الضعف العقلي والإجرام

رغم تقدم مضمار العلم والفن والمدنية الحديثة، لا يزال مقياس رقي الأمم مرتبطاً أولاً وقبل كل شيء بالصحة العقلية النفسية والجسدية لأبنائها.

إن أسس الصحة النفسية العقلية الجسدية تتضمن خبرة علمية بدأت منذ قرون عديدة قام بدراستها عدد كبير من العلماء في المدارس الطبية (السيكولوجية) في مختلف أنحاء العالم. وقبل الشروع بالموضوع لا بد أولاً من تعريف الصحة النفسية.

الصحة النفسية
هي التوافق التام بين الوظائف النفسية المختلفة والقدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التي تطرأ على المرء. من هذا التعريف يمكن الإستنتاج أن الكائنات الحية بمختلف أنواعها – ولضمان حياتها واستمرار النمو والحرص على البقاء – لا بد لها من أن تتفاعل مع البيئة وتتكيف مع ظروفها تكيفاً يضمن الغاية من وجودها.

فالإنسان يتفاعل مع البيئة الاجتماعية المادية والروحية وهذا التفاعل يظهر بسلوك خاص. هذا السلوك هو نوع من أنواع التكيف الذي نسميه بالتكيف النفسي. فبقدر ما يكون ذاك السلوك الذي يبديه الإنسان مع بيئته سلوكاً غير مناسب وغير متوافق بقدر ما يجعلنا نشك بصحته النفسية.

كثيراً ما يقع نظرنا في المجتمع على أطفال وبالغين يتميزون عن سواهم من الأفراد العاديين بصفات وسلوك شاذ ذي أثر سيء لا يتفق والقوانين الاجتماعية أو النظم الموضوعية.

وقد أثبتت تجارب علم النفس الحديث أن نسبة كبيرة من المجرمين والسكيرين ومنتهكي الأعراض... هم مرضى بالمعنى الحقيقي (سيكوباثيون). هذه الفئة تشكل خطراً على المجتمع الذي نعيش فيه.

الضعف العقلي مشكلة حار في حلها رجال الفكر والتربية منذ زمن بعيد. وفي الحقيقة أن للضعف العقلي أنواعاً عديدة وطبقات متباينة، ولضعفاء العقول مميزات متعددة ومختلفة. ولكل عالم رأيه وبحثه الخاص.

إن كافة أنواع النقص الجسمي والخلقي أوجدت له المدارس الطبية طرقاً مختلفة للعلاج وقد نجحت إلى احد ما في هذا المضمار. أما النقص العقلي، وبمعنى آخر الضعف العقلي فلا علاج له بالمجال الطبي بالرغم مما نحن عليه من تقدم الجراحة ووجود الآلات الطبية الحديثة والمخترعات البارعة، ورغم وصول الإنسان إلى القمر.. إذ لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نحوّل ناقص العقل إلى فرد عادي، ولكن ما يمكننا هو تكييف أخلاقه وتدريبه على أنواع خاصة من الأعمال الروتينية في الحياة.

يظن كثير من الناس أن ضعيف العقل والمجنون واحد، كما يعتبرون أن ضيف العقل مجنون يمكن شفاؤه من هذا المرض، لكن الواقع غير ذلك.

الضعف العقلي هو نقص في درجة الذكاء وهو موروث. أو هو قصور في التكفير إلى درجة بعيدة، والفرق بين ناقص الذكاء وبين الشخص العادي فرق في الدرجة وليس في النوع.

الجنون هو نتيجة اختلال التوازن العقلي وعدم انتظام القوى العقلية لسبب ما. ويختلف المجنون عن الشخص العادي في النوع فقط وليس في الدرجة. لا يمكن اعتبار ناقص العقل مجنوناً، كما لا يمكن أن نعتبر المجنون ضعيف عقل، فقد يكون المجنون عبقرياً وليس ذكياً فقط.

إن تعبير النقص العقلي علمي نفسي أكثر منه شرعي أو قانوني. ولقد مرت قرون عديدة قبل أن يتمكن العلماء من التمييز بين الضعف العقلي والجنون.

الضعف العقلي صفة موروثة يمكن ملاحظتها منذ الطفولة. أما الجنون فشذوذ مكتسب نتج أثناء الحياة أو خلال فترة منها بسبب عوامل خارجية أو داخلية. وعلى هذا الأساس لا يوجد مجنون بين صغار الأطفال قطعاً..

طبيعة الضعف العقلي

الضعف العقلي في نظر بعض العلماء هو عدم القدرة على التكيف الإجتماعي، بينما في عرف رجال التربية هو عدم القدرة على انتهاج سلوك ثابت. كما أن بلاكستون يعطي مفهوماً آخر فيقول: الضعف العقلي هو ضعف فطري في الفهم لا يرجى إصلاحه.

لضعيف العقل ميزات جسمية وحركية وغريزية وعقلية.

