مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي
تمهيد:
يكثر الحديث في هذا القرن على فكرة الإنسان، هذه الأخيرة لا يمكن فهمها خارج المجال التداولي له؛ و المقصود هنا (اللغة، المجتمع و الدين.... ) و المطلوب هنا: دراسة العلاقة الجدلية بين مفهوم الإنسان الكامل و الصوفية بنظرة دينية و علمية. فماهو معنى الإنسان و ما معنى الصوفية ؟ و هل من السهولة و السرعة تطبيق ذلك عند الإنسان؟
التأثيل المفاهيمي :
و إذا كنا قد حددنا عنوان هذه المداخلة بـ : مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي ، فإن الاشتغال بهذا العنوان يتطلب منا أن نحدد في البداية مصطلحا ته الأساسية و التي التزمنا في تحديدها بمصطلحين أساسيين لضرورة تداولهما في مقدمة هذه المداخلة ؛ و هما مصطلح " الإنسان " و "الصوفية " .
1- مفهوم الإنسان :
1-1- لغويا (جنيالوجيا) :
أ - في المفهوم العامي :
الإنسان مخلوق آدميا، وهي نظرة ساذجة و سطحية لخلوها من الأبعاد و اقتصار النظرة على الأعراض لا الجوهر (1).
ب - في اللغة الأجنبية (الفرنسية) :
بصفة عامة نستطيع تسمية "الإنسانية" (HUMANISME) : كل ما يتعلق بكرامة الإنسان ، و القيمة العليا ، مما يجب تحفيز أكثر من الدفاع على الأخلاقيات الاقتصاد ، الدين و بشكل كلي نستطيع التكلم عن الإنسانية المسيحية ...إلخ .
بهذا المعنى الإنسان يتواجد في مجالات فلسفية متعددة ( شخصا نية و وجدانية) غير مجدية في تاريخ المجتمعات ، إضافة إلى هذه المفاهيم ظهر مفهوم الإنسان مما يشكل خطر بإقصاء بعض الأفراد خارج المفهوم الراقي ؛ هذا ما يتضح لنا من الإنسانية التقليدية التي رفضت بشدة من طرف الفلاسفة مثل"ماركس" و"نتشه" مفهوم مختلف للإنسان أو ما يجب أن يكون عليه الإنسان (2) .
ج‌- في اللغة العربية :
فالإنسان أصله اللغوي إنسيان ، و أصل الكلمة عند العرب القدامى تأخذ معنيين الأول : أنسيان على وزن أفعلان و تعني النسيان ؛ و العلة عند معتقديها ترجع إلى كون أدم نسى ما عهد إليه من قبل الله ، و عليه سمي بذلك ؛ و المعنى الثاني : ينطبق من الأنس أي الألفة و يكون على وزن فعليان(3)
كما أن الإنسان من الإنس مثنى بصيغة المفرد (إنس - إن) فالإنسان جنس ، آدم و حواء ، الرجل و المرأة نوعان من جنس واحد(4) ، و من (أنس )اشتقت إنسانية ( Humanité )( كمصدر صناعي من كلمة إنسان) و هي تعني جملة الخصائص التي تتميز بها البشرية عما سواهم من الحيوانات مثل العقل و السيطرة على الهوى و تقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية ، أو هي عطف الإنسان على أخيه الإنسان و احترامه و تقديره بقطع النظر عن وضعيته الاجتماعية و السياسية، و هي بهذا المعنى تقابل التمييز العنصري ومنه أنسية (humanisme) مذهب من يجعل الإنسان في صدارة القيم أما بالنسبة إلى الحكمة الإلهية كما هو الشأن لدى المؤمنين ، و إما على وجه الإطلاق كما الشأن لدى الملحدين ، و منه أيضا تأنس (sociabilité) بمعنى محبة العيش مع الجماعة و الميل إلى معاشرة الآخرين بالحسنى ، و يقابله التوحش(5) .
د‌- أما في الاصطلاح (6)
1- المنطق:
الإنسان من الوجهة المنطقية جنس قريب، و عند بعض النوع (ESPECE)، و إذا اعتبرنا الحيوان جنس (GENRE)، و قد يختلط مفهوم الإنسان مع الرجل؛ والفرق بينهما أن الإنسان جنس و الرجل نوع و بتالي فالإنسان يخص الذكر و أنثى.
2- عند البيولوجيين :
كائن حي من المنظور أنه يقوم بوظائف كالتغذية ، الإحساس ، الحركة ، التناسل ، و الحيوان و تترتب عنه عدة فلسفات سفلت الإنسان تسفيلاً .
3- أما في الفلسفة :
نجد تعاريف متعددة حيث إن الفلاسفة وضعوا عدة مفاهيم:
أ- الإنسان الصانع (HOME -FABER) من جهة أنه يصنع نفسه، و يصنع الموجودات التي يتم بها وجوده.
ب- الإنسان العاقل SAPIENS ) ( Homo – من حيث كونه يفكر ، و يتولد وجوده من تصوره من حيث كونه موجود لذاته ( être pour soit ) .
ج- الإنسان الاقتصادي ( Homo – Economicus)
4 – و عند فلاسفة الإسلام :
نجد ابن سينا (980- 1037م) يعرفه في كتابه (النجاة) : " ليس الإنسان إنسانا بأنه حيوان ، أو مائت ، أو أي شيء أخر بل إنه مع حيوانيته ناطق"و يضيف في كتابة (الشفاء) : " الإنسان جوهر له امتداد في أبعاد مادية تفرض عليه الطول و العرض و العمق ، و من جهة أخرى يمتلك نفساً بها يتغذى و يحس و يتحرك ، و مع ذلك يمتلك عقلا به يفهم الأشياء و يتعلم الصناعات ... و عندما يتحدى كل ما سبق نحصل على ذات متحدة هي الإنسان.
كما نجد عند " الفارابي" (874م – 950م) : " أن الإنسان منقسم إلى سر وعلن ، أما علنه فهو الجسم المحسوس بأعضائه و أمشاجه ، وقد وقف الحس على ظاهره و دل التشريح على باطنه أما سره فقوى بروحه ".
