سيد أمين
لا أدرى لماذا كلما ذكرت القوى الغربية مصطلح "الديمقراطية" أجد مشاهد الدماء والجوعى والنساء المغتصبات والأطفال الأيتام والملاجىء والعجائز والثكالى تجتاح مخيلتى , رغم أن هذا المصطلح العجيب عادة ما يثير لدى مخيلات غيرى من الناس صور الرخاء والرفاهية والحب والعدالة؟
بل اننى عادة ما أتوقع من الخٌير الداع للديمقراطية أن يكشر عن أنيابة فى نهاية المسرحية العبثية ليكتشف الجمهور أنه ليس الا ذئب استطاع أن يخدع الجميع فترة طويلة من الوقت.
وفى الحقيقة أنا لا أجد معنى واضح لهذا المصطلح سوى أن الجميع يفسره بما يرضى مشيئته ويحقق له أهدافه, فاذا ارادت القوى اليمين الليبرالية أو بالأحرى"الامبريالية" المزيد من السيطرة على ثروات منطقة ما فى العالم رفعت شعار الديمقراطية وراحت ترتكب بحق سكان هذه المنطقة أبشع الجرائم قتلا وتنكيلا , واذا ارادت قوى اليسار الاشتراكى توصيف نفسها فانها تصفها بذات المصطلح الذى تريد القوى السابقة احتكاره لنفسها , ونلاحظ هنا أن الجميع يضفى على نفسه لقب الديمقراطية ويفسرها طبقا لمفهومه, لذلك نجد أنفسنا أمام تساؤل مهم حول مفاهيم مصطلحات "الديمقراطية" و"الاغلبية" و"العدالة".
فهل من الممكن أن يكون معنى مصطلح "الديمقراطية" ذلك التفسير الذى يصفها بأنها "حكم الشعب للشعب لصالح الشعب"كما كانوا يدرسونها لنا فى المراحل التعليمية الاعدادية أم أن ذلك يعد تعريفا ساذجا فوضويا فضفاضا يكفى ليضم تحت عبائته كل "الموبقات"؟.
وهل يمكننا أن نسلم بأن نظام حكم "الاغلبية"هو نهاية المطاف للوصول الى "العدالة" وغايتها المنشودة فى تحقيق "السعادة" البشرية أم أن التاريخ يسجل أن تطور البشرية هو نتاج لجهود فردية كما أن أى نظام حكم مبنى على قاعدة "الاغلبية" يهدر طاقات "الاقلية" الخلاقة فضلا عن انه قد يقود الى الكارثة وذلك حالما كانت اختياراتها غير مبنية على اعتبارات علمية.
لاسيما أن كل ديكتانوريات التاريخ صنعتها قوى الاغلبية التى عادة ما تنطلى عليها حيل "الخداع والتخبئة" التى تمارسها اعلاميات قوى القلة المسيطرة فضلا عن تربيطات المصالح الشخصية لقادة الرأى وجماعات الاستغلال المحلية على حساب المصالح الجمعية للأمة , أليس وسط كل هذا المناخ يعتبر اختيار"الأغلبية" اختيارا وهميا ونوعا من أنواع "الديكتاتورية"؟
وهناك تساؤل حول ما اذا كان تحقق مفهوم الديمقراطية أو الأغلبية يعنى تحقق العدالة من عدمه؟
فى الواقع ..لابد أن نجزم أولا بأن كمال الأشياء مرهون بمدى نفعها للناس واستفادتها القصوى من طاقات الشعوب بما يخدم تلك الشعوب.
واننى استدعى هنا مصطلح "الوعى" وأعتبره متلازما لنظام "الأغلبية" وأن علاقتهما الواجبة بعضهما البعض هى علاقة الشارط والمشروط ومتى تأكدت صحة تلك العلاقة وصحة تجاوبهما تسنى لنا تلافى عوار الثوب المتهتك.