الميزات الجسمية
ليس الفرق كبيراً بين الشخص العادي وبين ضعيف العقل من الناحية الجسمية. كما أنه لا يوجد فرق في لون الشعر أو الجلد. لكن الاختلافات الأكثر أهمية هي في الميزات الداخلية (المجموع العصبي والغدد الصماء).

المجموع العصبي
لقد عكف العلماء على دراسته ودراسة الفوارق المختلفة حقبة من الزمن، وقد اعترضتهم صعوبات كثيرة كان من الواجب أن يتغلبوا عليها لكن كل ما يمكن قوله أنه لم يتم التوصل إلى شيء هام في دراسة الفوارق والاختلافات في التركيب المجهري.

أما عن الغدد الصماء وإفرازاتها فإن البحث فيها لا يزال محدوداً ومقصوراً. وقد لوحظ أن نشاط هذه الغدد له أثر كبير في شكل الجسم. فزيادة إفراز الغدة المخية تسبب نمو العظام كما يحدث عند بعض ضعاف العقول. كذلك زيادة أو نقص إفراز الغدد الدرقية قد يكون مصحوباً بالنقص العقلي. وقد ثبت أن ضعاف العقول أكثر تعرضاً وقابلية للأمراض وحياتهم أقصر من العاديين وهذا ما يثبت ضعف تركيبهم ونقصه.

أما بخصوص تحديد درجة الفقر العقلي بدقة، فهذا أمر من الصعب إن لم يكن مستحيلاً، لأن الاختبارات التي تجرى عليهم تحتاج إلى الفهم وضبط النفس أثناء التنفيذ. وبذلك كانت نتائج اكتشاف ضعفاء العقول أقل نجاحاً مما ينتظر.

الميزات الحركية والحسية

تبدو القدرة الحركية المنتظمة عند ضعفاء العقول شاذة وواضحة. فمثلا ضعاف العقول يجدون صعوبة كبيرة في تعلم القفز ولا يمكنهم ممارسة الحركة إلا بعد تمرين وتدريب لزمن طويل. وقد لوحظ أن حاستي الشم والذوق عندهم تكادان تكونان معدومتين.

الميزات الغريزية
إن الغرائز والانفعالات تؤثر كثيراً على أخلاق الطفل خاصة في بدء حياته (في السنوات المبكرة)، وقد قال أحد العلماء "يجب ألا ننسى ما كناه أولا". ويقصد بذلك السنوات الخمس الأولى، إذ هي أهم مرحلة من مراحل الحياة. إذ منها تنطبع البيئة الأولى بعاداتها وتقاليدها في اللاشعور ثم تترسب على شكل عقد. كذلك تكبت كافة الانفعالات بطريقة لاشعورية. وفي هذه المرحلة ترتسم معالم الشخصية. إما أن تكون متماسكة وقوية وإما متفككة وضعيفة. كل هذا تبعاً للخطوط الأساسية، أو بمعنى آخر تبعاً للحجر الأساسي الذي تقوم عليه الشخصية. ويرجع علماء النفس أصل التعب النفسي والقلق العصبي إلى تلك المرحلة من الطفولة المبكرة. وكثيراً ما تظهر أعراض الهستريا في الحياة المقبلة وغالبا ما يكون مصدرها الكبت والحرمان الذي أصاب الطفل.

المميزات العقلية

وبالرغم من تساوي حواس ناقص العقل في درجتها مع حواس الشخص العادي، إلا أن المدارك ضعيفة وتبقى في كثير من الحالات عند ضعفاء العقول في مستوى أدنى وأقل تميزاً. كما أن إحساساته غير منتظمة وليس لها معنى. إن ضعاف العقول كثيراً ما ينجحون في الأعمال اليدوية أو الأعمال التي لا تحتاج إلى تركيز عقلي دقيق.

التصور عند ضعفاء العقول

التأمل الباطني يكاد أن يكون معدوماً أو بتعبير أخر هو ضعيف للغاية، وليس بإمكان ضعفاء العقول وصف ما يجول في مخيلتهم أو التعبير عنه.

الإنتباه عند ضعفاء العقول
إن ضعاف العقول غير مزودين بهذه الملكة الطبيعية. إذ أن قليلاً من المؤثرات الخارجية، حتى البسيط منها، يجذب أنظارهم ويجعلهم يتركون الأعمال التي بأيديهم ويتوجهون إليها. وكثير من المثقفين يظهر فيهم عدم تركيز انتباههم في كثرة الأغلاط التي يرتكبونها في كتاباتهم من غير أن يشعروا بها. فمثلا يريد أن يكتب أحدهم (Dog) فيكتب (God)

الميل عند ضعفاء العقول
الميل هو أساس الإنتباه وهو عند ضعفاء العقول أقل تنوعاً وكمّاً. وبذلك تكون قوة انتباههم ضعيفة ومتمشية مع ميولهم، وأن الصعوبة القائمة بأفهام ضعفاء العقول هي نتيجة صعوبة جذب انتباههم وتركيزه. وكثيراً ما يفشل المدرسون في إلقاء الدروس لأنهم لم يستعملوا طرقاً خاصة مختلفة لاجتذاب انتباه الطلاب.