5- و عند المسلمين:
لا يخرج مفهوم الإنسان عند ثنائية الجسد و الروح التي هي كوحدة تمثل ماهية الإنسان و جوهر ، و أن الخلل إذا حدث في سير علاقتهما حدث الانتكاس ، و سارت الذات نحو العالم البهيمية أو نحو الهمجية .
6- وعلى غرار ذلك : نجد الفلسفة الإلهية (THEODICEE) ترى مفهوم أن الإنسان لا يخرج عن المعنى القائم بالبدن و لا يخص بذلك الهيكل و إنما الشيء الذي يحرك البدن و لعل مقولة " الأشعري" مأخوذة من نظرتهم حين يقول : " إن الإنسان هو هذه الجملة المصدرة ، ذات الأبعاض و الصور " .
7- و عند الصوفية على العموم:
" لا يخرج هذا المفهوم عن كونه برزخ بين الوجود و الإمكان ، و المرآة الجامعة بين صفات القدم و الحدثان ، و الواسطة بين الحق الذي هو الله و الخلق " .
8- و عند الفلاسفة الغربيين :
نجد "الإنسان الشمولي" (total man)مصطلح فلسفي ، ورد في النصوص " كارل ماركس " (k- markx , les manuscrits de 1849) و يدل على العلاقة المتبادلة بين الفرد و المجتمع من جهة ، و صورة مثالية معينة من جهة ثانية .
ما ورد عند الأناسي الفرنسي " مارسيل موس " (بحث في الوهب) في سياقه عرفه " الواقعة الاجتماعية الشمولية أو الكلية المتحققة باختيار فردي شمولي " .
و كتعريف جامع مانع يمكن أن نقول : " أن الإنسان كائن حي عاقل ، يأنس ، ويتآنس و هو أيضا واسطة جوهرية – من الروح و البدن – بين الحق الذي هو الله و الخلق " ، كمفهوم نحاول أن نتقرب به إلى مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي .
1-2- تاريخياً (كرنولوجيا) :
إن جدلية الإنسان و التاريخ تجعلنا نرتبط دوما بفكرة الإنسان الكامل، أو ما يسميه البعض الإنسان النموذج باعتبارها فكرة تطرح نفسها عبر صيرورة التاريخ. ففي فلسفة " أفلاطون " كان الإنسان الفاضل نموذجا جديد يحاول إحداث القطيعة مع الإنسان السفسطائي الذي لم يعد مرغوباً فيه حتى مع " سقراط " نفسه .
كما أن مشكل الانحطاط في عمقه الحقيقي هو الإنسان ، لأن الحلول الأخرى تبقى عاجزة إذا أهمل الإنسان و هذا ما يفسر في انحطاط العالم الإسلامي و العالم الثالث بأجمعه ؛ هذا و إن كان العالم الإسلامي في مطلع القرن 20 م شهد حركة إصلاحية نهضوية لكنها لم تستطع تحقيق القطعية و لا النهضة كونها اهتمت بالعقيدة و أهملت الإنسان كمشكلة ، و هذا ما يمكن أن يفسر السؤال الحاضر في الخطاب الإصلاحي باستمرار لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم ؟ (6) .
فإذا كانت الحركة الإصلاحية النهضوية انطلقت من حديث الرسول (ص) : " ما أنا عليه و أصحابه " ، فإن القومية كتيار ارتبط ظهورها بالتواجد التركي جعلت نموذجها المركزي الإنسان الغربي فأغلب أدباء الخمسينيات امتازوا بهذه النزعة ؛ و إن كان لها دعاة غربيون أمثال : فلاسفة الألمان " فيخته " و " فيور باخ " و" نتشه " و " هيدغر " ، و في تصورها هذا تنطلق من نماذج جاهلية " كعمر و بن كلثوم " ، " عنتر العبسي " أو نماذج إسلامية كـ " هارون الرشيد " ، و " المعتصم بالله " و غيرهم من عظماء و نواب العرب (7) .
فاختيار النموذج الماضوي الراجع لبعد الذات العربية عن واقعها مما لم يساهم في إيجاد حل لمشكلة الانحطاط التاريخي التي عرفها العرب عبر مرور الزمن .
و في مرحلة متقدمة ظهرت محاولة لإحداث القطيعة مع ماضوية عصر النهضة شعارها كان علمانياً متأثر بالفكر الشيوعي الماركسي ، و متخذةً من الإنسان النموذجي الماركسي أصلاً و مثل هذا في فكر العرب كل من " حسين مروة " ، " الطيب تيزني " و غيرهم ، و إن كان هذا النموذج لا يمت بصلة لواقعنا ، وهذا واضح أيضاً عند الأستاذ " بوعرفة " في كتابه " الإنسان المستقبلي في فكر مالك بن نبي " .
كما نجد أسطورة الفهم المادي للإنسان القائلة : " إن الطبيعة تشكل نقطة انطلاق التطور الإنساني " فالإنسان جزء من الطبيعة ، وهو لذلك بحاجة إليها كشرط طبيعي لوجوده كما هو عند كارل ماركس في كتبه (k- markx , les manuscrits de 1844 – Tard bottigelli – Ed .Soc .Paris . 1969.P. 61) ، و من هذا نستنتج إنه حتى العمل الذي يرى البعض بأنه جوهر هذا الإنسان هو في الأصل من منطلق مادي بيولوجي ، و بالتالي يمكن القول عن الإنسان أنه يملك " طبيعة هي تاريخية و تاريخياً هو طبيعي" كما قال ماركس أنجلز في كتابه ( L’idéologies allemande – Tard – Aiger- Ed . Soc. Paris 1968 ) ، و المقصود هنا أن التطور التاريخي منطلقه هو الطبيعة ؛ و الإنسان ليس بجوهر مختلف عنها فتفاعلهما مع بعض يساهم في تحقيق الإنسان بجوهره الكامل و الفكرة نجد شرحها عند كارل ماركس في كتابه (Manuscrits , Op. sit. P.96) ، إذ يقول : " إن التاريخ نفسه هو جزء فعلي من تاريخ تكوين الإنسان للطبيعة ".
