http://www.nowlebanon.com/Arabic/New...aspx?ID=105001

http://yabeyrouth.net/content/view/25906/9/

غادا فؤاد السمّان

- شكوى لغير الله تأبى المذلّة -
ربع قرن من الحبر والنزف والأرق والكتابة، ربع قرن من الشغف والشغب والتلصص والمتابعة الهباء لأدقّ تفاصيل ما جرى وما يجري وما سيجري، ربع قرن من اللهفة على الوطن والمواطن والأمة والمصير والمعاني الثقيلة، ربع قرن من الوهم والمكابدة والمراوحة والمكائد والخيبات التي لا تحصى، ربع قرن من الاهتراء والانزواء والأعراض المتفاقمة والأعصاب المتهالكة، ربع قرن من البصمات المهدورة في مهب الصحف والمجلات والكتب والعوالم الافتراضية الموغلة في السراب، ربع قرن من المطاردة والمزاحمة والمحاصرة والتعتيم ليخمد اسمي ويشرئبّ طاعنا في الغيّ والغضاضة "سواه"، ربع قرن بقاموس المناسبات هو يوبيل فضي معلن تُعدّ له العدّة للتكريم والتقدير والتكريس والفَرادة، بينما في حالٍ كحالي فلا أحد يكترث حتى اليوبيل نفسه يستقبلني بصمت، ولا أملك إلا أنْ أدخله مطأطأة الحبر والحرف والحلم والسنين، ليتابع بدوره مواراتي بتجاهل فادح لا أكثر ولا أقلّ، وخاصّة أنني لا أملك جسدا للترويج ولا ذهنا لتنشيط خيالاتهم العنين، ولا لغة لإثارة غرائزهم الصدئة، ولا سطورا لاستعراض الإباحية المطلوبة بمشهديّة أدبيّة تصويريّة حسيّة مبالغ في جرأتها لتصيّد المكبوتين من البيئات المغلقة على مرض، والمفتوحة على إدّعاءٍ مُستوردٍ سافر.

في مهبّ العقدين المذكورين ونيّف اللذين أوصلاني لليوبيل بدون أي احتفال أو أدنى جلبة تُذكر، ربّما تدّخرها جهة ما ليوم لا ريب فيه قريب، ساعة وداع لا أكثر يمضيها شاعر أو اثنان وناقد أو أكثر، في اضطراب فادح بحثا عن محاسني ولا يجدها، فيلعنني في سريرته ويمضي قبل أن يلقي النظرة الأخيرة يتابع على عجل مراسم التأبين وفي يقينه أنّ الأبجدية عادت إلى سلامها وأمنها ورتابتها المطلوبة.

وقبل أن يجفّ ترابي أستذكر المرحلة الملحميّة الشاقّة،عندما كان لا يسعني إلا أن أكون "مع" فأعلن، أو أكون "ضدّ" وأعلن، فلم أترك حدثا خارج إطار اهتماماتي، أو أغضّ الطرف عن وقعٍ دون لهفة مني أو مداولة، وليس أمامي سوى جملتي العصبية أصيغها برهافة بالغة مستنسلة من عمق الوريد ومن أطراف مخالب النبض الناشبة في كامل تضاريس العضلة القلبية المتهالكة باضطّراد حثيث كافة الأخطار المُحدقة بلبنان وطني المُستعار الذي أكنّ له كامل الحب والولاء دون قيد أو شرط، رغم أنف الإقامة المؤقتة.

