافق مع أصولنا ،وترْك ما يعارض.
حتّى أنّه بعض المنتسبين للإبداع يرفضون التّضييق النّقدي المنضبط،والموجِّه ،ويتّهمونه بالإيديولوجية ..وهذه سذاجة فكرية بحيث كل منتوج في العلوم الإنسانية منطلقه الفكر ،وكلّ ماهو فكر منبعِثٌ من صميم مذهب معيّن..إذاً لايوجد فكر موضوعي مجرّد من كل مذهبية .حتى فكرة العلمانية التي يعتقد بعضهم أنها متمتْرِسةٌ بموضوع العلمية ،في حدِّ ذاتها إيديولوجية؟
وضعية القارئ:
إنّ تعقّد الحياة ،ومحدودية الفكر البشري ،وضيق الوقت أمام هذا الزّخم المتعدِّد ،دفع الإنسان المعاصر إلى اقتناء ،واستهلاك فقط ما ينفعه عملا للاختصار.وقد رأى أن يتعايش ـ في الآونة الأخيرة ـ مع الكتب الدّينية حتّى أنّها جلبت سخط بعض المبدعين.
كذلك الإعلام عمل على إبراز بعض المبدعين ،لكنّ القارئ يجد نفسه مختلفا معه في المصادر الثّقافية.فنفر من الإعلام ،ومن المبدع معا.
وأمام تعقُّد الحياة،وضيق الوقت،وكثرة الانشغالات حتّى الأولياء أطّروا لأبنائهم منظومة توجيهية خاصّة يرون فيها الخلاص ،والاختصار،فيعتقدون أنّ الأدب لاينفع أمام مختلف علوم العصر..
أزمة المبدع:
معظم المبدعين لا ترضيهم المسابقات المُعلنة ،ولا يرون فيها إنصافا بسبب المقاييس النّقدية المنتقاة ،فصارت حتّى لجان المسابقات موضع اتّهام في العلن ،وهذا يساهم في إبعاد القارئ وعزوفه..وبعضهم يفكِّر حتّى في إلغاء النّقد..
ولكنّ شبكة الأنترنيت اتّسعت و بدأت تطرق جلّ البيوت ،لكنّها مفيدة للنُّخبة المثقّفة أوّلا للاتّفاق عبر الحوار الفكري ،وهذا يدفع إلى قراءة المزيد قصد التّمكّن والظّهور بالمظهر اللائق.وهنا نعيش منافسة علمية موضوعية تعطي الحقوق لأهلها..
كذلك الأنانية السّائدة بسبب رغبة التّفرّد والتّميُّز عند المبدع تدفعه ـ حتما ـ إلى رفض منتوج الآخر،لِتجِدَ في النِّهاية كلّ إبداع مرفوض.فهي أحكام مُغرضة أغمطت الإبداع حقّه ،وأسقطت المبدع في نظر قارئه،مما يدعوه إلى احتقار الكلِّ ،والتّقليل من شأنهم..
إنّ الكاتب لايستطيع أن يتغرّب عن المجتمع بدعوى الآداب العالمية لأنها لاتخلو من قيم مشتركة بين بني الإنسانية ،ومنبع العالمي لايخلو من إقليمية ،وأفصح مثال هو العولمة التي تنتج قيم مكانها ،وتعيد صياغتها..وتوزيعها..وفي الوقت الّذي ينشر فيه صقور العولمة قيمهم وهي إيديولوجية صريحة، تجدُ في عالمنا العربي من ينهى عن الإيديولوجية ،وإذا بالمثّقف نفسه رمز الوعي يدعو إلى تجريد آدابه العربية من كلّ مذهبية ،وهذا انسلاخ عن الهّوية ،وتأثّر بالغ بظريات الغرب النّقدية ..وقد أوجد القارئ نفسه محتارا في ظلٍّ هذا الخلط الإيديولوجي :ماذا أقرأ ؟وهل أنا محصّن فعلا واعٍ بمقوِّمات شخصيتي العربية الإسلامية لأقرأ كلَّ شيءٍ؟
مغالبة ثقافية:
ويبقى الاهتمام حول الكيفية الّتي يتخلّص فيها الوعي البشري من الهيمنة العلمانية الّتي طفحت على السّاحة ،والّتي اتُّهِمت فيها المؤسّسة الثّقافية الرّسمية بترويج منتوج الفئة الغالبة عبر الوسائط الإعلامية الثّقافية التّرفيهية والجادّة.لذا نرى أنّه لابدّ من توجّه القارئ إلى الأقلام الحرّة ليحدث التّوازن النّفسي ،والاجتماعي ،والفكري في المعمورة قاطبة .ولهذا السّبب دعا دارسو الثّقافة الغربية الأمريكية خاصّة إلى مراعاة الخصوصيّة الثّقافية للأمم متّهمين إيّاها بنهج سياسة الهيمنة الهادفة إلى غرس قيم ثقافية استهلاكية انتقائية في الجمهور الثّقافي.
إنّ منظومتنا الثّقافية الرّسمية تشكو من انعدام"جهاز ثقافي تنفيذي عام".