و" فرانكلين " عندما يعرف الإنسان " حيواناً يصنع الأدوات " كما هو مشار له عند كارل " ماركس " في كتابه (Le capital – trad. . Roy. Ed. Soc. Paris. 1977. p. 138) ، تم العلاقة بين الإنسان و الطبيعة و المجتمع ، " فكارل ماركس " يرى أن في الطبيعة شرطاً لا للوجود الفيزيائي فحسب بل و بالدرجة الأولى للوجود الاجتماعي حتى أنه فسر علاقة الإنسان بالمرأة هي العلاقة الأكثر طبيعية للإنسان و الإنسان ، إذن الطبيعة أصل الإنسان و المجتمع و علاقة الإنسان بالإنسان (8) .
كما أن بالعمل وحده ارتقت اليد الإنسانية إلى هذا المستوى الرفيع من الكمال الذي استطاعة فيه و بقوة تكاد تكون سحرية توجد لوحة " رافائيل " و تمثال " تورفالدسين " و موسيقى " باغانيني " كما قال " ماركس أنجلز " في كتابه ( مختارات ، دار التقدم ، موسكو ، د ط ، 1970 ، ص 07 و ما بعدها) .
فالإنسان الكامل بهذا المنظور هو الشخص الذي يستطيع تحقيق ذاته من منطلق تلبية حاجياته أو السيطرة على الطبيعة من منطلق عملي ، عبر صيرورة الزمن مما يعطي لتاريخ مشروعية تأسيسه و هذا هوتفسير جوهر الإنسان بمنطلق ماركسي يقر تمييز الإنسان الحقيقي عن اللإنسان .
و فكرة الإنسان الكامل تقود لعهد موغل في القدم في كتب الدين المقارن ، و قد جعلت ابتدائها من أساس سكونية ستاتيكية آرية ، إنما ترى فيه خصوصاً أنه " الإنسان الأول " فهو " الكيومرث " عند المزدكية و" آدم قدمون " في كتبه القبالة اليهودية ، و الإنسان القديم عند المانوية المستعربة ، و لم يكن هنا توحد في تصور الإنسان على أساس أنه (إنسان عين الوجود ) فقد أحل كلمة مستجدة عند النصارى هي " صورة نموذجية " (9) .
كما نجد أن الإنسان الكامل الحقيقي الذي ينتظره المسلمون هو نوع من البشير (Un Messie) و هنا يتساءل الباحث " المصري الوجودي " قائلاً : " أليست الفكرة اليهودية عن البشير المسيح ترجع إلى أصل إيراني ، و تبعاً إلى هذا إلى أصل آري " ريتيسنشتين " ( Reitzensten) ، و الفكرة الديناميكية الإسلامية عن الإنسان الكامل ألم تكن منذ البداية ذلك المهدي المنتظر الذي قالت به " الشيعة الإمامية " ، و هم كان معظمهم من الموالي الداخلين في الإسلام و كانوا من الفرس و بالتالي كانت هذه الفكرة آرية الأصل كذلك .
نشاهد منذ فجر الإسلام تنشأ الفكرة البشرية في اليمن العربي لابسةً الفكرة القائلة " بالمخلص " منتظر يعيد العدل إلى نصابه ... (10) .
لكن بدوي عبد الرحمان يرى أن هذه القسمات و أمثالها من شأنها التضليل ، فشاهد أن النظرية الإسلامية الخالصة في الإنسان الأول إنما تمت هي في مقتضياتها النشورية { ... } عن طريق القرآن نفسه ، و ذلك بتدبير نصه العربي تدبيراً سنياً مستقيماً .
2- مصطلح التصوف:
2-1 – جنيالوجيا :
- في اللغة الفرنسية : ( MYSTICISME , MYSTIQUE)
هو المقابل للمصطلح الصوفية ، له عدة مفاهيم منها أنه " هو المعرفة على حسبها يوجد ترتيب للحقائق فائقة الطبيعة التي لا تستطيع الوصول بالإدراك الغريب للتجربة المؤدية إلى المعرفة العقلانية " كما أنه أيضا " حالة سيكولوجية للذين لهم الحس بالدخول مباشرة في علاقة مع الرب " .
و بمعنى آخر: " هو المعرفة أو الإيمان مضاد للعقل يرفض الذكاء و الملاحظة، و يقوم على الإحساس و الخيال " (11).
كما نجدها في قاموس آخر تعني : " مجموعة الإيمانيات الدينية أو الفلسفية ، و التي عن طريقها يتوصل الإنسان إلى مستوى الكمال ، هذا الأخير يتمثل في نوع من التأمل يوصل صاحبه إلى المستوى الوجدانية التي يمكن أن تتيح عملية إتحاد الإنسان بربه (الإله) (12) .
و المفهوم هنا لا يخرج عموما على أنه التأمل أو التبصر الروحاني الخاص بالإنسان.

- في اللغة العربية :
أن كلمة التصوف و صوفية مأخوذة من الصوف لأن الصوف كان منذ زمن قديم اللباس الغالب على الزهاد (13).
كما أنه علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، و تصفية الوطن البواطن من الرذائل و تحليتها بأنواع الفضائل، أو غيبة الخلق في شهود الحق أو مع الرجوع إلى الأثر فأوله علم و وسطه عمل و آخره موهبة .
و الصوفية اسم مشتق أما من الصفاء لأن مداره على التصفية، أو من الصفة لأنه اتصاف بالكمالات ، أو من صفة المسجد النبوي لأن الصوفية متشبّهون بأهل الصفة في التوجه و الانقطاع أو من الصوف - كما هو مشار إليها سابقاً - لأنه جل لباسهم الصوف تقللاً من الدنيا وزهداً فيها اختاروا ذلك لأنه كان لباس الأنبياء - و حسب رأي ابن عجيبة الحسني -
أن هذا الانشقاق أليق لغةً و أظهر نسبة فيقال تصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقنص إذا ليس القميص و النسبة إليه صوفي (14).
و في الاصطلاح :
قال "خليل أحمد خليل" :" الصوفية أو التصوف : طريقة روحية دنية مذهب فلسفي خاص قوامه القول إن المعرفة اتصال مباشر بين الروح و المطلق، دون استعانة بالعقل العملي؛ أما الصوفية مذهب ديني يرمي إلى إتحاد الإنسان بخالقه من طريق التأمل و التوحد و الوجود و الفناء" (15).