قرابة الثلاث سنوات واصلت مع "إيلاف" النشر الأسبوعي باعتزاز كبير وحرص شديد على المضمون والموضوعية التي لم تخلُ يوما من موقف صريح أو تحيّز واضح فلطالما كرهت المواربة والترميز واللف والدوران في الإفصاح عن القناعات الذاتية والمقررات الوجدانية ورؤيتها المباشرة، إلا أنّ الرقيب كان يأبى تواجدي هناك وخاصّة أنّ "إيلاف" صحيفة الكترونية محكومة بالإقفال في وجه المتصفّح السوري تحسبّا من أن يعثر على همزة وصل لخَلاصِه، أو حرف عطف على أوضاعه المأزومة، أو ربّما اسم فاعل يُمكن التعويل عليه أو اسم مفعول يتحفّز للنيل منه، وبين معظم الافتراضات، ووفرة بالغة من جمهور يعزّي بكل ما آلت وتؤول إليه الأحوال الشخصية، وجدت نفسي عرضة لـ"تقصّي"-رجال الأمن- الذي زلزل سؤالهم عني، أوصال كل من أكرموه بالاستفسار حولي، ومع حلول الأزمة الاقتصادية العالمية وَجَدَتْ "إيلاف" إرباكا شديدا بإرضاء كافة المستكتبين لديها فاضطّر البعض الانفصال عنها وأنا معهم، مرغمين وخاصّة أننا نفتقد الوسيلة التي تعفيها من التزامها المادي، ونفتقد الوسيلة التي تغنينا عن المطالبة.

ثم كان لقلمي شرف المشاركة واقتسام الوجع سطرا إلى سطر مع المواطن اللبناني الذي لا أجد منأى عن أوجاعه لأنها تطالني بحكم "لبننتي" المشروعة بعد 18 عام من الإقامة المؤقتّة، أستحقّ فيها شرف "التجنيس" في أي دولة من دول العالم المتقدمة، فكم لبناني "تفرنس" بعد 5 سنوات من الإقامة في فرنسا و"تأمرك" بعد الإقامة لذات المدّة في أميركا و"تأكند" بعد الإقامة المماثلة في كندا و"تألمن" بعد مدة الإقامة ذاتها في ألمانيا... هكذا.

وصارت محطتي الحافلة في الصحيفة الالكترونية "Now Lebanon" وبخاصّة أنّ لبنان الأمس ولبنان الغد هو كلّ وليس مجرّد جزء من ذاكرتي وكياني وهمومي وهواجسي ومخاوفي وتطلعاتي، ولأني لا أملك سوى قلمي الحاد وحروفي الواخزة حتى الصميم، كتبتُ كالعادة بمباشرة لا يعيقها مجازٌ أو إيجاز، وبعدما أمِنْتُ شرّ الرقيب، عاد رجال الأمن لجولتهم الاستطلاعية على القاصي والداني وكل من صادفه سوء الطالع إذ تبيّن له أنه يمتُّ لي بصلةِ قربى ذات زمن خلفته ورائي، لأستسلم لغربة مزمنة تُبشّر بمواكبتي حتى الرمق الأخير، ومن جديد عادت الهواتف الخاطفة والهلعة من - دمشق - تحذرني من مغبّة إعلان الرأي ومخالفة الرأي الآخر، وصديقي الطيّب /ن.

ت / يصرخ هنا من بيروت كفاك تحيّزا لـ"سنّيتك "، فلا سعد الحريري ولا كافة أعضاء 14 آذار بوسعهم أن يقايضوا الرصاصة المحتومة لجمجمتك المحشوة بـ"الترّهات"، ليحرفوها عن مسارها المؤجّل للنَيْل من جرأتك التي يبغضها الكثيرون، وعبثا أُفْهِمُه أن لا علاقة لسُنّيتي بما أكتب، وأنّ أصدقائي من الشيعة أفضالهم فاقت كل المُرتقب من كثيرين سواهم، فالذي أدين لمصداقيةِ قوله وفعله في لبنان الآن "عقاب صقر" الإنسان الصديق الذي يتلهّف للمنطق، ويدعم الموضوعية، وينحاز للجرأة، وينصف المَلُكة لأيّ كان، وهو القارئ بنهم، والكاتب بحرفيّة، والمحلل بمهارة، والناشط بشغف، والمهتم بإنصاف، عندما سألت أحد المعنيين أول مرة الكتابة في صحيفة "البلد " يوم كانت في عزّ حضورها وهو يعرفني على حدّ قوله أيام صحيفة - الحياة - اللندنية ومع ذلك تذرّع بحجج لا تُحصى حول الميزانية وما أدراك، وشاءت الصدف أن أتعرّف على "عقاب صقر" الذي كان له صلاحية القبول لمجرّد القبول باستكتابي، كما كان لسواه الرفض لمجرّد الرفض باستقطابي، بل لم يدقق في الحيثيات التي يتوقّف غيره عندها طويلا من أصل وفصل وتفاصيل جهويّة مملّة، بل اكتفى بما لديّ من تراكم عرفه دون أدنى جهد مني، وهكذا الحال مع الصحيفة الالكترونية "Now Lebanon" وهو الشاب في المقاييس الزمنية، والشيّب في مفاهيم التمايُز ودلالاتها، وأعلم أنّ كلّ الذين يغيظهم مسيرة عقاب صقر الناجحة سيكيلون لي مكاييل مختلفة من النعوت، تماما كما كنت أتوقع مسيرة عقاب الواثقة وأزفّ له توقعاتي مناسبة إثر أخرى، وما القبّة البرلمانية والمقعد النيابي إلا أوّل المطاف. وليس صقر وحده الذي أحترم بعيدا عن سنيّتي التي صارت تهمة مشروعة بل ثمّة كثيرين غيره لا بد أن أجد المقام لتسديد الشكر اللائق قبل أن أمضي.

