تبدو ظاهرة العزوف عن القراءة مستشرية في الزمن الحاضر ، حتى ان الاهمال وصل الى الكتاب المدرسي ، فالطالب اصبح لا يميل الى القراءة الا من رحمه ربه ، وهو يفضل التقنيات الحديثة عن الكتاب مع العلم ان للكتاب حضوره الدائم وفوائده الجمه ، وهذا يقودني الى التساؤل لماذا كنا نهتم بالقراءة منذ صغرنا رغم قلة الامكانات ، ونشأنا على حب الكتاب وصداقته ، تساؤلات عديدة تدور في ذهني وانا اشاهد الانحدار الثقافي وتراجع دور القراءة التي من شأنها ان تعمق ظاهرة اللامبالاة.
انني وفي هذه العجالة اود ان اتطرق الى تجربتي مع القراءة اولا ، وهي تجربة اشتبكت مع المعاناة والعذابات والقهر والطرد القسري لأسرتي من موطنها الاصلي وكان وقتها الاهتمام بالتعليم اولى ثوابتنا لأنه البوصلة الوحيدة لتشكل حياتنا ، وكنا في الزمن الماضي ندخل الى المدرسة دون المرور بمرحلة رياض الاطفال ، وهذا يعني انا كبرنا ونحن صغار ، وكنا محرومين من ادنى حقوقنا الطفولية بسبب الاوضاع التي نجمت عن نكبة عام 1948 ، وفي المدرسة تعلمنا القراءة والكتابة واشياء اخرى ، وكنت افكر دائما بالاشياء الاخرى ، هل هي المعارف والمهارات وهل هي اكتساب الموروث الثقافي ، ورغم قلة المال كنا نكتب بقلم الرصاص ولم يكن بحوزتنا الا دفتر للكتابة و في حده الاعلى ثلاثة ، وكنا عندما نحتاج الى كتابة درس جديد ولم يوجد متسع في الدفتر ، نقوم بمسح ما كتبناه سابقا ، ونضع كتبنا في حقيبة من القماش ، ولم نكن نتلقى المصروف اليومي كما في هذه الايام ، واذا تحدثنا عن لباسنا فكنا لا نملك الا بنطالا او اثنين ، ونذهب الى المدرسة سيرا على الاقدام رغم بعدها ، ولكن رغم كل ذلك الحرمان كانت لدينا الارادة الصلبة والعزيمة القوية ، وفي خلال المرحلة الاساسية تكوّن شوق لدي للاهتمام بالقراءة ، ولكن ضيق الحال كان العائق الوحيد امامي ، ولكن كنت افرح اذا عثرت على جريدة ملقاة على طرف الرصيف فأقوم بقراءة كل كلمة منها ، وعندما انتقلت الى المرحلة الاساسية العليا بدأ الاهتمام بالقراءة الاضافية يأخذ مساحة مهمة في حياتي ، فطرحت مبادرة على اصدقائي الخمسة والذين لديهم حس ثقافي بأن نشكل لجنة فيما بيننا تهتم بالقراءة وان بدفع كل واحد منا في الاسبوع خمسة فلسات ، حيث كنا نشتري قصة كل اسبوع ونقرأها بالدور ، ثم تصبح ملكا لأحدنا ، وكنا نجلس بعد نهاية قراءة القصة ونحلل ما جاء فيها ، وما العبر المستفادة منها ، وكنا نهتم بالمفردات الجديدة ، حيث كنا نوثق ذلك في دفتر خاص ونستخدم المناسب منها في كتابة واجب التعبير ، وزيادة في الاثراء كان هناك شخص يبيع الكتب والمجلات والصحف باب المسجد الكبير في نابلس ، فكنت اذهب اليه بعد تحضير دروسي لليوم التالي وأقرأ القصة وانا جالس على الرصيف بمحاذاة البائع مقابل خمسة فلسات لكل قصة ، كما كنت استأجر الجريدة لقرائتها بنفس المبلغ ، وعندما انتقلت الى مدرسة الجاحظ الثانوية وهي مدرسة عريقة في نابلس ازداد طموحي في اثبات ميولي الثقافي لا سيما ان المدرسة تحتوي على مكتبة كبيرة تضم الاف العناوين وكان لنا حصة مكتبية في كل اسبوع ، حيث تعرفنا على اسماء مؤلفين وقرأنا عشرات الكتب المتنوعة ، وكنا نكتب ملخصا لكل كتاب ، وكان