و يقول" محمود يعقوبي" : " النظرة التصوفية هي دعوى مشاهدة حقائق الأشياء و الأمور مشاهدة باطنية عن طريق الحدس و الوجدان اللذين لا يمكن التعبير عنهما باللغة و التفكير العقلي" .
وعن علاقة مصطلح الإنسان و الصوفية بالكمال لا بأس أن نشير هنا إلى ضبط مختصر لهذا المصطلح:
فـ كمال أول ( Entéléchie ) مفردة ابتكرها " أرسطو" و عرفت في اللاتينية بعبارة المنجز، الكمال الناشئ من هذا الإنجاز و هو الشكل أو العقل الذي يجد إنجاز قوة ما.
و الكمـال الأول هو الجوهر الفرد ( Monade) عند" ليبنتيز" القائل في كتابه (monadologie , p 18 Leibniz): " يمكن إطلاقه على كل الجواهر اللطيفة أو الجواهر الفردية المخلوقة لأن فيها كمالاً معيناً و فيها اكتفاء يجعلها مصادر لأفعالها الداخلية و للآليات الذاتية، اللاجسمية إذ جاز القول"(16) .
أما " معروف الكرخي" ( ت 200 هـ / 815 م ) قال: " التصوف هو الأخذ بالحقائق و اليأس مما يدي الخلائق " ، و قد انتشرت كلمة الصوفي في العالم الإسلامي بعد أن قالها " أبو هشام الكوفي" ( ت 156 هـ / 715 م ) (17) ، ومن المواضيع التي اختلف فيها الدارسون هي أصل التصوف : هل هو هندي أو رهينة مسيحية ، أو هل هو رد فعل لعقلية الآرية ضد الدين الإسلامي و حضارته في فارس أو هل هو امتداد للفلسفة اليونانية أم نابع من البيئة العربية الإسلامية؟ يقول الأستاذ عميراوي : " قد يكون التصوف الإسلامي مشتق من الكلمة اليونانية ( Théosophie ) التي تعني إله الحكمة ، في حين يقول المتصوفة المسلمون إن التصوف مؤسس عن الكتاب و السنة و قائم على سنة الأنبياء الأصفياء (18) .
2-2 كرنولوجيا :
إذا كان النظر إلى الإنسان نظرة روحية فأنها ليست وليدة التفكير الحديث أو المعاصر، و لكن ترتبط مفاهيمها بعمق التفكير الإنساني(19).
حيث نشأة الصوفية كحركة رد فعل و نفرة في مطلع العصر العباسي حينما عما الترف و كثر انغماس الناس في الإسراف و الملاذ من ذلك كله و اتجهوا إلى حياة الزهد و لقد كان قبله العصر الأموي زهاداً لم يكن قد بلغوا من حيث التطرف و الاتجاه العقلي إلى أن يسمى تصوفاً .
و التصوف الإسلامي نشأ في بيئة إسلامية ثم تسربت إليه عناصر أجنبية (20) نختصرها هنا :
أ‌- من المذهب الإسكندراني : الرياضة الروحية وغايتها التأمل الدائم في الله تعالى حتى تدخل النفس في حال من الذهول و الوجد .
ب‌- من الهنود : تعذيب النفس بالإيغال في التقشف و بالتطرف في العبادة مثال ( النرفانا ) .
ت‌- من الفلسفة الصينية : انتقلت له كثير من التعابير طريق سفر و التصوف بهذا المعنى ليس أحوالاً عارضة للإنسان و لكنه " سفر في طريق " " السلوك مستمر على منهج معين " .
ث‌- من النصرانية : إنتفل إليه عنصران تعذيب النفس ( و هو شيء موجود في الهندوكية ) أو التبتل ( ترك الزواج و ترك السعي في الدنيا ) . و أثر هذا واضح في المتصوفة البغداديين و هو مخالف للحياة الإسلامية برأي أغلب المتصوفة المسلمين أن ذاك .
و التصوف الإسلامي مر بخمس مراحل (21) نذكرها هنا باختصار:
1- مرحلة الزهد : القرن 1 و 2 هـ إستمرت عدة قرون ( رابعة العدوية ) .
2- مرحلة التصوف الخالص : القرن 3 و 4 هـ كعلم مكتمل و طريق لمعرفة بعدما كان مجرد طريق للعبادة ( الحارث المحاسبي ، البسطامي ، الحلاج ) .
3- مرحلة التصوف الإسلامي السني : القرن 5 هـ ( القشيري و الغزلي ، مذهب أهل السنة و الجماعة ) .
4- التصوف الفلسفي : القرن 6 و 7 هـ ( شهاب الدين السهر وردي الإشراقي ، محي الدين ابن عربي ) .
5- الطرق الصوفية: و قد تكونت الطوائف الصوفية بشكل واسع كاد يعم العالم الإسلامي و أصبح " الشيخ " ( شيخ الطائفة ) له منزلة بين مريديه وقد اختلفت الطرق الصوفية باختلاف شيوخها.
I. مفهومية الإنسان الكامل في الفكر العربي الإسلامي و الفكر الغربي :
1- في الفكر العربي الإسلامي :
• عند ابن عربي (*) : كان " ابن عربي " أول من أدخل مصطلح " الإنسان الكامل " في " الفكر الصوفي " ، و العربي الإسلامي عامةً ، ولكن الكمال الذي يوصف به الإنسان هنا لا يعني ما يتبادر للذهن من مدلولات أخلاقية ، و إنما في مدلولات إنطولوجية وجودية و غنوصية معرفية و نظرية " الإنسان الكامل " في الحقيقة نظرية في الكلمة ( Logos ) يمكن التميز فيها بين ثلاثة جوانب رئيسية(22) :
1- فعلى الصعيد الأنطولوجي الميتافيزيقي : يميز " ابن عربي " بين 03 أنواع من الموجودات في كتابه " الفتوحات المكية " و" إنشاء الدوائر" :
- ما يتصف بالوجود لذاته ، و ما يشكل أصل موجودات كلها ، و هو " الوجود المطلق " أو الإله
- ما يوجد بوجود المطلق، فلا وجود له بدونه و ذلك هو " الوجود المقيد " أو العالم المادي.