الذاكرة عند ضعاف العقول
لا قدرة لضعفاء العقول على التذكر وليس لديهم القدرة الكاملة على ذكر الصور أو الأشياء التي تحيط بمنزلهم أو في المدرسة. وهم كثيرو النسيان حتى أنهم يفقدون تذكر الارتباطات المنطقية. أما الماضي بتاريخه وحوادثه فهو معدوم عندهم كنتيجة لازمة لنقصهم في الميول والانتباه والفهم الدقيق.

التخيل والكلام
إن عملية التخيل لدى ضعاف العقول موجودة ولكن بدرجة بسيطة جداً. وهذا يتناسب مع البساطة التي هم عليها، حتى أن ضعف هذه المخيلة قد تشاهد عند كثير من المثقفين ورجال السياسة والأعمال، ولذا تراهم يفشلون بالأعمال الموكولة إليهم. كما أن الكلام عندهم عملية عقلية معقدة ولذا لا يتقنها ضعاف العقول لما فيها من ارتباطات فكرية كثيرة. وهذه أيضاً موجودة عند كثير من المثقفين، فترى الكثير ممن يحملون الشهادات العالية لا يتقنون عملية محادثة أو محاورة مهما كان نوعها حتى لا يستطيعون إلقاء كلمة في أفراد عاديين.

قابلية ضعاف العقول للإستهواء

من الدراسات التي قام بها علماء النفس تبين لهم أن ضعاف العقول هم ضعيفو الإرادة وينقادون لغيرهم من غير مقاومة. وكذلك هم قابلون للاستهواء بدرجة كبيرة. إن شروط الإستهواء متوفرة لديهم ويمكن التغرير بهم بسهولة. أما سرعة التأثر فهي بالغة عندهم ولهذا يسهل على الكثير من الناس استغلالهم، كما هو الحال عند كثير من الجماعات والعصابات الذين ينتقون أفرادهم من ضعاف العقول لتنفيذ خططهم وتسييرهم كما يرغبون، فيستخدمونهم كقطع الشطرنج، ومن هنا يظهر خطرهم على المجتمع.

ومن الدراسات التي قام بها علماء النفس في مختلف معاهد الإصلاحية في العالم تبين لهم أن لضعاف العقول باعاً طويلاً بالإجرام على اختلاف أنواعه. فإن الشخص الشاذ في سلوكه لا بد أن يكون شاذاً في عقليته، والشذوذ في العقلية هو الذي لا يمكنهم من العمل بتوافق مع قوانين الأخلاق والإجتماع.

ومن العجب أن يعلم المرء أن لاستهواء ضعاف العقول دخلاً كبيراً في ارتكاب الجرائم الكثيرة البشعة.

لقد ثبت أن الميل عند ضعاف العقول هو أساس الانتباه عندهم. فإذا أردنا أن نوجه انتباههم إلينا والإصغاء لأقوالنا ومتطلباتنا فما علينا إلا أن نجعل هذا الإنتباه شديد التركيز.

لديهم ميل قوي لحب التملك وبخاصة تملك الأشياء ذات المنظر الجذاب وغيرها.. إذاً وجب أن نحيطهم بالأشياء ذات المنظر الخلاب، أو بأشياء تثير غرائزهم على مختلف أنواعها، ثم بأقران مماثلين لهم من حيث المشاركة الوجدانية (الحزن والسرور والفقر والآلام)، فيتوافق هذا مع قابلية الاستهواء لديهم، فينقلبون إلى آلات مجردة من التفكير يمكن تسييرها كما يحب المؤثر ويريد.

وقد ثبت أن ضعفاء العقول، هم أيضاً ضعفاء إرادة، ينقادون لغيرهم أو لرغباتهم من غير مقاومة.. وأن بين الضعف العقلي والإجرام علاقة كبيرة ومتينة.

وتنحصر أسباب ارتكاب الجرائم في نوعين:
أسباب داخلية نفسية (تعود إلى التكوين الداخلي لأعضاء الإنسان..)

وأسباب خارجية دافعة (العوامل الخارجية المثيرة التي ذكرناها).

في بعض الدول يُعتبر الضعف العقلي مصدر الإجرام عامة، وأغلب ضعاف العقول يميلون إلى السرقة واستعمال الشدة في السلب والنهب والتعذيب بطرق بشعة. ولقد أثبت مرشيزون بعد قيامه بأبحاث عديدة وطويلة في مختلف أنحاء العام، وعلى مختلف الأجناس من الناس، أن الجرائم ترتكب لنزع الملكيات من الآخرين حيث غريزة حب التملك عند ضعاف العقول لا حدود لها.

والخلاصة أن الضعف العقلي يساعد على ارتكاب الجرائم ولكن بدرجة تحددها الجريمة المرتبكة ونوعها.

والسلام عليكم

الدكتور محمد عبيد ششمان
مجلة العربية – العدد 160 – مارس 1972


الإعداد بتصرف: محمود عباس مسعود