بقي أن أهمس لمن يتعقّب حروفي ويعدّ أنفاسها ويحللها ويفبرك التقارير حسب ما ينضح في إنائه المعتّق بالرداءة، لستُ أتلطّ بعباءة أحد سنّيا كان أم بوذيّا، ولست أنتمي حتى لفئة دمي التي استبدلتها بالحبر منذ زمن بعيد، وما من جهة عربية أو غربية أو بحرية أو قِبليّة أو يمينيّة أو يساريّة، تمتّ لخنصري بصِلَةٍ عقائديّة، عقيدتي فصّلتها على مقاس عقلي الذي يتقلّص ويتمدد تِباعا نسبة لراهن يهددني بالجنون، أنا هنا ما من داعٍ للشوشرة بين الجثث التي تنكر نَسبي ثلاثا قبل صياح الديكة في الدوائر الرسمية التي لم أعرف عنها ومنها سوى أصابع الاتّهام، وتهمتي أني أحبّ وطني المُستعار- بيروت - وأكره من يكرهه ويتربّص به، كما أحبّ – دمشق – مدينتي التي تضجّ بالغرباء عن عاداتها وتقاليدها وأصالتها وبهائها ولم يتبقّ لي فيها مجرّد حفنة أوكسجين، بعدما أصابها التلوّث، والجفاف، والجفاء، والإرهاق، والزِحام، والضجيج، والفوضى، والفساد، والرشاوى، والمصالح، والوساطات، والتجاوزات، وغيرها من قواميس الإدانة التي تُعلَنُ بين حين وآخر ليقع النزيه في قبضة الطاغي، وتصير الدولة ورجالاتها أكبر من المدينة ويخرج أبناؤها إلى الهوامش والأطراف النائية والبؤس، بعصا البعث الإصلاحية التي أسقطت الإقطاع لتحلّ مكانه، وقَضَت على البرجوازيّة
لتكون البديل، وحاربت الرأسمالية لتحتكرها، وهتكت الارستقراطية وعجزت تمام العجز عن التشبّه بأبنائها بأية وسيلة امتلكتها، فالأرستقراطية وحدها لغز من ألغاز الخصوصية يتوارثه النبلاء من سلالة القِيَم حتى وإن ضاقت الحال بهم لتقتصر على كسرة خبز وجرعة ماء، شكرا لك أيّها الرقيب الذي يذكّرني بشموخي الدمشقي الذي لن تنال شرفه مهما تغلغلت في ثنايا تلك المدينة العتيقة، ومهما تقمصّت من طِباعنا، ومهما تمثّلت بسلوكياتنا، ومهما استوليت على أملاكنا وأشيائنا وحاراتنا وحكاياتنا وذاكرتنا وأدقّ التفاصيل، ها أنا هنا أكتب إليك دون رتوش، وقريبا ستراني مع سيّدك أقدّم له عنقي، علّك تهدأ وعلّه يجرّدك من مهامك، ويحيلك إلى حُرّةٍ وحُرٍّ آخر تضعه في رأسك لتتوازن، فخواؤك يخلّ به وهذا ما يغيظك حتى الموت، لا ألومك ومعظم الأحرار لا يبالون ببعضهم البعض.


التالي السابق