- ما يوجد بين الموجودين المذكورين و هو " الحقيقة الكلية " أو " حقيقة الحقائق " وهذه الكلمة بدورها ترادف " الإنسان الكامل" « الإنسان الكلي " أو " الكلمة الجامعة، أو الحقيقة الكلية «، و هي لا توصف بالوجود و لا بالعدم و لا بالحدوث و لا بالقدم.
2- و الإنسان الكامل على الصعيد الكوسمولوجي ( الكوني ) : هو العالم بما فيه الإنسان ، و العالم يتطور ليبلغ أوج كماله في الجنس البشري ، و الإنسان يجمع في ذاته كل ما في العالم من الأشياء و العناصر الأربعة حتى المعادن و النباتات و الحيوانات ، و بذلك يكون الإنسان (عالماً صغيراً) و العالم ( إنساناً كبيراً ) كما قال " ابن عربي " في كتابه (الفتوحات المكية ) .
3- في منحاها العرفاني النبواتي : تمثل الكلمة أو الإنسان الكامل (الحقيقة المحمدية ) التي يعني بها حكماء الصوفية مبدأ كل و حي و كشف و أصل كل معرفة باطنية . و كل شيء في الكون هو عند الشيخ الأكبر و أتباعه ، ( كلمة) من كلمات الله ، بحيث يكون العالم كله بمثابة " قرآن كبير " و هذا التصور للعالم " كقرآن كبير " يتيح " لابن عربي" مد جسر من الكلمة الكلية إلى النبي محمد (ص) فما هو في الحقيقة إلا القرآن نفسه. " فمن أراد أن يرى رسول الله (ص) ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن ، فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه و بين النظر إلى رسول الله (ص) " كما قال " ابن عربي " في كتابه (الفتوحات المكية ).
وهذا ما يعكس إن الولاية عند " ابن عربي " و أغلب الصوفية هي غنوص (عرفان ) ، معرفة باطنية ، و ليس تقوى و ورعا .
• أما عند الشيخ عبد الكريم الجيلي(**) :
فإنه يشرح فكرة " الإنسان الكامل " من منطلق فلسفي موضحاً العلاقة بين الحق و الخلق بين الوحدة الحقيقة و الكثرة الخلقية أو ما يسميه بمنطق آخر و " وحدة الذات " ، و التي أكمل تجليلها بالطبع في الإنسان عموماً و خصوصاً هو النبي محمد رسول الله (ص) و خلفاؤه و هو في نظره أكمل تجلي أو مرآة أو مظهر من مظاهر الذات الإلهية بكاملها من حيث أفعالها و أسمائها وصفاتها (23) .
كما نجد أن الشيخ " عبد الكريم الجيلي " قد يشترك مع الشيخ الأكبر في جانب من الجوانب مدلولات الكامل و على الصعيد الأنطولوجي الميتافيزيقي ، فهو يرى أن الحقائق الوجودية الحقيقية و الخلقية موجودة في كل إنسان بالقوة ، و في الإنسان الكامل بالفعل لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي حمل أمانة هذه الحقائق فكان خليفة الله في أرضه و خاتماً على مملكته و في هذا المعنى يرد قوله تعالى { إني جاعل في الأرضي خليفة } (24) ، و قوله صلى الله عليه و سلم : " إن الله خلق آدم على صورته " ، و هذا كله نجد إن منطلقه هو شرح لاسم الله بدلالة إن كل شيء له علاقة بالإنسان هو في الأصل الله ، و هو منسوباً إليه بطريقة المجاز فعلمه مثلاً علم الله فعلمه لله بطريقة طريق الملك و التحقيق قال تعالى : { و الله خلقكم و ما تعلمون } (25) ، بل وحتى الخلق الإنساني منسوباً أيضاً له مجازاً لأن الله هو الذي يخلقه ، و هو لله تعالى بطريق ودلالة ذلك قوله تعالى { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً و تخلقون إفكا } (26) ، و منه الخلق لله بطريقة الملك و النسبة ، لأن الله تعالى هو حقيقتهم الباطنية أي من حيث الإمداد مصداقاً لقوله تعالى { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( 27 ) .
كما يضيف الشيخ عبد " الكريم الجيلي " إن لله مجلي صورهم الظاهرة - أي الخلق - أي من حيث الإمساك ، مصداقاً لقوله تعالى { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا }(28) ، فهو المرآة " الذات " و ما ظهر فيها من صورة " الصفات " فما ثم موجود غيره من حيث كونه واجب الوجود ، و هذا هو معنى وحدة الوجود الحق (29) ، و لأن الحق تعالى أوجب على نفسه أن لا ترى تجليات أسمائه و لا صفاته إلاّ في الإنسان الكامل ، و هذا معنى قوله تعالى { إن عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقنا منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } (30) .
و انطلاقاً من الحديث الشريف الذي يورده عاصم إبراهيم الكيالي الحسني الشاذلي الدرقاوي القائل : " كنت نبيا و آدم منجدل في طينته "و قول رسول الله ( ص) في جوابه على سؤال جابر رضي الله عنه : " أول من خلق الله نور نبيك من نوره " ، و هنا يتجلى لنا ذلك البعد الديني في خاصيته التاريخية التي تبين لنا إن الحقيقة المحمدية تجلت بكاملها في الإنسان الكامل " آدم " ثم في الأنبياء و الرسل و آخرهم النبي محمد - صلى الله عليه و سلم - ثم تجلت في خلفائه أو وراثه و هكذا لا يخلوا الزمان من واحد منهم إلى يوم القيامة .
و تبقى " الحقيقة المحمدية " نور بطون الذات في الذات به يتواصل الخلق إلى معرفة الحق ، فالشيخ " عبد الكريم الجيلي " يشير إلى أن الوصول إلى الله على الكمال هو الوصول إلى حقيقة الإنسان الكامل أي - الحقيقة المحمدية - و ورثها الكمل لأنه هو الدال على الله على الكمال(31) ؛ مصدقاً لقول الله تعالى { و إنك لتهدي إلى صراط المستقيم } (32) .
