أفقر الطرق البرية وأتعسها



كاظم فنجان الحمامي

في العراق, وتحديدا في الطريق الصحراوي المنفرد, الممتد بين البطحة (لارسا) في الناصرية وضواحي (كيش) في الحلة, المار بأطراف محافظتي المثنى (السماوة) والقادسية (الديوانية), المرتبط بطريق البصرة الدولي في الجنوب, المتجه شمالا نحو بغداد والرمادي.
في هذا الطريق المحوري المُختصر, وفي المقطع المحصور منه بين ذي قار ومقتربات بابل, تختفي اللمسات الحضارية, وتهيم السيارات والشاحنات على وجوهها في بحر الضياع, يتجرد الطريق من صفاته وخصائصه كلها, ويتصحر تماما في ملامحه السريالية الموحشة, حتى يتحول إلى شريط إسفلتي غير منتظم, يغور في جوف الصحراء, ويتلوى بين كثبانها الرملية المخيفة, فتختفي الإشارات المرورية, وتتلاشي في هذا التيه العظيم, فلا وجود لها البتة, ولا وجود للعلامات التحذيرية على الإطلاق, اما اللافتات التي تحمل أسماء الأماكن, وكذا الأسهم الاستدلالية للمنعطفات والانحرافات, واللوحات التي تبين المسافات المقطوعة والمسافات المتبقية فلا تجهد نفسك بالبحث عنها, فهي غير موجودة والسلام, ولا وجود لعلامات الطرق الأرضية كالخطوط البيضاء والملونة, والكتابات التنبيهية والدهانات الفسفورية والخزفية, أما العاكسات البلورية فهي الأخرى لا محل لها هنا.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
تعد مثل هذه الخطوط والرموز والعلامات في الطرق الدولية من أهم مستلزمات تنظيم سير المركبات, وتعد من أهم أدوات تحديد الجوانب الخارجية للطرق والشوارع, ولا أمل هنا في العثور على ما يسمى بعيون القطط العاكسة, التي غالبا ما تصنع من الألمنيوم أو من البلاستك المسلح, وعلى الرغم من طول الطريق وخطورته لا تجد على جانبيه أي سياج فولاذي من النوع المستخدم لتحديد حركة قوافل الإبل وقطعان الأغنام, ومنع الحيوانات السائبة من العبور.
نحن نعلم أن الهدف من استخدام اللوحات والإشارات على الطرق هو لتنبيه سائقي العجلات والشاحنات, وتنظيم الحركة المرورية, فالإشارات التحذيرية تستخدم للتحذير من الأخطار القائمة والمحتملة, بينما تستخدم الإشارات التنظيمية لتعريف السائق بالقيود والضوابط والمحظورات الواجبة التقيد, ونعلم أيضا إنها تنقسم إلى عدة مجموعات, نذكر منها: مجموعة إشارات السرعة, ومجموعة إشارات السير ومنع السير, ومجموعة إشارات الانتظار, والإشارات الإجبارية, وتضاف إلى هذه الإشارات التنظيمية مجاميع أخرى من الإشارات الإرشادية, وهي الإشارات التي ينبغي أن تكون موزعة على امتداد الطريق لتعريف السائق بأسماء المدن والقرى والجسور والمقاصد العامة, وتحدد المسافات والاتجاهات والأماكن ذات الأهمية الجغرافية والأهمية التاريخية والجيولوجية والدينية, ويستدل من خلالها السائق على مرافق الخدمات العامة التي يفترض أن تكون متوفرة على الطريق, والمضحك المبكي انك لن تجد مثل هذه العلامات والإشارات على هذا الطريق بالذات, فبمجرد أن تعبر بسيارتك جسر (فهد الشرشاب) من جهة الناصرية تدخل في متاهة غريبة وتسير في خلوة رهيبة, وتنفصل عن العالم الخارجي, وتتقطع بك السبل, فتشعر وكأنك تحلق فوق وديان كوكب المشتري, أو تتنقل بسيارتك في مطبات الصحراء المكسيكية, فلا وجود لأي عمود أو شجرة أو نخلة أو بناية على هذا الطريق سوى الكثبان الرملية البيضاء والحمراء, والذاريات المحملة بغبار الدومات الهوائية, وقطعان الإبل من بقايا سلالة داحس, أو من نسل الغبراء, تراها وهي تحث الخطى نحو المجهول.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
تواجهك في النهار مفارز للشرطة المحلية تابعة لمدينة (الوركاء), أو تابعة للضواحي البعيدة لمدينة (الرميثة), وما أن يغوص قرص الشمس خلف الأفق حتى يمتزج سواد الليل بظلمة الصحراء, فيلقي بظلاله المعتمة على سواد القير والإسفلت الذي تلطخ به الطريق الصحراوي المتجهم. فتحس وكأنك تتوغل في نفق اسود شديد الظلمة.
تنشق الأرض في منتصف الطريق فيظهر منها شبح لمطعم لا يرتاده احد, تستدل عليه من خلال لافتة مكتوب عليها بخط بائس (كافتريا), من دون الإشارة إلى اسم الكافتريا, فكل شيء هنا غامض ومبهم ورمادي ومعتم ومعفر بغبار صحراء البادية الجنوبية ومساحيقها المتطايرة في الفضاء المكفهر.
يضيق الطريق ويتسع من دون سبب, ويرتفع وينخفض فجأة من دون سابق إنذار. ويخضع برمته لقوافل وأرتال جيوش الاحتلال, وما أدراك ما تحمله معها من إمدادات لوجستية قادمة من البوابة الكويتية المفتوحة على مصراعيها للغزاة الجدد, فيزدحم الطريق بأرتال تعقبها أرتال تفرض سيطرتها بفوهات رشاشاتها المبحلقة بعيونها الليزرية الشريرة, لتتحكم بحركات وسرعات السير على الطريق, وتتعمد إظهار غطرستها وعنجهيتها بوجه السيارات العراقية المُجبرة على السير خلف قطعان الأرتال المجنزرة والمجوقلة.
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
وعلى الرغم من كل هذه الملامح المأساوية, التي ينفرد بها هذا الطريق الأجرد المتصلع, فانه يبقى أفضل مئات المرات من طريق الموت المتمدد على سرير الأخاديد المبعثرة بين ميناء أم قصر ومدينة الزبير.