إنّ أسرار تقدّم الغرب ،وغلبته،وسيطرته تمثِّلها تلك المؤسّسة الثّقافية التّنفيذية عبر وسائلها المتعدّدة في الإعلام ،والجمعيات المدنية الّتي تعمل على نشر الأفكار النّظرية في المجتمع بوسائط متعدّّدة ،حتى تصير ثقافة اجتماعية يمارسها الأفراد سلوكا في الميدان عبر التّطبيق.والقارئ العربي ـ أيضاـ يتساءل لماذا يقرأ إذا كان لا يجد وسائط ثقافية تجسِّد ما آمن به.
المثقّف الفعلي هو ذلك الفرد الّذي وافق سلوكه هُويّة أمّته ،وعمل على نفخ هذه القيم السّلوكية في مجتمعه.
وإذا حاول أن يجتهد يجني عليه اجتهاده باتّهامه بالخروج عن المألوف،واختراق الأعراف،بل أحيانا يتّهم برفض المنظومة الاجتماعية كلّيّة.
ومن الواجب إيجاد جمعيات ثقافية في المجتمع المدني تنتقي الأفكار الجادّة والمفيدة ،والهادفة،وتجسيدها في الميدان.
إنّ وجود جمعيات ثقافية تحيي ذكرى الأموات ،وتستصغر الأحياء ،وتقيم الأمسيات الشّعرية والقصصية والمسرحية في غياب شبه كلّي للمجتمع المدني ،لهو تكريس للقمع والإقصاء ،وتوسيع دائرة أزمة الثِّقة بين القارئ والمبدع ،واسترداد دائم إلى الماضي ،والحنين إليه ،وعزوف كلّي عن الحاضر والمستقبل..
إنّ المصالح السياسية عوض أن تتكامل مع الثّقافة ،وتُصغي إليها ،وتتّجه بتوجّهها ،سخّرتها لخدمة أهدافها .لذا تكثّفت الدّعوات إلى تحرير الثّقافة من كلّ قيد باعتبارها خزّان المجتمع الأصيل الّذي يفيض بالجديد المساير للحاضر الواعي والمرشد في المستقبل.
لقد أوجدت المؤسّسة الثّقافية الرّسمية في العالم الغربي ما يسمّى بالوسائط الثّقافية تنقل منتوج النُّخبة المثقّفة الفكري ،والأدبي ،والعلمي إلى المجتمع ..لتتمّ حركة التّطوّر والتّغيير الاجتماعي وفق رؤية عالمة تؤثِّث الحياة ،وتنظِّفها ممّا تراه قبحيات ثقافية ..
إنّ رواية مثلا قريبا ـ بعد صدورها ـ يشاهدها المتفرِّج صورة وصوتا وترتيبا وإيضاحا وتقريبا ..وعبر عناصر التّأثير يتفاعل المتلقّي مع ما يراه جميلا وينفعل له،ويدفعه الإعجاب إلى ممارسته سلوكا .بقي على المؤسّسة الثّقافية هنا أن تضع هذا "الجمال الفنّي"في الإطار المذهبي الّذي تريد ،فتنتقي من الأعمال الأدبية ما يفيد..لذا تحمّل المبدع مسؤولية مشروعيّة الثّقافة الّتي يريد أن يبثّها في المتلقّي،حتّى يتجنّب مأزق الغربة الثّقافية في المجتمع.
الثّقافة من ثقف العود لغة إذا قوّم اعوجاجه،فإذا ما انعكس شعاع روح الكلمة بمعناها على المثقّف ،فإنّه لا يكون إلاّ مستقيما وفق مقوِّمات ثقافة أمّته،فهو يؤصِّل الأصيل ،ويستحدث الجديد.
إنّ وجود مثقّفين منحرفين عن الخصوصية الثّقافية للأمّة ـ بفعل الغزو الفكري الغربي ـ سبّب انهيارا حرّا في المقروئية ..
ومن العيوب الثّقافية الّتي اكتسحت وجداننا هو تعطيل أهمّ قيمة في قاعدتنا الذّهبية :
القول مرفق أو متبوع بالعمل.
بسبب غياب خصلة الصّدق الخلقي لا الفنّي ،وهو من المنطلقات الأساسية في تربية النّفس البشرية على الصِّدق في إلحاق القول بالعمل.وكأنّ القيمة الخلقية صودرت إلى الغرب كما صوردت قيم الانضباط والجِدِّ،والتّنظيم ،واحترام الوقت..وكأنّنا صدّرنا المادة الخام إلى الغرب طواعية ،فلم نعد نملك قيم الانطلاق الأوّلية نحو التّجديد والتّأثير .
إنّ المثقّف الأصيل باستقامة وصحّة فكره الّذي تجسّد في سلوكه وفكره يمنح القارئ العادي قدوةً.
إنّ استقامة كلِّ مثقّفي الأمّة على الخصوصية الثّقافية ذات الإيديولوجية الواحدة هو وحده المنطلق الأساسي لاستقامة الأمّة في المقروئية وتداولها عليها ،وفي مختلف مجالات حياتها.
ويمكن تجسيد طريقة التواصل الاجتماعي وفق:
أفكار ومواقف ــــــــ مبدع ــــــ وسيط فنّي ـــــــ وسيط ثقافي ـــــمجتمع.
إنّ الوسيط الفنّي الّذي يفرغُ فيه المبدعُ أفكاره ومواقفه لابدّ له من وسيط ثقافي يبلِّغه إلى الأمّة.
1ـ أ.د.حبيب مونسي:نقد النّقد:دار الأديب .وهران.الجزائر2007 .ص:142.
المفضلات