• و عند الشيخ العامري :
يعتبر " العامري " الإنسان أحد موجودات العالم الطبيعي و يظهر هذا من خلال تعريف له بأنه : " حيوان ناطق ميت " ، أما " أرسطو " فقد عرفه بأنه : " حيوان ناطق " و لفظ ميت أورده بعض شراحه مثل " تامسطيوس " ، و " أمونيوس " في شرحه لكتابه " العبارة " ، مما يشير إلى أن " العامري " في تعرفه على الفلسفة اليونانية قد اطلع عليها مباشرةً ، أو من خلال الشروح الوسيطية(33) .
كما نجد أن " العامري " تأثر بفلسفة " أفلاطون " حيث أنه يذكر تعريفه السابق للإنسان عن " أفلاطون " في كتابه " السعادة و الإسعاد " و هو ما قال به كثيرون من بعده " الكندي و ابن مسكوية " فيقول هذا الأخير : " إن تمام جوهر الإنسان انه حي ناطق مائت " ، في ( رسالة الحيلة لدفع الأحزان ضمن رسائل فلسفية ، تح : عبد الرحمان بدوي ، دار الأندلس ، بيروت 1980 ، ص 28 ) .
و تكرر نفس التعريف عند " فرقة إخوان الصفا " و " ابن سينا ؛ و " العامري " نجده يقسم العالم إلى العالمين ما فوق فلك القمر و عالم ما تحت فلك القمر ، و ينتظم في هذه العالمين موجودات يضعها في خمس مراتب منها يضع الإنسان في مراتب موجودات العالم السفلى ( في كتابه في المعالم الإلهية، ضمن رسائل العامري ، ص 364 ) و هو كتاب في علم الكلام .
و ما دام مقصودنا الإنسان في فكر " العامري " نجده ينضم إلى الموقف القائل جوهر الإنسان على الحقيقة هو نفس ناطقة ، ويمكن إرجاع هذا الاتجاه إلى مصدر مؤثرين أحدهما ديني و الآخر فلسفي ، و كما هو وارد في كتابه ( الأمد على الأبد ، ص 89 ) .
إن الإنسان على الحقيقة هو النفس الإنسانية ، و عن علاقة النفس بالجسد يرى أن الطبيعية الإنسية ، أي الجسد الإنساني مشاركة للحيوانات كلها في الجسمية ، و في القوى الطبيعية و في قوى النفس الجسمية ، تم تنفصل عنها النفس النطقية ، فهي لا توصف بالإنسانية إلا لهذه .
" فالعامري " في مصدره هذا يرى أن النفس الناطقة هي التي تميز الإنسان عن جملة الحيوانات، و من هنا كان حريصا على ذكره هذه الصفة في تعريفه : " إن الجوهر الإنسي ... حقيقته أنه حيوان ناطق " ، كما هو وارد في( رسالة القول في الإبصار و المبصر ، ضمن الرسائل الفلسفية ، ص 421 ) " للعامري " .
و في نقطة أخرى يذهب " العامري " إلى القول بأن : " الإنسان الحقيقي " - الذي هو على حد فهمنا له بمثابة " الإنسان الكامل " - هو الذي يكتمل جوهره بالعلم و العمل كغرض للمعرفة فيقول : " العقل المختص بالجوهر الإنسي هو أن يعرف الحق و يعمل بما يوافق الحق " ، ( العامري ، الإعلام ، ص 73 و أيضاً التقدير لأوجه التقدير ، ص306 ) ، فالمعرفة ليست نظرية بل هي نظرية و عملية فهي علم و عمل هذا و إن كان " العامري " يرى ضرورة أن يسبق العلم العمل لأن العلم هو الذي يحدد شروط و أسس العمل السلمية (34) .
و من هنا نربط العلاقة بـ" الشيخ الأكبر " الذي مارس التصوف عملاً ، محاولاً بذلك تجسيد المعرفة كما تصورها و رآها سبيلاً إلى تحقيق الكمال ، و منه يكون الكمال عند " ابن عربي " إلى جانب كونه ثمرة من ثمار المعرفة فكراً و ممارسة ذا مظهر وجودي و آخر قيمي و أخلاقي و بهذا يتضح كمال الإنسان عند " الشيخ الأكبر " من خلال تعرضه إلى الإنسان و مكانته في العالم و علمه و معارفه و قيمه الأخلاقية و الجمالية (35) .
• عند كارل ماركس :
يعتبـر " كارل ماركس " أن الطبيعة تشكل نقطة انطلاق التطور الإنساني ، فالإنسان هو جزء من الطبيعة ، و هو لذلك بحاجة إليها كشرط طبيعي لوجوده ، Marx , Manuscrits de, 1844. ) .Cit. p , 61) OP ، و هذا معناه إن جوهر الإنسان مخالف على ما هو عليه عند الصوفية و فلاسفة الإسلام أنه جوهـر مادي محض ، أما إذا تعلق الأمر بالكمال ، فهو عند " ماركس " ضرورة تكامل بين طبيعتين ليس بالجوهرين المختلفين الإنسان و الطبيعة بل هما كل متكامل ، و عندما يتعلق الأمر بالعمل ، فهو عند " ماركس " ضرورة طبيعية للوجود البشري ، حيث إن صيرورة الإنسان هي في الوقت ذاته صيرورة طبيعته البيولوجية و جوهره الاجتماعي ؛ فالعمل أوجد الإنسان نفسه و طور قواه أيضاً ، إذ أنه بفضل العمل وحده ارتقت اليد الإنسانية ، إلى مستوى رفيع من الكمال (36).
و الإنسان ليس مجرد بل هو كائن اجتماعي أيضاً ، لكن " ماركس " نجده يفسر هذا أيضاً من منطلق طبيعي – مادي - فالنزوع إلى تكوين كيان اجتماعي لدى المجتمع البشري إنما نشأ أثناء الانتقال من مرحلة جمع المواد الجاهزة إلى مرحلة إنتاج شيء جديد ( الإنتاج المادي ) (37) ، و في هذا تتجلى أسمى صور " الكمال الطبيعي " ( المادي ) بين ( الإنسان ، العمل ، المجتمع و الطبيعة ) و في التفاعل هذه الرباعية المادية للإنسان يتجلى لنا ذلك الإنسان الكامل في فكر " كارل ماركس " و الماركسية عموماً . (Manuscrits , OP- cit , p 92) .