والسبب وراء اشتراط صواب اختيار"الأغلبية" ب "الوعى" أن رأى أقلية "تعلم" خير من رأى اغلبية "تجهل"وأنه ليس من العدل فى شىء أن نساوى بين رأى "واع" وأخر"غير واع" فضلا عن أن رأى مجموع أصوات الأقلية فى صندوق الاقتراع هى أراء أكيدة صاحبها اصرار وتيقن ومعاناة على خلاف مجموع أصوات الأغلبية التى تصاحبها عادة المساومات والتهديدات والاغراءات وبالطبع "التزوير".
ولا يخفى علينا أن الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) كان فردا يقاوم خضما من الجهل والوثنية التى لاتجتاح المنطقة العربية وحدها بل العالم بأسره شأنه فى ذلك شأن جميع الانبياء والرسل الكرام وأنهم لو اعملوا نظام "الاغلبية" الذى ننشده حينها لبقيت البشرية تغرق فى الجاهلية حتى الان ولو قاسوا أيضا الامور بمنطقيات "الديمقراطية" الحالية لاتهموا الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب"بالديكتاتورية والطغيان ولطالبوا بدق عنقه مع انه هو الذى شهد له اعداؤه قبل اصدقاؤه بكونه راعى العدالة الأول فى التاريخ.
وحتى لايفهمنى البعض بطريقة خاطئة .. فأنا لا أقول أننى أقف ضد الديمقراطية ورأى الاغلبية أو اننى ادعو الى الاستبداد بما يفهم منه مهاجمة الاختيار الجمعى ولكن على النقيض تماما .. ولكننا نتحدث بصوت عال حول اشكاليات ومشكلات هذين المصطلحين ونحن نقف فى صفهما بشدة ولكن نريد ان نضبطهما بما يخدم الهدف النهائى منهما وحتى لا تستطيع وسائل اعلام مأجورة ومغرضة قيادة أراء اغلبية تفنقد للوعى فتقودها الى نتيجة مؤسفة لم تكن قط تقصدها اختيارات الاغلبية.
ودعونا نتساءل .. ألم بصعد أدولف هتلر الى سدة الحكم فى المانيا باغلبية ساحقة"94%" ثم قادها الى الجحيم ونجح المجرم جورج دبليو بوش لدورتين متتاليتين فى أمريكا فقتل علي يديه الملايين فى العراق وافغانستان
ونتساءل ايضا .. ألم تكن العراق دولة مشهود لها بالازدهار فى ظل حكم الرئيس الشهيد صدام حسين الذى اتهموه بالديكتاتورية ثم جاءوا باساطيلهم تحت شعار الديمقراطية ونصبوا حكومتهم العميلة واذ بنا نفاجىء بالدماء تفيض على الرافدين بطريقة كتلك التى درسناها فى كتاب التاريخ عن زحف المغول وأن ما قالوه عن بداية عصر الديمقراطية هو بعينه بداية عصر الاستبداد والارهاب والقهر.
ألم تقم معظم الدول العربية باجراء انتخابات يقولون عنها عادة نزيهة وشفافة وتحترم ارادة "التغيير" واذ بنا نجد أن الحاكم والحاشية لا زالوا موجودون فى السلطة بل أنهم فازوا باغلبية ساحقة رغم ان من قال "نعم" ممن اجبر ترهيبا وترغيبا ومن قال "لا" كليهما متفقان على رفضه فضلا عن اغلبية كاسحة سئمت حيل الخداع والذهاب الى صنادبق اقتراع غير معروف عنها تغيير حاكم عربى من قبل وفضلت اعطاء ظهرها للمسرح العبثى الذى تحدثنا عنه.
خلاصة القول أنه لا يمكن ان نصنع ديمقراطية ولا نحتكم لنظام الاغلبية ولا نستطيع الوصول للعدالة دون تحقيق "الوعى "وخلق مقومات تعزيز "الارادة" واذا تجاهلنا هاتين الشرطين فاننا بذلك سنكون شركاء فى تعزيز "الاستبداد" وخنق مكاسب "الشعوب".
albaas@maktoob.com
albaas.maktoobblog.com