يشرف علينا الاستاذ محمد جواد النوري " مدرس اللغة العربية " وهو الان مدرس في جامعة النجاح الوطنية ، امد الله في عمره ، حيث كان يشجعنا على القراءة والكتابة ، كما كان الفضل في تشجيعنا على القراءة والكتابة ايضا للمرحوم الدكتور الشاعر عبد اللطيف عقل ، الذي اعطانا من وقته الشئ الكثير ، وعندما صور ديوانه الشعري الاول " اغاني القمة والقاع " قام بتوزيعه علينا ، وقرأ امامنا عدة قصائد ، وكم كانت سعادتنا في امتلاك هذا الكتاب الذي قرأناه بعناية ، وكان المرحوم عقل يدعونا الى منزله في رفيديا لمناقشة هذا الكتاب ، فأثر ذلك فينا لدرجة انني كتبت اول مقال نشر في جريدة البشير وانا في الصف الحادي عشر ، فكانت فرحتي عارمة عندما تصفحت الجريدة ورأيت مقالي منشورا ، لم اصدق نفسي في ذلك الوقت حتى عائلتي فرحت بهذا الانتاج ، واحتضنت عدد الجريدة حتى اثناء نومي ، وكان على اثر ذلك ان قام المرحوم والدي بأخذي الى مكتبة القطب في نابلس وقال لي " شوف الكتاب اللي بعجبك ، انا بدي اشتريلك كتابين كل شهر ، بس بدي اياك اظل شاطر في المدرسة " فكانت تلك اعظم هدية يقدمها لي والدي ، وبعدها اشتركت في مكتبة بلدية نابلس العامة ، واخذت اهتماماتي الكتابية في المواضيع الادبية تزداد ، واذكر انني عندما زرت بيروت وتصفحت مجلة الارض المحتلة ، فكم سعدت عندما رأيت مقالا منشورا لي في ذلك العدد حول معارض الكتب التي اقيمت في الاراضي المحتلة ، وبعد ذلك تنوعت كتاباتي واشتملت المواضيع السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية ، والتي نشرت في صحف الفجر والشعب والميثاق والنهار والقدس والفجر الادبي ، وكذلك في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد ، وعندما فصلت من التربية والتعليممن قبل الاحتلال عملت على انشاء دار الوحدة للنشر في سوق الخضار في نابلس في مكان متواضع ، وكان ذلك مكانا للالتقاء بالمثقفين والادباء وعلى الاخص " عبد اللطيف عقل ، علي الخليلي ، زكي العيلة ، محمد كمال جبر ، عبد الناصر صالح ، محمد الريشة ، عادل الاسطة ، حنان بسيسو ، فدوى طوقان ، يعقوب حجازي ، انطوان شلحت " وغيرهم كثيرون من سائر انحاء فلسطين ، ولكن تعرضت تلك المكتبة للمداهمة من قبل الاحتلال الاسرائيلي الذي صادر مئات الكتب واللوحات في حملة شرسة لمحاربة الكلمة ، وكان يقدمنا للمحاكم العسكرية حتى انه قام باغلاقها .
وعود على بدء عملت مكتبة في البيت تحتوي على مجموعة من الكتب في كافة المجالات الثقافية ، حيث عودت ابنائي على الاهتمام بها وتشجيعهم على القراءة ، وكم كنا نحاول اخفاء تلك الكتب عندما تقوم قوات الاحتلال باقتحام البيوت ، حيث كان تفكيرنا ينصب فقط حول كيفية الحفاظ على تلك الكتب ، وقد صدر لي ستة مؤلفات وعشرات المقالات والدراسات .
واليوم اقول ان القراءة غذاء للعقل لا غنى عنها ، فاذا اردنا ان نعيد الاعتبار لثقافتنا يجب علينا العودة الى القراءة لانها بوصلة تشكل حياة الانسان وبدونها يبقى هذا الانسان مجردا من كافة القيم الحضارية والاخلاقية ، وانا اوحي قرائي على الاهتمام بالكتاب فهو خير جليس في هذا الزمان اذا اردنا فعلا ان نعبّد الطريق نحو الحرية والاستقلال.
المفضلات