و من شرحنا لهذه الأبعاد الرباعية لفكرة " الإنسان الكامل " عند " ابن عربي " ، " شيخ عبد الكريم الجيلي " ، " العامري " و " كارل ماركس " من الناحية النظرية التي ربط كلاً حسب خصوصيته بالجانب العملي يجدر بنا أن نتساءل عن :
- ما هو الدور الذي لعبته الصوفية أو الطرق الصوفية في المجتمع أو في ظل تغييراته الراهنة ؟ سواء من الناحية ( الاجتماعية، السياسية، الأخلاقية و الدينية... ) ؟.
II. تجليات الدور البعدي عن فكرة الإنسان الكامل :
يهمنا هنا أن نقف عن الاتهامات التي يوجهها النقاد عادةً إلى المتصوفة و التي يذهبون فيها إلى أن التصوف ليس إلى حالة للهروب من مسؤوليات الحياة و واجباتهم الأخلاقية تجاه إخوانهم من البشر، و أن مثلوا بالتصوف الهندي " بوذا " ، فهذا تعصب من النقاد الغربيين ضد صوفية الشرق"، و المثل الأوضح يضربه " ولترستيس " " بغاندي" الذي هو النموذج الأول للعقلية الهندية ، و ما كـان لـه من نشاط روحـي و سياسي و اجتماعي في طول البلاد و عرضها (38).
و كما نجد أن الصوفية كتجربة تدعو إلى مبدأ الحب الذي هو مبدأ من مبادئ الأخلاق ، و نحن هنا لا نزعم أن التصوف مصدر الأخلاق ؛ و إلاّ كيف نفسر غريزة حب الحيوان لمولوده بل على نحو تلمس الطريق على نحو اختفاء الفردية في الذات الكلية الذي هو جزء من ماهية التصوف ، الذي يعكس منطق العمل عند الصوفية ، و هذا ما أراد أن يشير إليه "و لترستيس" نفسه مما قاله يبن أن دور التصوف في الحياة خيري عملي (39).
و لقد حدد الأستاذ " محمد داود " الدور الذي لعبته الصوفية (40) انطلاقا من شروط العمل عندهم وهما شرطان حتى يقبل العمل، أولا : أن يقصد به وجه الله عز و جل ، ثانيا : و أن يكون موافقاً لما شرعه في كتابه أو يبينه رسوله في سننه ، و يدل على ذلك قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحد } (41) ، و تؤكد هذه الآية الكريمة السنة الشريفة بهذا الأثر المشهور الذي يوضح موقف أمير المؤمنين " عمر ابن الخطاب رضي الله عنه - عن العمل حيث قال : " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق و يقول اللهمّ أرزقني ، فقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا و لا فضة " و في هذا كله تجسيد الصوفية لعدة أدوار :
1- الجمع بين التنمية الروحية و المادية :
و هذا من منطلق عمل الوالي أو شيخ الطريقة وعمل الإنسان لتحقيق عبودية الإنسان، لقوله تعالى: { و ما خلقت الجنس و الإنس إلا ليعبدون } (42).
2- تحقيق التنمية الشاملة:
و هذا ما عملت جل الطرق الصوفية على تحقيقه لاسيما في القارة الإفريقية (43) من خلال التنمية الروحية للفرد و للمريدين ، و من ناحية أخرى مساهمة في حركة الجهاد الإسلامي مثل مشاركة بعضهم في معارك الصليبيين نذكر ( أحمد البدوي – إبراهيم الدسوقي – ابن الحسن الشاذلي رضي الله عنهم ) ، و في حروب التتار أشترك أئمة الصوفية مع ( الظاهر بيبرس ) في دحضهم و في معارك القسطنطينية و في شمال الهند في مواجهة الاستعمار الإنجليزي في كشمير (44) ، و في الجزائر أبان فترة الاستعمار (45) .
3- دور الصوفية في نشر الدعوة الإسلامية :
لاسيما في غرب أفريقيا ، و يغزي استمرار اعتناق الزنوج في غرب إفريقيا للإسلام إلى اتصالهم الدائم بإتباع الطريقتين القادرية و التيجانية التين وصلتنا من شمال إفريقيا ( محمد علي أبو ريان ، الولاية الروحية في التنمية ، ( ص 318 – 319 ) .
4- دورها في نشر العلم :
و هذا من خلال الزوايا في عصورها التاريخية مثل استخدامنا للكتاتيب إلى مطلع القرن 20م في تحفيظهم أطفال مسلمين القرآن و تعلمهم تفاصل العبادات.
5- دورها في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية :
من خلال نبذ الخلافات بين المسلمين و التبشير بالحب الشامل بين أفراد كل الجماعات الإسلاميـة... و محاولة حل مشكلات المسلم المعاصر الاقتصادية و الاجتماعية و السكانية و الصراع بين الطبقات و تثبيت حقوق الإنسان (46).



خاتمة :
من خلال طرحنا لفكرة الإنسان الكامل عند الصوفية خصوصاً ، و عند الغرب على وجه الإضافة ، نجد في الفكر الصوفي العربي الإسلامي بعداً إنسانياً يتجه إلى التوحيد بين الأديان و إلى القول بوحدة وجود أحياناً على نحو ما فعل " ابن عربي " الذي قال : " عقد الخلائق في الإله عقائداً ، و أنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه " ؛ و هو القائل :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديـنه إلـى دين دان
فأصبح قلبي قـابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديـراً لرهبـان
و بيتاً لأوثان ، و كعبة طـائف و ألواح توراة ، و مصحف قرآن
أدين بديـن أنـى توجهــت ركـائبه فالحب دينـي و إيماني













الإحالات و الهوامش :
1- بوعرفة عبد القادر، الإنسان المستقبلي في فكر مالك بن نبي ، دار الغرب ،د (ط،س)، ص 05.
2- DICTIONNAIRE de philosophie –Gérard Durozoi .André Roussel Nathan . imprime en France par I.M.E 2003 .P.P185-186 .
3- المرجع الأسبق ، ص 05
4- خليل أحمد خليل ، معجم المصطلحات الفلسفية، دار الفكر اللبناني،ط 1،1995،ص (25،26)
5- المرجع نفس ، ص 155 .
6- الإنسان المستقبلي ، بوعرفة عبد القادر ، ص ( 8 – 20).
7- المرجع نفسه ، ص ( 8 – 20 ) .
8- عباس فيصل ، الإنسان و الفلسفة ، دار الفكر العربي ، بيروت ، د ط ، 1996.
9- بدوي عبد الرحمان ، الإنسان الكامل في الإسلام ، وكالة المطبوعات الكويت ـ ط 2 ، 1976.
10- المصدر نفسه ، ص ( 113 – 115 ) .
11- DICTIONNAIRE de philosophie, OP. sit . p . 267 .
12- La rousse pluri dictionnaire , P . 927 .
13- فروخ عمر ، المنهج الجديد في الفلسفة العربية ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط 1 ، 1970 ص 180.
14- الحسني ابن عجيبة ، مصطلحات التصوف ، أ ع و تق : عبد الحميد حمدان ، مكتبة مد بولي ، القاهرة ، ط 1 ، 1999 . ص 3 و أنظر أيضاً : الفاخوري حنا و خليل الجر، تاريخ الفلسفة العربية ، ج1 ، دال الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط3 ، 1993 .
15- معجم المصطلاحات الفلسفية ،خليل أحمد خليل،ص 103.
16- المرجع نفسه،ص 155.
17- راجع ، خميستي سعد ، أبحاث في الفلسفة الإسلامية ، دار الهدى ، الجزائر ، دط ، 2002 ، ص 24 و ما بعدها .
18- حميدة عميراوي ، بحوث تاريخية ، دار البعث ، قسنطينة ، دط ، 2001 ، ص 60و ما بعدها .
19- زرارقة عطاء الله ، ملامح التيار التربوي الروحاني ، " الأسس و الأهداف " ، مجلة دراسات العدد 09 جوان 2008 ، جامعة عمار ثليجي بالأغواط ، ص 109 .
20- راجع ، عمر فروخ ، المنهاج الجديد في الفلسفة العربية ، ص 181 و ما بعدها ، أنظر أيضاً : عبد الغني قاسم عبد الحكيم ، المذاهب الصوفية و مدارسها ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، ط 2 ، 1999 ، ص ( 27 – 38 ) ، راجع أيضاً : محمد تركي ابراهيم ، فلسفة الموت عند الصوفية ، دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر ، الإسكندرية ، ط 1 ، 2003 ، ص ( 19 – 21 ) .
21- فلسفة الموت عند الصوفية ، محمد تركي ابراهيم ، ص ( 29 – 33 ) .
( * ) - ابن عربي : أشهر متصوفات العرب فاطبة وأكثرهم إنتاجا ،إسمه محمد ولقبه محى الدين ابن عربي وكنيته إبو بكر ويعرف بالحاتمي الطائي للدلالة على نسبته إلى حاتم الطائي (1165– 1204م ) راجع أيضاً : حنا الفخوري و خليل الجر ، تاريخ الفلسفة العربية ، ص 360 و ما بعدها .
22- سعدييف أرثور و توفيق سلوم ، الفلسفة العربية الإسلامية ، دار الفرابي ، ط 2 ، الجزائر ، 2001 ،
( ** ) - عبد الكريم الجيلي : ( 767هـ/1365 م – 811 هـ / 1408م )أحد أحفاد عبد القادر الجيلالي المشهور له كتاب سماه " الإنسان الكامل " و هو واحد من صوفية القرن 8هـ .
23- عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي ، الإنسان الكامل ، تق و ضب و تص ، و تع : عاصم ابراهيم الكيالي الحسيني الدرقاوي ، ط 2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 2005 ، ص 03 .
24- سورة البقرة ، الآية 30 .
25- سورة الصافات ، الآية 96 .
26- سورة العنكبوت ، الآية 17 .
27- سورة البقرة ، الآية 20 .
28- سورة الفاطر ، الآية 41
29- الإنسان الكامل ، الشيخ عبد الكريم الجيلي ، ص 18 .
30- سورة الأحزاب ، الآية 72 .
31- الإنسان الكامل ، الشيخ عبد الكريم الجيلي ، ص 20 .
32- سورة الشورى ، الآية 52 .
33- منى أحمد أبو زيد ، الإنسان في الفلسفة الإسلامية ، دراسة مقارنة في الفكر العامري ، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ، بيروت ، ط 1 ، 1994 ، ص 18 .
34- المرجع نفسه ، ص 116 و ما بعدها .
35- أنظر ، خميستي ساعد ، نظرية المعرفة عند ابن عربي ، دار الفجر للنشر و التوزيع ، القاهرة ، ط1 ، 2001 ، ص ( 385-365 ) .
36- عباس فيصل ،الفلسفة و الإنسان ، دار الفكر العربي ، بيروت ، دط ، 1996 ، ص(29–36).
37- المرجع نفسه ، ص 35 .
38- ولترستيس ، التصوف و الفلسفة ، تر و تق : عبد الفتاح امام ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، دط ، 1997 .
39- المرجع نفسه ، ص 404 و ما بعدها .
40- داود محمد ، منهج التربوي العلمي عند الصوفية ، مكتبة ومطبعة الإشاعة الفنية ، ط1 ، 2002، ص 63 و ما بعدها.
41- سورة الكهف ، الآية 110 .
42- سورة الذاريات ، الآية 56 .
43- راجع عبد الرزاق ابراهيم عبد الله ، الطرق الصوفية في القارة الإفريقية ، دار الثقافة ، القاهرة ، ط1 ، 2004.
44- المنهج التربوي و العلمي عند الصوفية ، محمد داود ، ص 69 .
45- المرجع السابق ، ص 71 ، و ما بعدها .
46- راجع ، حميدة عميراوي ، رسالة الطريقة القادرية في الجزائر ، دار الهدى ، الجزائر ، دط ، 2003.